الخطر الثاني بعد تلوّث الهواء.. عن محنة العيش مع الضوضاء

حسام صبحي

02 كانون الثاني 2023

قد يسمع الإنسان في بغداد ضجيجاً يبلغ مستوى "الألم" لكنه لا يدري، فما يتعرّض له الفرد في العاصمة من أصوات قد يصيبه بأمراض مخيفة مثل الضغط أو السكري، أو يؤدي إلى فقدانه السمع.. قصّة الضوضاء ومخاطرها وإهمالها..

يصحو سكّان بغداد على خليط من الأصوات صار معتاداً لديهم، لكنه يخفي خطراً جاداً يُصنّف على أنه في مراتب متقدمة ضمن قائمة المخاطر المحيطة بالإنسان.

أبواق سيارات ومكبرات أصوات باعة متجولين ومولدات كهرباء، كل هذه الأصوات الصاخبة وغيرها يضطر الساكن في بغداد إلى سماعها منذ ساعات الصباح الأولى حتى وقت متأخر من المساء، وربما على مدار اليوم، ليكون ضمن نطاق تلوث سمعي لا يبدو أن السلطات منتبهة أو ملتفتة إلى آثاره الصحية.

جرت العادة على تسليط الضوء على الملوثات البيئية الكيميائية وأضرارها على الإنسان، كتلوث الهواء والماء والتربة، من دون النظر إلى الضوضاء كأحد الملوثات البيئية الواجب أخذها بنظر الاعتبار والتعامل معها على أنها من المصادر الخطيرة والشديدة التأثير على صحة الإنسان.

الضوضاء هي ثاني أكبر سبب بيئي للمشاكل الصحية بعد تأثير تلوث الهواء.

ما هو التلوث الضوضائي؟

يُعرّف التلوث الضوضائي أو السمعي بأنه جملة أصوات غير مرغوبة ذات تردد وشدة عاليين وحساسين للأذن البشرية وذات طاقة تؤثر على قدرة الإنسان في تمييز الأصوات الأخرى، بجانب التأثيرات السلبية على صحته، وتقاس الضوضاء بوحدة الديسيبل (Decibel).

ويُعرّف الديسيبل بأنه وحدة قياس شدة الصوت، ويُقدر تردّد كلام الشخص الاعتيادي بـ50 إلى 60 ديسيبل، والضوضاء الناتجة عن أبواق السيارات تقدر بنحو 100 ديسيبل، أما الطائرة النفاثة أو المروحية أو أصوات عوادم المولدات الضخمة فقد تتجاوز أصواتها 120 ديسيبل، وهو مستوى قد يؤدي إلى آثار سلبية على صحة الإنسان.

الحد الأقصى للضوضاء

تبين منظمة الصحة العالمية أن الحد الأقصى للضوضاء التي يتعرّض لها الشخص يوميا يجب أن لا يتجاوز 85 ديسيبل لمدة أقصاها ثماني ساعات في اليوم الواحد، وما فوق ذلك قد يوثر بشكل سلبي على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان.

وتفيد تقارير طبيّة بأن التعرض المستمر لمستوى ضجيج يتجاوز 80 ديسيبل خلال الممارسات اليومية الاعتيادية، له أبعاد صحية جسيمة، وأن التلوث الضوضائي لا يؤدي إلى فقدان السمع وطنين الأذن وفرط الحساسية تجاه الصوت فحسب، وإنما قد يتسبب في الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية أو يؤدي إلى تفاقمها، والإصابة بداء السكري من النوع الثاني، فضلا عن اضطرابات النوم والضغط العصبي ومشاكل الصحة العقلية والإدراك، بما في ذلك ضعف الذاكرة ونقص الانتباه، بجانب تأخر التعلم في مرحلة الطفولة.

أخطر ما يميّز التلوث السمعي أنه لا يمكن رؤيته، وكثير من الناس لا يدركون أن التلوث الضوضائي مشكلة مهمة تؤثر على صحة الإنسان. بالطبع هناك العديد من الوفيات المبكرة المرتبطة بتلوث الهواء مقارنة بالضوضاء، ولكن مع ذلك، يبدو أن الضوضاء لها تأثير أكبر على المؤشرات المتعلقة بنوعية الحياة والصحة العقلية.

المولدات وأخواتها

وفقاً للبيانات المتوفّرة، تعد مولدات الكهرباء الأهلية المنتشرة بشكل كبير في عموم مناطق العراق، من أبرز مصادر الضوضاء والتلوث السمعي، إذ تشير إحصائية كشف عنها محافظ بغداد عام 2021 إلى أن هناك أكثر من 13 ألف مولدة في العاصمة فقط، لا يلتزم معظم أصحابها بالمعايير البيئية في استخدامها، ما يخلق تلوثا صوتيا وضجيجا يستمر ساعات طويلة خلال اليوم الواحد، حيث تصدر هذه المولدات تردداً صوتياَ يفوق 85 ديسيبل ولساعات طويلة تصل إلى أكثر من 8 ساعات يومياً أو أكثر، نظراً لانقطاع التيار الكهربائي المستمر في البلاد.

لهذا السبب يشعر أحمد جبار البالغ من العمر 49 عاماً بصداع متواصل وعصبية مفرطة، كما يصف حالته.

يعيش جبار مع أسرته في أحد الأحياء الشعبية المزدحمة في بغداد على مقربة من إحدى المولدات، وقد تسبب ذلك له أيضاً بضعف في حاسة السمع ومزاج حاد في التعامل مع زوجته وأولاده الثلاثة.

كان لزيادة الكثافة السكنية في بغداد أثر كبير في ارتفاع مستوى الصخب العام في مدينة تجاوز عدد سكانها 9 ملايين نسمة، فلم يعد فيها شارع أو زقاق يخلوان من مصادر الضجيج المتنوعة والكثيفة في توزيعها داخل المناطق، حتى باتت الأصوات العالية جزءاً من نمط حياة أغلب السكان بعد أن كانت منحصرة بأصوات المعامل ومحطات التصفية الموجودة داخل المدينة، فقد اقتحمت هذه الظاهرة جميع الأماكن العامة صادرة عن مصادر متنوعة مثل المولدات الأهلية وأعداد السيارات المتزايدة، بل حتى الحوارات والنقاشات العامة صارت تُتبادل بصوت مرتفع، سواء في الشوارع أو المحال التجارية أو الأسواق أو مراكز التسوق، يضاف إلى كل ذلك مكبرات الصوت التي تجرها عربات بيع الخضار والغاز في المناطق السكنية، والأخرى التي تنتشر في المواسم الدينية ومكبرات الجوامع والمراقد الدينية.

ضرر من دون علاج

في عام 2013، نشرت مجلة النهرين للعلوم الهندسية دراسة[1] بشأن تأثير الضوضاء المرورية على كفاءة التدريس في القاعات الدراسية، تناولت مدى تأثير الضوضاء المرورية على كفاءة التدريس ومدى استيعاب الطلبة في 15 قاعة دراسية متفرقة، ولأعمار متفاوتة منهم، وقد تبين من خلال هذه الدراسة أن القاعات التي يتخللها تردد صوتي يتراوح بين 45 و60 ديسيبل يكون طلبتها أكثر اندماجا وتركيزا في الدرس، مقارنة بطلبة القاعات التي يتخللها تردد يبلغ 65 ديسيبل فما فوق، واستنادا إلى هذه المعدلات، وجدت الدراسة أن القاعات التي تقع في الطوابق العليا تكون أكثر ملاءمة للدراسة لأنها بعيدة عن ضجيج الشارع والناس.

وللتوصل إلى تشخيص طبي دقيق للآثار الجانبية المترتبة على الضجيج بكل مستوياته، المنخفضة الشدة منها أو العالية، تحدث “جمّار” إلى الطبيب حيدر وهاب السرحان اختصاصي السمع والتخاطب، فتطرق إلى نوعين رئيسين من الشدة الصوتية المؤدية لتضرر الجهاز السمعي، النوع الأول هي الشدة العالية ذات المدة القصيرة كأصوات الانفجارات، والثاني الشدة العالية ذات المدة الطويلة كأصوات المولدات والمصانع.

يقول السرحان إن الشارع العراقي لا يخلو من الأصوات العالية التي تتجاوز مستوى الألم، والتي تزيد شدتها على 70 ديسيبل، الأمر الذي يتسبب بمخاطر صحية على الجهاز السمعي للإنسان، مشيراً إلى أن الأكثر تضرراً هم موظفو المصافي وعمال البناء وأصحاب المولدات، ولاسيما أنهم يفتقرون إلى التوعية بشأن استخدام الأقنعة والخوذ العازلة للصوت.

بحسب الطبيب، يسبب الضجيج تلفاً مزمناً للسمع لا يمكن علاجه، حيث أن الجهاز السمعي للإنسان يتكون من نسيج عصبي يستحيل معالجته أو تجديد خلاياه عند تعرضها للتلف أو الضرر.

ضجيج بلا ردع

في عيادة الطبيب حيدر السرحان، جاء رجل مصري الجنسية في الخمسينيات من عمره، يقيم في العراق منذ الثمانينيات، وهو يواجه صعوبة في الاستماع إلى الكلام الموجه إليه. شخّص الطبيب حالته بفقدان السمع تدريجياً في إحدى أذنيه نتيجة تلف في الخلايا العصبية الحساسة في الأذن الداخلية إثر تعرضه المفرط والمستمر إلى أصوات عالية الشدة لسنين طويلة وبشكل مستمر من دون حماية.

أخبرنا الرجل أنه عمل في أعمال البناء وهدم البيوت والبنايات القديمة أكثر من 14 عاماً، من دون أن يعي جيداً مخاطر ما كان يتعرض له طوال تلك السنين، الأمر الذي جعل علامات فقدانه السمع تظهر تدريجياً وبشكل أكبر خلال السنتين الأخيرتين نتيجة لتراكم الأثر، وحتى بعد استخدامه سماعات تعزيز الصوت لمدة وجيزة.

واحد من الأسباب الرئيسة لانتشار الصخب العام وتفشي ظاهرة التلوث الصوتي، هو عدم إدراك الأفراد للأبعاد الصحية والنفسية لهذا النوع من التلوث، إضافة لإهمال المؤسسات المعنية في صياغة ونشر سبل توعوية بالشكل المناسب لتغذي قدرة المتلقي الذهنية وتعزز مفاهيمه بأهمية الأمر ومضاعفاته، كما يؤدي الجانب القانوني دوراً مهماً ورئيساً في ذلك، سواء من الناحية التشريعية أو التنفيذية.

وعلى الرغم من إقرار مجلس النواب قانون السيطرة على الضوضاء عام 2015، والذي تم من خلاله تحديد جداول لمستويات وترددات الصوت المسموحة داخل وخارج الأماكن العامة والخاصة، إلا أن هذا القانون لم يكن رادعاً تجاه تشعب المشكلة في بيئات العمل والأسواق التجارية والشوارع، حتى تجاوزت الحد المسموح والمنصوص عليه في الجداول الرقابية المحددة من قبل الحكومة العراقية.

رادارات في باريس .. استخفاف في بغداد

على سبيل التوضيح لا المقارنة، وصل الأمر في باريس إلى وضع رادارات لمراقبة الضجيج العام في الشوارع حتى يلتزم المواطن بحدٍ معين من الأصوات تناسب الذوق العام، ويتعرض المخالف لغرامة مالية، وذلك للحد من ظاهرة متفشية في ظل التطور السريع، ما يدل على أن التلوث السمعي ليس محط تهاون أو إهمال.

يقول الدكتور إبراهيم السوداني، المعاون العلمي لكلية علوم الطاقة والبيئة في جامعة الكرخ، إن تعامل الدوائر الحكومية المعنيّة بمراقبة وتقييم الضوضاء في الشوارع ليس جدياً، كما أن تلك الدوائر بعيدة عن السياسات المتعلقة بصحة وسلامة العاملين في القطاع الحكومي أو الخاص.

خلاصة القول إننا نواجه خطراً خفياً يضمره التلوث الضوضائي، وأضراراً صحية ليست هيّنة، في مدينة ليست ملائمة على الإطلاق لإنجاز الأعمال التي تتطلب الهدوء والسكينة، لذا اضطررت إلى الانتهاء من كتابة هذه السطور في الساعة الرابعة فجراً، مع انخفاض ضوضاء بغداد إلى حدها الأدنى مؤقتاً.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يصحو سكّان بغداد على خليط من الأصوات صار معتاداً لديهم، لكنه يخفي خطراً جاداً يُصنّف على أنه في مراتب متقدمة ضمن قائمة المخاطر المحيطة بالإنسان.

أبواق سيارات ومكبرات أصوات باعة متجولين ومولدات كهرباء، كل هذه الأصوات الصاخبة وغيرها يضطر الساكن في بغداد إلى سماعها منذ ساعات الصباح الأولى حتى وقت متأخر من المساء، وربما على مدار اليوم، ليكون ضمن نطاق تلوث سمعي لا يبدو أن السلطات منتبهة أو ملتفتة إلى آثاره الصحية.

جرت العادة على تسليط الضوء على الملوثات البيئية الكيميائية وأضرارها على الإنسان، كتلوث الهواء والماء والتربة، من دون النظر إلى الضوضاء كأحد الملوثات البيئية الواجب أخذها بنظر الاعتبار والتعامل معها على أنها من المصادر الخطيرة والشديدة التأثير على صحة الإنسان.

الضوضاء هي ثاني أكبر سبب بيئي للمشاكل الصحية بعد تأثير تلوث الهواء.

ما هو التلوث الضوضائي؟

يُعرّف التلوث الضوضائي أو السمعي بأنه جملة أصوات غير مرغوبة ذات تردد وشدة عاليين وحساسين للأذن البشرية وذات طاقة تؤثر على قدرة الإنسان في تمييز الأصوات الأخرى، بجانب التأثيرات السلبية على صحته، وتقاس الضوضاء بوحدة الديسيبل (Decibel).

ويُعرّف الديسيبل بأنه وحدة قياس شدة الصوت، ويُقدر تردّد كلام الشخص الاعتيادي بـ50 إلى 60 ديسيبل، والضوضاء الناتجة عن أبواق السيارات تقدر بنحو 100 ديسيبل، أما الطائرة النفاثة أو المروحية أو أصوات عوادم المولدات الضخمة فقد تتجاوز أصواتها 120 ديسيبل، وهو مستوى قد يؤدي إلى آثار سلبية على صحة الإنسان.

الحد الأقصى للضوضاء

تبين منظمة الصحة العالمية أن الحد الأقصى للضوضاء التي يتعرّض لها الشخص يوميا يجب أن لا يتجاوز 85 ديسيبل لمدة أقصاها ثماني ساعات في اليوم الواحد، وما فوق ذلك قد يوثر بشكل سلبي على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان.

وتفيد تقارير طبيّة بأن التعرض المستمر لمستوى ضجيج يتجاوز 80 ديسيبل خلال الممارسات اليومية الاعتيادية، له أبعاد صحية جسيمة، وأن التلوث الضوضائي لا يؤدي إلى فقدان السمع وطنين الأذن وفرط الحساسية تجاه الصوت فحسب، وإنما قد يتسبب في الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية أو يؤدي إلى تفاقمها، والإصابة بداء السكري من النوع الثاني، فضلا عن اضطرابات النوم والضغط العصبي ومشاكل الصحة العقلية والإدراك، بما في ذلك ضعف الذاكرة ونقص الانتباه، بجانب تأخر التعلم في مرحلة الطفولة.

أخطر ما يميّز التلوث السمعي أنه لا يمكن رؤيته، وكثير من الناس لا يدركون أن التلوث الضوضائي مشكلة مهمة تؤثر على صحة الإنسان. بالطبع هناك العديد من الوفيات المبكرة المرتبطة بتلوث الهواء مقارنة بالضوضاء، ولكن مع ذلك، يبدو أن الضوضاء لها تأثير أكبر على المؤشرات المتعلقة بنوعية الحياة والصحة العقلية.

المولدات وأخواتها

وفقاً للبيانات المتوفّرة، تعد مولدات الكهرباء الأهلية المنتشرة بشكل كبير في عموم مناطق العراق، من أبرز مصادر الضوضاء والتلوث السمعي، إذ تشير إحصائية كشف عنها محافظ بغداد عام 2021 إلى أن هناك أكثر من 13 ألف مولدة في العاصمة فقط، لا يلتزم معظم أصحابها بالمعايير البيئية في استخدامها، ما يخلق تلوثا صوتيا وضجيجا يستمر ساعات طويلة خلال اليوم الواحد، حيث تصدر هذه المولدات تردداً صوتياَ يفوق 85 ديسيبل ولساعات طويلة تصل إلى أكثر من 8 ساعات يومياً أو أكثر، نظراً لانقطاع التيار الكهربائي المستمر في البلاد.

لهذا السبب يشعر أحمد جبار البالغ من العمر 49 عاماً بصداع متواصل وعصبية مفرطة، كما يصف حالته.

يعيش جبار مع أسرته في أحد الأحياء الشعبية المزدحمة في بغداد على مقربة من إحدى المولدات، وقد تسبب ذلك له أيضاً بضعف في حاسة السمع ومزاج حاد في التعامل مع زوجته وأولاده الثلاثة.

كان لزيادة الكثافة السكنية في بغداد أثر كبير في ارتفاع مستوى الصخب العام في مدينة تجاوز عدد سكانها 9 ملايين نسمة، فلم يعد فيها شارع أو زقاق يخلوان من مصادر الضجيج المتنوعة والكثيفة في توزيعها داخل المناطق، حتى باتت الأصوات العالية جزءاً من نمط حياة أغلب السكان بعد أن كانت منحصرة بأصوات المعامل ومحطات التصفية الموجودة داخل المدينة، فقد اقتحمت هذه الظاهرة جميع الأماكن العامة صادرة عن مصادر متنوعة مثل المولدات الأهلية وأعداد السيارات المتزايدة، بل حتى الحوارات والنقاشات العامة صارت تُتبادل بصوت مرتفع، سواء في الشوارع أو المحال التجارية أو الأسواق أو مراكز التسوق، يضاف إلى كل ذلك مكبرات الصوت التي تجرها عربات بيع الخضار والغاز في المناطق السكنية، والأخرى التي تنتشر في المواسم الدينية ومكبرات الجوامع والمراقد الدينية.

ضرر من دون علاج

في عام 2013، نشرت مجلة النهرين للعلوم الهندسية دراسة[1] بشأن تأثير الضوضاء المرورية على كفاءة التدريس في القاعات الدراسية، تناولت مدى تأثير الضوضاء المرورية على كفاءة التدريس ومدى استيعاب الطلبة في 15 قاعة دراسية متفرقة، ولأعمار متفاوتة منهم، وقد تبين من خلال هذه الدراسة أن القاعات التي يتخللها تردد صوتي يتراوح بين 45 و60 ديسيبل يكون طلبتها أكثر اندماجا وتركيزا في الدرس، مقارنة بطلبة القاعات التي يتخللها تردد يبلغ 65 ديسيبل فما فوق، واستنادا إلى هذه المعدلات، وجدت الدراسة أن القاعات التي تقع في الطوابق العليا تكون أكثر ملاءمة للدراسة لأنها بعيدة عن ضجيج الشارع والناس.

وللتوصل إلى تشخيص طبي دقيق للآثار الجانبية المترتبة على الضجيج بكل مستوياته، المنخفضة الشدة منها أو العالية، تحدث “جمّار” إلى الطبيب حيدر وهاب السرحان اختصاصي السمع والتخاطب، فتطرق إلى نوعين رئيسين من الشدة الصوتية المؤدية لتضرر الجهاز السمعي، النوع الأول هي الشدة العالية ذات المدة القصيرة كأصوات الانفجارات، والثاني الشدة العالية ذات المدة الطويلة كأصوات المولدات والمصانع.

يقول السرحان إن الشارع العراقي لا يخلو من الأصوات العالية التي تتجاوز مستوى الألم، والتي تزيد شدتها على 70 ديسيبل، الأمر الذي يتسبب بمخاطر صحية على الجهاز السمعي للإنسان، مشيراً إلى أن الأكثر تضرراً هم موظفو المصافي وعمال البناء وأصحاب المولدات، ولاسيما أنهم يفتقرون إلى التوعية بشأن استخدام الأقنعة والخوذ العازلة للصوت.

بحسب الطبيب، يسبب الضجيج تلفاً مزمناً للسمع لا يمكن علاجه، حيث أن الجهاز السمعي للإنسان يتكون من نسيج عصبي يستحيل معالجته أو تجديد خلاياه عند تعرضها للتلف أو الضرر.

ضجيج بلا ردع

في عيادة الطبيب حيدر السرحان، جاء رجل مصري الجنسية في الخمسينيات من عمره، يقيم في العراق منذ الثمانينيات، وهو يواجه صعوبة في الاستماع إلى الكلام الموجه إليه. شخّص الطبيب حالته بفقدان السمع تدريجياً في إحدى أذنيه نتيجة تلف في الخلايا العصبية الحساسة في الأذن الداخلية إثر تعرضه المفرط والمستمر إلى أصوات عالية الشدة لسنين طويلة وبشكل مستمر من دون حماية.

أخبرنا الرجل أنه عمل في أعمال البناء وهدم البيوت والبنايات القديمة أكثر من 14 عاماً، من دون أن يعي جيداً مخاطر ما كان يتعرض له طوال تلك السنين، الأمر الذي جعل علامات فقدانه السمع تظهر تدريجياً وبشكل أكبر خلال السنتين الأخيرتين نتيجة لتراكم الأثر، وحتى بعد استخدامه سماعات تعزيز الصوت لمدة وجيزة.

واحد من الأسباب الرئيسة لانتشار الصخب العام وتفشي ظاهرة التلوث الصوتي، هو عدم إدراك الأفراد للأبعاد الصحية والنفسية لهذا النوع من التلوث، إضافة لإهمال المؤسسات المعنية في صياغة ونشر سبل توعوية بالشكل المناسب لتغذي قدرة المتلقي الذهنية وتعزز مفاهيمه بأهمية الأمر ومضاعفاته، كما يؤدي الجانب القانوني دوراً مهماً ورئيساً في ذلك، سواء من الناحية التشريعية أو التنفيذية.

وعلى الرغم من إقرار مجلس النواب قانون السيطرة على الضوضاء عام 2015، والذي تم من خلاله تحديد جداول لمستويات وترددات الصوت المسموحة داخل وخارج الأماكن العامة والخاصة، إلا أن هذا القانون لم يكن رادعاً تجاه تشعب المشكلة في بيئات العمل والأسواق التجارية والشوارع، حتى تجاوزت الحد المسموح والمنصوص عليه في الجداول الرقابية المحددة من قبل الحكومة العراقية.

رادارات في باريس .. استخفاف في بغداد

على سبيل التوضيح لا المقارنة، وصل الأمر في باريس إلى وضع رادارات لمراقبة الضجيج العام في الشوارع حتى يلتزم المواطن بحدٍ معين من الأصوات تناسب الذوق العام، ويتعرض المخالف لغرامة مالية، وذلك للحد من ظاهرة متفشية في ظل التطور السريع، ما يدل على أن التلوث السمعي ليس محط تهاون أو إهمال.

يقول الدكتور إبراهيم السوداني، المعاون العلمي لكلية علوم الطاقة والبيئة في جامعة الكرخ، إن تعامل الدوائر الحكومية المعنيّة بمراقبة وتقييم الضوضاء في الشوارع ليس جدياً، كما أن تلك الدوائر بعيدة عن السياسات المتعلقة بصحة وسلامة العاملين في القطاع الحكومي أو الخاص.

خلاصة القول إننا نواجه خطراً خفياً يضمره التلوث الضوضائي، وأضراراً صحية ليست هيّنة، في مدينة ليست ملائمة على الإطلاق لإنجاز الأعمال التي تتطلب الهدوء والسكينة، لذا اضطررت إلى الانتهاء من كتابة هذه السطور في الساعة الرابعة فجراً، مع انخفاض ضوضاء بغداد إلى حدها الأدنى مؤقتاً.