"شمسويه انتِ!".. العمل المنزلي وحرمان المرأة من يومها

منال حميد غانم

30 نيسان 2023

باتت مفاهيم مثل "معدّلة" و"ترفة" و"نظيفة" و"بيتها ينأكل عليه الزبد" معايير للتنافس بين النساء أنفسهن على حساب وقت إراحة اجسادهن، فقط من أجل الحصول على الرضا المجتمعي.. عن العمل المنزلي غير المدفوع وحرمان المرأة من يومها.

كنت أغسل الصحون بعد العشاء عندما رفع طفلي صوت التلفاز على فقرة برنامج خصصت لموضوع التنمية البشرية، حيث كان مدرب التنمية يقول بأننا نملك الـ24 ساعة نفسها التي ملكها توماس أديسون وآينشتاين ومارك زغربرك وبيل غيتس وستيف جوبز، وأنهم لم يحققوا كل تلك الإنجازات بـ44 ساعة في اليوم بل بالـ24 ساعة نفسها التي نملكها جميعاً.. ولكن المشكلة تكمن في عدم استثمار الوقت. 

 “جميل جميل.. الأخ يملك 24 ساعة ويبدو الآخرون كذلك..  لماذا أنا لا أملكها ملكا خالصا صرفا من الأصل؟!”، سألت نفسي متهكمة. 

هذا سؤال تطرحه الكثير من النساء -ليس في العراق فقط- على أنفسهن يومياً، ويرافقه شعور دائم بضيق الوقت وقلة الإنجاز، ما يجعلنا تعيسات وكثيرات التفكير ومُجهَدات من ضغط البيت ورعاية أطفالنا وأسرنا، علاوة على أعمالنا خارج البيت إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا.  

أين يذهب يوم المرأة، وهل هو حقاً لها؟ 

أيام مبنيّة للمجهول  

ترزح النساء تحت وطأة العمل والرعاية المنزلية، فيما ترين زملاءهن من الذكور يحصّلون الشهادات العليا ويسافرون ويتقدمون في مجالاتهم المختلفة، دون عبء التفكير بمن سيرعى أطفالهم ويهتم ببيوتهم. 

“أسرد لنا كيف تقضي وقتك بعد انتهاء العمل لطفاً علنا نتعلم منك تنظيم الوقت”، سألت مديري في العمل، حينما قال لي ولمجموعة من زميلاتي ذات يوم بأننا نملك الكثير من الوقت بعد انتهاء الدوام، ومن المهم استثماره بدل تصفح مواقع التواصل الاجتماعي بأخذ دورات تدريبية أو مطالعة كتاب أو حضور فيديوهات تعليمية على اليوتيوب. 

ردّ المدير قائلاً أنه يعود للمنزل، يستحم، يلتقط ملابسه المكويّة النظيفة من الخزانة ثم يتناول طعاماً ساخناً وصحياً ثم يشاهد التلفاز قليلاً، يتبعها بقيلولة.. قبل أن يردف بسرد مهامه اليومية لتثقيف الذات والعناية بالنفس. ضحكت إحدى الزميلات وردّت عليه: “يومك العادي هذا لهو يومٌ من أحلامي التي لا أستطيع تحقيقها”، فيما رددتُ بأن الكتاب المحاذي لسريري لا ينقصه سوى أن يبكي لأقرأ منه أكثر من صفحتين كل يوم. 

لم يعلم وربما لم ينتبه الرجل، وكثر غيره، لفرق التوقيت بين النساء والرجال، إذ أن الساعة السابعة صباحاً مثلاً بتوقيت الرجال مختلفة تماماً عن الساعة السابعة صباحاً بتوقيت النساء. 

فعندما يستيقظ أي رجل عامل إلى يوم هيأته له النساء مسبقاً، وهن اللواتي يستيقظن قبله بساعة أو ساعتين لتجهيز لوازمه ولوازم أطفالهم: يجهزن الفطور للطفل الكبير (الزوج) وفطورا دافئا بصناديق صغيرة لبقية الأطفال وتلبيسهم أو مساعدتهم على ارتداء الملابس التي نظفت وكويت قبل ليلة، وتصفيف شعرهم والتأكد من أن حقائبهم المدرسية لا ينقصها شيء، ثم توصيلهم إلى المدرسة أو الى المواصلات، ثم يرتدين ملابسهن على عجالة والتأكد من أن المنزل سيُغلق آمناً، من إغلاق الكهرباء والماء والشبابيك وغيرها، لتستقل المرأة بعدها وسيلة المواصلات وتذهب هي الأخرى إلى عملها المأجور أو تواصل عملها المنزلي غير المأجور. 

في نظر الرجال، وحتى الدولة، باتت هذه الأيام مبنية للمجهول وليست من صنيع النساء. 

العمل المنزلي.. غير محسوس ولا محسوب  

تُمضي المرأة العراقية حوالي ست ساعات من يومها، أي ربع اليوم، في العمل والرعاية المنزلية، ويُقدّر أن 86 بالمئة من العمل المنزلي غير المدفوع في العراق، تقوم به الطفلات أو النساء، وفقاً لمسح أجرته منظمة العمل الدولية.   

ويُعرّف العمل المنزلي الرعائي على أنه الأنشطة والعلاقات التي تلبي الاحتياجات الجسدية والنفسية والعاطفية للبالغين والأطفال، سواء كانوا كباراً أو صغاراً، ضعافاً أو قادرين جسدياً. 

ينطوي العمل المنزلي الواقع بغالبيته على عاتق النساء على بعد إقصائي غير محتسب ولا محسوس، إذ لا يُعتَرف بأهمية هذا العمل للناتج القومي العام، علماً أن العمل المنزلي يُعدّ نشاطاً اقتصادياً يضيف قيمة وينتج الثروة والرفاهية الاجتماعية، بحسب البنك الدولي.  

وبنظر المجتمع الذكوري، فإن العمل المنزلي لا يُعترف به حتى على مستوى الجهد الجسدي، إذ تغلب فكرة “هي غسل امواعين وتنظيف.. شمسويه انتي طالعة عمالة”، مقابل مثلاً العمل في مجال البناء والذي يهيمن عليه الرجال، فإنه وعلى صعوبته، فهو مثمن ومحدد بوقت ويتضمن أوقات استراحة، ويمتلك العامل إمكانية رفض العمل أو حجم الأجر المقرر، ويمتلك قدرة قول “لا” ومغادرة موقع العمل دون أن يعاقب بالتعنيف اللفظي أو الجسدي أو بنبذ مجتمعي أو وصم أو فك رابطة زوجية لمجرد رفضه.  

وحتى دوائر تمكين المرأة والمنظمات النسوية التي تطالب بضرورة إشراكها في الاقتصاد، يفوتها بأن لا اقتصاد أو إنتاج قائم من دون الإنتاج الاجتماعي الذي تمارسه المرأة يومياً، في وقت تبقى هي معطلة اقتصادياً دون اعتراف بأهميتها الاقتصادية. وتخشى الدولة مثل هذا الاعتراف لأن من شأنه أن يضع على عاتقها مهمة وضع سياسات تفرض شبكة حماية اجتماعية للمرأة وعائلتها، مثل حضانات طفولة مبكرة مجانية وغيرها؛ وهي التي يعتقد كثر من العراقيين أن نقصها هو من أكبر العوائق أمام دخول المرأة سوق العمل، بموجب مسح البارومتر العربي 2021-2022.  

علاوة على ذلك، فإن رغبة الدولة بالتحول إلى النيوليبرالية بنقل امتياز دوائر الدولة التي تقدم خدمات اجتماعية بأجور مناسبة إلى القطاع الخاص، قد أدت إلى ارتفاع أجور الحضانات مثلاً، فأصبحت العاملات من الأمهات يفاضلن ما بين أهمية العمل ومستوى أجوره وبين ما تنفقه على دور الحضانة.   

لا يقتصر عدم اعتراف الدولة والمجتمع بعمل النساء المنزلي على أنه “عمل” دون مردود مادي، بل يعني ذلك أنها غير قادرة على الانخراط في سوق، إذ بلغ معدل مشاركة النساء بالقوى العاملة 10.6 بالمئة مقابل 68 بالمئة من الذكور في عام 2021، وفق مسح للقوى العاملة أجرته وزارة التخطيط بالتعاون مع منظمة العمل الدولية. 

كما يفرض العمل المنزلي على النساء اختيار الأعمال ذات الدوام الجزئي أو الأعمال القريبة من العمل الرعائي، إذ وجد مسح وزارة التخطيط أن المهن التي تهيمن عليها النساء، هي التعليم الابتدائي ورياض الأطفال، ثم التعليم الثانوي وتتبعها صناعة الملابس والمهن المرتبطة بها، والتي عادة ما تكون أجورها منخفضة مقارنة بمناصب إدارية، والتي تشغل النساء نسبة 17.5 بالمئة منها فقط في العراق.  

وقد أدى إيكال مهمة إعادة الإنتاج الاجتماعي بشكل مجاني للنساء إلى دفعهن نحو الفضاء الخاص (البيت)، وخلق أمامهن صعوبة الوصول إلى الموارد وعدم الاستقلالية المادية المفضية إلى دائرة من الفقر والعنف والمرض غير المنتهية، التي قد تصل بهن إلى الجريمة كالتسول والبغاء بشكله الرسمي المعلن أو غير الرسمي بصيغ دينية.  

مجتمع يحكم على المرأة من وقتها! 

عملت لفترة في رياض الأطفال وراقبت سلوك الأمهات العاملات بشكل يومي وهن يأتين بأطفالهن مع غذاء يكفي لشخص بالغ في الكثير من الأحيان، في محاولة منهن لدفع عقدة الذنب التي صنعها المجتمع تجاه النساء العاملات. كانت تعتلي وجوههن نظرة المقصر عن أداء دوره. 

تحاول الأمهات اللواتي يأتين بأطفالهن إلى الحضانات تبرير خروجهن من المنزل بأنه إما للعمل لتحسين مستوى عائلاتهن المادي أو من أجل الدراسة، وكلاهما يعتبرنه هدفا استراتيجيا واحدا. أما اللواتي لا يبررن أسباب إدخال أطفالهن إلى الحضانة أو تكون الأسباب متعلقة بالترفيه وليس بالعمل بالضرورة، فكن يثرن امتعاض العاملات الأخريات بالروضة وكأنهن مذنبات. 

تنعكس نظرة المجتمع تجاه المرأة وتوقعاته منها على المرأة نفسها.  

فمن جهة باتت مفاهيم مثل “معدلة” و”ترفة” و”نظيفة” و”بيتها ينأكل عليه الزبد” معايير للتنافس بين النساء أنفسهن على حساب وقت إراحة اجسادهن، فقط من أجل الحصول على الرضا المجتمعي. تتنازل المرأة عن الاهتمام بصحتها وتطوير وعيها واهتمامها بالشأن العام لأجل الأسرة والطفل، وإذا ما زاحم ما ترغب به الطفل والأسرة، فتعيش طوال الوقت في حالة تأنيب ضمير وعقدة ذنب مبررة بأنماط اجتماعية مفروضة على الأم بما يجب أن تفعل وما يجب أن لا تفعل.  

تصل الأمور في الكثير من الحالات إلى أن تنهك الكثيرات صحتهن بشكل مبكر فيجنح شريكها إلى استبدالها بعلاقات غرامية أو زواج بمباركة المجتمع الذي يرى أن من حق الزوج استبدال زوجته “المريضة” بأخرى تلبي متطلباته.  

من جهة أخرى، فإن المجتمع ذاته، ومع تقدم الوقت، هو من يفرض معايير المرأة الناجحة بكونها منجبة ومربيّة جيدة ومستقلة اقتصادياً ومتعلمة وعاملة ناجحة في عملها وذات جسم صحي ووجه جميل الخ.. ولكن في نهاية اليوم، عندما تتوفر فسحة وقت للمرأة في يومها تقف حائرة بين متطلباتها بتطوير نفسها، أو بالعناية بجسدها وشكلها وصحتها، أم الاستمتاع والترفيه دون صخب الأطفال، أو أخذ قسط من الراحة، وهي التي تعيش حالة مستمرة من التعاسة والتوتر بسبب ضغط العمل المنزلي والعمل المأجور.  

عليه، هل يساعد المجتمع المرأة في خيار تطوير نفسها عبر الدراسة بالساعات الشحيحة التي تبقى لها في آخر النهار؟ هل يمكّنها من الالتحاق بمقاعد الدراسة قبل أن تتجاوز العتبة العمرية المفروضة بقرارات وزارة التعليم أو التربية، والتي تتغاضى عن الساعات التي تقضيها في العمل المنزلي فتقصيها عن مقاعد الدراسة المجانية، وتخيرها بين الدراسة المسائية أو الكليات الأهلية ذات الأجور المرتفعة وبين التخلي عن أحلامها حينما يكبر أطفالها، علماً أن ذلك شرط منافٍ لمبدأ تكافؤ الفرص المذكور في الدستور العراقي في المادة 16.  

الـ24 ساعة في يوم المرأة هي بالتالي ملكية خاصة قابلة للنقل، فعند زواج امرأة تنقل ملكية جسدها وكذلك وقتها وكل حياتها من أسرة الأب الى أسرة الزوج، ويبات من غير المقبول اجتماعياً أن ترفض منح ذلك الوقت لغير العمل الرعائي.   

أمهاتنا وجداتنا ندبن حظهن مرات كثراً وهن يستذكرن انسحاق أعمارهن وأجسادهن بين تلك الأعمال غير المقدرة او غير المرئية اجتماعياً واقتصادياً، ولذلك نرغب بتثمينه مالياً على شكل أجور شهرية أو دور رعاية للأطفال وكبار السن مجانية تماماً.  

هي 24 ساعة صادرها المجتمع والدولة من المرأة ومن حقها بأن تعيشها لنفسها أيضاً.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

كنت أغسل الصحون بعد العشاء عندما رفع طفلي صوت التلفاز على فقرة برنامج خصصت لموضوع التنمية البشرية، حيث كان مدرب التنمية يقول بأننا نملك الـ24 ساعة نفسها التي ملكها توماس أديسون وآينشتاين ومارك زغربرك وبيل غيتس وستيف جوبز، وأنهم لم يحققوا كل تلك الإنجازات بـ44 ساعة في اليوم بل بالـ24 ساعة نفسها التي نملكها جميعاً.. ولكن المشكلة تكمن في عدم استثمار الوقت. 

 “جميل جميل.. الأخ يملك 24 ساعة ويبدو الآخرون كذلك..  لماذا أنا لا أملكها ملكا خالصا صرفا من الأصل؟!”، سألت نفسي متهكمة. 

هذا سؤال تطرحه الكثير من النساء -ليس في العراق فقط- على أنفسهن يومياً، ويرافقه شعور دائم بضيق الوقت وقلة الإنجاز، ما يجعلنا تعيسات وكثيرات التفكير ومُجهَدات من ضغط البيت ورعاية أطفالنا وأسرنا، علاوة على أعمالنا خارج البيت إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا.  

أين يذهب يوم المرأة، وهل هو حقاً لها؟ 

أيام مبنيّة للمجهول  

ترزح النساء تحت وطأة العمل والرعاية المنزلية، فيما ترين زملاءهن من الذكور يحصّلون الشهادات العليا ويسافرون ويتقدمون في مجالاتهم المختلفة، دون عبء التفكير بمن سيرعى أطفالهم ويهتم ببيوتهم. 

“أسرد لنا كيف تقضي وقتك بعد انتهاء العمل لطفاً علنا نتعلم منك تنظيم الوقت”، سألت مديري في العمل، حينما قال لي ولمجموعة من زميلاتي ذات يوم بأننا نملك الكثير من الوقت بعد انتهاء الدوام، ومن المهم استثماره بدل تصفح مواقع التواصل الاجتماعي بأخذ دورات تدريبية أو مطالعة كتاب أو حضور فيديوهات تعليمية على اليوتيوب. 

ردّ المدير قائلاً أنه يعود للمنزل، يستحم، يلتقط ملابسه المكويّة النظيفة من الخزانة ثم يتناول طعاماً ساخناً وصحياً ثم يشاهد التلفاز قليلاً، يتبعها بقيلولة.. قبل أن يردف بسرد مهامه اليومية لتثقيف الذات والعناية بالنفس. ضحكت إحدى الزميلات وردّت عليه: “يومك العادي هذا لهو يومٌ من أحلامي التي لا أستطيع تحقيقها”، فيما رددتُ بأن الكتاب المحاذي لسريري لا ينقصه سوى أن يبكي لأقرأ منه أكثر من صفحتين كل يوم. 

لم يعلم وربما لم ينتبه الرجل، وكثر غيره، لفرق التوقيت بين النساء والرجال، إذ أن الساعة السابعة صباحاً مثلاً بتوقيت الرجال مختلفة تماماً عن الساعة السابعة صباحاً بتوقيت النساء. 

فعندما يستيقظ أي رجل عامل إلى يوم هيأته له النساء مسبقاً، وهن اللواتي يستيقظن قبله بساعة أو ساعتين لتجهيز لوازمه ولوازم أطفالهم: يجهزن الفطور للطفل الكبير (الزوج) وفطورا دافئا بصناديق صغيرة لبقية الأطفال وتلبيسهم أو مساعدتهم على ارتداء الملابس التي نظفت وكويت قبل ليلة، وتصفيف شعرهم والتأكد من أن حقائبهم المدرسية لا ينقصها شيء، ثم توصيلهم إلى المدرسة أو الى المواصلات، ثم يرتدين ملابسهن على عجالة والتأكد من أن المنزل سيُغلق آمناً، من إغلاق الكهرباء والماء والشبابيك وغيرها، لتستقل المرأة بعدها وسيلة المواصلات وتذهب هي الأخرى إلى عملها المأجور أو تواصل عملها المنزلي غير المأجور. 

في نظر الرجال، وحتى الدولة، باتت هذه الأيام مبنية للمجهول وليست من صنيع النساء. 

العمل المنزلي.. غير محسوس ولا محسوب  

تُمضي المرأة العراقية حوالي ست ساعات من يومها، أي ربع اليوم، في العمل والرعاية المنزلية، ويُقدّر أن 86 بالمئة من العمل المنزلي غير المدفوع في العراق، تقوم به الطفلات أو النساء، وفقاً لمسح أجرته منظمة العمل الدولية.   

ويُعرّف العمل المنزلي الرعائي على أنه الأنشطة والعلاقات التي تلبي الاحتياجات الجسدية والنفسية والعاطفية للبالغين والأطفال، سواء كانوا كباراً أو صغاراً، ضعافاً أو قادرين جسدياً. 

ينطوي العمل المنزلي الواقع بغالبيته على عاتق النساء على بعد إقصائي غير محتسب ولا محسوس، إذ لا يُعتَرف بأهمية هذا العمل للناتج القومي العام، علماً أن العمل المنزلي يُعدّ نشاطاً اقتصادياً يضيف قيمة وينتج الثروة والرفاهية الاجتماعية، بحسب البنك الدولي.  

وبنظر المجتمع الذكوري، فإن العمل المنزلي لا يُعترف به حتى على مستوى الجهد الجسدي، إذ تغلب فكرة “هي غسل امواعين وتنظيف.. شمسويه انتي طالعة عمالة”، مقابل مثلاً العمل في مجال البناء والذي يهيمن عليه الرجال، فإنه وعلى صعوبته، فهو مثمن ومحدد بوقت ويتضمن أوقات استراحة، ويمتلك العامل إمكانية رفض العمل أو حجم الأجر المقرر، ويمتلك قدرة قول “لا” ومغادرة موقع العمل دون أن يعاقب بالتعنيف اللفظي أو الجسدي أو بنبذ مجتمعي أو وصم أو فك رابطة زوجية لمجرد رفضه.  

وحتى دوائر تمكين المرأة والمنظمات النسوية التي تطالب بضرورة إشراكها في الاقتصاد، يفوتها بأن لا اقتصاد أو إنتاج قائم من دون الإنتاج الاجتماعي الذي تمارسه المرأة يومياً، في وقت تبقى هي معطلة اقتصادياً دون اعتراف بأهميتها الاقتصادية. وتخشى الدولة مثل هذا الاعتراف لأن من شأنه أن يضع على عاتقها مهمة وضع سياسات تفرض شبكة حماية اجتماعية للمرأة وعائلتها، مثل حضانات طفولة مبكرة مجانية وغيرها؛ وهي التي يعتقد كثر من العراقيين أن نقصها هو من أكبر العوائق أمام دخول المرأة سوق العمل، بموجب مسح البارومتر العربي 2021-2022.  

علاوة على ذلك، فإن رغبة الدولة بالتحول إلى النيوليبرالية بنقل امتياز دوائر الدولة التي تقدم خدمات اجتماعية بأجور مناسبة إلى القطاع الخاص، قد أدت إلى ارتفاع أجور الحضانات مثلاً، فأصبحت العاملات من الأمهات يفاضلن ما بين أهمية العمل ومستوى أجوره وبين ما تنفقه على دور الحضانة.   

لا يقتصر عدم اعتراف الدولة والمجتمع بعمل النساء المنزلي على أنه “عمل” دون مردود مادي، بل يعني ذلك أنها غير قادرة على الانخراط في سوق، إذ بلغ معدل مشاركة النساء بالقوى العاملة 10.6 بالمئة مقابل 68 بالمئة من الذكور في عام 2021، وفق مسح للقوى العاملة أجرته وزارة التخطيط بالتعاون مع منظمة العمل الدولية. 

كما يفرض العمل المنزلي على النساء اختيار الأعمال ذات الدوام الجزئي أو الأعمال القريبة من العمل الرعائي، إذ وجد مسح وزارة التخطيط أن المهن التي تهيمن عليها النساء، هي التعليم الابتدائي ورياض الأطفال، ثم التعليم الثانوي وتتبعها صناعة الملابس والمهن المرتبطة بها، والتي عادة ما تكون أجورها منخفضة مقارنة بمناصب إدارية، والتي تشغل النساء نسبة 17.5 بالمئة منها فقط في العراق.  

وقد أدى إيكال مهمة إعادة الإنتاج الاجتماعي بشكل مجاني للنساء إلى دفعهن نحو الفضاء الخاص (البيت)، وخلق أمامهن صعوبة الوصول إلى الموارد وعدم الاستقلالية المادية المفضية إلى دائرة من الفقر والعنف والمرض غير المنتهية، التي قد تصل بهن إلى الجريمة كالتسول والبغاء بشكله الرسمي المعلن أو غير الرسمي بصيغ دينية.  

مجتمع يحكم على المرأة من وقتها! 

عملت لفترة في رياض الأطفال وراقبت سلوك الأمهات العاملات بشكل يومي وهن يأتين بأطفالهن مع غذاء يكفي لشخص بالغ في الكثير من الأحيان، في محاولة منهن لدفع عقدة الذنب التي صنعها المجتمع تجاه النساء العاملات. كانت تعتلي وجوههن نظرة المقصر عن أداء دوره. 

تحاول الأمهات اللواتي يأتين بأطفالهن إلى الحضانات تبرير خروجهن من المنزل بأنه إما للعمل لتحسين مستوى عائلاتهن المادي أو من أجل الدراسة، وكلاهما يعتبرنه هدفا استراتيجيا واحدا. أما اللواتي لا يبررن أسباب إدخال أطفالهن إلى الحضانة أو تكون الأسباب متعلقة بالترفيه وليس بالعمل بالضرورة، فكن يثرن امتعاض العاملات الأخريات بالروضة وكأنهن مذنبات. 

تنعكس نظرة المجتمع تجاه المرأة وتوقعاته منها على المرأة نفسها.  

فمن جهة باتت مفاهيم مثل “معدلة” و”ترفة” و”نظيفة” و”بيتها ينأكل عليه الزبد” معايير للتنافس بين النساء أنفسهن على حساب وقت إراحة اجسادهن، فقط من أجل الحصول على الرضا المجتمعي. تتنازل المرأة عن الاهتمام بصحتها وتطوير وعيها واهتمامها بالشأن العام لأجل الأسرة والطفل، وإذا ما زاحم ما ترغب به الطفل والأسرة، فتعيش طوال الوقت في حالة تأنيب ضمير وعقدة ذنب مبررة بأنماط اجتماعية مفروضة على الأم بما يجب أن تفعل وما يجب أن لا تفعل.  

تصل الأمور في الكثير من الحالات إلى أن تنهك الكثيرات صحتهن بشكل مبكر فيجنح شريكها إلى استبدالها بعلاقات غرامية أو زواج بمباركة المجتمع الذي يرى أن من حق الزوج استبدال زوجته “المريضة” بأخرى تلبي متطلباته.  

من جهة أخرى، فإن المجتمع ذاته، ومع تقدم الوقت، هو من يفرض معايير المرأة الناجحة بكونها منجبة ومربيّة جيدة ومستقلة اقتصادياً ومتعلمة وعاملة ناجحة في عملها وذات جسم صحي ووجه جميل الخ.. ولكن في نهاية اليوم، عندما تتوفر فسحة وقت للمرأة في يومها تقف حائرة بين متطلباتها بتطوير نفسها، أو بالعناية بجسدها وشكلها وصحتها، أم الاستمتاع والترفيه دون صخب الأطفال، أو أخذ قسط من الراحة، وهي التي تعيش حالة مستمرة من التعاسة والتوتر بسبب ضغط العمل المنزلي والعمل المأجور.  

عليه، هل يساعد المجتمع المرأة في خيار تطوير نفسها عبر الدراسة بالساعات الشحيحة التي تبقى لها في آخر النهار؟ هل يمكّنها من الالتحاق بمقاعد الدراسة قبل أن تتجاوز العتبة العمرية المفروضة بقرارات وزارة التعليم أو التربية، والتي تتغاضى عن الساعات التي تقضيها في العمل المنزلي فتقصيها عن مقاعد الدراسة المجانية، وتخيرها بين الدراسة المسائية أو الكليات الأهلية ذات الأجور المرتفعة وبين التخلي عن أحلامها حينما يكبر أطفالها، علماً أن ذلك شرط منافٍ لمبدأ تكافؤ الفرص المذكور في الدستور العراقي في المادة 16.  

الـ24 ساعة في يوم المرأة هي بالتالي ملكية خاصة قابلة للنقل، فعند زواج امرأة تنقل ملكية جسدها وكذلك وقتها وكل حياتها من أسرة الأب الى أسرة الزوج، ويبات من غير المقبول اجتماعياً أن ترفض منح ذلك الوقت لغير العمل الرعائي.   

أمهاتنا وجداتنا ندبن حظهن مرات كثراً وهن يستذكرن انسحاق أعمارهن وأجسادهن بين تلك الأعمال غير المقدرة او غير المرئية اجتماعياً واقتصادياً، ولذلك نرغب بتثمينه مالياً على شكل أجور شهرية أو دور رعاية للأطفال وكبار السن مجانية تماماً.  

هي 24 ساعة صادرها المجتمع والدولة من المرأة ومن حقها بأن تعيشها لنفسها أيضاً.