صناعة الكَيمر من كلكامش إلى زهرة وأم أحمد 

نشوى نعيم

10 نيسان 2024

ندور مع زهرة وأم أحمد حول حظائر تربية الجاموس، لنعرف ما إذا كان التغيّر المناخي يشكل خطراً على "القيمر".. عن صناعة الكَيمر من كلكامش إلى زهرة وأم أحمد..

“شوق، جواهر، المسّاحة، الحلوة” هكذا تسمّي أم أحمد (54 عاماً) جواميسها، لكل واحدة منهنَّ اسم تُنادى به، وتعرفه. 

الجاموسة بالنسبة لأم أحمد ليست حيواناً لإنتاج الحليب والقيمر واللحوم، إنها أكثر من ذلك، “آني ما اتعشى إذا يكولون إلي وحدة من الجواميس مريضة” وتتذكر الأسى الذي عاشته عندما ماتت “النطّاحة”، إحدى جاموساتها المقربات. 

لكن الجواميس تنقص في حظيرة المرأة الخمسينية، إذ أنها تبيع بعضها، لكي توفر العلف للبعض الآخر، “نبيع بيهن ونسد دين علفهن، وحدة توكل وحدة” وتضع احتمالاً أنها ستفقد كل جواميسها إن استمر الحال على ما هو عليه. 

أصبحت مهنة بيع القيمر لا تسدّ احتياجات المعيشة لعائلة لأم أحمد، وتربية الجاموس مكلفة. 

تأثرت النساء اللواتي يعملن في صناعة وبيع القيمر كثيراً، وهنَّ يقاومن قسوة التغيرات التي تصاحب هذه المهنة، ومنها، الجفاف، وغلاء الأعلاف، ونفوق أعداد كبيرة من الدواب. 

أما الجاموس الذي ينجو من الجفاف وشحّ المياه والأعلاف، فيكون هزيلاً ويعاني من المرض، وهذا يقلل من إنتاج الحليب وصناعة القيمر، وجودته كذلك. 

صناعة مكلفة 

قبل ثلاث سنوات، كان لدى أم أحمد 120 رأس جاموس، أما الآن فقد قلّ العدد إلى 50 فقط، وسينخفض هذا العدد أكثر، فهي قررت بيع 15 رأساً إضافية، لتعيل أسرتها، بعد أن أصبح أولادها عاطلين عن العمل. 

تتحدث أم أحمد لجمّار عن الماضي، عندما كانت الدولة تدعم مربي الجاموس، من خلال مطاحنها، حيث تبيع لهم الأعلاف المركزة بمبلغ 200 ألف دينار عراقي للطن الواحد، لكن انقطع هذا الدعم الآن، وأصبحوا يشترون العلف بنحو 650 ألف دينار للطن الواحد، وهذا خلق تجارةً موازية، وهي بيع العلف المغشوش، مما يؤثر على نوعية القيمر وجودته. 

في الوقت الحالي قللت أم أحمد كميات العلف التي تشتريها، فبدلاً عن شراء الطن صارت تشتري نصفه، يضاف إلى ذلك شراء الماء، سيارة حوضية “تنكر” يومياً وبكلفة تصل إلى 50 ألف دينار يومياً. 

تقول أم أحمد إنها تنفق 350 ألف دينار يومياً على جواميسها، وهذا الرقم يعد مكلفاً مع الوضع الحالي، في ظل غياب الدعم الحكومي، واتساع رقعة التصحر، وانتشار الجفاف وشحّ المياه الصالحة للشرب والسباحة بالنسبة للجواميس، “يعمن عيونهن، وأكثرهن يموتن من الماي المالح”. 

يسمّى العلف عالي الجودة “اسحاله” وهو عبارة عن أوراق ناعمة من رز العنبر والياسمين، سعره باهض ويُشترى من قضاء المشخاب في محافظة النجف، يعطي الجاموس الذي يتغذى على هذا النوع من العلف جودة عالية من الإنتاج، يكون القيمر الناتج عنه بطبقة سميكة ودسمة، ووزنه أثقل، وطعمة ألذ من غيره، ولا يباع هذا العلف بالطن، بل بالكيلو، ويباع كل مئة كم بـ75 ألف دينار. 

أمّا علف (النخالة) فجودته أقل، وهو على أنواع وأسعار مختلفة، فالنخالة المركزة تكون مفيدة، وتكون بأسعار غالية تصل حتى 500 ألف دينار، أو أكثر للطن الواحد، ولا يمكن استخدامها وحدها، بل يخلط معها الطحين، وأيضاً هنالك نخالة مغشوشة يخلط معها التراب والذرة المطحونة، والتي تختلف عن النخالة الصافية، وسعرها أقل عن النخالة الصافية بنحو 50 – 100 ألف دينار للطن الواحد، ومربو الجاموس يشترونه لأنه أرخص ثمناً، وهذا يجعل حليب الجاموس أقل كمية وجودة. 

القيمر شغلة صعبة 

تضع أم أحمد الحليب في طشت كبير، وتصفيه ومن ثم تضعه على نار هادئة لمدة نصف ساعة، وبعدها تضعه في إناء مغطّى لأكثر من عشر ساعات، ومن ثم يصبح قيمر، فتقطّعه وتحيطه بالثلج، أما الحليب المتبقي منه يُصنع منه الجبن أو الروبة. 

هناك زبائن دائمون من أصحاب البيوت ينتظرون قطع القيمر التي أنفقت أم أحمد نصف يومها لإنتاجه. 

 تقول أم أحمد إنّها لا تقبل على بناتها وكناتها العمل بهذه المهنة، “أحب شغلي يكون على إيدي نظيف وما اريدهن يشتغلن بهاي الشغلة الصعبة”. 

 تبيع أم أحمد الكيلوغرام الواحد من القيمر بحوالى 25 ألف دينار، بينما في السنوات الماضية كانت تبيعه بنحو 15 ألف دينار، أما الجبن فسعر الكيلوغرام الواحد يبلغ 3 آلاف دينار، والروبة 1000 دينار، ولتر الحليب بنحو 5 آلاف دينار. 

الجفاف وقلّة المرعى، خفّض انتاج الحليب للجاموسة الواحدة، تقول أم أحمد إن إنتاج الدابة كان يبلغ 75 لتراً في السنة، أما في الوقت الحالي فيصل إلى 25 لتراً فقط، ولا تنتج سوى أربعة كيلوغرامات من القيمر، لأن جزءاً من الحليب يُترك لإرضاع وليد الجاموسة. 

A herd of buffalo in a field

Description automatically generated

لا يتأثر الطلب على القيمر في فصل الشتاء، لكن يقل الطلب عليه في فصل الصيف بسبب حرارة الجو، “بالصيف نشول”، تقول أم أحمد وتعني ترك الجاموس يتكاثر، وما ينتجه من حليب يكون لمواليدها الصغار، أما عائلة أم أحمد فتعيش في هذا الفصل الحار على بيع عدد من الجواميس بانتظار موسم الشتاء وعودة الطلب على القيمر، يقلّ سعر الكيلوغرام من القيمر في الصيف إلى 7 آلاف دينار. 

الصيف الذي كان وفيراً في انتاج الحليب والقيمر، صار قاسياً على مربي الجاموس، فهو حين يأتي لا يجلب معه الوفرة المطلوبة من المياه، وهذا يؤثر على المأكل والمشرب. 

تتحدث أم أحمد لجمّار عن صعوبة أن يأتي الصيف، فهي لا تملك أرضاً زراعية لتربية جاموسها، فتلجأ لاستئجار مساحات زراعية للرعي، يصل سعر كل 500 متر منها إلى مليوني دينار في مواسم الشتاء، أما في الصيف فتضطر للهجرة مع عائلتها بحثاً عن المرعى المناسب.  

“لا يمكن ضمان وجود المياه في فصل الصيف، لذا نضطر للهجرة إلى نواحي القادسية والمشخاب في محافظة النجف بحثاً عن الماء والغذاء” يستمر موسم الهجرة هذا لخمسة شهور، فهناك تكاليف العلف والمرعى أرخص منها في الديار، وعندما يحين موسم حصاد الحنطة تعود أم أحمد وعائلتها إلى السماوة. 

الهجرة لها ثمنها أيضاً فهي تكلّف بين 300 – 500 ألف، وهذه أجور نقل الجاموس، بالإضافة إلى الأضرار التي قد تلحق بالحيوانات بسبب سوء طرق النقل، بعضها تصاب بكسور على الطريق، وبعضها يموت. “كل شيء يتغير بالهجرة، نومنا وأكلنا، ونسكن بخيمة”. 

الجواميس في الأرقام 

تكشف بدرية شيال كامل، مدير قسم الثروة الحيوانية في دائرة الزراعة بمحافظة المثنى في حديث لجمّار عن انخفاض أعداد الجواميس في المثنى، لكنها لا تعطي أرقاماً دقيقة لأن تلك الأرقام لا وجود لها، ومن الصعب بحسبها حصر أعداد الجاموس بدقة، لكنها تقول إن عددها عام 2023 انخفض إلى 8124 رأساً عن السنة التي سبقتها حيث كانت أعداد الجاموس تصل إلى ألف رأس تقريباً. 

بسبب الغلاء وقلة الدعم من مديرية الزراعة لمربي الجاموس، فإن بعضهم يرغب بالحصول على راتب الرعاية الاجتماعية، والتي تنص تعليماتها على عدم الاستفادة من رواتبها إذا كان المستفيد من مربي الثروة الحيوانية، مما يجعلهم يقدمون تعهداً في مديرية الزراعة بأنهم لا يملكون الحيوانات، وهذا يربك الإحصائيات. 

يشير خالد الفرطوسي، مدير مكتب الاتحاد الدولي لمربي الجاموس في العراق والخبير البيئي، أنه لا توجد إحصائيات دقيقة عن أعداد الجاموس إلا من خلال الشعب الزراعية، وفي حواره مع جمّار، لا يعوّل الفرطوسي كثيراً على تلك الأرقام، ويعتبرها تقريبية وليست دقيقة. 

A group of cows in water

Description automatically generated

في عام 2012 كان هناك ما يعرف بالبرنامج الوطني للترقيم الذي أطلقته وزارة الزراعة، حيث وصلت الأعداد حسب البرنامج إلى 300 ألف رأس في عموم العراق. وهذا الرقم تقريبي أيضاً لأن مربي الجاموس لديهم الكثير من المحاذير تحول والإفصاح عن العدد الحقيقي لما يمتلكونه. 

صعوبة الحصول على أرقام دقيقة لأعداد الجاموس يجعل من الصعوبة أيضاً إعطاء أرقام دقيقة عن عدد الحيوانات التي نفقت بسبب الجفاف وشحّ المياه. 

يتركز الجاموس في الأهوار، لكنها ليست البيئة الوحيدة له، إذ يتواجد في مناطق تابعة لمراكز المدن، ضمن ما يعرف بالحظائر، وتوفر لها ظروف مناسبة للتربية مثل توفير مياه عن طريق أحواض وتوفير معالف إما مركزة أو خضراء.  

النفوق الكبير 

زهرة (63 عاماً) كانت تمتلك 25 رأس جاموس، وأصبح لديها عشرة فقط، بسبب غلاء الأعلاف، فلم يعد باستطاعتها إطعام أكبر عدد منهن، “بعناهن وصرنا نجيب علف للباقي منهن”. 

أولادها يرعون الجاموس متنقلين في مناطق توفر المياه، لا يرعون في مكان محدد، فهم يتنقلون حسب توفر المياه، وقد أصاب جواميسها الضعف، حتى أنها عندما تولد الجاموسة لا تستطيع إرضاع صغيرها، بسبب الجوع والجفاف، وهذا يؤثر على كمية حليبها لرضاعة مولودها للحد الذي يجعل زهرة تشتري الحليب المجفف من المحلات لإرضاع المولود الجديد. 

عام 2023، خصصت الحكومة العراقية خمسة مليارات دينار عراقي لدعم مبادرة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ووزارة الزراعة لمربي الجاموس في جنوب العراق. لكن هذا التخصيص لا يكفي بحسب الفرطوسي. 

منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الفاو، تبنّت مشروعاً في ذي قار والبصرة وميسان، جزء من محاوره توفير أعلاف ودبس قصب السكر (المولاس) الذي له تأثير جيد على الإنتاج وصحة الحيوان والتناسل، ومن محاوره كذلك دعم المرأة الريفية في هذه المناطق لتصنيع المنتجات كالقيمر والجبن من حليب الجاموس. 

يرى الفرطوسي أنه ولكي يكون لدينا إنتاج مؤثر اقتصادياً لابد أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء، مما يتوجب أن يكون بأنواع متعددة وفق برامج تغذية مدروسة، وهذه يفتقدها مربو الجاموس في الجنوب، لأنهم لا يملكون الإمكانيات المادية، فمناطق جنوب العراق تمثل مركز هذا الحيوان، وبحسبه فإن  70 بالمئة من الجاموس ينتشر في هذه المناطق، ويجب استخدام الأعلاف المركزة، مثل النخالة والأعلاف الخضراء  كالذرة العلفية والجت، والتي تكون ذات قيمة غذائية، وهذا ينعكس على كمية المنتج من الحليب، ويقترح الذهاب باتجاه برامج التحسين الوراثي والتلقيح الاصطناعي، وهذه برامج علمية معتمدة عالمياً بحسب الفرطوسي، تحسّن انتاج الحليب. 

المستورد والمحلي 

إضافة إلى الجفاف والتغيّر المناخي، يتسبب المنتج المستورد بهزيمة القيمر المحلي، فمربو الجاموس لا يستطيعون منافسة الشركات الإيرانية والتركية التي توفر كل أنواع الحليب والألبان ومشتقاتها. 

بالإضافة إلى ما يستورده العراق سنوياً من الألبان التركية، عام 2019 أعلن محمد جبار، المدير العام للشركة العامة للمنتجات الغذائية، التابعة لوزارة التجارة العراقية، أن “شركة مكأكوناين التركية المتخصصة بصناعة الألبان ستتولى تشغيل معمل ألبان أبو غريب لمدة 15 عاما”. بينما جاء العراق عام 2023 في المرتبة الأولى كأكثر البلدان المستوردة للألبان الإيرانية، بمبلغ  تجاوز 75 مليون دولار خلال أربعة أشهر. 

زهرة ورفيقاتها من صانعات القيمر لا يستطعن منافسة المستورد وتعبن من دفع الأيام بانتظار الحلول التي لا تمتلكها الدولة، “تعبنا ونتمنى تدعمنا الدولة أو منظمات بأعلاف أو سلف حتى نكدر نظل سنتين أو ثلاثة بهاي الشغلة”. 

دريد الأعرجي، رئيس اتحاد رجال الأعمال العراقيين في المثنى، يتحدث لجمّار عن الزيادة السكانية التي تتطلب زيادة في استهلاك الحليب ومشتقاته بشكل أكبر، والمنتج الوطني لا يسد حاجة السكان برأيه، فالطلب الكبير جعل المستورد من هذه المنتجات يحل بديلاً عن المنتج المحلي، كما أنه وإن كان أقل جودة فهو أيضاً أرخص، وهذه نكبة اقتصادية واستنزاف للعملة الصعبة على حد وصفه، فالدولة ليس لديها خطة للدعم، وإن توفر يستولي عليه المتنفذون. 

A cow standing near water

Description automatically generated

يشير الأعرجي إلى أن نقص الثروة الحيوانية يؤثر على توفير فرص العمل وازدياد البطالة، “بدأنا نفقد العوائل المعتمدة على الزراعة وتربية الحيوانات مما يؤدي إلى الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة”. 

صانعات القيمر اللاتي التقى بهنّ جمّار، عبرن عن هواجس دائمة من الصعوبات التي قد تجبرهنّ على ترك حرفتهنّ. 

“الدولة ما تقدم النا شي بلاش، واحنا ما طالبين منها شي بس الماي.. تعبنا من هذا الحال وبقينا نفكر نبيعهن ونشتري محل أو نشتغل شغلة ثانية لأن مجبورين”، تقول أم أحمد، أما عائلة زهرة فقد تركت رعي الجاموس، وصار الأبناء يشتغلون في عمالة البناء، ويتطلب ذلك سفرهم إلى بغداد والبصرة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“شوق، جواهر، المسّاحة، الحلوة” هكذا تسمّي أم أحمد (54 عاماً) جواميسها، لكل واحدة منهنَّ اسم تُنادى به، وتعرفه. 

الجاموسة بالنسبة لأم أحمد ليست حيواناً لإنتاج الحليب والقيمر واللحوم، إنها أكثر من ذلك، “آني ما اتعشى إذا يكولون إلي وحدة من الجواميس مريضة” وتتذكر الأسى الذي عاشته عندما ماتت “النطّاحة”، إحدى جاموساتها المقربات. 

لكن الجواميس تنقص في حظيرة المرأة الخمسينية، إذ أنها تبيع بعضها، لكي توفر العلف للبعض الآخر، “نبيع بيهن ونسد دين علفهن، وحدة توكل وحدة” وتضع احتمالاً أنها ستفقد كل جواميسها إن استمر الحال على ما هو عليه. 

أصبحت مهنة بيع القيمر لا تسدّ احتياجات المعيشة لعائلة لأم أحمد، وتربية الجاموس مكلفة. 

تأثرت النساء اللواتي يعملن في صناعة وبيع القيمر كثيراً، وهنَّ يقاومن قسوة التغيرات التي تصاحب هذه المهنة، ومنها، الجفاف، وغلاء الأعلاف، ونفوق أعداد كبيرة من الدواب. 

أما الجاموس الذي ينجو من الجفاف وشحّ المياه والأعلاف، فيكون هزيلاً ويعاني من المرض، وهذا يقلل من إنتاج الحليب وصناعة القيمر، وجودته كذلك. 

صناعة مكلفة 

قبل ثلاث سنوات، كان لدى أم أحمد 120 رأس جاموس، أما الآن فقد قلّ العدد إلى 50 فقط، وسينخفض هذا العدد أكثر، فهي قررت بيع 15 رأساً إضافية، لتعيل أسرتها، بعد أن أصبح أولادها عاطلين عن العمل. 

تتحدث أم أحمد لجمّار عن الماضي، عندما كانت الدولة تدعم مربي الجاموس، من خلال مطاحنها، حيث تبيع لهم الأعلاف المركزة بمبلغ 200 ألف دينار عراقي للطن الواحد، لكن انقطع هذا الدعم الآن، وأصبحوا يشترون العلف بنحو 650 ألف دينار للطن الواحد، وهذا خلق تجارةً موازية، وهي بيع العلف المغشوش، مما يؤثر على نوعية القيمر وجودته. 

في الوقت الحالي قللت أم أحمد كميات العلف التي تشتريها، فبدلاً عن شراء الطن صارت تشتري نصفه، يضاف إلى ذلك شراء الماء، سيارة حوضية “تنكر” يومياً وبكلفة تصل إلى 50 ألف دينار يومياً. 

تقول أم أحمد إنها تنفق 350 ألف دينار يومياً على جواميسها، وهذا الرقم يعد مكلفاً مع الوضع الحالي، في ظل غياب الدعم الحكومي، واتساع رقعة التصحر، وانتشار الجفاف وشحّ المياه الصالحة للشرب والسباحة بالنسبة للجواميس، “يعمن عيونهن، وأكثرهن يموتن من الماي المالح”. 

يسمّى العلف عالي الجودة “اسحاله” وهو عبارة عن أوراق ناعمة من رز العنبر والياسمين، سعره باهض ويُشترى من قضاء المشخاب في محافظة النجف، يعطي الجاموس الذي يتغذى على هذا النوع من العلف جودة عالية من الإنتاج، يكون القيمر الناتج عنه بطبقة سميكة ودسمة، ووزنه أثقل، وطعمة ألذ من غيره، ولا يباع هذا العلف بالطن، بل بالكيلو، ويباع كل مئة كم بـ75 ألف دينار. 

أمّا علف (النخالة) فجودته أقل، وهو على أنواع وأسعار مختلفة، فالنخالة المركزة تكون مفيدة، وتكون بأسعار غالية تصل حتى 500 ألف دينار، أو أكثر للطن الواحد، ولا يمكن استخدامها وحدها، بل يخلط معها الطحين، وأيضاً هنالك نخالة مغشوشة يخلط معها التراب والذرة المطحونة، والتي تختلف عن النخالة الصافية، وسعرها أقل عن النخالة الصافية بنحو 50 – 100 ألف دينار للطن الواحد، ومربو الجاموس يشترونه لأنه أرخص ثمناً، وهذا يجعل حليب الجاموس أقل كمية وجودة. 

القيمر شغلة صعبة 

تضع أم أحمد الحليب في طشت كبير، وتصفيه ومن ثم تضعه على نار هادئة لمدة نصف ساعة، وبعدها تضعه في إناء مغطّى لأكثر من عشر ساعات، ومن ثم يصبح قيمر، فتقطّعه وتحيطه بالثلج، أما الحليب المتبقي منه يُصنع منه الجبن أو الروبة. 

هناك زبائن دائمون من أصحاب البيوت ينتظرون قطع القيمر التي أنفقت أم أحمد نصف يومها لإنتاجه. 

 تقول أم أحمد إنّها لا تقبل على بناتها وكناتها العمل بهذه المهنة، “أحب شغلي يكون على إيدي نظيف وما اريدهن يشتغلن بهاي الشغلة الصعبة”. 

 تبيع أم أحمد الكيلوغرام الواحد من القيمر بحوالى 25 ألف دينار، بينما في السنوات الماضية كانت تبيعه بنحو 15 ألف دينار، أما الجبن فسعر الكيلوغرام الواحد يبلغ 3 آلاف دينار، والروبة 1000 دينار، ولتر الحليب بنحو 5 آلاف دينار. 

الجفاف وقلّة المرعى، خفّض انتاج الحليب للجاموسة الواحدة، تقول أم أحمد إن إنتاج الدابة كان يبلغ 75 لتراً في السنة، أما في الوقت الحالي فيصل إلى 25 لتراً فقط، ولا تنتج سوى أربعة كيلوغرامات من القيمر، لأن جزءاً من الحليب يُترك لإرضاع وليد الجاموسة. 

A herd of buffalo in a field

Description automatically generated

لا يتأثر الطلب على القيمر في فصل الشتاء، لكن يقل الطلب عليه في فصل الصيف بسبب حرارة الجو، “بالصيف نشول”، تقول أم أحمد وتعني ترك الجاموس يتكاثر، وما ينتجه من حليب يكون لمواليدها الصغار، أما عائلة أم أحمد فتعيش في هذا الفصل الحار على بيع عدد من الجواميس بانتظار موسم الشتاء وعودة الطلب على القيمر، يقلّ سعر الكيلوغرام من القيمر في الصيف إلى 7 آلاف دينار. 

الصيف الذي كان وفيراً في انتاج الحليب والقيمر، صار قاسياً على مربي الجاموس، فهو حين يأتي لا يجلب معه الوفرة المطلوبة من المياه، وهذا يؤثر على المأكل والمشرب. 

تتحدث أم أحمد لجمّار عن صعوبة أن يأتي الصيف، فهي لا تملك أرضاً زراعية لتربية جاموسها، فتلجأ لاستئجار مساحات زراعية للرعي، يصل سعر كل 500 متر منها إلى مليوني دينار في مواسم الشتاء، أما في الصيف فتضطر للهجرة مع عائلتها بحثاً عن المرعى المناسب.  

“لا يمكن ضمان وجود المياه في فصل الصيف، لذا نضطر للهجرة إلى نواحي القادسية والمشخاب في محافظة النجف بحثاً عن الماء والغذاء” يستمر موسم الهجرة هذا لخمسة شهور، فهناك تكاليف العلف والمرعى أرخص منها في الديار، وعندما يحين موسم حصاد الحنطة تعود أم أحمد وعائلتها إلى السماوة. 

الهجرة لها ثمنها أيضاً فهي تكلّف بين 300 – 500 ألف، وهذه أجور نقل الجاموس، بالإضافة إلى الأضرار التي قد تلحق بالحيوانات بسبب سوء طرق النقل، بعضها تصاب بكسور على الطريق، وبعضها يموت. “كل شيء يتغير بالهجرة، نومنا وأكلنا، ونسكن بخيمة”. 

الجواميس في الأرقام 

تكشف بدرية شيال كامل، مدير قسم الثروة الحيوانية في دائرة الزراعة بمحافظة المثنى في حديث لجمّار عن انخفاض أعداد الجواميس في المثنى، لكنها لا تعطي أرقاماً دقيقة لأن تلك الأرقام لا وجود لها، ومن الصعب بحسبها حصر أعداد الجاموس بدقة، لكنها تقول إن عددها عام 2023 انخفض إلى 8124 رأساً عن السنة التي سبقتها حيث كانت أعداد الجاموس تصل إلى ألف رأس تقريباً. 

بسبب الغلاء وقلة الدعم من مديرية الزراعة لمربي الجاموس، فإن بعضهم يرغب بالحصول على راتب الرعاية الاجتماعية، والتي تنص تعليماتها على عدم الاستفادة من رواتبها إذا كان المستفيد من مربي الثروة الحيوانية، مما يجعلهم يقدمون تعهداً في مديرية الزراعة بأنهم لا يملكون الحيوانات، وهذا يربك الإحصائيات. 

يشير خالد الفرطوسي، مدير مكتب الاتحاد الدولي لمربي الجاموس في العراق والخبير البيئي، أنه لا توجد إحصائيات دقيقة عن أعداد الجاموس إلا من خلال الشعب الزراعية، وفي حواره مع جمّار، لا يعوّل الفرطوسي كثيراً على تلك الأرقام، ويعتبرها تقريبية وليست دقيقة. 

A group of cows in water

Description automatically generated

في عام 2012 كان هناك ما يعرف بالبرنامج الوطني للترقيم الذي أطلقته وزارة الزراعة، حيث وصلت الأعداد حسب البرنامج إلى 300 ألف رأس في عموم العراق. وهذا الرقم تقريبي أيضاً لأن مربي الجاموس لديهم الكثير من المحاذير تحول والإفصاح عن العدد الحقيقي لما يمتلكونه. 

صعوبة الحصول على أرقام دقيقة لأعداد الجاموس يجعل من الصعوبة أيضاً إعطاء أرقام دقيقة عن عدد الحيوانات التي نفقت بسبب الجفاف وشحّ المياه. 

يتركز الجاموس في الأهوار، لكنها ليست البيئة الوحيدة له، إذ يتواجد في مناطق تابعة لمراكز المدن، ضمن ما يعرف بالحظائر، وتوفر لها ظروف مناسبة للتربية مثل توفير مياه عن طريق أحواض وتوفير معالف إما مركزة أو خضراء.  

النفوق الكبير 

زهرة (63 عاماً) كانت تمتلك 25 رأس جاموس، وأصبح لديها عشرة فقط، بسبب غلاء الأعلاف، فلم يعد باستطاعتها إطعام أكبر عدد منهن، “بعناهن وصرنا نجيب علف للباقي منهن”. 

أولادها يرعون الجاموس متنقلين في مناطق توفر المياه، لا يرعون في مكان محدد، فهم يتنقلون حسب توفر المياه، وقد أصاب جواميسها الضعف، حتى أنها عندما تولد الجاموسة لا تستطيع إرضاع صغيرها، بسبب الجوع والجفاف، وهذا يؤثر على كمية حليبها لرضاعة مولودها للحد الذي يجعل زهرة تشتري الحليب المجفف من المحلات لإرضاع المولود الجديد. 

عام 2023، خصصت الحكومة العراقية خمسة مليارات دينار عراقي لدعم مبادرة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ووزارة الزراعة لمربي الجاموس في جنوب العراق. لكن هذا التخصيص لا يكفي بحسب الفرطوسي. 

منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الفاو، تبنّت مشروعاً في ذي قار والبصرة وميسان، جزء من محاوره توفير أعلاف ودبس قصب السكر (المولاس) الذي له تأثير جيد على الإنتاج وصحة الحيوان والتناسل، ومن محاوره كذلك دعم المرأة الريفية في هذه المناطق لتصنيع المنتجات كالقيمر والجبن من حليب الجاموس. 

يرى الفرطوسي أنه ولكي يكون لدينا إنتاج مؤثر اقتصادياً لابد أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء، مما يتوجب أن يكون بأنواع متعددة وفق برامج تغذية مدروسة، وهذه يفتقدها مربو الجاموس في الجنوب، لأنهم لا يملكون الإمكانيات المادية، فمناطق جنوب العراق تمثل مركز هذا الحيوان، وبحسبه فإن  70 بالمئة من الجاموس ينتشر في هذه المناطق، ويجب استخدام الأعلاف المركزة، مثل النخالة والأعلاف الخضراء  كالذرة العلفية والجت، والتي تكون ذات قيمة غذائية، وهذا ينعكس على كمية المنتج من الحليب، ويقترح الذهاب باتجاه برامج التحسين الوراثي والتلقيح الاصطناعي، وهذه برامج علمية معتمدة عالمياً بحسب الفرطوسي، تحسّن انتاج الحليب. 

المستورد والمحلي 

إضافة إلى الجفاف والتغيّر المناخي، يتسبب المنتج المستورد بهزيمة القيمر المحلي، فمربو الجاموس لا يستطيعون منافسة الشركات الإيرانية والتركية التي توفر كل أنواع الحليب والألبان ومشتقاتها. 

بالإضافة إلى ما يستورده العراق سنوياً من الألبان التركية، عام 2019 أعلن محمد جبار، المدير العام للشركة العامة للمنتجات الغذائية، التابعة لوزارة التجارة العراقية، أن “شركة مكأكوناين التركية المتخصصة بصناعة الألبان ستتولى تشغيل معمل ألبان أبو غريب لمدة 15 عاما”. بينما جاء العراق عام 2023 في المرتبة الأولى كأكثر البلدان المستوردة للألبان الإيرانية، بمبلغ  تجاوز 75 مليون دولار خلال أربعة أشهر. 

زهرة ورفيقاتها من صانعات القيمر لا يستطعن منافسة المستورد وتعبن من دفع الأيام بانتظار الحلول التي لا تمتلكها الدولة، “تعبنا ونتمنى تدعمنا الدولة أو منظمات بأعلاف أو سلف حتى نكدر نظل سنتين أو ثلاثة بهاي الشغلة”. 

دريد الأعرجي، رئيس اتحاد رجال الأعمال العراقيين في المثنى، يتحدث لجمّار عن الزيادة السكانية التي تتطلب زيادة في استهلاك الحليب ومشتقاته بشكل أكبر، والمنتج الوطني لا يسد حاجة السكان برأيه، فالطلب الكبير جعل المستورد من هذه المنتجات يحل بديلاً عن المنتج المحلي، كما أنه وإن كان أقل جودة فهو أيضاً أرخص، وهذه نكبة اقتصادية واستنزاف للعملة الصعبة على حد وصفه، فالدولة ليس لديها خطة للدعم، وإن توفر يستولي عليه المتنفذون. 

A cow standing near water

Description automatically generated

يشير الأعرجي إلى أن نقص الثروة الحيوانية يؤثر على توفير فرص العمل وازدياد البطالة، “بدأنا نفقد العوائل المعتمدة على الزراعة وتربية الحيوانات مما يؤدي إلى الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة”. 

صانعات القيمر اللاتي التقى بهنّ جمّار، عبرن عن هواجس دائمة من الصعوبات التي قد تجبرهنّ على ترك حرفتهنّ. 

“الدولة ما تقدم النا شي بلاش، واحنا ما طالبين منها شي بس الماي.. تعبنا من هذا الحال وبقينا نفكر نبيعهن ونشتري محل أو نشتغل شغلة ثانية لأن مجبورين”، تقول أم أحمد، أما عائلة زهرة فقد تركت رعي الجاموس، وصار الأبناء يشتغلون في عمالة البناء، ويتطلب ذلك سفرهم إلى بغداد والبصرة.