"ماكو فرق".. فلسطينيّون في الفن والشاشة العراقيين 

علاء المفرجي

28 تشرين الثاني 2023

ممثلون ولدوا ونشؤوا في بيوت فلسطينية ببغداد، تعلّقت على جدرانها خارطة فلسطين، وصورٌ لمدن أجبروا على تركها.. يتحدّثون خارج منزلهم بلهجة عراقيّة، وداخلها بلهجة فلسطينية "ثلاثة أرباعها عراقية".. عن فلسطينيين في الفن والشاشة العراقيين..

شهد العراق ثلاث موجات نزوح لفلسطينيين إلى أراضيه، الأولى كانت باحتلال بلادهم عام 1948، ثم في النكسة عام 1967، وآخرها عام 1991 بعد غزو العراق للكويت، إذ اضطر الفلسطينيون الذين عاشوا عقوداً في الدولة الخليجية الصغيرة للنزوح إلى بغداد، بعد وقوف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين في حربه العبثيّة.  

لكن الأكثر اندماجاً وتطبعاً بالثقافة العراقية من بين نازحي الهجرات الثلاث، كانوا نازحي النكبة في 1948، والذين انصهروا في المجتمع العراقي لهجة وتقاليد ونسباً أحياناً. ساهم حق وصول هؤلاء الكامل إلى الخدمات الحكومية، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والعمل، في منحهم فرصة العيش كأقرانهم من العراقيين. 

بطبيعة الحال، كان من النازحين الفلسطينيين إلى العراق شخصيات ثقافية وفنية أثّرت وتأثرت بالثقافة العراقية، ولا سيما أن مجيئها تزامن مع بداية النهضة الثقافية. كما كان من هؤلاء من هاجر إلى العراق بحثاً عن علم وثقافة ورزق. 

آنذاك، شهدت كل أجناس المعرفة تطوراً، وكان من أحد أسبابها الوافدون غير العراقيين، ومنهم الفلسطينيون، بالتزامن مع عودة الكفاءات العراقية بعد تلقيها تعليماً في الخارج. 

كان من بين جيل الفلسطينيين الأوّل جبرا إبراهيم جبرا، الأديب والفنان والمترجم، الذي عرّفنا بعمق على كتابات شكسبير بترجماته ومقدماته ودراسته عنها، وروحي الخماش الموسيقار مؤسس فرقة الإنشاد الوطنية وفرقة خماسي بغداد للعود، وجميل قشطة، المخرج والمغني، ليلتحق بهم جيل ثانٍ، ضم الممثلة مي جمال، التي اشتهرت بمسلسل النسر وعيون المدينة، والممثل محمد حسين عبد الرحيم، الذي يعد من أشهر ممثلي الكوميديا، والممثل جلال كامل، بطل فيلم “اللوحة”، وسما الشيبي، الفنانة البصرية. 

جبرا وإخوته 

قدم جبرا إلى بغداد وكأنه يعرفها ويعرف أفرادها ومجموعاتها، وخطط منذ البداية للإقامة الطويلة والبقاء فيها، فأسس داره في الستينيات في منطقة المنصور بشارع الأميرات، وهو نتاج دمج تصميمين لأبرز معماريين عراقيين هما قحطان عوني ورفعة الجادرجي، وأجرى تداخل التصميمين جبرا بنفسه. 

عمل جبرا في العراق أستاذاً محاضراً في “الكلية التوجيهية”، ثم في “كلية الآداب والعلوم”. وأسس خريف 1949 قسم الأدب الإنكليزي في هذه الكلية. 

لكن خارج الحقل الأكاديمي، كان جبرا إبراهيم جبرا يترك أثره في الفن التشيكيلي. فمنذ استقراره في بغداد، شارك مع النحات والرسام العراقي جواد سليم عام 1951 في تأسيس “جمعية بغداد للفن الحديث”، في الوقت الذي كان عضواً مؤسساً لمجموعة بغداد للفنون الحديثة، الحركة التي أدت إلى إحداث صدمة التجديد في الفن بالعراق، وكان كذلك أحد أعضاء جماعة “البعد الواحد”، التي أسسها الفنان البارز شاكر حسن آل سعيد.  

كان جبرا في هذه المجموعات ناقداً ورساماً ومفكّرِاً، وتمكّن عبر رئاسته لتحرير مجلة “فنون” من إثارة الجدل بشأن الحداثة في الفن العراقي، وفسح على صفحاتها المجال للمواهب التشكيلية الشابة في أن تأخذ فرصتها في الظهور. 

كان جبرا وبغداد، على حدٍّ سواء، يتطلعان للنهضة المدنية. فهو المتعلم في كامبريدج، والحاصل على زمالة مؤسسة روكفلر في العلوم الإنسانية لدراسة الأدب الإنجليزي في جامعة هارفارد، قدم إلى مدينة يعود شبانها من الدراسة في الخارج باختصاصات جديدة، وتنزع فيها الحركة الفنية والثقافية إلى التجريب. 

“لقد فتح لنا أبواباً جديدة في تذوق الأدب لم نكن نعهدها في السابق”، تقول بلقيس شرارة، الكاتبة العراقية، عن جبرا. “كان جبرا يحب الجمال في كل شيء في الحياة، كما علّمنا على حرية البحث والتقصي، وليس حفظ ما كان يلقيه علينا عن ظهر قلب، لذا كان جميع التلامذة ينتظرون حصته بشوق وحرارة”. 

الخماش وقشطة 

على الجانب الموسيقي، كان روحي الخماش، الذي سيكون اسمه حاضراً بعد ذلك في التحديث والتوثيق.  

نزح الخماش مع عائلته إلى بغداد عام 1948، ولم يرَ بعدها نابلس التي ولد فيها عام 1923، وأكمل دراسته في مدارسها. 

أدى الخماش في الموسيقى العراقيّة أدواراً مختلفة ومهمة، وتوزّعت بين تأسيس الفرق الموسيقية، وتوثيق الأطوار الغنائية، وإعادة توزيع الأغاني القديمة. 

وبلغ إنتاج الخماش لفرقة الإنشاد العراقية التي أسسها بداية السبعينيات نحو 40 موشحاً، ومنها ليلي نغم، وما بال عينيك، وهاجك الذكر، إضافة إلى تدريب الفرقة على عشرات الموشحات العربية والأندلسية المشهورة.  

ومنح توزيع الخماش لأغنيات التراث العراقي، مثل يابنت عينج، فوك النخل، روحاً جديدة لها، جعلها من جديد قريبة إلى الأذن، ومتساوقة مع إيقاع الحياة. 

يذهب ثامر عبد المحسن العامري، الناقد الموسيقي، إلى القول إن روحي الخماش حفظ بعض تاريخ الموسيقى العراقية من الاندثار، عندما دوّن بدقة متناهية كل صغيرة وكبيرة في أطوار البوذية الجنوبية، بلعلعاتها وآهاتها وما تضمنته من بحات وإضافات، لتستطيع الأجيال القادمة العودة إليها، ولتسهيل وصول الموسيقيين إلى تفاصيلها. 

يروي خالد محمد علي، عازف العود والكمان، إنه عندما كان في العشرينيات من عمره، كانت فرقة خماسي الموسيقى التي أسسها الخماش، تقدم الأعمال التراثية، وألوان الموسيقى العراقية والشرقية والعربية من سماعيات وبشارف ولونجات وموسيقى ومقامات وتقاسيم منوعة. “كنت ُشخصياً من أشد المعجبين بهذا الخماسي وأحفظ المقطوعات التي يقدمها”، يقول علي. 

صنع ابن نابلس للمدينة التي كان يقضي جل وقتها فيها مُزارعاً في أرضه في اللطيفية أو موسيقياً في مبنى الإذاعة والتلفزيون -في أواخر أيامه نهاية التسعينيات- صنع مقطوعة “الليل في بغداد”، والتي أعادت عزفها أغلب الفرق الموسيقية العراقية، وكانت تلك آخر مقطوعة قبل أن يتوفى عام 1998 إثر مرض أنهكه.  

وإن كان أقلّ تأثيراً، إلا أن جميل قشطة أفاد الموسيقى العراقية بقلقه الذي حوّله من الغناء إلى الهندسة والإخراج الموسيقيين. استقر قشطة في بغداد أواخر الأربعينات، ويعد من جيل المطربين الذين ظهروا أواخر الخمسينات. 

غنّى قشطة بالمحكيّة البغدادية، وكان صوته رخيماً وصافياً، لكنه غادر الغناء بعد ذلك، واتجه إلى هندسة الصوت والإخراج الموسيقي، وبرع فيهما، فساهم في الإخراج الموسيقي لعشرات الأغاني العراقية. 

الجيل الثاني.. إلى الدراما  

ظهر الجيل الثاني من الفلسطينيين في مواضع أخرى من الفن، فبرز ممثلون كان أغلبهم من الجيل الثاني من موجة النزوح الأولى إلى العراق. 

كان لمي جمال، التي نزحت مع عائلتها نهاية الأربعينات إلى بغداد، تأثير في تشجيع النساء على الانخراط في التمثيل في الستينيات، حيث كانت العائلات العراقيّة أقلّ انفتاحاً على المهن الفنيّة.  

تزوّجت جمال فؤاد سالم، المطرب الشهير، ونتج عن زواجهما نغم، التي دخلت أيضاً عالم التمثيل.  

كانت مي، التي أدت دور حسنية خاتون في مسلسل “النسر وعيون المدينة” قد ولدت في فلسطين؛ لكن ممثلين آخرين كانت ولادتهم ونشأتهم في بيوت فلسطينية في بغداد، تُعلّق خارطة بلادهم وصور لمدنهم التي أجبروا على تركها، ويتحدثون خارج منزلهم بلهجة عراقيّة، وداخلها بلهجة فلسطينية “ثلاثة أرباعها عراقية”، على حدّ وصف محمد حسين عبد الرحيم، الذي ولد في بغداد عام 1951، وتولّع بمحلة قنبر علي القديمة. 

دخل نجم فيلم “عمارة 13” المجال الفني بداية سبعينيات القرن الماضي، وليصبح بعدها بأعوام أحد ألمع نجوم الكوميديا في المسرح والتلفزيون والسينما. 

ارتبط اسم عبد الرحيم بمسرحية “الخيط والعصفور” التي تعد من المسرحيات القليلة التي استمرت بالعرض لفترات طويلة، لكثافة حضور الناس لمشاهدتها. 

في لقاء تلفزيوني، يطلب المذيع من عبد الرحيم التحدّث بالفلسطينية، فيرضخ له، لكنه يتعثّر بين لهجتيه البغدادية والفلسطينية؛ لكن الممثل الكوميدي الذي يطالب منذ سنين بالجنسية العراقية، لا يتعثّر بالهويات. 

فهو فلسطيني، وكوّن عائلة فلسطينية في بغداد، تتحدّث في ما بينها باللهجة الفلسطينية، لكنه في وظيفته ممثل عراقي، ولم يعرف العمل خارج الشاشة والخشبة العراقيتين. “لم أمثل شيئاً باللهجة الفلسطينية” يقول نجم مسلسل “أيام الإجازة”. 

“أبي وأمي وأسلافي جميعهم فلسطينيون، وليس فني”، يشرح زهير محمد رشيد، الممثل الكوميدي، وابن شقيقة عبد الحسين، والذي عرف بدور علاء في مسلسل “عالم الست وهيبة”. 

أثار سؤال الهوية العراقية والفلسطينية مقدمي البرامج الفنيّة، وطرحوه بشكل مكرّر على محمد حسين عبد الرحيم وزهير محمد رشيد، وإذا ما كانا يميلان لهوية منهما. 

كان اختصار إجاباتهما على الدوام “ماكو فرق”. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شهد العراق ثلاث موجات نزوح لفلسطينيين إلى أراضيه، الأولى كانت باحتلال بلادهم عام 1948، ثم في النكسة عام 1967، وآخرها عام 1991 بعد غزو العراق للكويت، إذ اضطر الفلسطينيون الذين عاشوا عقوداً في الدولة الخليجية الصغيرة للنزوح إلى بغداد، بعد وقوف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين في حربه العبثيّة.  

لكن الأكثر اندماجاً وتطبعاً بالثقافة العراقية من بين نازحي الهجرات الثلاث، كانوا نازحي النكبة في 1948، والذين انصهروا في المجتمع العراقي لهجة وتقاليد ونسباً أحياناً. ساهم حق وصول هؤلاء الكامل إلى الخدمات الحكومية، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والعمل، في منحهم فرصة العيش كأقرانهم من العراقيين. 

بطبيعة الحال، كان من النازحين الفلسطينيين إلى العراق شخصيات ثقافية وفنية أثّرت وتأثرت بالثقافة العراقية، ولا سيما أن مجيئها تزامن مع بداية النهضة الثقافية. كما كان من هؤلاء من هاجر إلى العراق بحثاً عن علم وثقافة ورزق. 

آنذاك، شهدت كل أجناس المعرفة تطوراً، وكان من أحد أسبابها الوافدون غير العراقيين، ومنهم الفلسطينيون، بالتزامن مع عودة الكفاءات العراقية بعد تلقيها تعليماً في الخارج. 

كان من بين جيل الفلسطينيين الأوّل جبرا إبراهيم جبرا، الأديب والفنان والمترجم، الذي عرّفنا بعمق على كتابات شكسبير بترجماته ومقدماته ودراسته عنها، وروحي الخماش الموسيقار مؤسس فرقة الإنشاد الوطنية وفرقة خماسي بغداد للعود، وجميل قشطة، المخرج والمغني، ليلتحق بهم جيل ثانٍ، ضم الممثلة مي جمال، التي اشتهرت بمسلسل النسر وعيون المدينة، والممثل محمد حسين عبد الرحيم، الذي يعد من أشهر ممثلي الكوميديا، والممثل جلال كامل، بطل فيلم “اللوحة”، وسما الشيبي، الفنانة البصرية. 

جبرا وإخوته 

قدم جبرا إلى بغداد وكأنه يعرفها ويعرف أفرادها ومجموعاتها، وخطط منذ البداية للإقامة الطويلة والبقاء فيها، فأسس داره في الستينيات في منطقة المنصور بشارع الأميرات، وهو نتاج دمج تصميمين لأبرز معماريين عراقيين هما قحطان عوني ورفعة الجادرجي، وأجرى تداخل التصميمين جبرا بنفسه. 

عمل جبرا في العراق أستاذاً محاضراً في “الكلية التوجيهية”، ثم في “كلية الآداب والعلوم”. وأسس خريف 1949 قسم الأدب الإنكليزي في هذه الكلية. 

لكن خارج الحقل الأكاديمي، كان جبرا إبراهيم جبرا يترك أثره في الفن التشيكيلي. فمنذ استقراره في بغداد، شارك مع النحات والرسام العراقي جواد سليم عام 1951 في تأسيس “جمعية بغداد للفن الحديث”، في الوقت الذي كان عضواً مؤسساً لمجموعة بغداد للفنون الحديثة، الحركة التي أدت إلى إحداث صدمة التجديد في الفن بالعراق، وكان كذلك أحد أعضاء جماعة “البعد الواحد”، التي أسسها الفنان البارز شاكر حسن آل سعيد.  

كان جبرا في هذه المجموعات ناقداً ورساماً ومفكّرِاً، وتمكّن عبر رئاسته لتحرير مجلة “فنون” من إثارة الجدل بشأن الحداثة في الفن العراقي، وفسح على صفحاتها المجال للمواهب التشكيلية الشابة في أن تأخذ فرصتها في الظهور. 

كان جبرا وبغداد، على حدٍّ سواء، يتطلعان للنهضة المدنية. فهو المتعلم في كامبريدج، والحاصل على زمالة مؤسسة روكفلر في العلوم الإنسانية لدراسة الأدب الإنجليزي في جامعة هارفارد، قدم إلى مدينة يعود شبانها من الدراسة في الخارج باختصاصات جديدة، وتنزع فيها الحركة الفنية والثقافية إلى التجريب. 

“لقد فتح لنا أبواباً جديدة في تذوق الأدب لم نكن نعهدها في السابق”، تقول بلقيس شرارة، الكاتبة العراقية، عن جبرا. “كان جبرا يحب الجمال في كل شيء في الحياة، كما علّمنا على حرية البحث والتقصي، وليس حفظ ما كان يلقيه علينا عن ظهر قلب، لذا كان جميع التلامذة ينتظرون حصته بشوق وحرارة”. 

الخماش وقشطة 

على الجانب الموسيقي، كان روحي الخماش، الذي سيكون اسمه حاضراً بعد ذلك في التحديث والتوثيق.  

نزح الخماش مع عائلته إلى بغداد عام 1948، ولم يرَ بعدها نابلس التي ولد فيها عام 1923، وأكمل دراسته في مدارسها. 

أدى الخماش في الموسيقى العراقيّة أدواراً مختلفة ومهمة، وتوزّعت بين تأسيس الفرق الموسيقية، وتوثيق الأطوار الغنائية، وإعادة توزيع الأغاني القديمة. 

وبلغ إنتاج الخماش لفرقة الإنشاد العراقية التي أسسها بداية السبعينيات نحو 40 موشحاً، ومنها ليلي نغم، وما بال عينيك، وهاجك الذكر، إضافة إلى تدريب الفرقة على عشرات الموشحات العربية والأندلسية المشهورة.  

ومنح توزيع الخماش لأغنيات التراث العراقي، مثل يابنت عينج، فوك النخل، روحاً جديدة لها، جعلها من جديد قريبة إلى الأذن، ومتساوقة مع إيقاع الحياة. 

يذهب ثامر عبد المحسن العامري، الناقد الموسيقي، إلى القول إن روحي الخماش حفظ بعض تاريخ الموسيقى العراقية من الاندثار، عندما دوّن بدقة متناهية كل صغيرة وكبيرة في أطوار البوذية الجنوبية، بلعلعاتها وآهاتها وما تضمنته من بحات وإضافات، لتستطيع الأجيال القادمة العودة إليها، ولتسهيل وصول الموسيقيين إلى تفاصيلها. 

يروي خالد محمد علي، عازف العود والكمان، إنه عندما كان في العشرينيات من عمره، كانت فرقة خماسي الموسيقى التي أسسها الخماش، تقدم الأعمال التراثية، وألوان الموسيقى العراقية والشرقية والعربية من سماعيات وبشارف ولونجات وموسيقى ومقامات وتقاسيم منوعة. “كنت ُشخصياً من أشد المعجبين بهذا الخماسي وأحفظ المقطوعات التي يقدمها”، يقول علي. 

صنع ابن نابلس للمدينة التي كان يقضي جل وقتها فيها مُزارعاً في أرضه في اللطيفية أو موسيقياً في مبنى الإذاعة والتلفزيون -في أواخر أيامه نهاية التسعينيات- صنع مقطوعة “الليل في بغداد”، والتي أعادت عزفها أغلب الفرق الموسيقية العراقية، وكانت تلك آخر مقطوعة قبل أن يتوفى عام 1998 إثر مرض أنهكه.  

وإن كان أقلّ تأثيراً، إلا أن جميل قشطة أفاد الموسيقى العراقية بقلقه الذي حوّله من الغناء إلى الهندسة والإخراج الموسيقيين. استقر قشطة في بغداد أواخر الأربعينات، ويعد من جيل المطربين الذين ظهروا أواخر الخمسينات. 

غنّى قشطة بالمحكيّة البغدادية، وكان صوته رخيماً وصافياً، لكنه غادر الغناء بعد ذلك، واتجه إلى هندسة الصوت والإخراج الموسيقي، وبرع فيهما، فساهم في الإخراج الموسيقي لعشرات الأغاني العراقية. 

الجيل الثاني.. إلى الدراما  

ظهر الجيل الثاني من الفلسطينيين في مواضع أخرى من الفن، فبرز ممثلون كان أغلبهم من الجيل الثاني من موجة النزوح الأولى إلى العراق. 

كان لمي جمال، التي نزحت مع عائلتها نهاية الأربعينات إلى بغداد، تأثير في تشجيع النساء على الانخراط في التمثيل في الستينيات، حيث كانت العائلات العراقيّة أقلّ انفتاحاً على المهن الفنيّة.  

تزوّجت جمال فؤاد سالم، المطرب الشهير، ونتج عن زواجهما نغم، التي دخلت أيضاً عالم التمثيل.  

كانت مي، التي أدت دور حسنية خاتون في مسلسل “النسر وعيون المدينة” قد ولدت في فلسطين؛ لكن ممثلين آخرين كانت ولادتهم ونشأتهم في بيوت فلسطينية في بغداد، تُعلّق خارطة بلادهم وصور لمدنهم التي أجبروا على تركها، ويتحدثون خارج منزلهم بلهجة عراقيّة، وداخلها بلهجة فلسطينية “ثلاثة أرباعها عراقية”، على حدّ وصف محمد حسين عبد الرحيم، الذي ولد في بغداد عام 1951، وتولّع بمحلة قنبر علي القديمة. 

دخل نجم فيلم “عمارة 13” المجال الفني بداية سبعينيات القرن الماضي، وليصبح بعدها بأعوام أحد ألمع نجوم الكوميديا في المسرح والتلفزيون والسينما. 

ارتبط اسم عبد الرحيم بمسرحية “الخيط والعصفور” التي تعد من المسرحيات القليلة التي استمرت بالعرض لفترات طويلة، لكثافة حضور الناس لمشاهدتها. 

في لقاء تلفزيوني، يطلب المذيع من عبد الرحيم التحدّث بالفلسطينية، فيرضخ له، لكنه يتعثّر بين لهجتيه البغدادية والفلسطينية؛ لكن الممثل الكوميدي الذي يطالب منذ سنين بالجنسية العراقية، لا يتعثّر بالهويات. 

فهو فلسطيني، وكوّن عائلة فلسطينية في بغداد، تتحدّث في ما بينها باللهجة الفلسطينية، لكنه في وظيفته ممثل عراقي، ولم يعرف العمل خارج الشاشة والخشبة العراقيتين. “لم أمثل شيئاً باللهجة الفلسطينية” يقول نجم مسلسل “أيام الإجازة”. 

“أبي وأمي وأسلافي جميعهم فلسطينيون، وليس فني”، يشرح زهير محمد رشيد، الممثل الكوميدي، وابن شقيقة عبد الحسين، والذي عرف بدور علاء في مسلسل “عالم الست وهيبة”. 

أثار سؤال الهوية العراقية والفلسطينية مقدمي البرامج الفنيّة، وطرحوه بشكل مكرّر على محمد حسين عبد الرحيم وزهير محمد رشيد، وإذا ما كانا يميلان لهوية منهما. 

كان اختصار إجاباتهما على الدوام “ماكو فرق”.