النفخ في لغة ميتة.. ما تبقى من "الرطنة المندائية" في العراق
29 نيسان 2024
عندما يقول أحدهم في اللهجة العراقية، "طبّيت للبيت" أو "دشّيت للبيت" فإن نصف هذا القول هو من اللغة المندائية، وعندما يقرأ شاعر شعبي قصيدةً عن "شيلة" أمّه، فهي مأخوذة من "شيّالة" وهو غطاء رأس المرأة المندائية، والأمر ينطبق على المغنّي الذي يبدأ بـ"ويلاه ويلاه".. النفخ في لغة ميّتة أو ما تبقى من "الرطنة المندائية" في العراق
“رأس الرجاء أن تتعلم كلامَ الله وتُعلّمَه“
– الكنزاربا
في الرابعة عشرة من عمره، بدأ رافد زوري (40 عاماً) بتعلُّم “مِنْدَايُوثَا”، أو اللغة المندائية الفصيحة، واستمرّت رحلة تعلّمه حتى بلغ نهاية الثلاثين، لكنّه ورغم جهده ومساعدة عائلته في إتقان اللغة الفصحى؛ إلا أنه لم يتمكن من تعلّم “الرطنة المندائية” وهي اللهجة الدارجة، أو “العاميّة” في اللغة المندائية.
زوري ينقل معرفته باللغة المندائية الدينية إلى أبنائه الخمسة، لكنه يتحدّث عن صعوبة وقلّة من يتحدثون اللغة المندائية العاميّة أو “الرطنة”، “هناك ربما 10 أشخاص يتحدثون اللغة المندائية العامية في العراق، وحتى رجال الدين يستطيعون قراءة كلماتها، لكنهم لا يستطيعون التحدُّث بها”، يقول لجمّار.
اللغة الدينية هي لغة الكتاب المقدس “الكنزاربا” وكتب التراث الديني المندائي، وبينما يجلس زوري في محله لبيع المصوغات الذهبية، حيث الحرفة التي يشتهر بها أبناء هذه الديانة، يتحدث عن إمكانية تعلم اللغة من خلال المداومة على التحدث بها بشكل يومي، لكن، بالنسبة له فإن معانيها ودلالتها لا يفهمها إلا العلماء في الديانة المندائية، وهي شأنها بذلك شأن اللغات التي كُتِبت بها “الكتب السماوية” القرآن والإنجيل والتوراة.
الجذور
في بحثهما، “الـجـذور الـتـأريـخـيـة للـصابئة المندائيين” يذهب علي هادي المهداوي وأكرم عباس عمران، أستاذا اللغة في جامعة بابل، إلى أن كلمة مندائي أو المندائية وردت في اللغة السومرية من الأصل (ما – دا) والتي تعني (مسكن أو أرض العبادة)، كما يطلق على مكان العبادة في الديانة المندائية كلمة (مندي) ثم تطورت الكلمة؛ فظهرت بالأكدية على شكل (مندو) ومعناه القوم شديدو الإيمان.
الكتاب المقدس عند المندائيين هو (كنزاربا) أي الكنز العظيم. الذي أنزل بواسطة “هيب زيوا” وهو جبرائيل، على كل من آدم وشيت وإدريس ونوح، وصولاً إلى يحيى بن زكريا، الذي جاء عنه في القرآن، “يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً”.
كذلك للمندائية شعار مقدّس، ويسمى “درفش” أو “دربشا” ويعني العَلَم أو الراية، ويسمى أيضاً “راية النور” أو “العَلَم المضيء” يرمز إلى نبيّهم يحيى بن زكريا، وهو صليب من خشبتين متوّج بأغصان الآس، ويغطّى برداء من الحرير الأبيض، رمزاً للنور وإضاءة الأرض باتجاهاتها الأربعة، يمكسها المندائي عندما يريد تلاوة صلاته، ويتوجه بها إلى الماء الجاري.
يصنف علم اللسانيات، اللغة المندائية باعتبارها واحدة من اللهجات الشرقية للآرامية، وظهرت مع ظهور الآراميين قبل ثلاثة آلاف سنة، وتطورها -اللهجة المندائية- ارتبط بتطور الحضارة الآرامية وتوسعها باتجاه العيلاميين شرقاً، والبطالسة والسلوقيين غرباً، سوريا وفلسطين حالياً.
في بحثه حول اللغة المندائية ونشأتها وتأثيرها يورد الدكتور صباح مال الله، المتخصص في الدراسات المندائية والغنوصية في جامعة لندن، الخصائص الأبجدية والمقاييس المتبعة في كتابتها والحديث بها، ويصف كيف تتميز المندائية بأبجديتها التي تسمّى (آ ـ با ـ گـا ـ دا) وتخضع للمقاييس نفسها المتبعة في اللغة الآرامية، كما أنها تعتمد الحروف الصحيحة في الكتابة أكثر من اعتمادها على حروف العلّة، وأغلب كلماتها ترجع في اشتقاقها الى أصل ثلاثي الحروف، كما أنها تُكتب مثل جميع اللغات السامية من اليمين إلى اليسار.
قدسيّة الحرف المندائي بحسب مال الله، تكمن في طريقة رسمه، ورمزية النور والظلام والصراع ما بين الخير والشر، كما أن لهذه الحروف أقياماً عددية، فحرف الألف قيمته واحد، والباء اثنان، والدال أربعة، وهكذا.
الدكتور سعيد الجعفر، أستاذ اللسانيات في جامعة ذي قار، يعتقد خلال حديثه لجمّار، أن اللغة المندائية ماتت، وتحوّلت إلى لغة دينية، يتقنها رجال الدين فقط، وبعد انتشار الإسلام ودخوله إلى البلدان، ومنها العراق، أصبحت اللغة العربية هي السائدة، وبالتالي اضطر المندائيون إلى تغيير لغتهم.
لكن المصادر التاريخية توثق أوّل ترجمة لكتاب “الكنزاربا” المندائي، وكانت من خلال المترجم أحمد بن عبد الله بن سلام، مولى هارون الرشيد، لكن تلك الترجمة اختفت، ولم يترجم الكتاب بعدها إلا عام 1997، من خلال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، وبحسب ما ينقل رشيد خيون في كتابه “الأديان والمذاهب بالعراق” عن الريش أمة الشيخ عبد الله نجم، “كانت كفراً في الدين، وهي جريمة بحق ديننا وكتابنا ومقدساتنا”.
إن إتقان الحروف سيجعل من تعلّم اللغة أسهل، يقول رافد زوري، ويشدد على أنَّ البدء منذ الصغر مهم كذلك للتعلّم السريع، وفي كلّ الأحوال، فإنّ زوري يعطي سرّ إتقان المندائية بحسب خبرته معها، “إذا تتعلم وتقطع تضيع عليك وإذا ظلّيت تكتب بيها، واستمريت سنة الموضوع رح يكون طبيعي وما تنساها، من تكطع تنساها”.
اليوتيوب أتاح فرصة مهمّة للغة المندائية، على الأقل لتحفظ قواعدها من النسيان، هناك قنوات وأشخاص يعطون دروساً “أونلاين” وبإمكان من لديه فضول نحو هذه اللغة “المقدّسة” أن يتعلّم أسرارها.
الحبر
دوّن المندائيون في لغتهم إرثاً مهماً، جمعوا فيه كل تراثهم الديني من خلال عدة كتب، مثل، “كنزابرا” الكنز العظيم، “سيدره أد نشماثه” كتاب الأنفس، “النياني” تراتيل وأناشيد، “القلستا” أصول الزواج، “ترسو ألف شياله” اثنا عشر ألف سؤال، “حران كويثه” قلعة حران، “المه ريشايه” تكوين العالم، “دراشه اد يهيا” تعاليم يحيى، “شرح بارونا” شرح إقامة الأقداس على روح الموتى، وغيرها.
اللغة عند المندائيين مقدسة، فهي لا تُدّون على جلود الحيوانات، فهم يعتذرون ويستغفرون بعد الذبح، وإنما تُكتب على الورق، وورق البردي، والحجر والرصاص، والمعادن، ومن أجل هذا فإن الحروف مقدسةً عندهم كذلك، فهي تمثيل للحياة والنور، وتبدأ اللغة بحرف الألف وتنتهي بالألف، وهذا يمثل عندهم كمال النور والحياة، وهذا الكمال هو من خلقِ الله.
وما دامت الحروف مقدسة، فالحبر الذي تُكتب به مقدس كذلك، فلا يصنعه غير الكهنة، ولا يكتبون به غير الحروف الدينية، ويسمونه “ديوثا”، ولكل كاهن طريقته الخاصة في صناعة ذلك الحبر، كما ينقل رشيد خيون في “الأديان والمذاهب بالعراق” حيث يحضّر الحبر المقدس من خلال مزج الغراء بماء النهر، وتركه حتى يذوب، ثم يُغلى إلى درجة التبخر لمدة ستة أيام، ويجمع ويسحق في اليوم السابع، ثم يخلط بمسحوق الفحم، بنسبة مثقال واحد من الفحم إلى خمسة وعشرين مثقالاً من الغراء، ولمدة أربعة إلى خمسة أيام، ثم يُمزج بالماء حتى يتحول إلى عجينة، ثم يُغلى حتي يتحول إلى بلورات تُمزج بماء النهر، ثم يُتلى عليه دعاء “اسوثة ملكه” أي صلاة التسليم، ثم بعد ذلك يستخدم لكتابة اللغة المندائية.
“الرطنة“
عندما نقول في اللهجة العراقية، “طبّيت للبيت” أو “دشّيت للبيت” فإن نصف هذه العبارة هي من اللغة المندائية، فالفعل طبَّ ودش هما مندائيان، وعندما نسمع شاعراً شعبياً عراقياً يتحدث عن “شيلة” أمّه، فهذا مأخوذ من “شيالة” وهو غطاء رأس المرأة العراقية المندائية، والأمر ينطبق على المغنّي، الذي يبدأ أغنيته الحزينة أو موّاله بكلمة “ويلاه ويلاه” التي هي “ويل” وتعني باللغة المندائية الجحيم أو العذاب، ومنها انتقلت إلى العربية.
الشيخ عبد السلام جبار، الكنزبرا (درجة دينية عليا) نائب رئيس الطائفة الدينية المندائية في العراق، يرى ما لا يراه الآخرون، فهو يعتقد أن اللغة المندائية الدينية هي لغة حيّة، لكن “الرطنة” هي من يتحدثها أعداد قليلة في العالم، وهو يعتقد أن العراق ليس فيه أحد يتقن “الرطنة” على عكس المندائيين في الأهواز، فبينهم من يتحدثها.
يضيف الكنزبرا جبار أن اللغة الدينية المندائية شهدت نهضة في حقبة الثمانيات من القرن العشرين، حيث افتتحت دورات تعليمية، ومدارس خاصة لتعليم اللغة، بدعم ذاتي من أبناء الديانة، ويعتقد أن من يتحدثون اللغة المندائية الفصحى في العراق حالياً، تبلغ نسبتهم نحو 50 بالمئة من المندائيين.
“يجي ابو الاول ابتدائي وامه وابوه وياه -ماكو مشكلة- يجي يتعلم ممكن يكون ابو 40 سنة او ابو خمس سنوات في نفس الصف للتعلم”، يتحدّث الكنزبرا جبار عن أجواء الدراسة.
لا توجد بيانات رسمية دقيقة حول عدد المندائيين في العراق، لكن وبحسب الشيخ ستار جبار الحلو، زعيم طائفة “الصابئة المندائيين” في العراق والعالم، فقد كان عددهم قبل 2003 يصل إلى 75 ألف مندائي، لكن هذا العدد تراجع إلى 15 ـ 20 ألفاً بسبب عمليات التهجير.
توجد كتب مبسطة لتعليم اللغة، وهي القراءة المندائية، تشبه القراءة الخلدونية للصف الأول الابتدائي، ويشير الكنزبرا جبار إلى عدم تلقيهم أي دعم حكومي لتعليم لغتهم القديمة، وأن مستوى الاهتمام ضعيف في هذا المجال، “في الوقت الذي يتم تعليم اللغات السريانية والعبرية في الكليات، المندائية ليس لها قسم مختص، بينما تجدها في الدراسات العليا لدى التخصص الدقيق”.
قبل جائحة كورونا، فتح رافد زوري بمعيّة صديق له حلقات لتعليم اللغة المندائية للأطفال، “كانت جلسات حلوة، وما استمرينة بسبب كورونا، كنا كل أحد نكعد ساعتين أو ساعة ونص، ونعلمهم الأحرف”.
كتاب “الأنفس” هو أسهل كتاب مندائي لمن يريد تعلّم اللغة، بحسب ما يعتقد زوري، بالإضافة إلى أن الكتاب مشهور عند رجال الدين، ويستخدمونه للتعليم والعبادة.
الإقصاء
بحسب الأب مارتن هرمز، المتحدث الرسمي باسم ديوان الأوقاف الديانات المسيحية والصابئية والإيزيدية، هناك توجه حكومي لإحياء اللغة المندائية، ومحاولة دمجها في المناهج الخاصة في كليات اللغات، وتشجيع أبناء الطائفة من المتعلمين لتدريس هذه اللغة، والحفاظ عليها؛ “لأنها لغة قديمة جداً وتعتبر من أصل اللغات في المنطقة”. لكن بالنسبة للشخص المندائي، فهو مضطر لاستعمال اللغة العربية، لأنها لغة المجتمع، ولغة الوظيفة والعمل.
ينص الدستور العراقي في المادة الثانية على ضمان “الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين”.
وعلى الرغم من ضمانة الدستور لحقوقهم، واللغة جزء من تلك الحقوق، إلا أن شعوراً بالتهميش والإقصاء يطغى على أبناء هذه الديانة، يعبّر عنه الشيخ ستار جبار الحلو زعيم طائفة “الصابئة المندائيين” في العراق والعالم، بالقول إن المندائيين “واجهوا ممارسات تمييز قائمة على أساس المذهب والعرق في كافة المؤسسات الحكومية العراقية”.
هناك حيث البدايات الأولى، وقريباً من “فرات زيوا” نهر الفرات، في مدينة الناصرية، مقبرة للمندائيين، حتى الآن، يُكتب على شواهد قبورها باللغة المندائية، اللغة التي يعتقدون أن أول من تحدث بها هو آدم.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
“رأس الرجاء أن تتعلم كلامَ الله وتُعلّمَه“
– الكنزاربا
في الرابعة عشرة من عمره، بدأ رافد زوري (40 عاماً) بتعلُّم “مِنْدَايُوثَا”، أو اللغة المندائية الفصيحة، واستمرّت رحلة تعلّمه حتى بلغ نهاية الثلاثين، لكنّه ورغم جهده ومساعدة عائلته في إتقان اللغة الفصحى؛ إلا أنه لم يتمكن من تعلّم “الرطنة المندائية” وهي اللهجة الدارجة، أو “العاميّة” في اللغة المندائية.
زوري ينقل معرفته باللغة المندائية الدينية إلى أبنائه الخمسة، لكنه يتحدّث عن صعوبة وقلّة من يتحدثون اللغة المندائية العاميّة أو “الرطنة”، “هناك ربما 10 أشخاص يتحدثون اللغة المندائية العامية في العراق، وحتى رجال الدين يستطيعون قراءة كلماتها، لكنهم لا يستطيعون التحدُّث بها”، يقول لجمّار.
اللغة الدينية هي لغة الكتاب المقدس “الكنزاربا” وكتب التراث الديني المندائي، وبينما يجلس زوري في محله لبيع المصوغات الذهبية، حيث الحرفة التي يشتهر بها أبناء هذه الديانة، يتحدث عن إمكانية تعلم اللغة من خلال المداومة على التحدث بها بشكل يومي، لكن، بالنسبة له فإن معانيها ودلالتها لا يفهمها إلا العلماء في الديانة المندائية، وهي شأنها بذلك شأن اللغات التي كُتِبت بها “الكتب السماوية” القرآن والإنجيل والتوراة.
الجذور
في بحثهما، “الـجـذور الـتـأريـخـيـة للـصابئة المندائيين” يذهب علي هادي المهداوي وأكرم عباس عمران، أستاذا اللغة في جامعة بابل، إلى أن كلمة مندائي أو المندائية وردت في اللغة السومرية من الأصل (ما – دا) والتي تعني (مسكن أو أرض العبادة)، كما يطلق على مكان العبادة في الديانة المندائية كلمة (مندي) ثم تطورت الكلمة؛ فظهرت بالأكدية على شكل (مندو) ومعناه القوم شديدو الإيمان.
الكتاب المقدس عند المندائيين هو (كنزاربا) أي الكنز العظيم. الذي أنزل بواسطة “هيب زيوا” وهو جبرائيل، على كل من آدم وشيت وإدريس ونوح، وصولاً إلى يحيى بن زكريا، الذي جاء عنه في القرآن، “يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً”.
كذلك للمندائية شعار مقدّس، ويسمى “درفش” أو “دربشا” ويعني العَلَم أو الراية، ويسمى أيضاً “راية النور” أو “العَلَم المضيء” يرمز إلى نبيّهم يحيى بن زكريا، وهو صليب من خشبتين متوّج بأغصان الآس، ويغطّى برداء من الحرير الأبيض، رمزاً للنور وإضاءة الأرض باتجاهاتها الأربعة، يمكسها المندائي عندما يريد تلاوة صلاته، ويتوجه بها إلى الماء الجاري.
يصنف علم اللسانيات، اللغة المندائية باعتبارها واحدة من اللهجات الشرقية للآرامية، وظهرت مع ظهور الآراميين قبل ثلاثة آلاف سنة، وتطورها -اللهجة المندائية- ارتبط بتطور الحضارة الآرامية وتوسعها باتجاه العيلاميين شرقاً، والبطالسة والسلوقيين غرباً، سوريا وفلسطين حالياً.
في بحثه حول اللغة المندائية ونشأتها وتأثيرها يورد الدكتور صباح مال الله، المتخصص في الدراسات المندائية والغنوصية في جامعة لندن، الخصائص الأبجدية والمقاييس المتبعة في كتابتها والحديث بها، ويصف كيف تتميز المندائية بأبجديتها التي تسمّى (آ ـ با ـ گـا ـ دا) وتخضع للمقاييس نفسها المتبعة في اللغة الآرامية، كما أنها تعتمد الحروف الصحيحة في الكتابة أكثر من اعتمادها على حروف العلّة، وأغلب كلماتها ترجع في اشتقاقها الى أصل ثلاثي الحروف، كما أنها تُكتب مثل جميع اللغات السامية من اليمين إلى اليسار.
قدسيّة الحرف المندائي بحسب مال الله، تكمن في طريقة رسمه، ورمزية النور والظلام والصراع ما بين الخير والشر، كما أن لهذه الحروف أقياماً عددية، فحرف الألف قيمته واحد، والباء اثنان، والدال أربعة، وهكذا.
الدكتور سعيد الجعفر، أستاذ اللسانيات في جامعة ذي قار، يعتقد خلال حديثه لجمّار، أن اللغة المندائية ماتت، وتحوّلت إلى لغة دينية، يتقنها رجال الدين فقط، وبعد انتشار الإسلام ودخوله إلى البلدان، ومنها العراق، أصبحت اللغة العربية هي السائدة، وبالتالي اضطر المندائيون إلى تغيير لغتهم.
لكن المصادر التاريخية توثق أوّل ترجمة لكتاب “الكنزاربا” المندائي، وكانت من خلال المترجم أحمد بن عبد الله بن سلام، مولى هارون الرشيد، لكن تلك الترجمة اختفت، ولم يترجم الكتاب بعدها إلا عام 1997، من خلال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، وبحسب ما ينقل رشيد خيون في كتابه “الأديان والمذاهب بالعراق” عن الريش أمة الشيخ عبد الله نجم، “كانت كفراً في الدين، وهي جريمة بحق ديننا وكتابنا ومقدساتنا”.
إن إتقان الحروف سيجعل من تعلّم اللغة أسهل، يقول رافد زوري، ويشدد على أنَّ البدء منذ الصغر مهم كذلك للتعلّم السريع، وفي كلّ الأحوال، فإنّ زوري يعطي سرّ إتقان المندائية بحسب خبرته معها، “إذا تتعلم وتقطع تضيع عليك وإذا ظلّيت تكتب بيها، واستمريت سنة الموضوع رح يكون طبيعي وما تنساها، من تكطع تنساها”.
اليوتيوب أتاح فرصة مهمّة للغة المندائية، على الأقل لتحفظ قواعدها من النسيان، هناك قنوات وأشخاص يعطون دروساً “أونلاين” وبإمكان من لديه فضول نحو هذه اللغة “المقدّسة” أن يتعلّم أسرارها.
الحبر
دوّن المندائيون في لغتهم إرثاً مهماً، جمعوا فيه كل تراثهم الديني من خلال عدة كتب، مثل، “كنزابرا” الكنز العظيم، “سيدره أد نشماثه” كتاب الأنفس، “النياني” تراتيل وأناشيد، “القلستا” أصول الزواج، “ترسو ألف شياله” اثنا عشر ألف سؤال، “حران كويثه” قلعة حران، “المه ريشايه” تكوين العالم، “دراشه اد يهيا” تعاليم يحيى، “شرح بارونا” شرح إقامة الأقداس على روح الموتى، وغيرها.
اللغة عند المندائيين مقدسة، فهي لا تُدّون على جلود الحيوانات، فهم يعتذرون ويستغفرون بعد الذبح، وإنما تُكتب على الورق، وورق البردي، والحجر والرصاص، والمعادن، ومن أجل هذا فإن الحروف مقدسةً عندهم كذلك، فهي تمثيل للحياة والنور، وتبدأ اللغة بحرف الألف وتنتهي بالألف، وهذا يمثل عندهم كمال النور والحياة، وهذا الكمال هو من خلقِ الله.
وما دامت الحروف مقدسة، فالحبر الذي تُكتب به مقدس كذلك، فلا يصنعه غير الكهنة، ولا يكتبون به غير الحروف الدينية، ويسمونه “ديوثا”، ولكل كاهن طريقته الخاصة في صناعة ذلك الحبر، كما ينقل رشيد خيون في “الأديان والمذاهب بالعراق” حيث يحضّر الحبر المقدس من خلال مزج الغراء بماء النهر، وتركه حتى يذوب، ثم يُغلى إلى درجة التبخر لمدة ستة أيام، ويجمع ويسحق في اليوم السابع، ثم يخلط بمسحوق الفحم، بنسبة مثقال واحد من الفحم إلى خمسة وعشرين مثقالاً من الغراء، ولمدة أربعة إلى خمسة أيام، ثم يُمزج بالماء حتى يتحول إلى عجينة، ثم يُغلى حتي يتحول إلى بلورات تُمزج بماء النهر، ثم يُتلى عليه دعاء “اسوثة ملكه” أي صلاة التسليم، ثم بعد ذلك يستخدم لكتابة اللغة المندائية.
“الرطنة“
عندما نقول في اللهجة العراقية، “طبّيت للبيت” أو “دشّيت للبيت” فإن نصف هذه العبارة هي من اللغة المندائية، فالفعل طبَّ ودش هما مندائيان، وعندما نسمع شاعراً شعبياً عراقياً يتحدث عن “شيلة” أمّه، فهذا مأخوذ من “شيالة” وهو غطاء رأس المرأة العراقية المندائية، والأمر ينطبق على المغنّي، الذي يبدأ أغنيته الحزينة أو موّاله بكلمة “ويلاه ويلاه” التي هي “ويل” وتعني باللغة المندائية الجحيم أو العذاب، ومنها انتقلت إلى العربية.
الشيخ عبد السلام جبار، الكنزبرا (درجة دينية عليا) نائب رئيس الطائفة الدينية المندائية في العراق، يرى ما لا يراه الآخرون، فهو يعتقد أن اللغة المندائية الدينية هي لغة حيّة، لكن “الرطنة” هي من يتحدثها أعداد قليلة في العالم، وهو يعتقد أن العراق ليس فيه أحد يتقن “الرطنة” على عكس المندائيين في الأهواز، فبينهم من يتحدثها.
يضيف الكنزبرا جبار أن اللغة الدينية المندائية شهدت نهضة في حقبة الثمانيات من القرن العشرين، حيث افتتحت دورات تعليمية، ومدارس خاصة لتعليم اللغة، بدعم ذاتي من أبناء الديانة، ويعتقد أن من يتحدثون اللغة المندائية الفصحى في العراق حالياً، تبلغ نسبتهم نحو 50 بالمئة من المندائيين.
“يجي ابو الاول ابتدائي وامه وابوه وياه -ماكو مشكلة- يجي يتعلم ممكن يكون ابو 40 سنة او ابو خمس سنوات في نفس الصف للتعلم”، يتحدّث الكنزبرا جبار عن أجواء الدراسة.
لا توجد بيانات رسمية دقيقة حول عدد المندائيين في العراق، لكن وبحسب الشيخ ستار جبار الحلو، زعيم طائفة “الصابئة المندائيين” في العراق والعالم، فقد كان عددهم قبل 2003 يصل إلى 75 ألف مندائي، لكن هذا العدد تراجع إلى 15 ـ 20 ألفاً بسبب عمليات التهجير.
توجد كتب مبسطة لتعليم اللغة، وهي القراءة المندائية، تشبه القراءة الخلدونية للصف الأول الابتدائي، ويشير الكنزبرا جبار إلى عدم تلقيهم أي دعم حكومي لتعليم لغتهم القديمة، وأن مستوى الاهتمام ضعيف في هذا المجال، “في الوقت الذي يتم تعليم اللغات السريانية والعبرية في الكليات، المندائية ليس لها قسم مختص، بينما تجدها في الدراسات العليا لدى التخصص الدقيق”.
قبل جائحة كورونا، فتح رافد زوري بمعيّة صديق له حلقات لتعليم اللغة المندائية للأطفال، “كانت جلسات حلوة، وما استمرينة بسبب كورونا، كنا كل أحد نكعد ساعتين أو ساعة ونص، ونعلمهم الأحرف”.
كتاب “الأنفس” هو أسهل كتاب مندائي لمن يريد تعلّم اللغة، بحسب ما يعتقد زوري، بالإضافة إلى أن الكتاب مشهور عند رجال الدين، ويستخدمونه للتعليم والعبادة.
الإقصاء
بحسب الأب مارتن هرمز، المتحدث الرسمي باسم ديوان الأوقاف الديانات المسيحية والصابئية والإيزيدية، هناك توجه حكومي لإحياء اللغة المندائية، ومحاولة دمجها في المناهج الخاصة في كليات اللغات، وتشجيع أبناء الطائفة من المتعلمين لتدريس هذه اللغة، والحفاظ عليها؛ “لأنها لغة قديمة جداً وتعتبر من أصل اللغات في المنطقة”. لكن بالنسبة للشخص المندائي، فهو مضطر لاستعمال اللغة العربية، لأنها لغة المجتمع، ولغة الوظيفة والعمل.
ينص الدستور العراقي في المادة الثانية على ضمان “الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين”.
وعلى الرغم من ضمانة الدستور لحقوقهم، واللغة جزء من تلك الحقوق، إلا أن شعوراً بالتهميش والإقصاء يطغى على أبناء هذه الديانة، يعبّر عنه الشيخ ستار جبار الحلو زعيم طائفة “الصابئة المندائيين” في العراق والعالم، بالقول إن المندائيين “واجهوا ممارسات تمييز قائمة على أساس المذهب والعرق في كافة المؤسسات الحكومية العراقية”.
هناك حيث البدايات الأولى، وقريباً من “فرات زيوا” نهر الفرات، في مدينة الناصرية، مقبرة للمندائيين، حتى الآن، يُكتب على شواهد قبورها باللغة المندائية، اللغة التي يعتقدون أن أول من تحدث بها هو آدم.