دخول المجمعات الطبية والخروج منها: عيادات مُتكلفة وعلاجات مُكلفة 

مهند فارس

31 آذار 2024

"أغلب طبيبات الأمراض النسائية يُدخلن أكثر من مريضة دفعة واحدة، ما يمنعني من التحدث بحرية للطبيبة خجلاً من الجالسات".. عن دخول العيادات المتكلفة في المجمعات الطبية.. والخروج منها بكلف مالية كبيرة

من أجل الحصول على راتب يفوق الراتب الشهري الحكومي بأكثر من ضعف، قرّرت رنا الجبوري، طبيبة متخصصة بالأمراض الجلدية، الاستقالة من وظيفتها الحكومية والالتحاق بأحد المجمعات الطبية في بغداد. 

كانت الجبوري تتقاضى مليوناً ونصف المليون دينار شهرياً (نحو 980 دولاراً) من الوظيفة الحكومية، لكنها في وظيفتها الجديدة في المجمع الطبي أصبحت تتقاضى أربعة ملايين دينار. 

ولا تشعر بالندم حيال تخليها عن وظيفتها الحكومية لصالح الوظيفة الأهلية بسبب الفرق الكبير بين الراتبين. 

“واحدة من الإيجابيات أنني كنت أعمل 12 ساعة يومياً في مستشفى غازي الحريري الحكومي، أما في المجمع فأعمل ست ساعات يومياً وبراتب أعلى” تقول لـ”جمّار”. 

وتلقي هذه الأجور العالية الضوء على الأرباح الهائلة التي تحققها المجمعات الطبية الآخذة بالانتشار في مختلف مدن العراق، ولاسيما بغداد. 

لم تكن هذه المجمعات شائعة حتى بداية القرن الحالي، وكانت العيادات الخاصة للأطباء هي الأماكن المعروفة والمقصودة عندما يُراد مراجعة طبيب. 

ولكن في بداية الألفية الثالثة، بدأت تظهر مجمعات طبية “تعاونية”، وهي أهلية تشرف عليها الحكومة وتقدم خدماتها بأسعار مخفضة مقارنة بأسعار العيادات الخاصة. 

وظهرت هذه المجمعات في المناطق الشعبية الفقيرة على الأغلب. 

بدأت هذه الظاهرة بالتطور والاتساع بعد عام 2003، وفي السنوات العشر الأخيرة سار نجم العيادات نحو الأفول أمام بريق المجمعات. 

وصار كثير من الأطباء يفضل استئجار عيادة جديدة في أحد المجمعات ومغادرة عيادته القديمة بحثاً عن مكان أكثر نظافة وأناقة. 

كما أن توافر كل وسائل التحليل والفحص الساند في المجمع الواحد، يوفر الوقت على الطبيب والمريض ويسرّع من التشخيص، وهذا عامل آخر يشجع الأطباء على الانتقال إلى المجمعات، كما يقول أسامة إسماعيل المتخصص بطب المجتمع. 

بُنيت على مدار السنوات الماضية مئات المجمعات في المناطق المعروفة بأنها مراكز رئيسة للأطباء وكل ما يتعلق بالصحة في بغداد، وأبرزها الحارثية وساحة الواثق وساحة بيروت. 

ارتفاع مباني بعض هذه المجمعات يصل إلى خمسة طوابق أو أكثر، وهي تتألف من عشرات العيادات المتجاورة. 

ويتسابق أصحاب المجمعات على إضفاء طابع الفخامة عليها عبر الديكورات والإنارة والمصاعد وما إلى ذلك. 

كما أنهم يحرصون على أن يضم المجمع -إلى جانب العيادات- صيدلية ومختبراً وعيادة للأشعة والسونار والمفراس والرنين، ليحصل المريض على كل الخدمات في مكان واحد. 

ولكن لكل شيء ثمنه. 

فالمريض صار مطالباً بدفع أجور أعلى للأطباء مقابل حصوله على صالة انتظار مكيّفة ومريحة ومصعد وعيادة ذات مرأى فاخر. 

ولأن إيجار العيادة داخل المجمع في المناطق الطبية الحيوية يصل إلى 1600 دولار أو أكثر شهرياً، يرفع الطبيب أجرة المعاينة. 

وصلت أجرة بعض الأطباء في الحارثية وساحة الواثق وساحة بيروت إلى 50 ألف دينار أو أكثر. 

ولعل غلاء الإيجارات من أبرز أسباب تجاهل أطباء كثيرين قراراً لنقابة الأطباء صدر في أيار 2022، حدد أجرة معاينة الطبيب الممارس بـ15 ألف دينار والاختصاصي بـ25 ألفاً والاستشاري بـ40 ألفاً. 

ولم يتوقف جشع البعض منهم عند حدود أجرة المعاينة. 

هناك أطباء يعتمدون طرقاً ملتوية لاستخراج أكبر قدر من المال من جيب المريض، كالمماطلة في حسم التشخيص والعلاج. 

حصل ذلك مع رحاب مهدي، وهي امرأة أصيبت بسرطان الثدي واستُئصل ثديها المصاب. 

بقيت بعد عملية الاستئصال تراجع الطبيبة التي أجرت الجراحة لها لمدة أربعة أشهر. 

وكانت كلما تذهب إليها تطلب منها تحاليل وفحوصات جديدة بداعي التأكد من استقرار حالتها. 

وكلفتها هذه المراجعات أكثر من ثلاثة ملايين دينار. 

وبعد أن شعرت بأنها تتعرض لنوع من الاحتيال، قررت الذهاب إلى طبيب آخر. 

وشاءت الصدف أن هذا الطبيب “ابن أوادم” كما تصفه في حديثها لـ”جمّار”. 

فقد أبلغها فور إجراء الفحوصات اللازمة لها بأنها تعافت من المرض ولم يعد للورم وجود في جسدها بعد استئصاله مع الثدي. 

وتظن رحاب أن استحداث المجمعات الفخمة ذات الإيجارات الباهظة واحد من الأسباب الأساسية التي تدفع بعض الأطباء إلى اتباع أساليب “غير مهنية وغير أخلاقية” لتعظيم المردودات بما يغطي النفقات ويحقق الأرباح. 

وفي هذا الصدد، تتحدث ماريا حكيم يونان (33 عاماً) بامتعاض عن ظاهرة إدخال أكثر من مريض إلى غرفة الطبيب من دون أي مراعاة للخصوصية. 

“أغلب طبيبات الأمراض النسائية يدخلن أكثر من مريضة دفعة واحدة، ما يمنعني من التحدث بحرية للطبيبة خجلاً من الجالسات” تقول لـ”جمّار”. 

وهي مقتنعة بأن السبب وراء هذا التصرف استقبال أكبر عدد ممكن من المراجعات في اليوم ولو على حساب الخصوصية والوقت الذي تحتاج المريضة قضاءه مع الطبيبة. 

وبينما تقر زينة الموسوي، طبيبة متخصصة بالأمراض النسائية، بإدخالها من ثلاث إلى خمس مريضات دفعة واحدة إلى غرفتها لفحصهن، تنفي أن يكون سبب ذلك اللهاث وراء المال، وتعزوه إلى تلبية رغبات المراجعات بعدم تأجيل معاينتهن إلى أيام أخرى، وتفادي جلوس المنتظرات ساعات طويلة في صالة الانتظار. 

ويعمد كثير من الأطباء إلى استخدام أساليب للحصول على مردودات جانبية، منها عقد اتفاقات مع صيدليات ومختبرات وعيادات فحوصات ساندة تتضمن دفع نسبة للطبيب عن كل وصفة دوائية أو مجموعة تحاليل أو فحوصات يحيلها إليها. 

ولن يتمكن المريض من الالتفاف على هذه الاتفاقات والذهاب إلى صيدلية بعيدة عن عيادة الطبيب لشراء دواء منها، ذلك أن الطبيب يستخدم شفرات في كتابة أسماء الأدوية لا يفهمها إلا الصيدليّ المتعامل معه. 

علاوة على أن المريض لا يريد المجازفة بشراء دواء قد يكون مختلفاً من ناحية الفاعلية عن ذلك الذي كتبه الطبيب. 

ومن أجل توجيه المريض إلى مختبر ما أو عيادة أشعة وسونار وغير ذلك، يخبره الطبيب بأنه لا يثق بغيرها. 

وتقول صيدلانية لـ”جمّار” طالبةً عدم ذكر اسمها، إن الاتفاق قد يتضمن قيام الصيدلية بدفع الإيجار الشهري لعيادة الطبيب وتحمل تكاليف تأثيثها. 

وتتضمن اتفاقات أخرى دفع نسبة من أرباح الصيدلية تتراوح بين 10 و15 بالمئة، بحسب عدد الوصفات المرسلة. 

وتصل النسبة إلى 50 بالمئة للأطباء المعروفين باسم “First Class” بين أوساط الصيادلة، وهم الأطباء المشهورون الذين تستقبل عياداتهم أعداداً كبيرة من المرضى يومياً. 

هذه الاتفاقات تسببت بإنفاق غير مجدٍ لسوسن مجيد الرافعي. 

شعرت الرافعي ذات يوم بعدم انتظام ضربات القلب، فزارت طبيباً متخصصاً بالأمراض القلبية عيادته في واحد من مجمعات الحارثية قيل لها إنه “فاهم”. 

كتب الطبيب دواء لها اسمه “سنتروم” تتناوله لمدة أسبوعين واشترته بمبلغ 90 ألف دينار، وطلب منها مراجعته بعد انتهاء مدة العلاج لغرض متابعة حالتها. 

شعرت بأن المدة قصيرة بالنسبة لدورة علاجية، فاستفسرت من أحد الصيادلة في منطقة سكنها في بغداد، فأخبرها بأن هذا الدواء ليس سوى مجموعة فيتامينات لا يتجاوز سعر نوعيات أخرى منها 25 ألف دينار. 

لكنها اشترته بـ90 ألفاً لأنه أمريكي المنشأ. 

ومرّت وصال محمد، امرأة تسكن بغداد، بحالة مشابهة لحالة الرافعي. 

زارت وصال طبيباً في أحد مجمعات الحارثية أيضاً لمعالجة علة أصابت مفصلاً من مفاصلها. 

كتب لها الطبيب دواء أمريكي المنشأ اسمه “أوستيو باي فليكس” بسعر 130 ألف دينار. 

غير أنها علمت في ما بعد أن دواء يؤدي الغرض والمفعول ذاتهما اسمه “أوستيوكير بلس” يباع في صيدليات أخرى بمبلغ 15 ألف دينار فقط. 

حماية المخالفات 

عيادات الفحوصات الساندة، مثل التحاليل والأشعة والسونار والرنين المغناطيسي والمفراس، الواقعة في مجمعات المناطق الحيوية، لها صولات شرسة هي الأخرى على أموال المرضى. 

خلال جولة أجراها “جمّار” في منطقتي الحارثية وساحة بيروت للاستفسار عن الأسعار، اتضح أن سعر الكشف عن السرطان داخل مراكز الأشعة والرنين المغناطيسي يتراوح بين 100 و200 ألف دينار. 

وتبلغ كلفة فحص وظائف الكلية والفشل الكلوي 35 ألف دينار، وكذلك بالنسبة لتحليل هرمونات الغدة الدرقية. 

أما الأشعة المقطعية فيصل سعرها إلى 25 ألف دينار، بينما يبلغ سعر تحليل السكري وفقر الدم 15 ألف دينار لكل منهما. 

ويكلف فحص السمع في بعض مجمعات الحارثية 50 ألف دينار، فيما يصل سعر تنظيم السماعات الطبية إلى 25 ألف دينار للسماعة الواحدة.  

وفي مناطق أخرى، تقل أسعار الفحوصات المماثلة بكثير عن الأسعار في هاتين المنطقتين. 

ومن المفترض أن وزارة الصحة تتابع هذه الأسعار وتمنع المغالاة فيها، إلا أنها متابعة شكلية على ما يبدو. 

يقول أحد أعضاء اللجان التفتيشية في الوزارة لـ”جمّار”، طالباً عدم ذكر اسمه، إن حملات التفتيش هي “مجرد تصريحات إعلامية”، ذلك أن الوزارة غير قادرة على ضبط الأسعار لأن معظم الأطباء صاروا يجيدون التعامل مع مداهمات اللجان وخداعها بأنهم ملتزمون بالتسعيرة الرسمية. 

وبخصوص أسعار الأدوية في الصيدليات، يقول د. محمود شاكر، أمين سر مجلس نقابة الصيادلة، إن النقابة عملت مع وزارة الصحة على وضع تسعيرة دوائية، لكن تطبيقها قد يمتد إلى المستقبل البعيد. 

ويضيف في تصريح لـ”جمّار” أن الفساد طال عديداً من لجان التفتيش، ويوجد مسؤولون عدة في الوزارة ونقابات المهن الصحية يملكون مجمعات طبية في المناطق الحيوية، وذلك ما يعرقل تطبيق القرارات والتسعيرات. 

وتحظى المجمعات المملوكة لمتنفذين بحماية من أي محاسبة حتى وإن احتوت على مخالفات. 

على سبيل المثال، تنص المادة 5 من قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 221 لعام 1970 الساري حتى اليوم، على أن لا تقل مساحة الصيدلية عن 20 متراً مربعاً، ولا تقل المسافة بين صيدلية وأخرى عن 50 متراً. 

ولا ينطبق ذلك على الصيدليات المتجاورة في المجمعات. 

وتفيد عضوة في نقابة الصيادلة تحدثت لـ”جمّار” شريطة عدم ذكر اسمها، بأن المتنفذين يعرقلون تطبيق هذا القانون على مجمعاتهم أو مجمعات المقربين منهم، وهم لا يستخدمونه إلا عند الحاجة لضرب المنافسين. 

وبينما لا تتوافر إحصائيات رسمية بشأن عدد المجمعات الطبية في العراق، يخمّن مصدر صحي وجود نحو ألفي مجمع مجاز وغير مجاز في بغداد وحدها. 

ويقول إن نحو 40 بالمئة من هذا المجمعات مملوكة لـ”حيتان الفساد” في الوزارة والنقابات. 

ورفضت وزارة الصحة طلبات عدة من “جمّار” للتعليق على هذه التفاصيل. 

ماذا يقول الأطباء؟ 

لا يعدّ إسماعيل تجربة المجمعات الطبية سيئة، ويذهب برأيه إلى أن أي حالة سلبية ليست بالضرورة على صلة بوجود المجمعات من عدمه. 

ومع أنه يدين عقد بعض الأطباء اتفاقات ذات طابع ربحي مع صيدليات ومختبرات ومراكز فحوصات، يشير إلى أن هناك أطباء يتعاملون مع صيدليات ومختبرات محددة لثقتهم بها من أجل توفير أدوية بجودة عالية وفحوصات دقيقة لمرضاهم وبأسعار مناسبة. 

“الطبيب بذلك يؤدي رسالته الإنسانية وواجبه تجاه المريض ليحصل على أفضل خدمة” يقول لنا. 

أما مهدي الساعدي، طبيب متخصص بالأمراض القلبية، فيعدّ المخالفات في بعض المجمعات الطبية حنثاً بقسم أبقراط الذي يردده طالب كلية الطب عند تخرجه. 

ويرى الساعدي في حديث لـ”جمّار” أن من الضروري استقلال الطبيب في عيادة خاصة بعيداً عن الأنماط التجارية المتجردة من الإنسانية في المجمعات. 

وبينما يشدد الساعدي على عدم التعميم، والأخذ بنظر الاعتبار وجود أطباء كثيرين ما زالوا ملتزمين بالأجور المحددة من وزارة الصحة، يعزو محسن الشيخلي، المتخصص بالأمراض الجلدية، سبب ارتفاع الأجور إلى غلاء الإيجارات، ولاسيما في المناطق الحيوية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

من أجل الحصول على راتب يفوق الراتب الشهري الحكومي بأكثر من ضعف، قرّرت رنا الجبوري، طبيبة متخصصة بالأمراض الجلدية، الاستقالة من وظيفتها الحكومية والالتحاق بأحد المجمعات الطبية في بغداد. 

كانت الجبوري تتقاضى مليوناً ونصف المليون دينار شهرياً (نحو 980 دولاراً) من الوظيفة الحكومية، لكنها في وظيفتها الجديدة في المجمع الطبي أصبحت تتقاضى أربعة ملايين دينار. 

ولا تشعر بالندم حيال تخليها عن وظيفتها الحكومية لصالح الوظيفة الأهلية بسبب الفرق الكبير بين الراتبين. 

“واحدة من الإيجابيات أنني كنت أعمل 12 ساعة يومياً في مستشفى غازي الحريري الحكومي، أما في المجمع فأعمل ست ساعات يومياً وبراتب أعلى” تقول لـ”جمّار”. 

وتلقي هذه الأجور العالية الضوء على الأرباح الهائلة التي تحققها المجمعات الطبية الآخذة بالانتشار في مختلف مدن العراق، ولاسيما بغداد. 

لم تكن هذه المجمعات شائعة حتى بداية القرن الحالي، وكانت العيادات الخاصة للأطباء هي الأماكن المعروفة والمقصودة عندما يُراد مراجعة طبيب. 

ولكن في بداية الألفية الثالثة، بدأت تظهر مجمعات طبية “تعاونية”، وهي أهلية تشرف عليها الحكومة وتقدم خدماتها بأسعار مخفضة مقارنة بأسعار العيادات الخاصة. 

وظهرت هذه المجمعات في المناطق الشعبية الفقيرة على الأغلب. 

بدأت هذه الظاهرة بالتطور والاتساع بعد عام 2003، وفي السنوات العشر الأخيرة سار نجم العيادات نحو الأفول أمام بريق المجمعات. 

وصار كثير من الأطباء يفضل استئجار عيادة جديدة في أحد المجمعات ومغادرة عيادته القديمة بحثاً عن مكان أكثر نظافة وأناقة. 

كما أن توافر كل وسائل التحليل والفحص الساند في المجمع الواحد، يوفر الوقت على الطبيب والمريض ويسرّع من التشخيص، وهذا عامل آخر يشجع الأطباء على الانتقال إلى المجمعات، كما يقول أسامة إسماعيل المتخصص بطب المجتمع. 

بُنيت على مدار السنوات الماضية مئات المجمعات في المناطق المعروفة بأنها مراكز رئيسة للأطباء وكل ما يتعلق بالصحة في بغداد، وأبرزها الحارثية وساحة الواثق وساحة بيروت. 

ارتفاع مباني بعض هذه المجمعات يصل إلى خمسة طوابق أو أكثر، وهي تتألف من عشرات العيادات المتجاورة. 

ويتسابق أصحاب المجمعات على إضفاء طابع الفخامة عليها عبر الديكورات والإنارة والمصاعد وما إلى ذلك. 

كما أنهم يحرصون على أن يضم المجمع -إلى جانب العيادات- صيدلية ومختبراً وعيادة للأشعة والسونار والمفراس والرنين، ليحصل المريض على كل الخدمات في مكان واحد. 

ولكن لكل شيء ثمنه. 

فالمريض صار مطالباً بدفع أجور أعلى للأطباء مقابل حصوله على صالة انتظار مكيّفة ومريحة ومصعد وعيادة ذات مرأى فاخر. 

ولأن إيجار العيادة داخل المجمع في المناطق الطبية الحيوية يصل إلى 1600 دولار أو أكثر شهرياً، يرفع الطبيب أجرة المعاينة. 

وصلت أجرة بعض الأطباء في الحارثية وساحة الواثق وساحة بيروت إلى 50 ألف دينار أو أكثر. 

ولعل غلاء الإيجارات من أبرز أسباب تجاهل أطباء كثيرين قراراً لنقابة الأطباء صدر في أيار 2022، حدد أجرة معاينة الطبيب الممارس بـ15 ألف دينار والاختصاصي بـ25 ألفاً والاستشاري بـ40 ألفاً. 

ولم يتوقف جشع البعض منهم عند حدود أجرة المعاينة. 

هناك أطباء يعتمدون طرقاً ملتوية لاستخراج أكبر قدر من المال من جيب المريض، كالمماطلة في حسم التشخيص والعلاج. 

حصل ذلك مع رحاب مهدي، وهي امرأة أصيبت بسرطان الثدي واستُئصل ثديها المصاب. 

بقيت بعد عملية الاستئصال تراجع الطبيبة التي أجرت الجراحة لها لمدة أربعة أشهر. 

وكانت كلما تذهب إليها تطلب منها تحاليل وفحوصات جديدة بداعي التأكد من استقرار حالتها. 

وكلفتها هذه المراجعات أكثر من ثلاثة ملايين دينار. 

وبعد أن شعرت بأنها تتعرض لنوع من الاحتيال، قررت الذهاب إلى طبيب آخر. 

وشاءت الصدف أن هذا الطبيب “ابن أوادم” كما تصفه في حديثها لـ”جمّار”. 

فقد أبلغها فور إجراء الفحوصات اللازمة لها بأنها تعافت من المرض ولم يعد للورم وجود في جسدها بعد استئصاله مع الثدي. 

وتظن رحاب أن استحداث المجمعات الفخمة ذات الإيجارات الباهظة واحد من الأسباب الأساسية التي تدفع بعض الأطباء إلى اتباع أساليب “غير مهنية وغير أخلاقية” لتعظيم المردودات بما يغطي النفقات ويحقق الأرباح. 

وفي هذا الصدد، تتحدث ماريا حكيم يونان (33 عاماً) بامتعاض عن ظاهرة إدخال أكثر من مريض إلى غرفة الطبيب من دون أي مراعاة للخصوصية. 

“أغلب طبيبات الأمراض النسائية يدخلن أكثر من مريضة دفعة واحدة، ما يمنعني من التحدث بحرية للطبيبة خجلاً من الجالسات” تقول لـ”جمّار”. 

وهي مقتنعة بأن السبب وراء هذا التصرف استقبال أكبر عدد ممكن من المراجعات في اليوم ولو على حساب الخصوصية والوقت الذي تحتاج المريضة قضاءه مع الطبيبة. 

وبينما تقر زينة الموسوي، طبيبة متخصصة بالأمراض النسائية، بإدخالها من ثلاث إلى خمس مريضات دفعة واحدة إلى غرفتها لفحصهن، تنفي أن يكون سبب ذلك اللهاث وراء المال، وتعزوه إلى تلبية رغبات المراجعات بعدم تأجيل معاينتهن إلى أيام أخرى، وتفادي جلوس المنتظرات ساعات طويلة في صالة الانتظار. 

ويعمد كثير من الأطباء إلى استخدام أساليب للحصول على مردودات جانبية، منها عقد اتفاقات مع صيدليات ومختبرات وعيادات فحوصات ساندة تتضمن دفع نسبة للطبيب عن كل وصفة دوائية أو مجموعة تحاليل أو فحوصات يحيلها إليها. 

ولن يتمكن المريض من الالتفاف على هذه الاتفاقات والذهاب إلى صيدلية بعيدة عن عيادة الطبيب لشراء دواء منها، ذلك أن الطبيب يستخدم شفرات في كتابة أسماء الأدوية لا يفهمها إلا الصيدليّ المتعامل معه. 

علاوة على أن المريض لا يريد المجازفة بشراء دواء قد يكون مختلفاً من ناحية الفاعلية عن ذلك الذي كتبه الطبيب. 

ومن أجل توجيه المريض إلى مختبر ما أو عيادة أشعة وسونار وغير ذلك، يخبره الطبيب بأنه لا يثق بغيرها. 

وتقول صيدلانية لـ”جمّار” طالبةً عدم ذكر اسمها، إن الاتفاق قد يتضمن قيام الصيدلية بدفع الإيجار الشهري لعيادة الطبيب وتحمل تكاليف تأثيثها. 

وتتضمن اتفاقات أخرى دفع نسبة من أرباح الصيدلية تتراوح بين 10 و15 بالمئة، بحسب عدد الوصفات المرسلة. 

وتصل النسبة إلى 50 بالمئة للأطباء المعروفين باسم “First Class” بين أوساط الصيادلة، وهم الأطباء المشهورون الذين تستقبل عياداتهم أعداداً كبيرة من المرضى يومياً. 

هذه الاتفاقات تسببت بإنفاق غير مجدٍ لسوسن مجيد الرافعي. 

شعرت الرافعي ذات يوم بعدم انتظام ضربات القلب، فزارت طبيباً متخصصاً بالأمراض القلبية عيادته في واحد من مجمعات الحارثية قيل لها إنه “فاهم”. 

كتب الطبيب دواء لها اسمه “سنتروم” تتناوله لمدة أسبوعين واشترته بمبلغ 90 ألف دينار، وطلب منها مراجعته بعد انتهاء مدة العلاج لغرض متابعة حالتها. 

شعرت بأن المدة قصيرة بالنسبة لدورة علاجية، فاستفسرت من أحد الصيادلة في منطقة سكنها في بغداد، فأخبرها بأن هذا الدواء ليس سوى مجموعة فيتامينات لا يتجاوز سعر نوعيات أخرى منها 25 ألف دينار. 

لكنها اشترته بـ90 ألفاً لأنه أمريكي المنشأ. 

ومرّت وصال محمد، امرأة تسكن بغداد، بحالة مشابهة لحالة الرافعي. 

زارت وصال طبيباً في أحد مجمعات الحارثية أيضاً لمعالجة علة أصابت مفصلاً من مفاصلها. 

كتب لها الطبيب دواء أمريكي المنشأ اسمه “أوستيو باي فليكس” بسعر 130 ألف دينار. 

غير أنها علمت في ما بعد أن دواء يؤدي الغرض والمفعول ذاتهما اسمه “أوستيوكير بلس” يباع في صيدليات أخرى بمبلغ 15 ألف دينار فقط. 

حماية المخالفات 

عيادات الفحوصات الساندة، مثل التحاليل والأشعة والسونار والرنين المغناطيسي والمفراس، الواقعة في مجمعات المناطق الحيوية، لها صولات شرسة هي الأخرى على أموال المرضى. 

خلال جولة أجراها “جمّار” في منطقتي الحارثية وساحة بيروت للاستفسار عن الأسعار، اتضح أن سعر الكشف عن السرطان داخل مراكز الأشعة والرنين المغناطيسي يتراوح بين 100 و200 ألف دينار. 

وتبلغ كلفة فحص وظائف الكلية والفشل الكلوي 35 ألف دينار، وكذلك بالنسبة لتحليل هرمونات الغدة الدرقية. 

أما الأشعة المقطعية فيصل سعرها إلى 25 ألف دينار، بينما يبلغ سعر تحليل السكري وفقر الدم 15 ألف دينار لكل منهما. 

ويكلف فحص السمع في بعض مجمعات الحارثية 50 ألف دينار، فيما يصل سعر تنظيم السماعات الطبية إلى 25 ألف دينار للسماعة الواحدة.  

وفي مناطق أخرى، تقل أسعار الفحوصات المماثلة بكثير عن الأسعار في هاتين المنطقتين. 

ومن المفترض أن وزارة الصحة تتابع هذه الأسعار وتمنع المغالاة فيها، إلا أنها متابعة شكلية على ما يبدو. 

يقول أحد أعضاء اللجان التفتيشية في الوزارة لـ”جمّار”، طالباً عدم ذكر اسمه، إن حملات التفتيش هي “مجرد تصريحات إعلامية”، ذلك أن الوزارة غير قادرة على ضبط الأسعار لأن معظم الأطباء صاروا يجيدون التعامل مع مداهمات اللجان وخداعها بأنهم ملتزمون بالتسعيرة الرسمية. 

وبخصوص أسعار الأدوية في الصيدليات، يقول د. محمود شاكر، أمين سر مجلس نقابة الصيادلة، إن النقابة عملت مع وزارة الصحة على وضع تسعيرة دوائية، لكن تطبيقها قد يمتد إلى المستقبل البعيد. 

ويضيف في تصريح لـ”جمّار” أن الفساد طال عديداً من لجان التفتيش، ويوجد مسؤولون عدة في الوزارة ونقابات المهن الصحية يملكون مجمعات طبية في المناطق الحيوية، وذلك ما يعرقل تطبيق القرارات والتسعيرات. 

وتحظى المجمعات المملوكة لمتنفذين بحماية من أي محاسبة حتى وإن احتوت على مخالفات. 

على سبيل المثال، تنص المادة 5 من قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 221 لعام 1970 الساري حتى اليوم، على أن لا تقل مساحة الصيدلية عن 20 متراً مربعاً، ولا تقل المسافة بين صيدلية وأخرى عن 50 متراً. 

ولا ينطبق ذلك على الصيدليات المتجاورة في المجمعات. 

وتفيد عضوة في نقابة الصيادلة تحدثت لـ”جمّار” شريطة عدم ذكر اسمها، بأن المتنفذين يعرقلون تطبيق هذا القانون على مجمعاتهم أو مجمعات المقربين منهم، وهم لا يستخدمونه إلا عند الحاجة لضرب المنافسين. 

وبينما لا تتوافر إحصائيات رسمية بشأن عدد المجمعات الطبية في العراق، يخمّن مصدر صحي وجود نحو ألفي مجمع مجاز وغير مجاز في بغداد وحدها. 

ويقول إن نحو 40 بالمئة من هذا المجمعات مملوكة لـ”حيتان الفساد” في الوزارة والنقابات. 

ورفضت وزارة الصحة طلبات عدة من “جمّار” للتعليق على هذه التفاصيل. 

ماذا يقول الأطباء؟ 

لا يعدّ إسماعيل تجربة المجمعات الطبية سيئة، ويذهب برأيه إلى أن أي حالة سلبية ليست بالضرورة على صلة بوجود المجمعات من عدمه. 

ومع أنه يدين عقد بعض الأطباء اتفاقات ذات طابع ربحي مع صيدليات ومختبرات ومراكز فحوصات، يشير إلى أن هناك أطباء يتعاملون مع صيدليات ومختبرات محددة لثقتهم بها من أجل توفير أدوية بجودة عالية وفحوصات دقيقة لمرضاهم وبأسعار مناسبة. 

“الطبيب بذلك يؤدي رسالته الإنسانية وواجبه تجاه المريض ليحصل على أفضل خدمة” يقول لنا. 

أما مهدي الساعدي، طبيب متخصص بالأمراض القلبية، فيعدّ المخالفات في بعض المجمعات الطبية حنثاً بقسم أبقراط الذي يردده طالب كلية الطب عند تخرجه. 

ويرى الساعدي في حديث لـ”جمّار” أن من الضروري استقلال الطبيب في عيادة خاصة بعيداً عن الأنماط التجارية المتجردة من الإنسانية في المجمعات. 

وبينما يشدد الساعدي على عدم التعميم، والأخذ بنظر الاعتبار وجود أطباء كثيرين ما زالوا ملتزمين بالأجور المحددة من وزارة الصحة، يعزو محسن الشيخلي، المتخصص بالأمراض الجلدية، سبب ارتفاع الأجور إلى غلاء الإيجارات، ولاسيما في المناطق الحيوية.