"وقعنا في الفخ".. كيف تعيش العمالة الأجنبية في العراق؟ 

حسن الناصري

21 كانون الأول 2023

عمالٌ أجانب يسردون قصّة هروبهم من بلدانهم ووصولهم إلى العراق بحثاً عن فرص عيش أفضل، ويكشفون عمّا تعرضوا له من شبكات سمسرة ومهربين ومستفيدين من الهجرة غير الشرعية إلى العراق.. كيف تعيش العمالة الأجنبية في العراق؟

لم تفلح كل محاولات نور رافع، الشابة السورية القاطنة في محافظة اللاذقية شمالي سوريا، بالوصول إلى العراق بحثاً عن فرصة عمل، إلا بعد سنتين بذلت فيهما كل ما بوسعها من أجل تحقيق حلم عائلتها بالظفر بفرصة عمل ملائمة. 

انحسار فرص العمل في العراق ووقوع الفتاة ضحية لعصابات الاتجار بالعمالة الأجنبية والمحاولات المتكررة لاستمالتها لممارسات غير أخلاقية، أسباب حالت دون تمكن نور (33 عاماً) من الوصول إلى العراق في وقت مبكر. 

وبينما تجلس بهدوء على كرسي خشبي في مقهى رضا علوان بمنطقة الكرادة داخل وسط بغداد، تقول إنها خلال رحلة بحثها عن فرصة عمل في العراق أسوة بأقرانها السوريين، لم تترك مسؤولاً عراقياً وشخصية اجتماعية إلا وطرقت بابه من أجل تحقيق مسعاها، وقد ابتدأت بقبولها بشكل مبدئي كموظفة في مركز تجميل وسط بغداد. 

في 7 شباط 2022 استدعيت نور لإجراء مقابلة شخصية مع إدارة المركز داخل العاصمة السورية دمشق، وأُخبرت بعدها بالموافقة على توظيفها براتب قدره 500 دولار أمريكي مع خدمات السكن والطعام والشراب، وطُلب منها توقيع عقد العمل في محافظة حمص لقاء مبلغ مالي قدره 500 دولار تدفعه تأمينات، ما أثار استغرابها ودهشتها. 

كان من الصعب على نور توفير المبلغ المالي المطلوب، لكنها اضطرت لاستدانته من إحدى صديقاتها ودفعته، لتكتشف فيما بعد أن كل ما جرى من اتفاق كان وهمياً، هدفه إيقاع السوريين في فخ النصب والاحتيال. 

تلقي ظاهرة تهريب العمالة الأجنبية غير الشرعية إلى العراق وما يتعرض له المهرَّبون من ممارسات مرفوضة، بظلالها على الواقع العراقي، فيما لا تمتلك الدوائر الحكومية إحصاءات رسمية وقاعدة بيانات بشأن أعداد العمالة الأجنبية الوافدة. 

يقول أحمد الأسدي وزير العمل والشؤون الاجتماعية، في تصريح متلفز سابق، إن “هناك 800 إلى مليون عامل أجنبي في العراق، لم يُسجل منهم في دائرة الضمان الاجتماعي سوى عدد يتراوح بين 160 و170 ألفاً فقط”. 

ومن ضمن العمالة الأجنبية المتواجدة في العراق، يوجد 300 ألف عامل سوري يعملون من دون رخصة ودخلوا العراق عبر وسائل التهريب، بحسب الأسدي. 

فخ جديد 

فشلت كل محاولات نور في استعادة الـ500 دولار، لكن إدارة مركز التجميل المزعوم وعدتها بفرصة عمل في روضة أهلية في محافظة ديالى شمال شرقي بغداد. 

في 23 آب 2022 وصلت نور، المعيلة الوحيدة لوالديها وأخويها الأصغر سناً منها، إلى أربيل، بعدما ساءت معيشة عائلتها وفقد رب الأسرة عمله جراء إصابته بكورونا ودخوله المشفى مدة طويلة، وعجز العائلة عن توفير علاجاته. 

بعد هبوطها في مطار أربيل، وجدت سيارة خاصة بانتظارها يستقلانها رجل وامرأة، نقلتها إلى محافظة ديالى، حيث وجدت نفسها في منطقة جغرافية لا تعرفها. 

بحسب معلومات توصّل إليها معدّ التحقيق من مسؤول أمني في وزارة الداخلية العراقية، تتعدد وتتنوع الطرق غير الشرعية التي تستخدمها العمالة الأجنبية في دخولها إلى البلاد، عبر منافذ زرباطية ومهران والشلامجة، والطريق البري عبر سوريا، وعبر إقليم كردستان العراق من مطارات أربيل والسليمانية، ومن ثم يتم تهريب الواصلين براً للعاصمة وبقية المحافظات. 

“لا تبيعيها لغيري”، عبارة سمعت نور مديرة الروضة في ديالى تقولها عبر الهاتف للمرأة التي كانت تجلس في مقدمة السيارة. 

شعرت بخوف وقلق بالغ مما يجري في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. 

في الساعة الأولى يوم 24 آب 2022، تم تسليم نور إلى نجل مديرة الروضة وشقيقته، اللذين أوصلاها إلى الروضة في منطقة بعقوبة الجديدة بمحافظة ديالى، بعدما دفعا لصاحبة مركز التجميل مبلغ 700 دولار أمريكي. 

“طيلة ثلاثة أشهر من العمل داخل الروضة تعرضت لمعاملة سيئة للغاية من المديرة” تقول نور. 

كانت المديرة تطلب منها القيام بأعمال تعتبرها نور تحط من كرامتها. 

استنجدت بوالدها فتحدث مع مديرة الروضة وطلب منها تحسين تعاملها معها، فأهانت المديرة الرجل وأساءت الأدب معه وأغلقت الهاتف بوجهه، تقول نور. 

فكرت على إثر ذلك بالهرب ونفذت فكرتها بعد جهد جهيد. 

تعمل الفتاة السورية حالياً في مقهى بشارع السعدون وسط بغداد بأجر يومي مقداره 40 ألف دينار (25 دولاراً) مقابل 13 ساعة عمل متواصلة. 

واقع مروّع في العراق 

تقول نور إنها تعاملت مع واقع “مروّع” منذ تواجدها في العراق ولغاية الآن. 

لم ترسل أي مبلغ مالي لعائلتها لأنها لم تحصل على حقوقها ورواتبها، وكانت تتعرض باستمرار للنصب والاحتيال. 

ومنذ عام 2014، يشهد العراق ارتفاعاً مستمراً في أعداد المهاجرين السوريين، فيما توثق المنظمات المعنية عديداً من حالات الاعتقال التعسفي والاغتصاب والاسترقاق والاختفاء القسري بحقهم. 

ومنح العراق، وفقاً لنجم العقابي، المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، موافقة عمل لـ103 آلاف عامل. 

“بعض العمال الأجانب دخلوا البلاد عن طريق السياحة الدينية، وانتقلوا إلى سوق العمل، ولا يمكن لأي جهة إحصاء أعدادهم”، يضيف العقابي. 

شكلت الحكومة العراقية لجنة مشتركة بين وزارات العمل والداخلية والهجرة لوضع مقترحات بشأن تواجد العمالة الأجنبية في البلاد. 

تضمنت المقترحات موافقة الحكومة على دخول العامل الأجنبي للبلاد وحصوله على رخصة عمل ثم يمنح تأشيرة. 

تم الاتفاق أيضاً على منح مخالفي قانون العمل فترة سماح لمدة 45 يوماً لتصحيح المسار القانوني لعملهم. 

الخوف من المجهول 

تحولت رحلة البحث عن فرصة عمل ملائمة للصحافية ليندا المرقدي (43 عاماً)، إلى مأساة مستمرة بعدما غادرت سوريا متوجهة إلى العراق. 

حصلت على عقد عمل مع إحدى الشركات النفطية في البصرة جنوبي البلاد. 

في بادئ الأمر، اتفقت ليندا مع الشركة على شغل وظيفة مسؤول إعلامي براتب شهري قدره 900 دولار. 

عندما وصلت إلى العراق وباشرت العمل فوجئت بتغيير بنود في العقد من دون علمها، وكان من ضمن التغييرات خفض الراتب إلى 600 دولار. 

“هذا استغلال بشع للعمالة السورية” تقول المرقدي. 

ولأسباب أخرى، منها إسكانها في كرفانات في مناطق نائية لا يبقى فيها ليلاً سوى الرجال، تركت العمل في الشركة وتوجهت إلى بغداد. 

عملت في العاصمة في عدد من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الإخبارية. 

استقر بها المطاف حالياً معدة برنامج اقتصادي في قناة فضائية براتب 600 دولار شهرياً. 

تدرك أن راتبها أقل بكثير مما يتقاضاه زملاؤها العراقيون. 

“هناك نظرة عن السوريين بأن المئة دولار كبيرة لديهم بسبب تدهور الليرة، لذلك يُمنحون رواتب واطئة”، تقول لنا. 

تصف نفسها بأنها قوية، وتلك صفة حمتها من التحرش. 

وعلى الرغم من كل الصعاب، تشعر المرقدي بالرضا عن وجودها في العراق. 

ترى أن العراقيين طيبون ويعاملون السوريين بالحسنى. 

ولكن عملها في الإعلام العراقي لم يوفر لها مزايا، فهي لا تملك حتى إقامة. 

تعنيف وضياع حقوق 

يوثق العاملون في بعض المنظمات الحقوقية حقيقة تهريب العمالة واستعبادها، وتعرضها للعمل القسري، وابتزازها. 

وفقا للمحامية هديل العزاوي، العاملة في مجال الدفاع عن حقوق العمالة الأجنبية، تعرضت إحدى العاملات الكينيات في العراق عام 2019 إلى اغتصاب من قبل ابن صاحب المنزل الذي تعمل فيه، وأقيمت بحقه دعوى جزائية في مركز شرطة القدس في بغداد. 

جرى استغفال العاملة من قبل ذوي المتهم الذي يعمل طبيباً. 

اتفقوا معها على الزواج منه لمدة 30 يوماً فقط، ومنحها ثلاثة آلاف دولار وتذكرة سفر إلى بلادها مقابل التنازل عن الدعوى. 

وافقت العاملة على العرض من دون إبلاغ المحامية، لكن تم تسفيرها وحرمانها من أي شيء ورد في الاتفاق. 

عام 2019 أيضاً، اكتشفت العزاوي لدى مرافقتها وفداً من مفوضية حقوق الإنسان إلى دار المشردات في الصالحية وسط بغداد، وجود نحو عشر عاملات أجنبيات هاربات من أصحاب العمل وغالبيتهن من الجنسيات الكينية. 

وقد هربن بسبب الانتهاكات التي تعرضن لها والاعتداءات الجسدية واللفظية. 

وتفيد المحامية بأن غالبية العمالة الأجنبية تدخل عن طريق كردستان ويتم تهريبها إلى بغداد عبر طرق وعرة بعيدة عن رقابة الأجهزة الأمنية. 

يتعرض العمال والعاملات غالباً إلى استغلال من أرباب العمل من حيث الأجور وأوقات العمل والتعنيف الجسدي واللفظي. 

“هذه الأنشطة المخالفة للقانون صنعت ثروات كبيرة للأفراد والجماعات، ما يشجع على استمرارها” تقول العزاوي. 

أرق الحكومة 

يقول عباس فاضل، مدير دائرة العمل والتدريب المهني في وزارة العمل، إن العمالة الأجنبية الوافدة تؤرق الحكومة ووزاراتها المعنية. 

ويشير إلى وجود فرق تفتيشية تجري زيارات ميدانية يومياً إلى مواقع العمل لإنفاذ القانون ورصد العاملين الأجانب المخالفين. 

وفقاً لتقارير اللجان التفتيشية الخاصة بوزارة العمل، تم تسجيل أكثر من 3500 شركة في بغداد والمحافظات مخالفة لضوابط تشغيل العمالة الأجنبية وقرار مجلس الوزراء المتعلق بإلزام الشركات بتشغيل 50 بالمئة من العاملين العراقيين وعدم استقدام أي عامل أجنبي من دون مراجعة الوزارة للحصول على إذن العمل. 

أحيلت هذه الشركات إلى محاكم وزارة العمل، كما يقول فاضل. 

وبشأن الانتهاكات التي تتعرض لها العمالة الأجنبية في العراق، يفيد فاضل برصد نحو 177 حالة انتهاك عام 2022 تتعلق بالتمييز واختلاف ساعات العمل والعمل القسري والاعتداء اللفظي والجسدي وحتى حالات اغتصاب. 

وترى هناء السامرائي، رئيس نقابة الخدمات الاجتماعية والسياحية، أن العمالة الأجنبية في العراق تشكل نحو 71 بالمئة من إجمالي العاملين في المشاريع. 

“العمالة الأجنبية تستنزف العملة الصعبة بما قيمته ثمانية مليارات دولار سنوياً” تقول لـ”جمّار”. 

وبحسب تقارير رسمية، يعاني العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 حتى الآن، من نسب بطالة مرتفعة. 

ومع تبدل الحكومات وتعاقبها تزداد هذه النسب، جرّاء غياب السياسات الواضحة التي توفر فرص تعيينات حكومية أو ضمن قطاع الشركات شبه الحكومية أو الخاصة. 

تبلغ نسبة البطالة في العراق نحو 16,5 بالمئة وفقاً لوزارة التخطيط

ويواجه العاملون الأجانب الذين وصلوا إلى العراق بطرق غير مشروعة من تحديات العودة إلى أوطانهم، بسبب عدم حصولهم على تصريح الإقامة وعقد العمل. 

سعر الرحلة 

أواخر 2019، وصل العامل البنغلاديشي رجب، الذي لم يحصل على تصريح إقامة وعقد عمل حتى لحظة نشر هذا التحقيق، عن طريق رحلة تهريب امتدت من بنغلادش إلى الإمارات وصولاً إلى إيران، ومن ثم أربيل وانتهاء ببغداد. 

كلفته الرحلة خمسة آلاف دولار. 

عمل عند وصوله إلى بغداد في معمل لصناعة أواني الطعام البلاستيكية في منطقة النهروان. 

كان يعمل لمدة 15 ساعة يومياً مقابل 20 ألف دينار عراقي (12 دولاراً يومياً)، ويحصل في بعض الأوقات على وجبة واحدة من الطعام. 

“كنت أشعر بتمايز في التعامل والأجور. كان العامل العراقي يعمل بنظام الوجبات ويتقاضى ضعف أجرتي” يقول لـ”جمّار”. 

بعد سبعة أشهر، ترك العمل في المصنع وحصل على فرصة في متجر للمواد الغذائية والمنزلية في منطقة الكرادة وسط بغداد عن طريق أحد أصدقائه. 

وما زال يعمل فيه حتى الآن براتب شهري قدره 400 دولار مقابل مناوبة عمل تبدأ من الساعة العاشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً. 

يرسل رجب كل ثلاثة أشهر مبلغاً من المال إلى عائلته في بنغلادش يتراوح بين 300 و400 دولار. 

وهو يفكر حالياً بجدية بالعودة إلى بنغلادش العام المقبل بعدما يتمكن من جمع مبلغ يؤهله لفتح مشروع معمل لتعبئة مياه الشرب هناك. 

الزيارة ثم العمل 

الزيارات الدينية في العراق من المناسبات التي تستغلها العمالة الأجنبية للوصول إلى البلاد. 

توافق الحكومة العراقية على منح الأجانب سمات دخول أصولية لأداء مراسيم زيارة ما، ثم يتسربون إلى سوق العمل بشكل مخالف للقانون، بحسب مسؤول أمني رفيع في مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة. 

يتحول البحث عن العمل إلى رحلة محفوفة بالمخاطر تنتهي بالاعتقال. 

وظروف الاعتقال في السجون العراقية سيئة، إذ يعاني المعتقلون من سوء التغذية وعدم توفر مياه الشرب، بالإضافة لانتشار أمراض جلدية معدية مثل مرض الجرب، وفقاً لشهادات عمال أجانب تواصلنا معهم. 

يقول المسؤول الأمني إن مديرية الإقامة التابعة لوزارة الداخلية كَسَبَتْ خلال العام الحالي 157 دعوى مقامة ضد شركات خاصة باستقدام العمالة الأجنبية لمخالفتها شروط وضوابط قانون الإقامة في بغداد ومحافظات أخرى. 

ويشير إلى انتشار أمراض معدية كالتهاب الكبد الفيروسي والأيدز المصاب بها وافدون آسيويون. 

في عام 2022، تعاملت مديرية شؤون الإقامة التابعة لوزارة الداخلية مع 43 ألف قضية مغادرة (الطرد) لعمّال أجانب. 

خالف هؤلاء قانون إقامة الأجانب رقم 76 لسنة 2017. 

ومنذ مطلع عام 2023 لغاية شهر آب أغسطس منه، تم تسجيل 11885 مقيماً عربياً وأجنبياً، منهم 5423 عاملاً آسيوياً. 

وفي المدة ذاتها، تم تسفير 6423 أجنبياً لمخالفتهم شروط الإقامة. 

لكن نور نجت من حملات التسفير، وما زالت تقيم في العراق من دون إقامة منذ سنتين، أملاً في ادخار مبلغ يمكّنها من العودة إلى سوريا، ومن ثم تكرار محاولة الهجرة نحو إحدى الدول الأوروبية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لم تفلح كل محاولات نور رافع، الشابة السورية القاطنة في محافظة اللاذقية شمالي سوريا، بالوصول إلى العراق بحثاً عن فرصة عمل، إلا بعد سنتين بذلت فيهما كل ما بوسعها من أجل تحقيق حلم عائلتها بالظفر بفرصة عمل ملائمة. 

انحسار فرص العمل في العراق ووقوع الفتاة ضحية لعصابات الاتجار بالعمالة الأجنبية والمحاولات المتكررة لاستمالتها لممارسات غير أخلاقية، أسباب حالت دون تمكن نور (33 عاماً) من الوصول إلى العراق في وقت مبكر. 

وبينما تجلس بهدوء على كرسي خشبي في مقهى رضا علوان بمنطقة الكرادة داخل وسط بغداد، تقول إنها خلال رحلة بحثها عن فرصة عمل في العراق أسوة بأقرانها السوريين، لم تترك مسؤولاً عراقياً وشخصية اجتماعية إلا وطرقت بابه من أجل تحقيق مسعاها، وقد ابتدأت بقبولها بشكل مبدئي كموظفة في مركز تجميل وسط بغداد. 

في 7 شباط 2022 استدعيت نور لإجراء مقابلة شخصية مع إدارة المركز داخل العاصمة السورية دمشق، وأُخبرت بعدها بالموافقة على توظيفها براتب قدره 500 دولار أمريكي مع خدمات السكن والطعام والشراب، وطُلب منها توقيع عقد العمل في محافظة حمص لقاء مبلغ مالي قدره 500 دولار تدفعه تأمينات، ما أثار استغرابها ودهشتها. 

كان من الصعب على نور توفير المبلغ المالي المطلوب، لكنها اضطرت لاستدانته من إحدى صديقاتها ودفعته، لتكتشف فيما بعد أن كل ما جرى من اتفاق كان وهمياً، هدفه إيقاع السوريين في فخ النصب والاحتيال. 

تلقي ظاهرة تهريب العمالة الأجنبية غير الشرعية إلى العراق وما يتعرض له المهرَّبون من ممارسات مرفوضة، بظلالها على الواقع العراقي، فيما لا تمتلك الدوائر الحكومية إحصاءات رسمية وقاعدة بيانات بشأن أعداد العمالة الأجنبية الوافدة. 

يقول أحمد الأسدي وزير العمل والشؤون الاجتماعية، في تصريح متلفز سابق، إن “هناك 800 إلى مليون عامل أجنبي في العراق، لم يُسجل منهم في دائرة الضمان الاجتماعي سوى عدد يتراوح بين 160 و170 ألفاً فقط”. 

ومن ضمن العمالة الأجنبية المتواجدة في العراق، يوجد 300 ألف عامل سوري يعملون من دون رخصة ودخلوا العراق عبر وسائل التهريب، بحسب الأسدي. 

فخ جديد 

فشلت كل محاولات نور في استعادة الـ500 دولار، لكن إدارة مركز التجميل المزعوم وعدتها بفرصة عمل في روضة أهلية في محافظة ديالى شمال شرقي بغداد. 

في 23 آب 2022 وصلت نور، المعيلة الوحيدة لوالديها وأخويها الأصغر سناً منها، إلى أربيل، بعدما ساءت معيشة عائلتها وفقد رب الأسرة عمله جراء إصابته بكورونا ودخوله المشفى مدة طويلة، وعجز العائلة عن توفير علاجاته. 

بعد هبوطها في مطار أربيل، وجدت سيارة خاصة بانتظارها يستقلانها رجل وامرأة، نقلتها إلى محافظة ديالى، حيث وجدت نفسها في منطقة جغرافية لا تعرفها. 

بحسب معلومات توصّل إليها معدّ التحقيق من مسؤول أمني في وزارة الداخلية العراقية، تتعدد وتتنوع الطرق غير الشرعية التي تستخدمها العمالة الأجنبية في دخولها إلى البلاد، عبر منافذ زرباطية ومهران والشلامجة، والطريق البري عبر سوريا، وعبر إقليم كردستان العراق من مطارات أربيل والسليمانية، ومن ثم يتم تهريب الواصلين براً للعاصمة وبقية المحافظات. 

“لا تبيعيها لغيري”، عبارة سمعت نور مديرة الروضة في ديالى تقولها عبر الهاتف للمرأة التي كانت تجلس في مقدمة السيارة. 

شعرت بخوف وقلق بالغ مما يجري في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. 

في الساعة الأولى يوم 24 آب 2022، تم تسليم نور إلى نجل مديرة الروضة وشقيقته، اللذين أوصلاها إلى الروضة في منطقة بعقوبة الجديدة بمحافظة ديالى، بعدما دفعا لصاحبة مركز التجميل مبلغ 700 دولار أمريكي. 

“طيلة ثلاثة أشهر من العمل داخل الروضة تعرضت لمعاملة سيئة للغاية من المديرة” تقول نور. 

كانت المديرة تطلب منها القيام بأعمال تعتبرها نور تحط من كرامتها. 

استنجدت بوالدها فتحدث مع مديرة الروضة وطلب منها تحسين تعاملها معها، فأهانت المديرة الرجل وأساءت الأدب معه وأغلقت الهاتف بوجهه، تقول نور. 

فكرت على إثر ذلك بالهرب ونفذت فكرتها بعد جهد جهيد. 

تعمل الفتاة السورية حالياً في مقهى بشارع السعدون وسط بغداد بأجر يومي مقداره 40 ألف دينار (25 دولاراً) مقابل 13 ساعة عمل متواصلة. 

واقع مروّع في العراق 

تقول نور إنها تعاملت مع واقع “مروّع” منذ تواجدها في العراق ولغاية الآن. 

لم ترسل أي مبلغ مالي لعائلتها لأنها لم تحصل على حقوقها ورواتبها، وكانت تتعرض باستمرار للنصب والاحتيال. 

ومنذ عام 2014، يشهد العراق ارتفاعاً مستمراً في أعداد المهاجرين السوريين، فيما توثق المنظمات المعنية عديداً من حالات الاعتقال التعسفي والاغتصاب والاسترقاق والاختفاء القسري بحقهم. 

ومنح العراق، وفقاً لنجم العقابي، المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، موافقة عمل لـ103 آلاف عامل. 

“بعض العمال الأجانب دخلوا البلاد عن طريق السياحة الدينية، وانتقلوا إلى سوق العمل، ولا يمكن لأي جهة إحصاء أعدادهم”، يضيف العقابي. 

شكلت الحكومة العراقية لجنة مشتركة بين وزارات العمل والداخلية والهجرة لوضع مقترحات بشأن تواجد العمالة الأجنبية في البلاد. 

تضمنت المقترحات موافقة الحكومة على دخول العامل الأجنبي للبلاد وحصوله على رخصة عمل ثم يمنح تأشيرة. 

تم الاتفاق أيضاً على منح مخالفي قانون العمل فترة سماح لمدة 45 يوماً لتصحيح المسار القانوني لعملهم. 

الخوف من المجهول 

تحولت رحلة البحث عن فرصة عمل ملائمة للصحافية ليندا المرقدي (43 عاماً)، إلى مأساة مستمرة بعدما غادرت سوريا متوجهة إلى العراق. 

حصلت على عقد عمل مع إحدى الشركات النفطية في البصرة جنوبي البلاد. 

في بادئ الأمر، اتفقت ليندا مع الشركة على شغل وظيفة مسؤول إعلامي براتب شهري قدره 900 دولار. 

عندما وصلت إلى العراق وباشرت العمل فوجئت بتغيير بنود في العقد من دون علمها، وكان من ضمن التغييرات خفض الراتب إلى 600 دولار. 

“هذا استغلال بشع للعمالة السورية” تقول المرقدي. 

ولأسباب أخرى، منها إسكانها في كرفانات في مناطق نائية لا يبقى فيها ليلاً سوى الرجال، تركت العمل في الشركة وتوجهت إلى بغداد. 

عملت في العاصمة في عدد من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الإخبارية. 

استقر بها المطاف حالياً معدة برنامج اقتصادي في قناة فضائية براتب 600 دولار شهرياً. 

تدرك أن راتبها أقل بكثير مما يتقاضاه زملاؤها العراقيون. 

“هناك نظرة عن السوريين بأن المئة دولار كبيرة لديهم بسبب تدهور الليرة، لذلك يُمنحون رواتب واطئة”، تقول لنا. 

تصف نفسها بأنها قوية، وتلك صفة حمتها من التحرش. 

وعلى الرغم من كل الصعاب، تشعر المرقدي بالرضا عن وجودها في العراق. 

ترى أن العراقيين طيبون ويعاملون السوريين بالحسنى. 

ولكن عملها في الإعلام العراقي لم يوفر لها مزايا، فهي لا تملك حتى إقامة. 

تعنيف وضياع حقوق 

يوثق العاملون في بعض المنظمات الحقوقية حقيقة تهريب العمالة واستعبادها، وتعرضها للعمل القسري، وابتزازها. 

وفقا للمحامية هديل العزاوي، العاملة في مجال الدفاع عن حقوق العمالة الأجنبية، تعرضت إحدى العاملات الكينيات في العراق عام 2019 إلى اغتصاب من قبل ابن صاحب المنزل الذي تعمل فيه، وأقيمت بحقه دعوى جزائية في مركز شرطة القدس في بغداد. 

جرى استغفال العاملة من قبل ذوي المتهم الذي يعمل طبيباً. 

اتفقوا معها على الزواج منه لمدة 30 يوماً فقط، ومنحها ثلاثة آلاف دولار وتذكرة سفر إلى بلادها مقابل التنازل عن الدعوى. 

وافقت العاملة على العرض من دون إبلاغ المحامية، لكن تم تسفيرها وحرمانها من أي شيء ورد في الاتفاق. 

عام 2019 أيضاً، اكتشفت العزاوي لدى مرافقتها وفداً من مفوضية حقوق الإنسان إلى دار المشردات في الصالحية وسط بغداد، وجود نحو عشر عاملات أجنبيات هاربات من أصحاب العمل وغالبيتهن من الجنسيات الكينية. 

وقد هربن بسبب الانتهاكات التي تعرضن لها والاعتداءات الجسدية واللفظية. 

وتفيد المحامية بأن غالبية العمالة الأجنبية تدخل عن طريق كردستان ويتم تهريبها إلى بغداد عبر طرق وعرة بعيدة عن رقابة الأجهزة الأمنية. 

يتعرض العمال والعاملات غالباً إلى استغلال من أرباب العمل من حيث الأجور وأوقات العمل والتعنيف الجسدي واللفظي. 

“هذه الأنشطة المخالفة للقانون صنعت ثروات كبيرة للأفراد والجماعات، ما يشجع على استمرارها” تقول العزاوي. 

أرق الحكومة 

يقول عباس فاضل، مدير دائرة العمل والتدريب المهني في وزارة العمل، إن العمالة الأجنبية الوافدة تؤرق الحكومة ووزاراتها المعنية. 

ويشير إلى وجود فرق تفتيشية تجري زيارات ميدانية يومياً إلى مواقع العمل لإنفاذ القانون ورصد العاملين الأجانب المخالفين. 

وفقاً لتقارير اللجان التفتيشية الخاصة بوزارة العمل، تم تسجيل أكثر من 3500 شركة في بغداد والمحافظات مخالفة لضوابط تشغيل العمالة الأجنبية وقرار مجلس الوزراء المتعلق بإلزام الشركات بتشغيل 50 بالمئة من العاملين العراقيين وعدم استقدام أي عامل أجنبي من دون مراجعة الوزارة للحصول على إذن العمل. 

أحيلت هذه الشركات إلى محاكم وزارة العمل، كما يقول فاضل. 

وبشأن الانتهاكات التي تتعرض لها العمالة الأجنبية في العراق، يفيد فاضل برصد نحو 177 حالة انتهاك عام 2022 تتعلق بالتمييز واختلاف ساعات العمل والعمل القسري والاعتداء اللفظي والجسدي وحتى حالات اغتصاب. 

وترى هناء السامرائي، رئيس نقابة الخدمات الاجتماعية والسياحية، أن العمالة الأجنبية في العراق تشكل نحو 71 بالمئة من إجمالي العاملين في المشاريع. 

“العمالة الأجنبية تستنزف العملة الصعبة بما قيمته ثمانية مليارات دولار سنوياً” تقول لـ”جمّار”. 

وبحسب تقارير رسمية، يعاني العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 حتى الآن، من نسب بطالة مرتفعة. 

ومع تبدل الحكومات وتعاقبها تزداد هذه النسب، جرّاء غياب السياسات الواضحة التي توفر فرص تعيينات حكومية أو ضمن قطاع الشركات شبه الحكومية أو الخاصة. 

تبلغ نسبة البطالة في العراق نحو 16,5 بالمئة وفقاً لوزارة التخطيط

ويواجه العاملون الأجانب الذين وصلوا إلى العراق بطرق غير مشروعة من تحديات العودة إلى أوطانهم، بسبب عدم حصولهم على تصريح الإقامة وعقد العمل. 

سعر الرحلة 

أواخر 2019، وصل العامل البنغلاديشي رجب، الذي لم يحصل على تصريح إقامة وعقد عمل حتى لحظة نشر هذا التحقيق، عن طريق رحلة تهريب امتدت من بنغلادش إلى الإمارات وصولاً إلى إيران، ومن ثم أربيل وانتهاء ببغداد. 

كلفته الرحلة خمسة آلاف دولار. 

عمل عند وصوله إلى بغداد في معمل لصناعة أواني الطعام البلاستيكية في منطقة النهروان. 

كان يعمل لمدة 15 ساعة يومياً مقابل 20 ألف دينار عراقي (12 دولاراً يومياً)، ويحصل في بعض الأوقات على وجبة واحدة من الطعام. 

“كنت أشعر بتمايز في التعامل والأجور. كان العامل العراقي يعمل بنظام الوجبات ويتقاضى ضعف أجرتي” يقول لـ”جمّار”. 

بعد سبعة أشهر، ترك العمل في المصنع وحصل على فرصة في متجر للمواد الغذائية والمنزلية في منطقة الكرادة وسط بغداد عن طريق أحد أصدقائه. 

وما زال يعمل فيه حتى الآن براتب شهري قدره 400 دولار مقابل مناوبة عمل تبدأ من الساعة العاشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً. 

يرسل رجب كل ثلاثة أشهر مبلغاً من المال إلى عائلته في بنغلادش يتراوح بين 300 و400 دولار. 

وهو يفكر حالياً بجدية بالعودة إلى بنغلادش العام المقبل بعدما يتمكن من جمع مبلغ يؤهله لفتح مشروع معمل لتعبئة مياه الشرب هناك. 

الزيارة ثم العمل 

الزيارات الدينية في العراق من المناسبات التي تستغلها العمالة الأجنبية للوصول إلى البلاد. 

توافق الحكومة العراقية على منح الأجانب سمات دخول أصولية لأداء مراسيم زيارة ما، ثم يتسربون إلى سوق العمل بشكل مخالف للقانون، بحسب مسؤول أمني رفيع في مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة. 

يتحول البحث عن العمل إلى رحلة محفوفة بالمخاطر تنتهي بالاعتقال. 

وظروف الاعتقال في السجون العراقية سيئة، إذ يعاني المعتقلون من سوء التغذية وعدم توفر مياه الشرب، بالإضافة لانتشار أمراض جلدية معدية مثل مرض الجرب، وفقاً لشهادات عمال أجانب تواصلنا معهم. 

يقول المسؤول الأمني إن مديرية الإقامة التابعة لوزارة الداخلية كَسَبَتْ خلال العام الحالي 157 دعوى مقامة ضد شركات خاصة باستقدام العمالة الأجنبية لمخالفتها شروط وضوابط قانون الإقامة في بغداد ومحافظات أخرى. 

ويشير إلى انتشار أمراض معدية كالتهاب الكبد الفيروسي والأيدز المصاب بها وافدون آسيويون. 

في عام 2022، تعاملت مديرية شؤون الإقامة التابعة لوزارة الداخلية مع 43 ألف قضية مغادرة (الطرد) لعمّال أجانب. 

خالف هؤلاء قانون إقامة الأجانب رقم 76 لسنة 2017. 

ومنذ مطلع عام 2023 لغاية شهر آب أغسطس منه، تم تسجيل 11885 مقيماً عربياً وأجنبياً، منهم 5423 عاملاً آسيوياً. 

وفي المدة ذاتها، تم تسفير 6423 أجنبياً لمخالفتهم شروط الإقامة. 

لكن نور نجت من حملات التسفير، وما زالت تقيم في العراق من دون إقامة منذ سنتين، أملاً في ادخار مبلغ يمكّنها من العودة إلى سوريا، ومن ثم تكرار محاولة الهجرة نحو إحدى الدول الأوروبية.