"حمير وفطايس" أزمة ثقة وأسعار بين العراقي واللحوم الحمراء  

مهند فارس

09 نيسان 2024

رحلة في العوالم العلنية والخفيّة لتجارة اللحوم الحمراء.. أين تُذبح وكيف؟ من أين تستورد؟ وكيف دخلت "الحمير" و"الفطايس" منافساً لـ"الهرفي"؟ عن أزمةِ ثقةٍ وأسعارٍ بين العراقي واللحوم الحمراء.. 

جهاز الأمن الوطني، ومكافحة الجريمة المنظمة، ولجان تفتيشية من وزارتي التجارة والزراعة، كلها لم تسهم في السيطرة على أسعار السوق؛ وحتى مع إعلان السلطات انخفاض أسعار اللحم العراقي إلى 18 ألف دينار للكيلوغرام الواحد، ما يزال السوق يبيع أعلى من التسعيرة الرسمية، ففي آخر تحديث لقوائم الأسعار يتراوح كيلو اللحم المحلّي بين 20 و22 ألف دينار عراقي.   

زاد على ذلك بيع اللحوم المستوردة “المجمّدة” التي لا يفضلها العراقيون عادةً، على أنها لحوم عراقية، وبسعر المحلّي، المفضل على الموائد العراقية.  

  

    

لعبة الاستيراد   

في 21 شباط 2024، وجّه وزير الزراعة بفتح استيراد الأبقار والأغنام لأغراض الذبح والتربية، وللسيطرة على أسعار اللحوم العراقية في الأسواق. على إثره قررت الأمانة العامة لمجلس الوزراء تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على الحيوانات المستوردة لأغراض الذبح لتصبح 2 بالمئة فقط للمواشي المخصصة للذبح، و4 بالمئة للمواشي المستوردة لأغراض التربية بدلاً من 10 بالمئة. 

ثلاثة مصادر، بالإضافة إلى مواطنين من بغداد وصلاح الدين، سألهم جمّار عن استيراد اللحوم والمواشي، يعتقدون أن الحملات الرقابية ضد باعة اللحوم كانت مجرد إلهاء للمواطنين، وأنها لم تكن سوى وسيلة لتبرير استيراد الدولة للحوم.    

تدخل هذه البضائع إلى العراق عبر منفذين، هما ميناء العقبة الأردني وموانئ محافظة البصرة، ولاستمرار تدفق المواشي، خفضت الموانئ الأردنية الرسوم الضريبية عليها بنسبة 75 بالمئة، وهذه لم تكن الخطوة الحكومية الأولى من نوعها، فقد سبقتها خطوة مشابهة في نيسان 2024.   

  سابقاً، ركز العراق استيراده على اللحوم المذبوحة، ووصل مجمل وارداته في عام 2020 من اللحوم المجمدة والمثرومة إلى 102 ألف طن، تصدّرت الهند هذه القائمة بحوالي 48 ألف طن، تلتها الولايات المتحدة بـ 21 ألف طن، على الرغم من أن كردستان العراق “حظر” دخول اللحم الهندي إلى أراضيه.   

الاستيراد الحكومي لا يتوافق مع بيانات سابقة لوزارة الزراعة، التي أعلنت في تشرين الأول 2022، ارتفاع عدد رؤوس الماشية إلى أكثر من 20 مليون رأس، بعد أن كانت 11 مليوناً في عام 2017، وينافي أيضاً آخر إحصائية رسمية في هذا الشأن، والتي تشير إلى إنتاج العراق أكثر من 192 ألف طن في عام 2022.  

  

محافظات عديدة فتحت أبوابها أمام هذا الاستيراد مؤخراً، بسبب الغلاء في أسعار اللحم، وخاصة الأسترالي منه، إضافة إلى اللحوم الهندية والأمريكية، بدأت اللحوم الأسترالية تغزو الأسواق مؤخراً، بعد أن اتجهت محافظات عدّة للاستيراد منه، بشكليه: اللحوم المجمدة والمواشي الحية، وخاصة الأغنام الأسترالية.     

اللحم المستورد يجذب بعض المواطنين بسبب رخص سعره، “يا أخي اللحم الأسترالي نظيف ويستوي بسرعة وزفرة قليلة”، هكذا يعتقد محمد رضا (36 عاماً) وهو موظف في وزارة المالية ببغداد، ويضيف أن مشكلة اللحم الأسترالي هو حاجته إلى تتبيلة إضافية أثناء طبخه، فهو لا يشبه العراقي في طعمه.    

هذا الرأي لا يجد صدىً واسعاً داخل المجتمع العراقي، فرغم رخص ثمن اللحوم المستوردة والتي تقدر بـ7 آلاف دينار عراقي للكيلوغرام، حوالي 3 دولارات، ورغم أن استهلاك الفرد في العراق للحوم الحمراء يصل إلى أكثر من 20 كغم سنوياً، ولكن يتجنب شراءها الكثير من الناس، ويرجع بعضهم هذا التجنب إلى اختلاف طعمها عن اللحم العراقي “الهرفي” كما يطلق عليه محلياً، في حين يرجع السبب الأبرز إلى خوف الناس من شراء لحوم الحيوانات الميتة أو النافقة.     

  

جدل الدين والمعدة  

يحرّم الدين الإسلامي لحوم الميتة، ويعتقد كثيرون أن هذا التحريم ينطبق على اللحوم المستوردة، فهي ذبحت وفقاً للطرق الشائعة في البلدان غير الإسلامية، يُقتل فيها الحيوان ثم يُسلخ ويقطّع مع دمائه، على عكس الطريقة الإسلامية بإفراغ دم الحيوان عند ذبحه مع توجيهه باتجاه القبلة.   

لم يكن هذا السبب وحيداً، إذ يعزف الكثيرون عن شراء اللحوم المستوردة بسبب رخص ثمنها نسبة إلى الدول المصدرة لها، فمثلاً؛ يتراوح سعر الكيلو غرام الواحد من اللحم الأحمر في أستراليا ما بين 7 و19 دولارا أمريكيا، في حين لا يتجاوز سعره 5 دولارات في العراق، الذي قطع مسافات طويلة قبل أن يصله.     

يعتقد أناس أنّ سبب هذا الرخص الشديد يرجع إلى غش اللحوم، ولجوء الكثير من تجاره إلى شراء المواشي النافقة من مربيها ثم بيعها بعد تمويهها بأختام أجنبية توحي باستيرادها.   

علاء مصبح، متخصص زراعي يمتلك أحد مزارع تربية المواشي في محافظة ميسان، يقول لجمّار، “بعد كل أزمة تلحق بالمواشي، يحاول التجار إقناع المربين من أجل بيعهم جثث هذه الحيوانات، ويعرضون مبلغ 500 ألف دينار، حوالي 350 دولارا على الرأس الواحد للجاموس”.   

ويؤكد لجمّار، رفض الكثير من المربين في المحافظة لهذه الإغراءات، لأسباب دينية وإنسانية، ويفضلون استخدام جثثها بديلاً للأسمدة الزراعية.   

في آب 2023، نفق أكثر من 7 آلاف رأس من الجاموس في قضاء الجبايش، التابع لمحافظة ذي قار، وبسبب استفحال الأزمة وجه مجلس المحافظة طلباً إلى مجلس الوزراء من أجل التدخل المباشر في حلها.   

لا تقتصر الأزمة على محاولة التجار بيع اللحوم الميتة على المواطنين، فبعض التجار يلجأ إلى ذبح الحمير وبيعها تحت مسمى لحوم البقر.   

   

الحمير بدل البقر   

أصبحت تجارة اللحوم من أخطر أنواع التجارة، يتخوف الناس من شرائها، ويعتمدون على باعة موثوقين في الحصول عليها، وفي بعض المناطق الشعبية في بغداد، تُباع لحوم الحمير من خلال إيهام المشتري بأنّها لحوم أبقار، وكذلك في بعض المحافظات الأخرى. 

في البصرة مثلاً، انخفضت نسبة بيع اللحوم مطلع العام الحالي، بنحو 40 بالمئة، نتيجة لانتشار ظاهرة بيع لحوم الحمير بدل البقر في المحافظة، وفي أيار 2023، فتحت الجهات الأمنية تحقيقاً بعد ضبط 50 حماراً في منطقة باب سنجار التابع لمحافظة نينوى، ادّعى أصحابها عزمهم على بيعها إلى معامل الطابوق في محافظات أخرى.   

  

وفي محافظة النجف أغلقت القوات الأمنية أحد مطاعم المشويّات بسبب الاشتباه في تورطه بتقديم “كباب” الحمير لزبائنه، وكان هذا المطعم لديه جناح خاص بالعوائل. 

أواخر 2023، ألقت شرطة محافظة بابل القبض على 3 أشخاص بتهمة سرقة الحمير، اعترف المتهمون لاحقاً بذبحها وبيعها إلى المطاعم، وهو ما يؤكد المزاعم التي تحوم حول ذبحها وبيع لحومها في الأسواق، وفي عام 2019 عثرت القوات الأمنية على مخزن لبيع لحوم الحمير في محافظة كربلاء.  

هذه الظاهرة ليست جديدة في العراق، ويرجع التركيز عليها إلى عام 2015، بعد اتهام أحد مقاولي تجهيز الطعام للأجهزة الأمنية بتقديم لحوم الحمير للقوات الأمنية، مدعياً أنّها لحوم مواشٍ مستوردة من البرازيل والهند، قبل أن تكشفه وزارة الصحة.   

تُذبح معظم هذه الذبائح في مناطق نائية، بعيداً عن أعين الناس، ويلجأ البعض الآخر إلى المسالخ المحلية لإتمامها، فبحسب سجاد الربيعي، وهو أحد باعة اللحوم في بغداد، تتعامل بعض المذابح المحلية مع هؤلاء التجّار، ويحددون توقيتات معيّنة بعد العمل، وبعد انسحاب باقي باعة اللحوم من المجزرة، يتبادلون المال ولحوم الحمير.  

تصوير: فاروق الجمل. 

يتفق مع هذا غانم عمر الزوبعي، بائع اللحوم من محافظة بغداد أيضاً، ويتحدث لجمّار عن استفحال هذه الظاهرة، التي لا تحدث في منطقة معينة، إذ يمكن تورط أي بائع لحوم في هذه الممارسات وبيع لحوم الحمير أو المواشي الميتة “الفطايس” كما تسمّى محلياً، ولكنها تنتشر في المناطق الشعبية وبين الطبقات الفقيرة على وجه الخصوص، إذ تجذب أسعارها الرخيصة نسبياً هذه الطبقات.    

يعاقب القانون العراقي رقم 146 لسنة 1998 على ارتكاب مثل هذه الجريمة، وتنصّ مادته الأولى على، “يعد بيع لحوم الكلاب أو الحمير أو غيرها من اللحوم غير المعدة أو غير الصالحة للاستهلاك البشري، على أنّها لحوم خراف أو أبقار أو غيرها من اللحوم المعدة والصالحة للاستهلاك البشري جريمة من الجرائم المتعلقة بالصحة ومبادئ الدستور العامة”، ويعاقب المخالفين وفقاً لمادته الثانية بـ”السجن مدة لا تقل عن سبع سنوات ولا تزيد على عشر سنوات”.  

بحسب مصدر فضّل عدم ذكر اسمه؛ تتورط المجازر الحكومية في هذه السلوكيات أيضاً، ويؤكد هذا المسؤول عن أحد المجازر في بغداد لجمّار، أن هذه الحالة تتم بالإكراه في بعض الأحيان، وتهديد المسؤولين من أجل تنفيذ عملية الذبح، ويضيف “إحنا ما نكدر نسيطر عليهم لأن بعضهم مسنودين”. ويستدرك بالقول، “أن مجازر أخرى توافق على هذا السلوك مقابل رشاوى تصل إلى 100 دولار نظير ذبح رأس الحمار الواحد”.   

   

  

مجازر متواطئة   

بحسب تصريحات وزارة الزراعة لوكالة الأنباء العراقية في عام 2021، يصل عدد المجازر الكلي في عموم البلاد إلى 106 مجازر، تعمل منها 53 فقط، وأهملت البقية دون تحديد مصيرها، ولكن هذا التصريح ينافي ما ذكره الجهاز المركزي للإحصاء في العام نفسه، إذ أشار إلى وجود 103 مجازر في عموم البلاد، ترجع عائدية 88 منها إلى القطاع الحكومي، وتعمل من بين هذه المجازر الحكومية، 47 مجزرة بشكل جزئي، فيما عُطلت 56 منها.   

مطلع عام 2023 أكدت وزارة الزراعة في تصريح لجريدة الصباح الرسمية، وجود 4 مجازر عاملة في بغداد فقط، وأكدت حاجتها إلى 12 مجزرة إضافية من أجل سد العجز الحاصل في عدد المجازر.   

لم تكن اللحوم البيضاء بمعزل عن الأزمة، وتتشابه مع اللحوم الحمراء، بطريقة التسويق والذبح غير القانوني، ويعترف أحد باعة الدواجن، بشرائه لمجموعة من الدجاج الميت وبيعه داخل محله، ولكنه يقول إنّه “يُنبّه الزبائن قبل بيعهم اللحم أنه لدجاج ميت”.  

  

  

يصل عدد مجازر اللحوم البيضاء الحكومية والخاصة إلى 63 مجزرة في عموم البلاد، وتعمل منها 26 مجزرة فقط، ترجع عائديتها إلى القطاع الخاص، بحسب تصريحات وزارة الزراعة لوكالات الأنباء، وتتمركز هذه المسالخ في المناطق الريفية وأطراف المُدن غالباً، ومنها أربع في نينوى واثنتان في بابل وواحدة في ديالى، إضافة إلى محافظتي بغداد وكربلاء.   

   

   

تجارة مربحة  

لا يزال تاريخ بدء هذه الظاهرة مجهولاً، ولكن ساعدت الأزمة البيئية على استفحالها، فالجفاف صاعد من عدد نفوق الحيوانات، يلجأ مربوها إلى بيع هذه الحيوانات الميتة بثمن بخس لتفادي خسارتهم، يشتري التجّار هذه الحيوانات وتباع لحومها تالياً في الأسواق.   

أصحاب المطاعم هم أكثر زبائن هؤلاء التجّار، يشترونها رخيصة من أجل تحقيق نسبة ربح عالية بعد بيعها داخل مطاعمهم، وكذلك بالنسبة للحوم الحمير، فرغم القدرة على اكتشافها قبل طبخها عبر رائحتها المشابهة لروائح إسطبلات الخيول، أو عبر أنسجتها السميكة على عكس باقي المواشي ذات الملمس الناعم وقليلة الدهون، فدهون الحمير نحاسية اللون وتظهر بقع زيتية عند طبخها، ولكن يصعب اكتشافها بعد طبخها في المطاعم أو إضافتها الى أسياخ المشويات، بحسب تصريح الشيف عمار العزاوي، الذي يؤكد أن إضافة التوابل إلى طبخات اللحم تبعد الشبهات عنها، أو سلقها أوقاتاً إضافية لإزالة الدهون الزائدة وزيادة طراوتها.   

 إضافة إلى كل ذلك، تستفحل ظواهر أخرى مثل ذبح المواشي المريضة قبل موتها وبيعها بغض النظر عما تحمله من أمراض، وفي ظل كل ذلك، بدأ الناس يتجهون إلى شراء المواشي فردياً أو بالاتفاق مع أقاربهم أو جيرانهم وذبحها في بيوتهم ثم تقسيمها في ما بينهم، من أجل تجنب مثل هذه الظواهر.   

   

تصوير، فاروق الجمل. 

   

تأثيرات صحية   

قانون تنظيم ذبح الحيوانات المُعدل لعام 1990، أكد في مادته الأولى ضرورة توفر الشروط الصحية والفنية في المجازر والمحال الخاصة، ومنها عدم ذبح المواشي بدون إشراف الأطباء البيطريين والجهات المعنية، ومنع بيع اللحوم بدون ختم رسمي يؤكد صلاحيتها، والالتزام بشروط النقل ووسائل التخزين.   

كما ألزمت المادة السادسة من القانون عدم ممارسة مهنة الجزارة، إلا بعد التأكد من صحة المُتقدم وتقديم تعهد خطي بعد مزاولة المهنة في الأماكن غير المجازة وعدم بيع اللحوم غير المختومة بالختم الرسمي أو التداول والتعامل بها.   

في الوقت الحالي ليست هناك شروط معينة للعاملين في المجازر الحيوانية الحكومية، وتتفوق مجازر القطاع الخاص على الحكومية من ناحية النظافة بنسبة بسيطة، فالأخيرة تتخوف على سمعتها، ولكن ذلك لا يعفي بعضهم من تهم الغش هذه.   

معظم المجازر في العراق تعاني من الإهمال، إذ تغيب مساحات التهوية المفروضة عليهم من قبل الجهات المعنية، مثل غياب الشبابيك والأبواب، وتالياً انتشار الحشرات داخلها إضافة إلى افتقار معظمها إلى شبكات مياه الإسالة، وغياب المضخات اللازمة لغسل اللحوم بالماء الحار، وشبكات الصرف الصحي.   

وكذلك بالنسبة لحظائر الحيوانات حيث تتجمع فيها الفضلات الصلبة والسائلة وإهمال نظافتها وغياب أجهزة التكييف والتبريد لحفظ اللحوم من التعفن، كل ذلك ساهم في استفحال الأزمة، وبيع اللحوم المغشوشة أو بالأحرى الناقلة للأمراض.   

  

يقول سلمان الركابي، الطبيب المختص بالأمراض المعدية، إن غياب هذه الجوانب يساعد بشكل كبير على احتضان البكتيريا داخل اللحوم، وهي من أبرز مسببات التسمم إضافة إلى الأمراض الجلدية والتنفسية الناتجة عن الفطريات النامية فيها. 

ليس هذا فحسب، إذ يشير إلى أن تسرّب هذه الفضلات إلى داخل التربة زاد من نسبة الأمونيا الموجودة فيها، والإضرار بالأراضي الزراعية القريبة من المسالخ، وتالياً نقل كل الفايروسات الناتجة عنها إلى النباتات المزروعة فيها، ومن ثم بيع محاصيل زراعية ملوثة بايلوجياً.   

  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

جهاز الأمن الوطني، ومكافحة الجريمة المنظمة، ولجان تفتيشية من وزارتي التجارة والزراعة، كلها لم تسهم في السيطرة على أسعار السوق؛ وحتى مع إعلان السلطات انخفاض أسعار اللحم العراقي إلى 18 ألف دينار للكيلوغرام الواحد، ما يزال السوق يبيع أعلى من التسعيرة الرسمية، ففي آخر تحديث لقوائم الأسعار يتراوح كيلو اللحم المحلّي بين 20 و22 ألف دينار عراقي.   

زاد على ذلك بيع اللحوم المستوردة “المجمّدة” التي لا يفضلها العراقيون عادةً، على أنها لحوم عراقية، وبسعر المحلّي، المفضل على الموائد العراقية.  

  

    

لعبة الاستيراد   

في 21 شباط 2024، وجّه وزير الزراعة بفتح استيراد الأبقار والأغنام لأغراض الذبح والتربية، وللسيطرة على أسعار اللحوم العراقية في الأسواق. على إثره قررت الأمانة العامة لمجلس الوزراء تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على الحيوانات المستوردة لأغراض الذبح لتصبح 2 بالمئة فقط للمواشي المخصصة للذبح، و4 بالمئة للمواشي المستوردة لأغراض التربية بدلاً من 10 بالمئة. 

ثلاثة مصادر، بالإضافة إلى مواطنين من بغداد وصلاح الدين، سألهم جمّار عن استيراد اللحوم والمواشي، يعتقدون أن الحملات الرقابية ضد باعة اللحوم كانت مجرد إلهاء للمواطنين، وأنها لم تكن سوى وسيلة لتبرير استيراد الدولة للحوم.    

تدخل هذه البضائع إلى العراق عبر منفذين، هما ميناء العقبة الأردني وموانئ محافظة البصرة، ولاستمرار تدفق المواشي، خفضت الموانئ الأردنية الرسوم الضريبية عليها بنسبة 75 بالمئة، وهذه لم تكن الخطوة الحكومية الأولى من نوعها، فقد سبقتها خطوة مشابهة في نيسان 2024.   

  سابقاً، ركز العراق استيراده على اللحوم المذبوحة، ووصل مجمل وارداته في عام 2020 من اللحوم المجمدة والمثرومة إلى 102 ألف طن، تصدّرت الهند هذه القائمة بحوالي 48 ألف طن، تلتها الولايات المتحدة بـ 21 ألف طن، على الرغم من أن كردستان العراق “حظر” دخول اللحم الهندي إلى أراضيه.   

الاستيراد الحكومي لا يتوافق مع بيانات سابقة لوزارة الزراعة، التي أعلنت في تشرين الأول 2022، ارتفاع عدد رؤوس الماشية إلى أكثر من 20 مليون رأس، بعد أن كانت 11 مليوناً في عام 2017، وينافي أيضاً آخر إحصائية رسمية في هذا الشأن، والتي تشير إلى إنتاج العراق أكثر من 192 ألف طن في عام 2022.  

  

محافظات عديدة فتحت أبوابها أمام هذا الاستيراد مؤخراً، بسبب الغلاء في أسعار اللحم، وخاصة الأسترالي منه، إضافة إلى اللحوم الهندية والأمريكية، بدأت اللحوم الأسترالية تغزو الأسواق مؤخراً، بعد أن اتجهت محافظات عدّة للاستيراد منه، بشكليه: اللحوم المجمدة والمواشي الحية، وخاصة الأغنام الأسترالية.     

اللحم المستورد يجذب بعض المواطنين بسبب رخص سعره، “يا أخي اللحم الأسترالي نظيف ويستوي بسرعة وزفرة قليلة”، هكذا يعتقد محمد رضا (36 عاماً) وهو موظف في وزارة المالية ببغداد، ويضيف أن مشكلة اللحم الأسترالي هو حاجته إلى تتبيلة إضافية أثناء طبخه، فهو لا يشبه العراقي في طعمه.    

هذا الرأي لا يجد صدىً واسعاً داخل المجتمع العراقي، فرغم رخص ثمن اللحوم المستوردة والتي تقدر بـ7 آلاف دينار عراقي للكيلوغرام، حوالي 3 دولارات، ورغم أن استهلاك الفرد في العراق للحوم الحمراء يصل إلى أكثر من 20 كغم سنوياً، ولكن يتجنب شراءها الكثير من الناس، ويرجع بعضهم هذا التجنب إلى اختلاف طعمها عن اللحم العراقي “الهرفي” كما يطلق عليه محلياً، في حين يرجع السبب الأبرز إلى خوف الناس من شراء لحوم الحيوانات الميتة أو النافقة.     

  

جدل الدين والمعدة  

يحرّم الدين الإسلامي لحوم الميتة، ويعتقد كثيرون أن هذا التحريم ينطبق على اللحوم المستوردة، فهي ذبحت وفقاً للطرق الشائعة في البلدان غير الإسلامية، يُقتل فيها الحيوان ثم يُسلخ ويقطّع مع دمائه، على عكس الطريقة الإسلامية بإفراغ دم الحيوان عند ذبحه مع توجيهه باتجاه القبلة.   

لم يكن هذا السبب وحيداً، إذ يعزف الكثيرون عن شراء اللحوم المستوردة بسبب رخص ثمنها نسبة إلى الدول المصدرة لها، فمثلاً؛ يتراوح سعر الكيلو غرام الواحد من اللحم الأحمر في أستراليا ما بين 7 و19 دولارا أمريكيا، في حين لا يتجاوز سعره 5 دولارات في العراق، الذي قطع مسافات طويلة قبل أن يصله.     

يعتقد أناس أنّ سبب هذا الرخص الشديد يرجع إلى غش اللحوم، ولجوء الكثير من تجاره إلى شراء المواشي النافقة من مربيها ثم بيعها بعد تمويهها بأختام أجنبية توحي باستيرادها.   

علاء مصبح، متخصص زراعي يمتلك أحد مزارع تربية المواشي في محافظة ميسان، يقول لجمّار، “بعد كل أزمة تلحق بالمواشي، يحاول التجار إقناع المربين من أجل بيعهم جثث هذه الحيوانات، ويعرضون مبلغ 500 ألف دينار، حوالي 350 دولارا على الرأس الواحد للجاموس”.   

ويؤكد لجمّار، رفض الكثير من المربين في المحافظة لهذه الإغراءات، لأسباب دينية وإنسانية، ويفضلون استخدام جثثها بديلاً للأسمدة الزراعية.   

في آب 2023، نفق أكثر من 7 آلاف رأس من الجاموس في قضاء الجبايش، التابع لمحافظة ذي قار، وبسبب استفحال الأزمة وجه مجلس المحافظة طلباً إلى مجلس الوزراء من أجل التدخل المباشر في حلها.   

لا تقتصر الأزمة على محاولة التجار بيع اللحوم الميتة على المواطنين، فبعض التجار يلجأ إلى ذبح الحمير وبيعها تحت مسمى لحوم البقر.   

   

الحمير بدل البقر   

أصبحت تجارة اللحوم من أخطر أنواع التجارة، يتخوف الناس من شرائها، ويعتمدون على باعة موثوقين في الحصول عليها، وفي بعض المناطق الشعبية في بغداد، تُباع لحوم الحمير من خلال إيهام المشتري بأنّها لحوم أبقار، وكذلك في بعض المحافظات الأخرى. 

في البصرة مثلاً، انخفضت نسبة بيع اللحوم مطلع العام الحالي، بنحو 40 بالمئة، نتيجة لانتشار ظاهرة بيع لحوم الحمير بدل البقر في المحافظة، وفي أيار 2023، فتحت الجهات الأمنية تحقيقاً بعد ضبط 50 حماراً في منطقة باب سنجار التابع لمحافظة نينوى، ادّعى أصحابها عزمهم على بيعها إلى معامل الطابوق في محافظات أخرى.   

  

وفي محافظة النجف أغلقت القوات الأمنية أحد مطاعم المشويّات بسبب الاشتباه في تورطه بتقديم “كباب” الحمير لزبائنه، وكان هذا المطعم لديه جناح خاص بالعوائل. 

أواخر 2023، ألقت شرطة محافظة بابل القبض على 3 أشخاص بتهمة سرقة الحمير، اعترف المتهمون لاحقاً بذبحها وبيعها إلى المطاعم، وهو ما يؤكد المزاعم التي تحوم حول ذبحها وبيع لحومها في الأسواق، وفي عام 2019 عثرت القوات الأمنية على مخزن لبيع لحوم الحمير في محافظة كربلاء.  

هذه الظاهرة ليست جديدة في العراق، ويرجع التركيز عليها إلى عام 2015، بعد اتهام أحد مقاولي تجهيز الطعام للأجهزة الأمنية بتقديم لحوم الحمير للقوات الأمنية، مدعياً أنّها لحوم مواشٍ مستوردة من البرازيل والهند، قبل أن تكشفه وزارة الصحة.   

تُذبح معظم هذه الذبائح في مناطق نائية، بعيداً عن أعين الناس، ويلجأ البعض الآخر إلى المسالخ المحلية لإتمامها، فبحسب سجاد الربيعي، وهو أحد باعة اللحوم في بغداد، تتعامل بعض المذابح المحلية مع هؤلاء التجّار، ويحددون توقيتات معيّنة بعد العمل، وبعد انسحاب باقي باعة اللحوم من المجزرة، يتبادلون المال ولحوم الحمير.  

تصوير: فاروق الجمل. 

يتفق مع هذا غانم عمر الزوبعي، بائع اللحوم من محافظة بغداد أيضاً، ويتحدث لجمّار عن استفحال هذه الظاهرة، التي لا تحدث في منطقة معينة، إذ يمكن تورط أي بائع لحوم في هذه الممارسات وبيع لحوم الحمير أو المواشي الميتة “الفطايس” كما تسمّى محلياً، ولكنها تنتشر في المناطق الشعبية وبين الطبقات الفقيرة على وجه الخصوص، إذ تجذب أسعارها الرخيصة نسبياً هذه الطبقات.    

يعاقب القانون العراقي رقم 146 لسنة 1998 على ارتكاب مثل هذه الجريمة، وتنصّ مادته الأولى على، “يعد بيع لحوم الكلاب أو الحمير أو غيرها من اللحوم غير المعدة أو غير الصالحة للاستهلاك البشري، على أنّها لحوم خراف أو أبقار أو غيرها من اللحوم المعدة والصالحة للاستهلاك البشري جريمة من الجرائم المتعلقة بالصحة ومبادئ الدستور العامة”، ويعاقب المخالفين وفقاً لمادته الثانية بـ”السجن مدة لا تقل عن سبع سنوات ولا تزيد على عشر سنوات”.  

بحسب مصدر فضّل عدم ذكر اسمه؛ تتورط المجازر الحكومية في هذه السلوكيات أيضاً، ويؤكد هذا المسؤول عن أحد المجازر في بغداد لجمّار، أن هذه الحالة تتم بالإكراه في بعض الأحيان، وتهديد المسؤولين من أجل تنفيذ عملية الذبح، ويضيف “إحنا ما نكدر نسيطر عليهم لأن بعضهم مسنودين”. ويستدرك بالقول، “أن مجازر أخرى توافق على هذا السلوك مقابل رشاوى تصل إلى 100 دولار نظير ذبح رأس الحمار الواحد”.   

   

  

مجازر متواطئة   

بحسب تصريحات وزارة الزراعة لوكالة الأنباء العراقية في عام 2021، يصل عدد المجازر الكلي في عموم البلاد إلى 106 مجازر، تعمل منها 53 فقط، وأهملت البقية دون تحديد مصيرها، ولكن هذا التصريح ينافي ما ذكره الجهاز المركزي للإحصاء في العام نفسه، إذ أشار إلى وجود 103 مجازر في عموم البلاد، ترجع عائدية 88 منها إلى القطاع الحكومي، وتعمل من بين هذه المجازر الحكومية، 47 مجزرة بشكل جزئي، فيما عُطلت 56 منها.   

مطلع عام 2023 أكدت وزارة الزراعة في تصريح لجريدة الصباح الرسمية، وجود 4 مجازر عاملة في بغداد فقط، وأكدت حاجتها إلى 12 مجزرة إضافية من أجل سد العجز الحاصل في عدد المجازر.   

لم تكن اللحوم البيضاء بمعزل عن الأزمة، وتتشابه مع اللحوم الحمراء، بطريقة التسويق والذبح غير القانوني، ويعترف أحد باعة الدواجن، بشرائه لمجموعة من الدجاج الميت وبيعه داخل محله، ولكنه يقول إنّه “يُنبّه الزبائن قبل بيعهم اللحم أنه لدجاج ميت”.  

  

  

يصل عدد مجازر اللحوم البيضاء الحكومية والخاصة إلى 63 مجزرة في عموم البلاد، وتعمل منها 26 مجزرة فقط، ترجع عائديتها إلى القطاع الخاص، بحسب تصريحات وزارة الزراعة لوكالات الأنباء، وتتمركز هذه المسالخ في المناطق الريفية وأطراف المُدن غالباً، ومنها أربع في نينوى واثنتان في بابل وواحدة في ديالى، إضافة إلى محافظتي بغداد وكربلاء.   

   

   

تجارة مربحة  

لا يزال تاريخ بدء هذه الظاهرة مجهولاً، ولكن ساعدت الأزمة البيئية على استفحالها، فالجفاف صاعد من عدد نفوق الحيوانات، يلجأ مربوها إلى بيع هذه الحيوانات الميتة بثمن بخس لتفادي خسارتهم، يشتري التجّار هذه الحيوانات وتباع لحومها تالياً في الأسواق.   

أصحاب المطاعم هم أكثر زبائن هؤلاء التجّار، يشترونها رخيصة من أجل تحقيق نسبة ربح عالية بعد بيعها داخل مطاعمهم، وكذلك بالنسبة للحوم الحمير، فرغم القدرة على اكتشافها قبل طبخها عبر رائحتها المشابهة لروائح إسطبلات الخيول، أو عبر أنسجتها السميكة على عكس باقي المواشي ذات الملمس الناعم وقليلة الدهون، فدهون الحمير نحاسية اللون وتظهر بقع زيتية عند طبخها، ولكن يصعب اكتشافها بعد طبخها في المطاعم أو إضافتها الى أسياخ المشويات، بحسب تصريح الشيف عمار العزاوي، الذي يؤكد أن إضافة التوابل إلى طبخات اللحم تبعد الشبهات عنها، أو سلقها أوقاتاً إضافية لإزالة الدهون الزائدة وزيادة طراوتها.   

 إضافة إلى كل ذلك، تستفحل ظواهر أخرى مثل ذبح المواشي المريضة قبل موتها وبيعها بغض النظر عما تحمله من أمراض، وفي ظل كل ذلك، بدأ الناس يتجهون إلى شراء المواشي فردياً أو بالاتفاق مع أقاربهم أو جيرانهم وذبحها في بيوتهم ثم تقسيمها في ما بينهم، من أجل تجنب مثل هذه الظواهر.   

   

تصوير، فاروق الجمل. 

   

تأثيرات صحية   

قانون تنظيم ذبح الحيوانات المُعدل لعام 1990، أكد في مادته الأولى ضرورة توفر الشروط الصحية والفنية في المجازر والمحال الخاصة، ومنها عدم ذبح المواشي بدون إشراف الأطباء البيطريين والجهات المعنية، ومنع بيع اللحوم بدون ختم رسمي يؤكد صلاحيتها، والالتزام بشروط النقل ووسائل التخزين.   

كما ألزمت المادة السادسة من القانون عدم ممارسة مهنة الجزارة، إلا بعد التأكد من صحة المُتقدم وتقديم تعهد خطي بعد مزاولة المهنة في الأماكن غير المجازة وعدم بيع اللحوم غير المختومة بالختم الرسمي أو التداول والتعامل بها.   

في الوقت الحالي ليست هناك شروط معينة للعاملين في المجازر الحيوانية الحكومية، وتتفوق مجازر القطاع الخاص على الحكومية من ناحية النظافة بنسبة بسيطة، فالأخيرة تتخوف على سمعتها، ولكن ذلك لا يعفي بعضهم من تهم الغش هذه.   

معظم المجازر في العراق تعاني من الإهمال، إذ تغيب مساحات التهوية المفروضة عليهم من قبل الجهات المعنية، مثل غياب الشبابيك والأبواب، وتالياً انتشار الحشرات داخلها إضافة إلى افتقار معظمها إلى شبكات مياه الإسالة، وغياب المضخات اللازمة لغسل اللحوم بالماء الحار، وشبكات الصرف الصحي.   

وكذلك بالنسبة لحظائر الحيوانات حيث تتجمع فيها الفضلات الصلبة والسائلة وإهمال نظافتها وغياب أجهزة التكييف والتبريد لحفظ اللحوم من التعفن، كل ذلك ساهم في استفحال الأزمة، وبيع اللحوم المغشوشة أو بالأحرى الناقلة للأمراض.   

  

يقول سلمان الركابي، الطبيب المختص بالأمراض المعدية، إن غياب هذه الجوانب يساعد بشكل كبير على احتضان البكتيريا داخل اللحوم، وهي من أبرز مسببات التسمم إضافة إلى الأمراض الجلدية والتنفسية الناتجة عن الفطريات النامية فيها. 

ليس هذا فحسب، إذ يشير إلى أن تسرّب هذه الفضلات إلى داخل التربة زاد من نسبة الأمونيا الموجودة فيها، والإضرار بالأراضي الزراعية القريبة من المسالخ، وتالياً نقل كل الفايروسات الناتجة عنها إلى النباتات المزروعة فيها، ومن ثم بيع محاصيل زراعية ملوثة بايلوجياً.