"إحنا اِنربي قبل ما إنعلّم".. عن ضحايا منظومة العنف التربويّ 

ان إ.م .بلاي

05 تشرين الأول 2023

تضبط المنظومة التعليمية العراقية المجتمع عوضاً عن تركيزها على إشاعة المعرفة.. ففي الأوّل الابتدائي، كُنتُ أسمع كل يوم خميس جملة مدير مدرستنا كل صباح، "أحنا هنا عدنا التربية قبل التعليم"، ثم ينهال علينا بالاحتقار والازدراء والإهانات والشتائم.. عن ضحايا منظومة العنف التربويّ في العراق.

أطفال معذبون، مُربّطون، عليهم كدمات، لديهم جروح. يبكون ويصرخون، يطلبون النجدة، هؤلاء وأكثر يظهرون بشكل عشوائي داخل دوامة تقليب “الريلز Reels” على تطبيق إنستغرام. 

بعض هذا العنف يأتي بدوافع الشرّ، مثل مقتل الطفل موسى على يدّ زوجة أبيه، ومقتل الطفل حسين بعد أن ضرب المعلم رأسه عام 2018، وبعض العنف يُستعمل كأداة إخضاع وتعذيب؛ والنوعان شائعان. 

عُنف منتشر 

يتعرّض 4 من أصل 5 أطفال للعنف المنزلي في العراق، بحسب إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عام 2018، بينما لا توجد إحصائية تخصّ العنف التربوي، وخاصة الذي يحصل في المدارس، على الرغم من شيوعه. 

يتّخذ العنف على الأطفال، شكلاً انفعالياً، والحال نفسها تنطبق على فئات أخرى مثل النساء ومجتمع الميم عين أو بعض الأقليات، حيث تعيش في أجواء الإكراه والقسر والخضوع، والعلاقات العامودية بين الآمر والمأمور، الكبير والصغير، والقوي والضعيف.  

والحال هذه، تشيع بين الأسر العربية، والعراقية خاصة، سلطة أبوية صارمة، تعتمد قهر الأبناء أسلوباً في التربية. تتمثل الأسرة في مبدأ الطاعة، إذ يجب على الأصغر أو الأدنى مرتبة طاعة الأكبر منه، لتتشكّل علاقة عامودية بين الآباء والأبناء بالإكراه، يُستخدم فيها التسلط والعنف واستعمال القوة والقهر. 

يفرض الآباء على أبنائهم أنماطاً وسلوكيات مثل التحكم في حركتهم وانفعالاتهم، وعدم السماح لهم بالاعتراض أو إبداء الرأي. ليتعلم الطفل من خلال هذه الممارسات كبح نفسه تجاه سلطة الأب، لتنتهي التنشئة بإخضاع الفرد/ الطفل بشعوره بالهزيمة، بعد أن بدأت رحلته بالترهيب. 

من العائلة إلى المؤسسات الاجتماعية 

يُمارس الأبوان العنف لإخضاع الأطفال والأبناء للأفكار السائدة التي يُسائلونها، وهو ما يخدم المؤسسات الاجتماعية التي تلبي احتياجات الأسرة بدورها، فتقوم الأنظمة التربوية بتكريس سلطوية النظام الأبوي الذي يضمن بقاءها في السلطة من خلال التعليم أو الأنشطة التي تُمارس داخل المؤسسة التربوية. 

البداية في العقاب السلطوي: الضرب، الركل، حلق الرأس، إلى حملات التحجيب القسرية، والتي افتضحت عند اعتماد المدارس على الدراسة عن بعد لنصف الأسبوع، والنصف الآخر حضورياً. ظهرت طالبات كثيرات بلا حجاب على شاشات الحواسيب، بينما أُجبرن على ارتدائه في المدرسة. 

تضبط المنظومة التعليمية العراقية المجتمع، عوضاً عن تركيزها على إشاعة المعرفة. 

ففي الأوّل الابتدائي، وكل خميس، كُنتُ أسمع جملة مدير مدرستنا كل صباح، “أحنا هنا عدنا التربية قبل التعليم”، ثم ينهال علينا بالاحتقار والازدراء والإهانات والشتائم. 

يُحمّل مسؤولون عراقيون الطلبة مسؤولية ارتفاع العنف ضدّهم، لأنّهم “يقومون بتصرّفات غير مقبولة، كعدم جلب الكتب إلى المدرسة، وإهمالهم دروسهم لانشغالهم بالألعاب الالكترونية أو بمواقع التواصل الاجتماعي التي أخذت جلّ وقتهم”، وفق تعبير عضو مجلس محافظة سابق. 

إعادة إنتاج العنف 

الحال هذه، تعيد الأنظمة التربوية إنتاج السلطة الأبوية، بإعادة إنشاء علاقات القوة والسيطرة والخضوع. بمعنى أن المدرسة تقوم بالحفاظ على نسق العلاقات بين المعلمين وتلاميذهم داخل المدرسة مثل علاقة الآباء والأبناء داخل الأسرة، لتقوم بذلك بتجسيد صورة حيّة لنسق العلاقات الاجتماعية بين القاهر والمقهور. 

“إحدى فقرات نظام المدارس الابتدائية رقم 30 لسنة 1978 منعت العنف بجميع أنواعه، لكن بسبب الأمور التي دخلت على المجتمع في السنوات الاخيرة كالإنترنت وإهمال بعض أولياء الأمور لأبنائهم، حصلت بعض السلوكيات الخاطئة والتي أثرت في المدرسة بشكل أو آخر”، تشرح مديرة مديرية التعليم العام في وزارة التربية العنف وتشابكه بين العائلة والأنظمة التربوية. 

سلطة المنظمة الابوية 

بالسلطة التي تمنحها لهم المنظومة الأبوية، يسمح المعلمون لأنفسهم باستعمال أساليب العنف التي سبق وأن مورست داخل الأسرة، وأحياناً الإيغال فيها. فالعنف لا يعيد إنتاج نفسه سهواً، بل هو طريقة لبناء العلاقة التقليدية بين المعلم والطالب، وهو أيضاً الطريقة التقليدية للتدريس، والممُارسة في أغلب مدارس العراق الحكومية منها والخاصة. 

يقوم التعليم في العراق، غالباً، على التلقين والحفظ وتكرار ما حُفظ، فتتحول العملية التدريسية إلى عملية تلقٍ وتخزين دون وعي بالمعنى، ومن خلال طريقة التدريس التقليدية، المعتمدة على التلقين والإصغاء، تحافظ المنظومة على استعمال العنف.  

“طبك مرض منو أنتَ، شمدريني أني بيك؟” الفيديو الشهير والذي تحول إلى ميمز لاحقاً لمحمد السيد محسن الكاتب والإعلامي، خلال رصده لعمليات الفساد التي طالت المناهج التعليمية ضمن الفساد الموجود في وزارة التربية وجاء هذا الرد الاستخفافي على مسألة لحاصل الضرب الديكارتي في كتاب الرياضيات للصف الثاني الابتدائي عام 2017. وفي رسالةٍ كانت موجّهة من معلم إلى وزارة التربية عرضت في البرنامج، تساءل “كيف لكم أن تضعوا لأطفال بعمر الثماني سنوات ألغازاً يصعب على بعض الكبار حلها؟”.  

بعدها بعامين، وعلى الهواء، فشل أمير عبد المجيد، مديرٌ عام في مناهج التربية، في التوصل إلى حل مسألة حاصل الضرب الديكارتي، وقال إن الكبار صعب عليها فهمها، لكن الطلاب يمكنهم فهمها. 

مثل هذه المواد، تحتاج إلى حفظ وتلقين، ولكنها تبقى صعبة، فيجري فرضها بأساليب عقابية. 

تمييز في المدرسة 

عام 2022، تعرض ع.م (12 عاماً) للتنكيل من المدرسين، والضرب حتّى كسر العظم من أحد الطلبة، لكنه، رغم ذلك، لم يحصل على مُساعدة تذكر.  

هاجرت عائلة ع.م من الأهوار إلى بغداد، لتواجه فصولاً من التمييز بسبب خلفيّتهم الريفية، ليكونوا حلقة ضعيفة، في حلقات المجتمع متفاوتة القوة. 

“مرات يحاولون ينقلون أو يفصلون أطفال من خلفيات مهاجرة على المدينة، أو من خلفيات اقتصادية مهمشة”، يروي ر.م الأخ الأكبر، (22 عاماً)، ما توصّل إليه بعد أن تعرّض شقيقه للتمييز والإهمال. 

“جم مرة يضربوه المعلمين.. ومرة طالب كسر ايده..”. 

حاول، ر.م الإبلاغ عن الضرب والشتائم والإهانات التي يتلقاها شقيقه من المعلمين، “على جم مرة انه اروحن احاجي الإدارة ما يفيد”. 

تعرّض ع.م للضرب على يد أحد زملائه، وكسرت يده عندما اشتد العنف عليه، لكن المدرسة لم تقم بأي إجراء، حتى بعد أن اشتكى أهله لمرات متكررة. 

“المعلمين يطكون (يضربون) من واحد موزين بالدرس أو يحجي أو يرسب الخ.. و(يضربون) وعلى أتفه الأسباب”.  

لا توجد إحصائية واضحة ودقيقة لدى وزارة التربية بما يخص موضوع العنف بجميع أشكاله داخل المدارس، بحسب كريم السيد، المتحدث باسم وزارة التربية.  

“قد لا تكون هناك إحصائيات واضحة ودقيقة بهذا الجانب، لكن كميات اللجان التي تُشكل هي بالمئات في المديريات العامة للتربية وفي الوزارة تتعلق بموضوعة العنف تحديداً”، قال السيد. 

“بالنهاية تكون التوصيات والمقترحات الخاصة بهذه اللجان هي ضرورة إبعاد المدرسة عن العنف واتخاذ ما يمكن اتخاذه لإبعاد العنف من خلال المرشد التربوي أو من خلال إدارة المدرسة”. 

عنف العائلة داخل المدرسة 

يضرب الآباء أبناءهم أيضاً لأتفه الأسباب، وقد شاهدت غ.ر وهي مدرسة لغة انجليزية في إعدادية للبنات في بابل عام 2016 عنف الأهل على الابن، والذي يحمله معه إلى المدرسة، ليظهر في دروسه وعلاقات بمدرسيه وزملائه. 

أخذ لون إحدى طالبتها يتغيّر إلى الأصفر، وأخذت تُكثِر في شرودها، ودرجاتها صارت تتراجع.  

“لم يحتج مني الأمر أكثر من سؤال واحد عن أسباب تدهور مستواها العلمي لأعرف أن والدتها تقوم بضربها كلما قصرت في واجبات المنزل من طبخ وتنظيف، وأن أيام الوالدة ومزاجها السيئ مستمرة حتى أنها بدأت في اقتلاع شعرها كنوع من العقاب الجسدي كي تتذكر أن تقوم بواجبات المنزل بشكل جيد”. 

بعد حديثها إلى الطالبة، حولتِ المُدّرِّسة الفتاة المعنفة إلى المرشدة النفسية. “رغم علمي أن المدرسة لن تقوم بأي شيء فلا قانون يحمي تلك المسكينة من ضرب الأهل، ولا مجتمع يمكن له أن يعي مخاطر هذا النوع من التعامل”. 

لم تأخذ المدرسة أي أجراء “لأن ماكو قانون” بحسب تعبير غ.ر لكنها علمت لاحقاً من الفتاة ذاتها أنها أنهت دراستها الجامعية بعد أن اكتشف والدها تعنيف أمها وأخوتها لها وأخذها للعيش عنده. 

يؤكد كريم السيد أن “إدارة المدرسة ملزمة بأخذ إجراءات للحد من العنف”. يشمل ذلك إذا كان العنف من الطلبة تجاه المعلمين والعكس، ومن أسر الطلبة تجاه أبنائهم أو بين الطلبة أنفسهم، وفي حال تعرض طفل للعنف من عائلته فإن “الإدارة المدرسية لديها صلاحيات كثيرة في هذا الجانب، يمكن الاتصال بالقوات الأمنية، وبالإمكان الاتصال بأقرب مركز شرطة”. 

ووفق السيّد، فإن الوزارة لديها برامج مع منظمات دولية وجهات مثل وزارة الداخلية والشرطة المجتمعية لإقامة دورات وورش تحدّ من العنف.  

لكن أحداثاً عدة في الأعوام الأخيرة أثبتت أن المدارس لا تعمل على مراقبة حالة الطلبة، والطفل موسى، الذي قتل على يد زوجة والده، كان ضحيّة العنف الشائع. فقد ذهب موسى إلى المدرسة وآثار التعذيب واضحة على وجهه وجسده، إلا أن أحدّاً لم يتحرّك لإنقاذه.  

وقد أظهرت دراسة لأستاذة في جامعة المستنصرية لفهم العنف، وشملت 320 طفلاً ما بين الفئات العمرية 8ـ16، أن نحو 225 من هؤلاء الأطفال شاهدوا عنفاً في الشارع، وتعرض نحو نصفهم إلى العنف داخل المدرسة، كما تعرض نحو ثلثهم إلى العنف المنزلي.  

وبحسب الدراسة، فإن اسباب العنف هي نتاج المشكلات العائلية، الخلافات بين الأقارب، والحالة المادية للأسرة، والعقاب التأديبي، كما أن العنف لم يقتصر على الأطفال من ذويهم فقط، فقد شارك أصدقاء العائلة وأقاربها في استخدامه.  

الحال هذه، تتوسع دورة العنف لتصبح حالة من القهر الاجتماعي، وتنتشر في أغلب مفاصل الدورة اليومية لحياة الناس.  إذ يفرغ الأفراد شحنات الغضب على الأفراد الأقل قوة منهم، وغالباً ما يقع الأطفال أو الأبناء والزوجات ضحايا لهذا العنف، بمعنى أن القهر التربوي الممارس على أفراد العائلة أو الأضعف، يعود بدرجة كبيرة إلى القهر الاجتماعي السائد، وأن هذه الاضطرابات النفسية العامة التي يعاني منها أرباب الأسر تتحول تدريجياً إلى إرهاب تربوي ناتج من ضغط اجتماعي، اقتصادي عام وأدوار اجتماعية ساهمت بشكل أو بآخر بزيادة الضغط الناتج من تحويل المسؤولية على فرد واحد في الأسرة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

أطفال معذبون، مُربّطون، عليهم كدمات، لديهم جروح. يبكون ويصرخون، يطلبون النجدة، هؤلاء وأكثر يظهرون بشكل عشوائي داخل دوامة تقليب “الريلز Reels” على تطبيق إنستغرام. 

بعض هذا العنف يأتي بدوافع الشرّ، مثل مقتل الطفل موسى على يدّ زوجة أبيه، ومقتل الطفل حسين بعد أن ضرب المعلم رأسه عام 2018، وبعض العنف يُستعمل كأداة إخضاع وتعذيب؛ والنوعان شائعان. 

عُنف منتشر 

يتعرّض 4 من أصل 5 أطفال للعنف المنزلي في العراق، بحسب إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عام 2018، بينما لا توجد إحصائية تخصّ العنف التربوي، وخاصة الذي يحصل في المدارس، على الرغم من شيوعه. 

يتّخذ العنف على الأطفال، شكلاً انفعالياً، والحال نفسها تنطبق على فئات أخرى مثل النساء ومجتمع الميم عين أو بعض الأقليات، حيث تعيش في أجواء الإكراه والقسر والخضوع، والعلاقات العامودية بين الآمر والمأمور، الكبير والصغير، والقوي والضعيف.  

والحال هذه، تشيع بين الأسر العربية، والعراقية خاصة، سلطة أبوية صارمة، تعتمد قهر الأبناء أسلوباً في التربية. تتمثل الأسرة في مبدأ الطاعة، إذ يجب على الأصغر أو الأدنى مرتبة طاعة الأكبر منه، لتتشكّل علاقة عامودية بين الآباء والأبناء بالإكراه، يُستخدم فيها التسلط والعنف واستعمال القوة والقهر. 

يفرض الآباء على أبنائهم أنماطاً وسلوكيات مثل التحكم في حركتهم وانفعالاتهم، وعدم السماح لهم بالاعتراض أو إبداء الرأي. ليتعلم الطفل من خلال هذه الممارسات كبح نفسه تجاه سلطة الأب، لتنتهي التنشئة بإخضاع الفرد/ الطفل بشعوره بالهزيمة، بعد أن بدأت رحلته بالترهيب. 

من العائلة إلى المؤسسات الاجتماعية 

يُمارس الأبوان العنف لإخضاع الأطفال والأبناء للأفكار السائدة التي يُسائلونها، وهو ما يخدم المؤسسات الاجتماعية التي تلبي احتياجات الأسرة بدورها، فتقوم الأنظمة التربوية بتكريس سلطوية النظام الأبوي الذي يضمن بقاءها في السلطة من خلال التعليم أو الأنشطة التي تُمارس داخل المؤسسة التربوية. 

البداية في العقاب السلطوي: الضرب، الركل، حلق الرأس، إلى حملات التحجيب القسرية، والتي افتضحت عند اعتماد المدارس على الدراسة عن بعد لنصف الأسبوع، والنصف الآخر حضورياً. ظهرت طالبات كثيرات بلا حجاب على شاشات الحواسيب، بينما أُجبرن على ارتدائه في المدرسة. 

تضبط المنظومة التعليمية العراقية المجتمع، عوضاً عن تركيزها على إشاعة المعرفة. 

ففي الأوّل الابتدائي، وكل خميس، كُنتُ أسمع جملة مدير مدرستنا كل صباح، “أحنا هنا عدنا التربية قبل التعليم”، ثم ينهال علينا بالاحتقار والازدراء والإهانات والشتائم. 

يُحمّل مسؤولون عراقيون الطلبة مسؤولية ارتفاع العنف ضدّهم، لأنّهم “يقومون بتصرّفات غير مقبولة، كعدم جلب الكتب إلى المدرسة، وإهمالهم دروسهم لانشغالهم بالألعاب الالكترونية أو بمواقع التواصل الاجتماعي التي أخذت جلّ وقتهم”، وفق تعبير عضو مجلس محافظة سابق. 

إعادة إنتاج العنف 

الحال هذه، تعيد الأنظمة التربوية إنتاج السلطة الأبوية، بإعادة إنشاء علاقات القوة والسيطرة والخضوع. بمعنى أن المدرسة تقوم بالحفاظ على نسق العلاقات بين المعلمين وتلاميذهم داخل المدرسة مثل علاقة الآباء والأبناء داخل الأسرة، لتقوم بذلك بتجسيد صورة حيّة لنسق العلاقات الاجتماعية بين القاهر والمقهور. 

“إحدى فقرات نظام المدارس الابتدائية رقم 30 لسنة 1978 منعت العنف بجميع أنواعه، لكن بسبب الأمور التي دخلت على المجتمع في السنوات الاخيرة كالإنترنت وإهمال بعض أولياء الأمور لأبنائهم، حصلت بعض السلوكيات الخاطئة والتي أثرت في المدرسة بشكل أو آخر”، تشرح مديرة مديرية التعليم العام في وزارة التربية العنف وتشابكه بين العائلة والأنظمة التربوية. 

سلطة المنظمة الابوية 

بالسلطة التي تمنحها لهم المنظومة الأبوية، يسمح المعلمون لأنفسهم باستعمال أساليب العنف التي سبق وأن مورست داخل الأسرة، وأحياناً الإيغال فيها. فالعنف لا يعيد إنتاج نفسه سهواً، بل هو طريقة لبناء العلاقة التقليدية بين المعلم والطالب، وهو أيضاً الطريقة التقليدية للتدريس، والممُارسة في أغلب مدارس العراق الحكومية منها والخاصة. 

يقوم التعليم في العراق، غالباً، على التلقين والحفظ وتكرار ما حُفظ، فتتحول العملية التدريسية إلى عملية تلقٍ وتخزين دون وعي بالمعنى، ومن خلال طريقة التدريس التقليدية، المعتمدة على التلقين والإصغاء، تحافظ المنظومة على استعمال العنف.  

“طبك مرض منو أنتَ، شمدريني أني بيك؟” الفيديو الشهير والذي تحول إلى ميمز لاحقاً لمحمد السيد محسن الكاتب والإعلامي، خلال رصده لعمليات الفساد التي طالت المناهج التعليمية ضمن الفساد الموجود في وزارة التربية وجاء هذا الرد الاستخفافي على مسألة لحاصل الضرب الديكارتي في كتاب الرياضيات للصف الثاني الابتدائي عام 2017. وفي رسالةٍ كانت موجّهة من معلم إلى وزارة التربية عرضت في البرنامج، تساءل “كيف لكم أن تضعوا لأطفال بعمر الثماني سنوات ألغازاً يصعب على بعض الكبار حلها؟”.  

بعدها بعامين، وعلى الهواء، فشل أمير عبد المجيد، مديرٌ عام في مناهج التربية، في التوصل إلى حل مسألة حاصل الضرب الديكارتي، وقال إن الكبار صعب عليها فهمها، لكن الطلاب يمكنهم فهمها. 

مثل هذه المواد، تحتاج إلى حفظ وتلقين، ولكنها تبقى صعبة، فيجري فرضها بأساليب عقابية. 

تمييز في المدرسة 

عام 2022، تعرض ع.م (12 عاماً) للتنكيل من المدرسين، والضرب حتّى كسر العظم من أحد الطلبة، لكنه، رغم ذلك، لم يحصل على مُساعدة تذكر.  

هاجرت عائلة ع.م من الأهوار إلى بغداد، لتواجه فصولاً من التمييز بسبب خلفيّتهم الريفية، ليكونوا حلقة ضعيفة، في حلقات المجتمع متفاوتة القوة. 

“مرات يحاولون ينقلون أو يفصلون أطفال من خلفيات مهاجرة على المدينة، أو من خلفيات اقتصادية مهمشة”، يروي ر.م الأخ الأكبر، (22 عاماً)، ما توصّل إليه بعد أن تعرّض شقيقه للتمييز والإهمال. 

“جم مرة يضربوه المعلمين.. ومرة طالب كسر ايده..”. 

حاول، ر.م الإبلاغ عن الضرب والشتائم والإهانات التي يتلقاها شقيقه من المعلمين، “على جم مرة انه اروحن احاجي الإدارة ما يفيد”. 

تعرّض ع.م للضرب على يد أحد زملائه، وكسرت يده عندما اشتد العنف عليه، لكن المدرسة لم تقم بأي إجراء، حتى بعد أن اشتكى أهله لمرات متكررة. 

“المعلمين يطكون (يضربون) من واحد موزين بالدرس أو يحجي أو يرسب الخ.. و(يضربون) وعلى أتفه الأسباب”.  

لا توجد إحصائية واضحة ودقيقة لدى وزارة التربية بما يخص موضوع العنف بجميع أشكاله داخل المدارس، بحسب كريم السيد، المتحدث باسم وزارة التربية.  

“قد لا تكون هناك إحصائيات واضحة ودقيقة بهذا الجانب، لكن كميات اللجان التي تُشكل هي بالمئات في المديريات العامة للتربية وفي الوزارة تتعلق بموضوعة العنف تحديداً”، قال السيد. 

“بالنهاية تكون التوصيات والمقترحات الخاصة بهذه اللجان هي ضرورة إبعاد المدرسة عن العنف واتخاذ ما يمكن اتخاذه لإبعاد العنف من خلال المرشد التربوي أو من خلال إدارة المدرسة”. 

عنف العائلة داخل المدرسة 

يضرب الآباء أبناءهم أيضاً لأتفه الأسباب، وقد شاهدت غ.ر وهي مدرسة لغة انجليزية في إعدادية للبنات في بابل عام 2016 عنف الأهل على الابن، والذي يحمله معه إلى المدرسة، ليظهر في دروسه وعلاقات بمدرسيه وزملائه. 

أخذ لون إحدى طالبتها يتغيّر إلى الأصفر، وأخذت تُكثِر في شرودها، ودرجاتها صارت تتراجع.  

“لم يحتج مني الأمر أكثر من سؤال واحد عن أسباب تدهور مستواها العلمي لأعرف أن والدتها تقوم بضربها كلما قصرت في واجبات المنزل من طبخ وتنظيف، وأن أيام الوالدة ومزاجها السيئ مستمرة حتى أنها بدأت في اقتلاع شعرها كنوع من العقاب الجسدي كي تتذكر أن تقوم بواجبات المنزل بشكل جيد”. 

بعد حديثها إلى الطالبة، حولتِ المُدّرِّسة الفتاة المعنفة إلى المرشدة النفسية. “رغم علمي أن المدرسة لن تقوم بأي شيء فلا قانون يحمي تلك المسكينة من ضرب الأهل، ولا مجتمع يمكن له أن يعي مخاطر هذا النوع من التعامل”. 

لم تأخذ المدرسة أي أجراء “لأن ماكو قانون” بحسب تعبير غ.ر لكنها علمت لاحقاً من الفتاة ذاتها أنها أنهت دراستها الجامعية بعد أن اكتشف والدها تعنيف أمها وأخوتها لها وأخذها للعيش عنده. 

يؤكد كريم السيد أن “إدارة المدرسة ملزمة بأخذ إجراءات للحد من العنف”. يشمل ذلك إذا كان العنف من الطلبة تجاه المعلمين والعكس، ومن أسر الطلبة تجاه أبنائهم أو بين الطلبة أنفسهم، وفي حال تعرض طفل للعنف من عائلته فإن “الإدارة المدرسية لديها صلاحيات كثيرة في هذا الجانب، يمكن الاتصال بالقوات الأمنية، وبالإمكان الاتصال بأقرب مركز شرطة”. 

ووفق السيّد، فإن الوزارة لديها برامج مع منظمات دولية وجهات مثل وزارة الداخلية والشرطة المجتمعية لإقامة دورات وورش تحدّ من العنف.  

لكن أحداثاً عدة في الأعوام الأخيرة أثبتت أن المدارس لا تعمل على مراقبة حالة الطلبة، والطفل موسى، الذي قتل على يد زوجة والده، كان ضحيّة العنف الشائع. فقد ذهب موسى إلى المدرسة وآثار التعذيب واضحة على وجهه وجسده، إلا أن أحدّاً لم يتحرّك لإنقاذه.  

وقد أظهرت دراسة لأستاذة في جامعة المستنصرية لفهم العنف، وشملت 320 طفلاً ما بين الفئات العمرية 8ـ16، أن نحو 225 من هؤلاء الأطفال شاهدوا عنفاً في الشارع، وتعرض نحو نصفهم إلى العنف داخل المدرسة، كما تعرض نحو ثلثهم إلى العنف المنزلي.  

وبحسب الدراسة، فإن اسباب العنف هي نتاج المشكلات العائلية، الخلافات بين الأقارب، والحالة المادية للأسرة، والعقاب التأديبي، كما أن العنف لم يقتصر على الأطفال من ذويهم فقط، فقد شارك أصدقاء العائلة وأقاربها في استخدامه.  

الحال هذه، تتوسع دورة العنف لتصبح حالة من القهر الاجتماعي، وتنتشر في أغلب مفاصل الدورة اليومية لحياة الناس.  إذ يفرغ الأفراد شحنات الغضب على الأفراد الأقل قوة منهم، وغالباً ما يقع الأطفال أو الأبناء والزوجات ضحايا لهذا العنف، بمعنى أن القهر التربوي الممارس على أفراد العائلة أو الأضعف، يعود بدرجة كبيرة إلى القهر الاجتماعي السائد، وأن هذه الاضطرابات النفسية العامة التي يعاني منها أرباب الأسر تتحول تدريجياً إلى إرهاب تربوي ناتج من ضغط اجتماعي، اقتصادي عام وأدوار اجتماعية ساهمت بشكل أو بآخر بزيادة الضغط الناتج من تحويل المسؤولية على فرد واحد في الأسرة.