عراقات الأنظمة السياسية: تاريخ التهميش والتسييس للعراق القديم 

جلجامش نبيل

18 آذار 2024

رحلة طويلة في استخدام الأنظمة السياسية لتاريخ العراق القديم: كيف غلّف نظام البعث سومر وبابل بالقومية والعروبية؟ وكيف يحاول النظام الجديد ربط طقوس الإله تموز بالطقوس الدينية؟ عن عراقات الأنظمة السياسية..

تُهيمن على رؤية التاريخ القديم ثلاثة توجهات، ينفي بعضها وجوده أو يتخذه هوية أصلية للمجتمع، أو يستغله لتحقيق مصالحه في التحفيز والتحشيد وبناء هويات جامعة. 

ينظر الاتجاه الأول إلى التاريخ كمرحلة سحيقة لأقوام ميّتة، انقطعت صلتها بالشعوب الراهنة وطواها النسيان قبل أن يُعاد اكتشاف آثارها في أواخر القرن التاسع عشر على يد المنقبين الأجانب، المدفوعين بالبحث عن تاريخ الكتاب المقدس في بلاد النهرين على وجه الخصوص والشرق الأدنى في العموم، وتفضل هذه المجموعة، في العراق، التركيز على التاريخ المعاصر والحقب العربية الإسلامية بصفتها أشد اتصالاً بثقافة المجتمع الحالي. 

أمّا الاتجاه الثاني، فيرى أن التاريخ القديم يمثل الهوية الأصلية للأرض والشعب، ويصرّ على وجوب التركيز عليه، ومنهم من يتطرّف في الأمر ويسعى إلى إحيائه ونبذ الحقب الأحدث واعتبارها غزواً أجنبياً، مع أن التاريخ ما هو إلاّ سلسلة متوالية من غزوات وهجرات، وهناك من يستخدمه ليشن حرباً على الهويات الحيّة السائدة. 

ينتشر هذا الخطاب غالباً في أوساط الشرائح العلمانية من المجتمع والأقليات القومية والدينية التي يرى بعض أفرادها أن تلك الشعوب القديمة هي سلفهم المباشر.  

أمّا الاتجاه الثالث، فتمثله طبقة الساسة وبُناة الأمم الذين يوظّفون الحقب التاريخية المختلفة لمصلحتهم وبلورة خِطاب سياسي أو قومي يتلاءم مع الظروف السائدة محلياً وإقليمياً ودولياً، وغالباً ما يتضمّن هذا التوظيف التاريخي الكثير من التزييف والعرض المُجتزأ والسطحي والانتقائي لبعض الحقب وإهمال ما سواها، وغالباً ما يكون التوظيف خطيراً ويُستخدم كسلاح في الخصومات، يستحضر المعارك التاريخية ويجد لها نظائر موازية في الواقع الراهن، أو أن يُستخدم لنفي أصالة الخصوم وتجريدهم من حقوقهم ومواطنتهم. 

وبينما تبدو متبنيات المجموعة الأولى واقعية في الاهتمام بتاريخ الشعب الحي، إلاّ أنها تغفل صلة الأرض بتاريخٍ أقدم وتتخلّى عن مكانتها في سباق الأقدمية وهوس الكثير من الدول الحديثة اليوم في خلق تاريخ مُتخيّل لها لتدعيم شرعيتها ومنح شعبها نوعاً من الفخر. أما المجموعة الثانية، فتفعل العكس تماماً وتشنّ حرباً على الهوية الحيّة.  

أما المجموعة الثالثة فتبدو براغماتية وتستغل التاريخ لتحقيق مصالحها في تحفيز الشعب في الحرب وبناء هويات جامعة، لتتحكّم بالماضي والحاضر والمستقبل، ما دامت في السلطة.  

عراق صدّام 

منذ نشأة الدول الوطنية وتعميم التعليم الحكومي والإلزامي في العراق، أصبحت المناهج الدراسية أساساً في أدلجة المجتمع الوليد على أفكار الدولة وتعزيز هويتها الجامعة وتمرير الخطاب التأسيسي لها. ومع وصول الأحزاب القومية للحكم في العراق بعد عامي 1963 و1968، امتلأت المناهج بخطابات القومية العربية ومفاهيم حزب البعث الحاكم والاشتراكية ومناكفة الاستعمار، مركّزةً على التاريخ العربي، لكنها لم تهمل التاريخ القديم للعراق ودول الجوار. 

في ثمانينيات القرن الماضي، استخدم الرئيس الأسبق صدام حسين تاريخ الصراعات بين سومر وعيلام ليجد لها تناظراً مع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، وقد وُظّف التاريخ القديم والإسلامي لخدمة بروباغاندا تلك الحرب، فشبّهت المناهج ضمنياً الصراع بين سلالتَي لگش وأومّا السومريّتين على أنه صراع بين العراق وإيران، مع أن أطلال «أوما» تقع في تل جوخة ضمن حدود محافظة ذي قار أيضاً، وربطت المناهج انتصار «أوتوحيكال»، مؤسس سلالة أور الثالثة، في ثورته ضد الكوتيين (القادمين من جبال زاغروس)، في 14 تموز من عام 2050 قبل الميلاد، بتأسيس الجمهورية العراقية في 14 تموز 1958. شدّدت المناهج أيضاً على ذكر معركة الملك البابلي «نبوخذنصر الأول» (1121-1100 قبل الميلاد) ضد العيلاميين في إيران لاستعادة تمثال الإله مردوخ الذي نهبوه في حربٍ سابقة، فضلاً عن غزو الملك الآشوري «آشوربانيبال» لعيلام في عام 639 قبل الميلاد. ربطت المناهج تلك الحروب القديمة ضد عيلام بالحرب العراقية-الإيرانية، فضلاً عن التركيز على حروب العرب ضد الفرس ولاسيما معركة ذي قار قبل الإسلام ومعركة القادسية بعد الإسلام (636 للميلاد). علاوة على ذلك، ربط صدام حسين نفسه بالملكَيْن المشرّعَين حمورابي وأورنمو، باني زقورة أور، بل وكلٍ من الملك نبوخذنصر الثاني والقائد صلاح الدين الأيوبي، المولود في مسقط رأسه في تكريت، ليقدّم نفسه محرراً للقدس ويتصدّر مشهد الصراع العربي-الإسرائيلي كقائدٍ للقومية العربية. 

تضاعف التركيز على التاريخ العربي الإسلامي بعد الحملة الإيمانية في تسعينيات القرن الماضي حيث وجد النظام الحاكم نفسه معزولاً إقليمياً ودولياً، وبعد أن نجا بأعجوبة من انتفاضة رفعت شعارات دينية ومذهبية في عام 1991، فضّل على إثرها التركيز على الخطاب الديني مع خطاباته.  

من جانبها، روّجت مناهج اللغة الإنجليزية للاشتراكية من خلال رواية «كيبس» للروائي هربرت جورج ويلز، وساهمت في تصدير تمثيلٍ سيئ لليهود من خلال رواية «أوليفر تويست» لتشارلز ديكنز، ومسرحية «تاجر البندقية» لوليم شكسبير. مع أن هذه الأعمال مهمّة في الأدب الإنجليزي، لكن اختيارها كان يهدف لإيصال رسائل تتماشى مع خطاب الدولة والحزب الحاكم حينذاك. 

بقايا مدينة أور التاريخية 

بالإضافة إلى ترميم المواقع الأثرية بطريقة أضرّت بالقيمة الأثرية لبعضها، كما حدث في بابل في الثمانينيات عندما أضيف اسم صدام حسين على الجدران التاريخية. ركّز خطاب الدولة على إحياء التاريخ من خلال إقامة مهرجان الربيع في الموصل لمحاكاة أعياد الأكيتو أو رأس السنة البابلية-الآشورية (بدأ عام 1969)، ومهرجان المربد الشعري في البصرة، على غرار سوق عكاظ قبل الإسلام (انطلق عام 1971)، ومهرجان بابل الدولي (انطلق عام 1987). وفي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما تبعه من سنوات عنفٍ وفوضى، توقفت جميع تلك المهرجانات قبل أن يستأنف مهرجان بابل فعالياته في عام 2008 مع جدلٍ متكرّر ومطالب بإلغاء الغناء فيه كمحاولة أخرى لأسلمة الدولة الجديدة، ومهرجان الربيع في الموصل (أعيد إطلاقه عام 2018 بعد هزيمة تنظيم داعش)، ومهرجان الحضر الدولي في نينوى (الذي أقيمت منه ثلاث نسخ قبل عام 2003 وانطلق مجدداً في 29 شباط 2024). 

استغلت الحكومات قبل 2003 التاريخ في خطابها لبناء دولة-وطنية Nation-state ولهذا السبب أعيدت كتابة التاريخ بما يتلاءم مع منطلقاتهم من خلال إطلاق موسوعة «حضارة العراق» في 13 جزءاً عام 1985، مع كل ما يحمله مفهوم إعادة قراءة التاريخ من مخاطر. 

  

في المناهج الدراسية الجديدة: بلا منهجية  

في عراق ما بعد 2003، فرضت المحاصصة المذهبية والعرقية نفسها على الفضاءين العام والإعلامي والخطاب السياسي، ولم يُعد في الإمكان طرح رؤية موحدّة للتاريخ، ولاسيما المعاصر والإسلامي، ففضلت المناهج تجاهل المُختلف عليه قدر الإمكان وتجنّب الخوض فيه. يتضمّن هذا الهروب من النقاش إيجابيات عدم فرض رؤية الحاكم على مكونات الشعب المختلفة وتجنّب إثارة الخلافات العرقية والدينية، لكنّ مساوئه تعني خلق جيلٍ لا يقرأ عن التاريخ المعاصر ويكتفي بما يسمعه من محيطه الضيق، فتتعزّز روايات مختلفة للتاريخ تتبناها كل فئة من فئات المجتمع.  

في المناهج العراقية الجديدةـ تُفرد مساحة أكبر للعراق القديم، مقارنة بمناهج ما قبل عام 2003، وتقدّم الحقب الحضارية القديمة للطلاب بدءاً من الصف الرابع الابتدائي، بينما كان الصف الأول المتوسط أول موعد للطلاب مع الحضارات القديمة. مع ذلك، هناك خلل في منهجية تناول الحقب السياسية للتاريخ القديم في المناهج الراهنة والكثير من الأخطاء، مع توسيع النطاق عالمياً ليشمل نبذة عن حضارات الفرس والإغريق والرومان. ولأسبابٍ دينية ومذهبية، تتجنّب المناهج الجديدة الجانب السياسي من الحضارة العربية الإسلامية وتتوقّف عند وفاة النبي محمد، ولأسبابٍ سياسية، تهمّش هذه المناهج تاريخ العراق الحديث والمعاصر وتستفيض في حقبة تأسيس الدولة العراقية انتهاءً بقيام الجمهورية في عام 1958، فلا شيء عن الانقلابات العسكرية اللاحقة ولا الحرب مع إيران ولا الحصار الاقتصادي ولا تأسيس العراق الجديد بعد عام 2003.  

في ضوء المناهج الجديدة، لن يدرس الطالب شيئاً عن الحقب الاستعمارية وحركات التحرّر إذا ما اختار الفرع العلمي، لأن هذه الحقب مقدّمة في منهج الصف السادس الأدبي فقط، ولن يدرسوا شيئا عن التاريخ الحضاري العربي الإسلامي الذي يُدرّس في الصف الرابع الأدبي بعد أن كان يُدرّس لجميع الطلاب في الصف الرابع الإعدادي العام. من الجدير بالذكر خلو المناهج الراهنة من الأدلجة السياسية والقومية السابقة، وتضمين ما يؤكد على المواطنة وقيم التنوع وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، وتركز مناهج اللغة العربية على الإسلام والتراث العربي بوضوح، مع تضمين نصوص مترجمة لقصص من روسيا والهند وغيرها. 

المراحل الابتدائية: الفوضى 

تخلو مناهج الصف الأول الابتدائي من أيّة إشارة للعراق القديم من ناحية الموضوعات والصور، على الرغم من اعتماد المناهج بشكلٍ كبير على العناصر المحلية والثقافية العراقية.  

في مادة اللغة العربية، يُشجّع التلاميذ على قراءة القرآن والتعبير عن القيم الأسرية والوطنية من خلال مواضيع مثل العَلم والوطن والمدرسة، والاهتمام بالبيئة من خلال التركيز على الزراعة والنخيل. ومع إدخال اللغة الإنجليزية في الصف الأول الابتدائي، بعد أن كانت تُقدّم للطلاب أوّل مرّة في الصف الخامس الابتدائي قبل 2003، لم يتضمّن المنهج – الذي وضعه أجانب ونقّحه عراقيون في جميع المراحل الدراسية الابتدائية والثانوية – محتوىً يعكس تراث العراق القديم. في مادة الرياضيات، هناك توظيف لعناصر محلية من خلال الصور والأمثلة، منها ساعة بغداد وملوية سامراء والمتحف البغدادي لجذب اهتمام الطلاب وتحفيزهم. وفي مادة العلوم، يستخدم المنهج بعض العناصر الطبيعية المميزة لبيئة العراق مثل الأهوار ونهرَي دجلة والفرات وبحيرَتي ساوة والحبّانية وشلال گلي علي بيك. بصفة عامة، يُظهر المحتوى جهداً لتضمين عناصر تربوية متنوعة وتعريف الطلاب بالثقافة والبيئة المحلية، ولحداثة سن التلاميذ قد يكون تضمين عناصر التاريخ القديم صعباً ولكن ذلك ليس مستحيلاً من خلال دمج المزيد من الصور والرسوم المستوحاة من أساطير بلاد النهرين. 

طلاب أمام الكتب المدرسية الجديدة في مخيم للمشردين داخلياً في الكرخ/ بغداد. المصدر: اليونيسف / واثق خزاعي 

في الصف الثاني الابتدائي، يقتصر تمثيل العراق القديم على صور بوابة عشتار وتمثال من الحضر وأسد بابل في مادة القراءة. في مادة اللغة العربية، يطّلع التلاميذ على نصوص تتحدّث عن حفظ القرآن والصلاة وأحاديث نبوية عن الرحمة والإحسان ونفع الناس، والتعبير عن القيم الأسرية والوطنية من خلال مواضيع وأناشيد عن الوطن والتعرف على المدن العراقية وخصائص البيئة العراقية مثل التمر والبلبل وصور بعض المعالم الأثرية. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى أسماء عراقية وإشارة للتمور، وكذلك حال منهج الرياضيات، حيث تقدّم أمثلة عن سارية العَلم والنخيل ويتعرّف الطلاب على أسماء الشهور الميلادية السريانية، والكثير منها يُستخدم منذ العصر البابلي القديم. وفي مادة العلوم، يتحدث المنهج عن المحميات الطبيعية في الأهوار وضمّها لقائمة اليونيسكو للتراث العالمي في عام 2016. 

في الصف الثالث الابتدائي، تعدّ صورة بوابة المتحف العراقي التمثيل الوحيد للعراق القديم في كافة المناهج. في حين تركّز مادة اللغة العربية على نصوص تتحدّث عن القرآن والدعاء والنبي محمّد وأحاديث نبوية عن الجار والأعياد وقصة عن حقوق الحيوان على لسان الإمام علي بن أبي طالب وأخرى عن العدل تتضمّن الخليفة عمر بن الخطاب، فضلاً عن قصص مثل ليلى والذئب وافتح يا سمسم. يذكر المنهج أيضاً أعياد الميلاد المسيحية ومقولة «الحق يحرّر الإنسان» للسيد المسيح، وهي المقولة المسيحية الوحيدة في جميع المناهج العراقية. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية أيّ شيءٍ عن العراق القديم، فيما ضمّ منهج الرياضيات صورة لبوابة المتحف العراقي. وفي مادة العلوم، ليس هناك سوى صورة للخطوط الجوية العراقية وحقل عكاشات للفوسفات في الأنبار.  

تمثل مناهج الصف الرابع الابتدائي البداية الحقيقية لتعريف التلاميذ بالعراق القديم، وهذا تطوّر ملحوظ مقارنة بمناهج ما قبل 2003، التي يبدأ التعريف الحقيقي فيها ببلاد النهرين في الصف الأول المتوسط، لكن المناهج الجديدة تتضمّن العديد من الأخطاء. لا تتضمن مادة القراءة في اللغة العربية إشارات إلى بلاد الرافدين، فيما تركّز على نصوص من القرآن وأحاديث نبوية عن العمل ومحبة الوالدين والضيف، وحكايات عن الوحدة الوطنية وأخرى عن الحج والإمام الحسن والمهّلب بن أبي صفرة وحاتم الطائي والخليفة عمر بن عبد العزيز وخولة بنت الأزور، وجميعها من التراث العربي الإسلامي، فضلاً عن خطأ نسبة الموسيقار الموصلي المولد زرياب إلى بغداد. وقد يكون هذا مفهوماً نظراً لأن المادة تقدّم تعريفاً بالثقافة العربية ونظراً لتمثيل العراق القديم في المناهج الأخرى لهذه المرحلة. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى إشارات وصور للمتحف العراقي والكتابة المسمارية وأساور من الحضارة الآشورية، إلى جانب التمثيل المتكرر للنفط والتمر. كما ضمّ منهج الرياضيات مسائل رياضية عديدة عن زيارات لمدينة أور ومهرجان بابل الأثري والمتحف العراقي وحصن الإخيضر. أما مواد الاجتماعيات فتزخر بصور عن بوابة عشتار ومدينة أور والحضر ونصوص عن كون العراق بلد الحضارات وصور للقيثارة السومرية والألواح الطينية ونشاط يُطالب الطلاب بجمع صور لبعض الآثار. مع ذلك، يستخدم الكتاب صورة الكتابة الصورية ويقدّمها خطأ على أنها الكتابة المسمارية، ويخلط ما بين بابل القديمة الأمورية والحديثة الكلدية، ويصف مشهد صيد آشوري على أنه «ملحمة»، فيما يركز، كغيره من المناهج العراقية، على «برج بابل» التوراتي والذي لا أثر له، إذ أنه عرضٌ توراتي مشوّه للزقورات. وفي مادة العلوم، هنالك إشارات للسومريين واختراع العجلة. 

تزخر مناهج الصف الخامس الابتدائي بإشارات للتعريف بحضارة العراق القديم والتنوع الثقافي والديني في البلاد. مع تركيز مادة القراءة في اللغة العربية على نصوص من القرآن وأحاديث نبوية وقصص دينية عن النبي نوح والعملاق ونوم الإمام علي في مكان النبي ليلة الهجرة وعمر بن عبد العزيز والمصباح وعمر بن الخطاب والأعرابي، يضمّ الكتاب نصوصاً عن مسلة حمورابي ومكتبة آشور بانيبال وزيارة الى مدينة تتطرّق للحديث عن آثار السومريين والبابليين، فضلاً عن قصة السندباد البحري وقصة من كليلة ودمنة ونصٍ عن العالِم العربي الكِندي بما يعزّز تنوّع المنهج. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى إشارات إلى بابل ضمن معالم الدول، فيما تضمّن منهج الرياضيات مسألة وحيدة عن قياس الزوايا للقيثارة السومرية. وتنطوي مواد الاجتماعيات على صور أسد بابل وتعريف بالحضارات الأكدية والسومرية والآشورية والقوانين والحضر، والحديث عن مهد الأديان وإشارات للصابئة المندائيين، وتتضمن تعريفاً بأعلام ومبدعي البلد من مختلف الطوائف، وقد تكون الإشارات لانتماءاتهم بهدف الشمولية inclusiveness ولكنها قد تعدّ إشارات لتعزيز المحاصصة والانقسام. ويضم الكتاب نصوصاً عن مكونات المجتمع العراقي وشعارات الدولة العراقية. من جانبٍ آخر، غاب العراق القديم تماماً عن منهج العلوم.  

في الصف السادس الابتدائي، تركز مواد الاجتماعيات على تاريخ وجغرافيا العراق القديم، لكنها تتضمّن العديد من الأخطاء والعرض غير المنهجي لبعض التفاصيل. في مادة اللغة العربية، لا يتضمن كتاب القراءة سوى ذكر لبلاد الرافدين وصرة لبوابة بابل وتمثال من الحضر – وهي الصور الأكثر شيوعاً في جميع المناهج، فيما يركّز الكتاب على الثقافة العربية والشخصيات الإسلامية مثل الإمام علي بن أبي طالب والإمام جعفر الصادق والخليفة عمر بن الخطاب وأبي بكر والإمام الحسن، فضلاً عن علماء من الحضارة العربية مثل ابن سينا والفراهيدي. فيما يغيب العراق القديم تماماً عن مناهج اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم. 

وفي مواد الاجتماعيات معلوماتٌ كثيرة عن القرى الزراعية ومستوطنات نمريك وجرمو، وقوانين أورنمو وإصلاحات أوروكاجينا، وتمثال نارام-سين الذي عُثر عليه في دهوك (تمثال باسطكي)، ومعاني أسماء مدن أربيل (الآلهة الأربع في الأكدية) والسليمانية (زاموا في العصر الآشوري) وتكريت وبعقوبة (بالسريانية). كما يوضّح المنهج المناطق الأثرية في مختلف محافظات البلاد مثل عگرگوف في بغداد والمدن الآشورية الأربع في نينوى، والآثار البابلية في هيت وعنه في الأنبار، وكيش وبورسيبا في بابل، ونيبور وإيسن في الديوانية. لكن يفتقر كل ذلك للمنهج العلمي ويكشف سرد كل هذه التفاصيل – من دون سياقها ومعرفة الطلاب بما تعنيه اللغات القديمة ومفاهيم حقب ما قبل الميلاد وما بعده – خللاً كبيراً في هذا الكتاب، الذي يشبه مجلّة تعريفية بالقُطر. ومن الكوارث الجسيمة استخدام صور مع شروحات خاطئة، حيث يستخدمون كنيسة من سوريا في الغالب ويقدمونها على أنها في الموصل، ويضعون صورة تمثال نذري على أنه الإله إنليل، وصورة أور عند حديثهم عن مدينة الوركاء في المثنى، وصورة لمعبد كاريوس الهلنستي في الوركاء يعرفونه على أنه زقورة، ويقدّمون لوح شمش البابلي الأموري على أنه مسلة الملك السومري أورنمو. 

جزء من بوابة عشتار الموجودة في متحف برلين 

في المراحل المتوسطة والثانوية: تهميش التاريخ الحديث 

وكما هو حال مناهج ما قبل الغزو الأميركي للعراق، يبدأ التعريف المنهجي بالتاريخ القديم في الصف الأول المتوسط، إذ يتناول الكتاب بالكامل التاريخ القديم في العراق والدول العربية، بالإضافة إلى لمحة عالمية على الحضارات القديمة في بلاد فارس واليونان والرومان. مع ذلك، لا يوضح الفصل المتعلق بالعراق القديم الحقبَ السياسية بشكل واضح، ويركّز على الجانب الحضاري أكثر، إذ نجده يخلط سقوط بابل الأمورية بظهور الآشوريين من دون توضيح دور الحيثيين في إسقاط بابل وتجاهل الكاشيين، كما أنه يذكر ملوك سلالة أور الثالثة مباشرة، دون توضيح عودتهم بعد إسقاط الكوتيين للإمبراطورية الأكدية. فيبدو المنهج وكأنه عرض سريع وغير منظّم. ثم يرد خطأ أن تل حلف (الموجود في سوريا) يقع شمال غربي الموصل، كما يتم الحديث بشكل موجز عن السومريين ويربطون أور بالنبي إبراهيم وابنه إسماعيل، ويضعون صوراً للكعبة ومدينة الخليل في فلسطين، مع أن الربط توراتي وليس عليه دليل أركيولوجي، فضلاً عن كتابة اسم الأمير السومري كوديا على نحوٍ خاطئ (كودية). ومن نواحٍ أخرى، يستخدم الكتاب خرائط غير دقيقة أو للدول في أقصى اتساعها عند تقديم حضارات بلاد النيل (بضم الشام وجزء من الأناضول) والجزيرة العربية (بضم سواحل بلاد الشام) والحضارة الساسانية (في أقصى توسعٍ لها). أما منهج اللغة العربية، فيضم بعض الصور لبوابة عشتار والقاعة الآشورية في متحف اللوفر وصورة للأميرة السومرية بو-آبي عند الحديث عن منزلة المرأة. بخلاف ذلك، يركّز المنهج على نصوص من القرآن وأحاديث نبوية، وقصيدة للرصافي عن المولد النبوي، ومفاهيم التسامح والوحدة الوطنية، ونصوص عن الرحالة ابن فضلان والجاحظ والفارابي. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى إشارات وصور لمدينتي أور والحضر.  

تكاد مناهج الصف الثاني المتوسط تخلو من أيّة إشارة للعراق القديم من ناحية الموضوعات والصور. فلا شيء عن العراق القديم في مادة اللغة العربية، التي تركز على مفاهيم الإخوة في الإسلام، والوطن واللغة، وتقدّم نصوصاً لشعراء لبنانيين مثل ميخائيل نعيمة وفوزي معلوف وجبران خليل جبران، ونصوصاً تعزّز دور المرأة من خلال الدكتورة والوزيرة العراقية نزيهة الدليمي وعالمة الفيزياء الحائزة على جائزة نوبل ماري كوري. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية شيئاً عن التاريخ القديم فيما عدا غلاف الكتاب وتمثال آشوريّ لبطل يحمل أسداً، يُرجّح أنه يمثل جلجامش. وفي مادة الاجتماعيات، هناك عرض للتاريخ العربي قبل الإسلام وفي صدر الإسلام حتى وفاة النبي محمد ويتحاشى التطرّق للحقب الإسلامية التالية، مع تضمين إشارات للأديان الأخرى: الصابئية واليهودية والمسيحية. باعتماد تصنيف توراتي غير علمي يعدّ العرب مقسّمين إلى عنصرٍ ساميّ في المشرق وآخر حاميّ في شمال إفريقيا.   

في الصف الثالث المتوسط، توظّف مادة اللغة العربية صورة المتحف العراقي وتتحدّث عن الحضارات، وتقدم نصاً استشراقياً من كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب»، كما تقدّم نصاً عن حمورابي في باب الدستور والحضارة، فضلاً عن مسرحية «شمسو» لخالد الشواف عن الفترة البابلية الأخيرة والصراع مع الحيثيين. وبينما يغيب العراق القديم عن منهج اللغة الإنجليزية، تذكر مواد الاجتماعيات السياحة الأثرية – مع صور للحضر وأور – فيما تركز على العثمانيين وتاريخ العراق الحديث حتى قيام الجمهورية العراقية في عام 1958.  

في الصف الرابع العلمي والأدبي، يغيب العراق القديم عن مادة اللغة العربية التي تركز على الأدب الجاهلي. بينما يوظّف منهج اللغة الإنجليزية صور بوابة عشتار في مطلع كل فصل، وصوراً عن جنائن بابل وبوابة نركال في الموصل، ونصاً عن الأهوار بوصفها «جنة عدن» وآخر عن المتحف العراقي مع صور لرأس سرجون الأكدي وأور وكلخ (النمرود). في الفرع الأدبي، يدرس الطلاب مجدداً نبذة عن حضارات بلاد النهرين ومصر وبلاد الشام وفارس والروم والعرب قبل الإسلام، مع تركيز على الحضارة العربية الإسلامية من ناحية الإنجازات لا الحروب والجانب السياسي، فيما تذكر مادة الجغرافيا نبذة عن المعارف الجغرافية في بلاد النهرين، ولا سيما الفلك ورسم الخرائط.  

في الصف الخامس العلمي والأدبي، يقتصر حضور العراق القديم على نصٍّ عن مهرجان بابل وآخر عن المتحف، مع صور لرأس سرجون الأكدي وكنوز كالخ (النمرود) الآشورية ومدينة الحضر في منهج اللغة الإنجليزية. ويغيب العراق القديم عن منهج اللغة العربية الذي يركز على الأدب الأموي والعباسي والأندلسي، فيما يدرس طلاب الفرع الأدبي تاريخ أوروبا وأميركا الحديث والمعاصر، إلى جانب الجغرافيا الطبيعية.   

بالمثل، يقتصر حضور العراق القديم في مناهج الصف السادس بفرعيه على صور للحضر وبابل ونص عن أجنبي يمتلك شركة سفريات سياحية للعراق في منهج اللغة الإنجليزية. ولا يسجل منهج اللغة العربية ذكراً عن العراق القديم، بينما يركز على الأدب الحديث والمعاصر وشعر القضية الفلسطينية، فيما يدرس طلاب الفرع الأدبي تاريخ البلاد العربية المعاصر وحركات التحرّر (وهو ما كان الطلاب يدرسونه في صفوف أخرى في مناهج ما قبل 2003)، إلى جانب الجغرافيا البشرية. 

  

العراق القديم على يافطات المدارس  

قبل 2003، أُطلق على بعض المدارس أسماء مستلهمة من العراق القديم، فضلاً عن المناسبات المتعلقة بالحزب الحاكم والأفكار القومية وشخصيات من التاريخ العربي والإسلامي وأسماء المدن العراقية والعربية وبعض القرى والمدن الفلسطينية، فضلاً عن الأسماء المحايدة مثل الابتكار والتآخي والتآزر والوحدة الوطنية. بعد عام 2003، أزيلت الأسماء ذات الطابع القومي والحزبي، وحلّت أسماء دينية لها صلة بالأحزاب الشيعية الحاكمة. ففي نظرة للمدارس الابتدائية الحكومية في الرصافة الأولى ببغداد، على سبيل المثال، نجد أن سبع مدارس فقط، من أصل 416 مدرسة (1.6%)، تحمل أسماءً تعكس حضارة العراق القديم: الزقورة المختلطة وسومر المختلطة والرافدين المختلطة في قطاع الشعب، ومدارس عشتار للبنين وبابل المختلطة وحضارة العراق المختلطة في قطاع الحسينية والراشدية، ومدرسة حمورابي للبنين في قطاع الأعظمية والمركز وفلسطين. في المقابل، هناك 52 مدرسة حكومية في الرصافة الأولى (12.5%) ذات أسماء مرتبطة بالرموز الدينية والمذهبية والسياسية الحالية.   

وفي الرصافة الأولى أيضا، نجد أن أربع مدارس أهلية مختلطة فقط، من أصل 90 مدرسة (4.4%) تحمل أسماءً من وحي العراق القديم، هي: الوركاء وأور ونبوخذنصر وسما سومر. في المقابل، تحمل خمس مدارس (5.5%) أسماءً دينية/ مذهبية. 

  

الجامعات: أقسام جديدة للتاريخ والآثار 

مع عودة بعثات التنقيب الأجنبية إلى العراق، الذي يضم أكثر من 15 ألف موقع أثري وفقًا لأطلس المواقع الأثرية في العراق الذي أعدّه الآثاري الراحل ووزير الثقافة والسياحة والآثار السابق عبد الأمير الحمداني، شهد العراق افتتاح أقسام وكليات آثار جديدة بعد أن اقتصر الأمر على قسمين للآثار ضمن كليتي الآداب بجامعتي بغداد والموصل قبل 2003. لكن إقبال الطلاب على دراسة الآثار قليل نظراً لقلة فرص العمل بعد التخرّج وانخفاض الرواتب.  

عام 2021، قبلت كلية الآثار بجامعة الموصل 41 طالباً، منهم 28 في جولة القبول الأولى، لكن 11 طالباً فقط باشروا الدراسة في قسم يضم 82 عضواً تدريسياً وجامعة احتضنت 17 ألف طالب وطالبة في ذلك العام. مع ذلك، تضخّم عدد كليات وأقسام التاريخ والآثار بعد عام 2014 وافتتحت كلية آثار أهلية أيضاً.  

يمتلك العراق راهناً عشرة أقسام لتدريس التاريخ ضمن كليات الآداب في الجامعات الحكومية التالية: جامعة بغداد (تأسّس القسم في عام 1949)، وجامعة البصرة (1964)، وجامعة الموصل (1966)، وجامعة الكوفة (1989)، وجامعة ذي قار (1999)، وجامعة الأنبار (2001)، والجامعة المستنصرية (2005)، وجامعة كركوك (2014)، والجامعة العراقية، وجامعة سامراء.   

وهناك خمسة أقسام للآثار ضمن كليات الآداب في جامعات بغداد (1951)، وبابل (2004)، والمثنى (2014)، وسامراء (2021)، وجامعة تكريت، فضلاً عن قسم الدراسات المسمارية في جامعة القادسية (2015). كما يضم العراق اليوم أربع كليّات للآثار في جامعات الموصل (2008)، والكوفة (2011)، والقادسية (2014)، وذي قار.   

وفي قطاع التعليم الخاص، هناك ثلاثة أقسام للتاريخ في كلية المأمون الجامعة (1990) وكلية الرشيد الجامعة (2011) وكلية الآداب بجامعة الإمام جعفر الصادق، فضلاً عن قسمٍ للآثار في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة المستقبل (2020).  

وعن توظيف رموز العراق القديم في الجامعات الحكومية الجديدة نجد كلية طب حمورابي بجامعة بابل (2017)، وجامعة سومر (2014)، وجامعة نينوى (2014)، بالإضافة إلى أربع جامعات أهلية، هي: كلية بلاد الرافدين الجامعة، وجامعة أوروك الأهلية، وجامعة آشور، وجامعة كلكامش. يقابل ذلك 13 جامعة أهلية جديدة تحمل أسماءً ذات طابع إسلامي/ مذهبي، هي: جامعة الإمام جعفر الصادق، وجامعة أهل البيت، وكلية مدينة العلم الجامعة، وكلية الشيخ الطوسي الجامعة، وكلية صدر العراق الجامعة، وكلية الحسين الجامعة، وكلية الإمام الجامعة، وكلية الطف الجامعة، وجامعة وارث الأنبياء، وكلية الهادي الجامعة، وجامعة المصطفى الأمين، وكلية أصول الدين الجامعة، وجامعة الزهراء للبنات.  

اجترار التاريخ في إعادة رسم خريطة العراق  

استحضر حزب البعث التاريخ القديم والعربي في إعادة تسمية المحافظات العراقية، وغيّرَ، عام 1969، مصطلح «ألوية» بـ«محافظات» حيث كان العراق في العهد الملكي يضمّ 14 لواءً هي الموصل والسليمانية وأربيل وكركوك والدليم (أصبح لواء الرمادي في عام 1962) وديالى وبغداد والديوانية والحلة وكربلاء والكوت والعمارة والمِنْتِفِجْ (الناصرية بعد عام 1969) والبصرة. وفي عام 1976، استحدثت محافظات دهوك (مقتطعة من محافظة الموصل) والنجف والمثنى (من محافظة الديوانية) وصلاح الدين (من محافظة بغداد، فضلاً عن الشرقاط من الموصل). وبالطبع، وُظّف التاريخ في اسم محافظة المثنى -على اسم المثنى بن حارثة الشيباني وهو قائد من عرب العراق في القرن السابع الميلادي- وصلاح الدين الأيوبي المولود في تكريت، مركز محافظة صلاح الدين الجديدة. في عام 1976، أيضاً أصبح اسم محافظة الرمادي محافظة الأنبار، الاسم الشائع في أيام المناذرة العرب، وأصبح اسم الكوت محافظة واسط -نسبة للمدينة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وأصبحت محافظة الديوانية تُعرف باسم القادسية، ومحافظة الناصرية باسم ذي قار، على اسمي أشهر معارك العرب ضد الفرس. ومن وحي التاريخ القديم، غيّر نظام البعث اسم محافظة الحلة إلى محافظة بابل، واسم الموصل إلى محافظة نينوى (عاصمة الآشوريين التي بناها الملك سنحاريب)، فيما أصبحت محافظة العمارة تُعرف باسم محافظة ميسان، مستلهمين اسم مملكة ميشان العربية، التي كتبت بالخط الآرامي، في القرن الثاني قبل الميلاد. 

بعد 2003 انتشرت مطالب بتغيير اسم محافظة بابل إلى “الحسن”، بما يعكس تغيّر الخطاب الحكومي السائد من القومية العربية والتاريخ القديم إلى الخطاب الإسلامي/ المذهبي. 

التاريخ العراقي في معالم المدن  

بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، أقيم تمثال الجنرال البريطاني ستانلي مود، الذي دخل بغداد في عام 1917، ونُصب أمام السفارة البريطانية في منطقة الشوّاكة في عام 1923. ربّما كان ذلك التمثال، الذي أنجزه السير ويليام غوسكومب جون، أوّل تمثالٍ في بغداد منذ تأسيسها كعاصمة على يد أبي جعفر المنصور، حيث يحظر الإسلام تمثيل الشخوص في أعمالٍ نحتية. 

صبيحة ثورة 14 تموز/ يوليو من عام 1958، هُدم ذلك التمثال وأعقب ذلك تكليف النحات الإيطالي الشهير بييترو كانونيكا، الذي أنجز تماثيل تخلّد أتاتورك في إزمير وأنقرة والخديوي إسماعيل في الإسكندرية وقيصر روسيا ألكساندر الثاني في سان بطرسبرغ، لإنجاز تمثالٍ من البرونز للملك فيصل الأول (1933) ورئيس الوزراء المنتحر عبد المحسن السعدون (1933). في عام 1958، حُطّم تمثال الملك الفيصل الأول، لكن صدام حسين أعاد نصب نسخة منه في عام 1989 ليربط نفسه أيديولوجياً مع مؤسس العراق الحديث أو لتوطيد العلاقات مع المملكة الأردنية الهاشمية بعد الحرب العراقية-الإيرانية. ثم سُرق تمثال السعدون البرونزي في أعقاب الغزو الأميركي لبغداد واُستعيض عنه بتمثال رخيص، قبل أن تُنصب نسخة نحاسية منه في عام 2013. 

بعد إنجاز نصب الحرية للنحات جواد سليم في العهد الجمهوري، زخر العراق في فترة نظام البعث بالعديد من النُصب، استلهم بعضها الفترة العباسية وأجواء ألف ليلة وليلة، لاسيما تمثال كهرمانة (1971) وتمثال شهرزاد وشهريار (1975) وتمثال المتنبي، وجميعها من أعمال النحات العراقي الراحل محمد عبد الغني حكمت، وتمثال أبي جعفر المنصور للنحات خالد الرحال (1977)، فضلاً عن معالم بارزة وضخمة مثل نصبي الشهيد والجندي المجهول وقوسي النصر في ساحات الاحتفالات في ثمانينيات القرن الماضي. واستلهمت الطرز المعمارية أيضًا في إنشاء أول الفنادق الضخمة في البلاد، مثل بابل وعشتار شيراتون والرشيد والمنصور، كما برز تصميم الزقورة في قصر الزقورة في المنطقة الخضراء اليوم (بُني في عام 1975).  

نصب الشهيد في بغداد 

بعد تعرض الكثير من المعالم المرتبطة بالنظام السابق للتدمير والإزالة أو الضرر بعد عام 2003، وموجة من الخطابات الإسلامية المعادية للفنون، أعادت الحكومة النظر في الأمر وعمدت لاستلهام التاريخ من جديد وكلّفت الراحل محمد عبد الغني حكمت لإقامة نصب إنقاذ الحضارة (2011) ونصب الفانوس السحري (2011) ونصب فتاة بغداد (2013) وأشعار بغداد (2013)، في استلهام للختم الأسطواني برموز مسمارية وعناصر من الثقافة العربية العباسية. علاوة على ذلك، جُسّد الملك السومري جلجامش في تمثال من أعمال النحات عبّاس غريب (2018) ونصب من أعمال النحات هادي حمزة الطائي (2021)، فضلاً عن ميدان صقور الحضر -بجداريات تجسد معالم الموصل والحضر وتماثيل صقور- من أعمال النحاتين عمر الخفّاف وخالد العبادي في الموصل (2022)، وتمثال الملك آشوربانيبال أمام مكتبة جامعة الموصل للنحات خليل خميس (أزيح الستار عنه في تشرين الأول/ أكتوبر 2023). مع كثرة الأعمال الأخيرة، إلاّ أن الجودة الفنية لبعضها وفرادة موضوعاتها أثارت الكثير من اللغط في الشارع العراقي.  

في نيسان 2019، ولكون وزير الثقافة الراحل عبد الأمير الحمداني كان آثارياً، أْعيدت تسمية ساحة الاحتفالات ومسارحها، التي تأسست في عام 1986 وأضيف لها قوس النصر في عام 1989، باسم «بيت أكيتو»، احتفاءً بعيد رأس السنة البابلية-الآشورية. المفارقة أن الغالبية الساحقة من العراقيين لم يسمعوا بهذا العيد قبل عام 2003، وتساءل أغلب المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي عن معناه في حينها. 

السينما والرسوم المتحركة 

كثيراً ما يشكو العراقيون من قلة تمثيل حضارة بلاد النهرين في أعمال هوليوود، لكن العراق نفسه، وعلى الرغم من ضعف إنتاجه السينمائي، لم يكترث كثيراً لتمثيل تاريخه في الفن السابع. ومن أوائل تلك الأعمال المستلهمة من التاريخ القديم فيلم نبوخذنصر (انتاج وتأليف كامل العزاوي، 1962) والذي يتحدث عن الملك الكلدي نبوخذنصر الثاني وحروبه ضد آشور في فترة حكم والده «نبوبولاصر» وحملاته في بلاد الشام واليهودية وبنائه الجنائن المعلقة لزوجته الميدية. كان ذلك أول فيلم عراقي ملون، ولم تعقبه أيّة أفلام تتحدّث عن تاريخ العراق القديم، فيما عدا فيلم الرأس (1976) الذي يتحدث عن سرقة رأس ملك الحضر سنطروق الثاني واسترجاع الرأس بعد مطاردة المهربين إلى سوريا ولبنان. وفي ثمانينيات القرن الماضي، أُنتجت أفلام عن الحرب العراقية-الإيرانية وفيلم القادسية، بتعاون مصري، في عام 1981، وفيلم المسألة الكبرى عن أحداث ثورة العشرين (1983)، وفيلم «بابل حبيبتي»، في تعاون عراقي-مصري في عام 1987، والذي يتحدث عن زيارة وفد مصري يضم علماء آثار وفنانين لحضور مهرجان بابل في العراق. 

بينما لم ينتج العراق مسلسلات تلفزيونية عن العراق القديم، ركزت المسلسلات التاريخية على التاريخ العربي والفترة العباسية وبعض الشخصيات من العهد العثماني الأخير، منها مسلسل المتنبي (1980)، والنعمان الأخير وحرب البسوس (كلاهما في عام 1981)، ومسلسل عثمان الموصلي (1989)، ومسلسل أوائل العرب (1996)، ومسلسل أبو جعفر المنصور (1998)، ومسلسل القلم والمحنة (2000)، ومسلسل شخصيات لم ينصفها التاريخ (2001).  

مشهد من فيلم “بابل حبيبتي” 

في عام 1982، أنتج التلفزيون العراقي والمركز العربي للأفلام المتحركة فيلم «الأميرة والنهر»، أول فيلم كارتون عراقي مستوحى من قصص بلاد النهرين، مع تصميم الرسوم في جمهورية ألمانيا الشرقية. ركّز الفيلم على مملكة لكش السومرية عن الملك وبناته الثلاث ووصية الأب الأخيرة بتوحيد بلاد النهرين. بالطبع، كان ذلك الفيلم الكرتوني الأول والأخير الذي ينتجه العراق.  

بعد 2003، ومع تراجع الدور الحكومي في الإنتاج السينمائي في العراق وبقية دول العالم وتصدّر القطاع الخاص للمشهد، غاب تمثيل العراق القديم كليًا، فيما عدا أفلام مُنتجة بميزانيات منخفضة وذاتية أو مشاريع تخرّج لطلاب كليات السينما والمسرح. 

  

التاريخ القديم في الصناعة  

قبل 2003، كان توظيف التاريخ حاضراً في أسماء المنتجات الصناعية في العراق، مثل شركة الصناعات الخفيفة «عشتار»، التي تأسست في عام 1959، والمنشأة العامة للدخان العراقية، التي تأسست إثر دمج معامل أهلية للسجائر في الخمسينات وأُمّمت في عام 1963، وكانت تنتج أنواعاً من السجائر منها سومر وبغداد والرشيد، فضلاً عن مصنع شخّاط (أعواد ثقاب) الأمين (في عام 1975)، وشركة حمورابي العامة للمقاولات الإنشائية (1988)، ومعامل سمنت بابل (1955) والرافدين في نينوى (1956)، وهكذا نشاهد توظيف التاريخ العراقي القديم والعبّاسي في أسماء منتجات تلك الحقب. لكن في عراق ما بعد الغزو، غاب دور الدولة في تأسيس معامل جديدة، وأغلقت الكثير من المصانع القديمة، وبرزت الأسماء الدينية بشكلٍ واضح في المنتجات الاستهلاكية الحالية بهدف استقطاب المستهلك ومشاعره الدينية/ المذهبية.  

إجمالاً، وبغض النظر عن تسييس التاريخ القديم وربطه بشخصية «القائد الرمز» في عهد صدام حسين، فقد كان الخطاب العام السائد مزيجاً من الأفكار العروبية الإقليمية والقُطرية المستلهمة من التاريخ القديم، أما الخطاب الراهن فهو مشتّت بكثرة وتشتُّت الفصائل والأحزاب، وفردي شعبوي غالباً، لكنّه ديني مذهبي بالدرجة الأساس ويحاول ربط طقوس الإله تموز بالطقوس الدينية المتعلقة بعاشوراء أو ربط أور بالنبي إبراهيم اعتماداً على نصٍ غير واضح من سفر التكوين أو ربط قدماء العراقيين بنبط كوثى، مع أن هذه التسمية إسلامية فقط ولا علاقة لها بالأنباط (في الأردن وجنوب فلسطين وشمال الجزيرة)، فضلاً عن تسييس الهوية السومرية (المنقرضة منذ العصور القديمة بعد أن انصهرت في موجات العموريين والكلديين والآراميين والعرب) لتمرير مطالب تأسيس إقليم سومر على أسس مذهبية كامنة. ومهما يكن، فإن حضور التاريخ القديم في جميع الأحوال هامشي تكميلي، قياساً بحجمه وأهميته، بمقابل خطاب قومي عربي سابقاً أو مذهبي حالياً، ولا يرقى إلى محاولات توظيفه لبناء هوية وطنية جامعة. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج” 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تُهيمن على رؤية التاريخ القديم ثلاثة توجهات، ينفي بعضها وجوده أو يتخذه هوية أصلية للمجتمع، أو يستغله لتحقيق مصالحه في التحفيز والتحشيد وبناء هويات جامعة. 

ينظر الاتجاه الأول إلى التاريخ كمرحلة سحيقة لأقوام ميّتة، انقطعت صلتها بالشعوب الراهنة وطواها النسيان قبل أن يُعاد اكتشاف آثارها في أواخر القرن التاسع عشر على يد المنقبين الأجانب، المدفوعين بالبحث عن تاريخ الكتاب المقدس في بلاد النهرين على وجه الخصوص والشرق الأدنى في العموم، وتفضل هذه المجموعة، في العراق، التركيز على التاريخ المعاصر والحقب العربية الإسلامية بصفتها أشد اتصالاً بثقافة المجتمع الحالي. 

أمّا الاتجاه الثاني، فيرى أن التاريخ القديم يمثل الهوية الأصلية للأرض والشعب، ويصرّ على وجوب التركيز عليه، ومنهم من يتطرّف في الأمر ويسعى إلى إحيائه ونبذ الحقب الأحدث واعتبارها غزواً أجنبياً، مع أن التاريخ ما هو إلاّ سلسلة متوالية من غزوات وهجرات، وهناك من يستخدمه ليشن حرباً على الهويات الحيّة السائدة. 

ينتشر هذا الخطاب غالباً في أوساط الشرائح العلمانية من المجتمع والأقليات القومية والدينية التي يرى بعض أفرادها أن تلك الشعوب القديمة هي سلفهم المباشر.  

أمّا الاتجاه الثالث، فتمثله طبقة الساسة وبُناة الأمم الذين يوظّفون الحقب التاريخية المختلفة لمصلحتهم وبلورة خِطاب سياسي أو قومي يتلاءم مع الظروف السائدة محلياً وإقليمياً ودولياً، وغالباً ما يتضمّن هذا التوظيف التاريخي الكثير من التزييف والعرض المُجتزأ والسطحي والانتقائي لبعض الحقب وإهمال ما سواها، وغالباً ما يكون التوظيف خطيراً ويُستخدم كسلاح في الخصومات، يستحضر المعارك التاريخية ويجد لها نظائر موازية في الواقع الراهن، أو أن يُستخدم لنفي أصالة الخصوم وتجريدهم من حقوقهم ومواطنتهم. 

وبينما تبدو متبنيات المجموعة الأولى واقعية في الاهتمام بتاريخ الشعب الحي، إلاّ أنها تغفل صلة الأرض بتاريخٍ أقدم وتتخلّى عن مكانتها في سباق الأقدمية وهوس الكثير من الدول الحديثة اليوم في خلق تاريخ مُتخيّل لها لتدعيم شرعيتها ومنح شعبها نوعاً من الفخر. أما المجموعة الثانية، فتفعل العكس تماماً وتشنّ حرباً على الهوية الحيّة.  

أما المجموعة الثالثة فتبدو براغماتية وتستغل التاريخ لتحقيق مصالحها في تحفيز الشعب في الحرب وبناء هويات جامعة، لتتحكّم بالماضي والحاضر والمستقبل، ما دامت في السلطة.  

عراق صدّام 

منذ نشأة الدول الوطنية وتعميم التعليم الحكومي والإلزامي في العراق، أصبحت المناهج الدراسية أساساً في أدلجة المجتمع الوليد على أفكار الدولة وتعزيز هويتها الجامعة وتمرير الخطاب التأسيسي لها. ومع وصول الأحزاب القومية للحكم في العراق بعد عامي 1963 و1968، امتلأت المناهج بخطابات القومية العربية ومفاهيم حزب البعث الحاكم والاشتراكية ومناكفة الاستعمار، مركّزةً على التاريخ العربي، لكنها لم تهمل التاريخ القديم للعراق ودول الجوار. 

في ثمانينيات القرن الماضي، استخدم الرئيس الأسبق صدام حسين تاريخ الصراعات بين سومر وعيلام ليجد لها تناظراً مع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، وقد وُظّف التاريخ القديم والإسلامي لخدمة بروباغاندا تلك الحرب، فشبّهت المناهج ضمنياً الصراع بين سلالتَي لگش وأومّا السومريّتين على أنه صراع بين العراق وإيران، مع أن أطلال «أوما» تقع في تل جوخة ضمن حدود محافظة ذي قار أيضاً، وربطت المناهج انتصار «أوتوحيكال»، مؤسس سلالة أور الثالثة، في ثورته ضد الكوتيين (القادمين من جبال زاغروس)، في 14 تموز من عام 2050 قبل الميلاد، بتأسيس الجمهورية العراقية في 14 تموز 1958. شدّدت المناهج أيضاً على ذكر معركة الملك البابلي «نبوخذنصر الأول» (1121-1100 قبل الميلاد) ضد العيلاميين في إيران لاستعادة تمثال الإله مردوخ الذي نهبوه في حربٍ سابقة، فضلاً عن غزو الملك الآشوري «آشوربانيبال» لعيلام في عام 639 قبل الميلاد. ربطت المناهج تلك الحروب القديمة ضد عيلام بالحرب العراقية-الإيرانية، فضلاً عن التركيز على حروب العرب ضد الفرس ولاسيما معركة ذي قار قبل الإسلام ومعركة القادسية بعد الإسلام (636 للميلاد). علاوة على ذلك، ربط صدام حسين نفسه بالملكَيْن المشرّعَين حمورابي وأورنمو، باني زقورة أور، بل وكلٍ من الملك نبوخذنصر الثاني والقائد صلاح الدين الأيوبي، المولود في مسقط رأسه في تكريت، ليقدّم نفسه محرراً للقدس ويتصدّر مشهد الصراع العربي-الإسرائيلي كقائدٍ للقومية العربية. 

تضاعف التركيز على التاريخ العربي الإسلامي بعد الحملة الإيمانية في تسعينيات القرن الماضي حيث وجد النظام الحاكم نفسه معزولاً إقليمياً ودولياً، وبعد أن نجا بأعجوبة من انتفاضة رفعت شعارات دينية ومذهبية في عام 1991، فضّل على إثرها التركيز على الخطاب الديني مع خطاباته.  

من جانبها، روّجت مناهج اللغة الإنجليزية للاشتراكية من خلال رواية «كيبس» للروائي هربرت جورج ويلز، وساهمت في تصدير تمثيلٍ سيئ لليهود من خلال رواية «أوليفر تويست» لتشارلز ديكنز، ومسرحية «تاجر البندقية» لوليم شكسبير. مع أن هذه الأعمال مهمّة في الأدب الإنجليزي، لكن اختيارها كان يهدف لإيصال رسائل تتماشى مع خطاب الدولة والحزب الحاكم حينذاك. 

بقايا مدينة أور التاريخية 

بالإضافة إلى ترميم المواقع الأثرية بطريقة أضرّت بالقيمة الأثرية لبعضها، كما حدث في بابل في الثمانينيات عندما أضيف اسم صدام حسين على الجدران التاريخية. ركّز خطاب الدولة على إحياء التاريخ من خلال إقامة مهرجان الربيع في الموصل لمحاكاة أعياد الأكيتو أو رأس السنة البابلية-الآشورية (بدأ عام 1969)، ومهرجان المربد الشعري في البصرة، على غرار سوق عكاظ قبل الإسلام (انطلق عام 1971)، ومهرجان بابل الدولي (انطلق عام 1987). وفي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما تبعه من سنوات عنفٍ وفوضى، توقفت جميع تلك المهرجانات قبل أن يستأنف مهرجان بابل فعالياته في عام 2008 مع جدلٍ متكرّر ومطالب بإلغاء الغناء فيه كمحاولة أخرى لأسلمة الدولة الجديدة، ومهرجان الربيع في الموصل (أعيد إطلاقه عام 2018 بعد هزيمة تنظيم داعش)، ومهرجان الحضر الدولي في نينوى (الذي أقيمت منه ثلاث نسخ قبل عام 2003 وانطلق مجدداً في 29 شباط 2024). 

استغلت الحكومات قبل 2003 التاريخ في خطابها لبناء دولة-وطنية Nation-state ولهذا السبب أعيدت كتابة التاريخ بما يتلاءم مع منطلقاتهم من خلال إطلاق موسوعة «حضارة العراق» في 13 جزءاً عام 1985، مع كل ما يحمله مفهوم إعادة قراءة التاريخ من مخاطر. 

  

في المناهج الدراسية الجديدة: بلا منهجية  

في عراق ما بعد 2003، فرضت المحاصصة المذهبية والعرقية نفسها على الفضاءين العام والإعلامي والخطاب السياسي، ولم يُعد في الإمكان طرح رؤية موحدّة للتاريخ، ولاسيما المعاصر والإسلامي، ففضلت المناهج تجاهل المُختلف عليه قدر الإمكان وتجنّب الخوض فيه. يتضمّن هذا الهروب من النقاش إيجابيات عدم فرض رؤية الحاكم على مكونات الشعب المختلفة وتجنّب إثارة الخلافات العرقية والدينية، لكنّ مساوئه تعني خلق جيلٍ لا يقرأ عن التاريخ المعاصر ويكتفي بما يسمعه من محيطه الضيق، فتتعزّز روايات مختلفة للتاريخ تتبناها كل فئة من فئات المجتمع.  

في المناهج العراقية الجديدةـ تُفرد مساحة أكبر للعراق القديم، مقارنة بمناهج ما قبل عام 2003، وتقدّم الحقب الحضارية القديمة للطلاب بدءاً من الصف الرابع الابتدائي، بينما كان الصف الأول المتوسط أول موعد للطلاب مع الحضارات القديمة. مع ذلك، هناك خلل في منهجية تناول الحقب السياسية للتاريخ القديم في المناهج الراهنة والكثير من الأخطاء، مع توسيع النطاق عالمياً ليشمل نبذة عن حضارات الفرس والإغريق والرومان. ولأسبابٍ دينية ومذهبية، تتجنّب المناهج الجديدة الجانب السياسي من الحضارة العربية الإسلامية وتتوقّف عند وفاة النبي محمد، ولأسبابٍ سياسية، تهمّش هذه المناهج تاريخ العراق الحديث والمعاصر وتستفيض في حقبة تأسيس الدولة العراقية انتهاءً بقيام الجمهورية في عام 1958، فلا شيء عن الانقلابات العسكرية اللاحقة ولا الحرب مع إيران ولا الحصار الاقتصادي ولا تأسيس العراق الجديد بعد عام 2003.  

في ضوء المناهج الجديدة، لن يدرس الطالب شيئاً عن الحقب الاستعمارية وحركات التحرّر إذا ما اختار الفرع العلمي، لأن هذه الحقب مقدّمة في منهج الصف السادس الأدبي فقط، ولن يدرسوا شيئا عن التاريخ الحضاري العربي الإسلامي الذي يُدرّس في الصف الرابع الأدبي بعد أن كان يُدرّس لجميع الطلاب في الصف الرابع الإعدادي العام. من الجدير بالذكر خلو المناهج الراهنة من الأدلجة السياسية والقومية السابقة، وتضمين ما يؤكد على المواطنة وقيم التنوع وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، وتركز مناهج اللغة العربية على الإسلام والتراث العربي بوضوح، مع تضمين نصوص مترجمة لقصص من روسيا والهند وغيرها. 

المراحل الابتدائية: الفوضى 

تخلو مناهج الصف الأول الابتدائي من أيّة إشارة للعراق القديم من ناحية الموضوعات والصور، على الرغم من اعتماد المناهج بشكلٍ كبير على العناصر المحلية والثقافية العراقية.  

في مادة اللغة العربية، يُشجّع التلاميذ على قراءة القرآن والتعبير عن القيم الأسرية والوطنية من خلال مواضيع مثل العَلم والوطن والمدرسة، والاهتمام بالبيئة من خلال التركيز على الزراعة والنخيل. ومع إدخال اللغة الإنجليزية في الصف الأول الابتدائي، بعد أن كانت تُقدّم للطلاب أوّل مرّة في الصف الخامس الابتدائي قبل 2003، لم يتضمّن المنهج – الذي وضعه أجانب ونقّحه عراقيون في جميع المراحل الدراسية الابتدائية والثانوية – محتوىً يعكس تراث العراق القديم. في مادة الرياضيات، هناك توظيف لعناصر محلية من خلال الصور والأمثلة، منها ساعة بغداد وملوية سامراء والمتحف البغدادي لجذب اهتمام الطلاب وتحفيزهم. وفي مادة العلوم، يستخدم المنهج بعض العناصر الطبيعية المميزة لبيئة العراق مثل الأهوار ونهرَي دجلة والفرات وبحيرَتي ساوة والحبّانية وشلال گلي علي بيك. بصفة عامة، يُظهر المحتوى جهداً لتضمين عناصر تربوية متنوعة وتعريف الطلاب بالثقافة والبيئة المحلية، ولحداثة سن التلاميذ قد يكون تضمين عناصر التاريخ القديم صعباً ولكن ذلك ليس مستحيلاً من خلال دمج المزيد من الصور والرسوم المستوحاة من أساطير بلاد النهرين. 

طلاب أمام الكتب المدرسية الجديدة في مخيم للمشردين داخلياً في الكرخ/ بغداد. المصدر: اليونيسف / واثق خزاعي 

في الصف الثاني الابتدائي، يقتصر تمثيل العراق القديم على صور بوابة عشتار وتمثال من الحضر وأسد بابل في مادة القراءة. في مادة اللغة العربية، يطّلع التلاميذ على نصوص تتحدّث عن حفظ القرآن والصلاة وأحاديث نبوية عن الرحمة والإحسان ونفع الناس، والتعبير عن القيم الأسرية والوطنية من خلال مواضيع وأناشيد عن الوطن والتعرف على المدن العراقية وخصائص البيئة العراقية مثل التمر والبلبل وصور بعض المعالم الأثرية. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى أسماء عراقية وإشارة للتمور، وكذلك حال منهج الرياضيات، حيث تقدّم أمثلة عن سارية العَلم والنخيل ويتعرّف الطلاب على أسماء الشهور الميلادية السريانية، والكثير منها يُستخدم منذ العصر البابلي القديم. وفي مادة العلوم، يتحدث المنهج عن المحميات الطبيعية في الأهوار وضمّها لقائمة اليونيسكو للتراث العالمي في عام 2016. 

في الصف الثالث الابتدائي، تعدّ صورة بوابة المتحف العراقي التمثيل الوحيد للعراق القديم في كافة المناهج. في حين تركّز مادة اللغة العربية على نصوص تتحدّث عن القرآن والدعاء والنبي محمّد وأحاديث نبوية عن الجار والأعياد وقصة عن حقوق الحيوان على لسان الإمام علي بن أبي طالب وأخرى عن العدل تتضمّن الخليفة عمر بن الخطاب، فضلاً عن قصص مثل ليلى والذئب وافتح يا سمسم. يذكر المنهج أيضاً أعياد الميلاد المسيحية ومقولة «الحق يحرّر الإنسان» للسيد المسيح، وهي المقولة المسيحية الوحيدة في جميع المناهج العراقية. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية أيّ شيءٍ عن العراق القديم، فيما ضمّ منهج الرياضيات صورة لبوابة المتحف العراقي. وفي مادة العلوم، ليس هناك سوى صورة للخطوط الجوية العراقية وحقل عكاشات للفوسفات في الأنبار.  

تمثل مناهج الصف الرابع الابتدائي البداية الحقيقية لتعريف التلاميذ بالعراق القديم، وهذا تطوّر ملحوظ مقارنة بمناهج ما قبل 2003، التي يبدأ التعريف الحقيقي فيها ببلاد النهرين في الصف الأول المتوسط، لكن المناهج الجديدة تتضمّن العديد من الأخطاء. لا تتضمن مادة القراءة في اللغة العربية إشارات إلى بلاد الرافدين، فيما تركّز على نصوص من القرآن وأحاديث نبوية عن العمل ومحبة الوالدين والضيف، وحكايات عن الوحدة الوطنية وأخرى عن الحج والإمام الحسن والمهّلب بن أبي صفرة وحاتم الطائي والخليفة عمر بن عبد العزيز وخولة بنت الأزور، وجميعها من التراث العربي الإسلامي، فضلاً عن خطأ نسبة الموسيقار الموصلي المولد زرياب إلى بغداد. وقد يكون هذا مفهوماً نظراً لأن المادة تقدّم تعريفاً بالثقافة العربية ونظراً لتمثيل العراق القديم في المناهج الأخرى لهذه المرحلة. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى إشارات وصور للمتحف العراقي والكتابة المسمارية وأساور من الحضارة الآشورية، إلى جانب التمثيل المتكرر للنفط والتمر. كما ضمّ منهج الرياضيات مسائل رياضية عديدة عن زيارات لمدينة أور ومهرجان بابل الأثري والمتحف العراقي وحصن الإخيضر. أما مواد الاجتماعيات فتزخر بصور عن بوابة عشتار ومدينة أور والحضر ونصوص عن كون العراق بلد الحضارات وصور للقيثارة السومرية والألواح الطينية ونشاط يُطالب الطلاب بجمع صور لبعض الآثار. مع ذلك، يستخدم الكتاب صورة الكتابة الصورية ويقدّمها خطأ على أنها الكتابة المسمارية، ويخلط ما بين بابل القديمة الأمورية والحديثة الكلدية، ويصف مشهد صيد آشوري على أنه «ملحمة»، فيما يركز، كغيره من المناهج العراقية، على «برج بابل» التوراتي والذي لا أثر له، إذ أنه عرضٌ توراتي مشوّه للزقورات. وفي مادة العلوم، هنالك إشارات للسومريين واختراع العجلة. 

تزخر مناهج الصف الخامس الابتدائي بإشارات للتعريف بحضارة العراق القديم والتنوع الثقافي والديني في البلاد. مع تركيز مادة القراءة في اللغة العربية على نصوص من القرآن وأحاديث نبوية وقصص دينية عن النبي نوح والعملاق ونوم الإمام علي في مكان النبي ليلة الهجرة وعمر بن عبد العزيز والمصباح وعمر بن الخطاب والأعرابي، يضمّ الكتاب نصوصاً عن مسلة حمورابي ومكتبة آشور بانيبال وزيارة الى مدينة تتطرّق للحديث عن آثار السومريين والبابليين، فضلاً عن قصة السندباد البحري وقصة من كليلة ودمنة ونصٍ عن العالِم العربي الكِندي بما يعزّز تنوّع المنهج. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى إشارات إلى بابل ضمن معالم الدول، فيما تضمّن منهج الرياضيات مسألة وحيدة عن قياس الزوايا للقيثارة السومرية. وتنطوي مواد الاجتماعيات على صور أسد بابل وتعريف بالحضارات الأكدية والسومرية والآشورية والقوانين والحضر، والحديث عن مهد الأديان وإشارات للصابئة المندائيين، وتتضمن تعريفاً بأعلام ومبدعي البلد من مختلف الطوائف، وقد تكون الإشارات لانتماءاتهم بهدف الشمولية inclusiveness ولكنها قد تعدّ إشارات لتعزيز المحاصصة والانقسام. ويضم الكتاب نصوصاً عن مكونات المجتمع العراقي وشعارات الدولة العراقية. من جانبٍ آخر، غاب العراق القديم تماماً عن منهج العلوم.  

في الصف السادس الابتدائي، تركز مواد الاجتماعيات على تاريخ وجغرافيا العراق القديم، لكنها تتضمّن العديد من الأخطاء والعرض غير المنهجي لبعض التفاصيل. في مادة اللغة العربية، لا يتضمن كتاب القراءة سوى ذكر لبلاد الرافدين وصرة لبوابة بابل وتمثال من الحضر – وهي الصور الأكثر شيوعاً في جميع المناهج، فيما يركّز الكتاب على الثقافة العربية والشخصيات الإسلامية مثل الإمام علي بن أبي طالب والإمام جعفر الصادق والخليفة عمر بن الخطاب وأبي بكر والإمام الحسن، فضلاً عن علماء من الحضارة العربية مثل ابن سينا والفراهيدي. فيما يغيب العراق القديم تماماً عن مناهج اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم. 

وفي مواد الاجتماعيات معلوماتٌ كثيرة عن القرى الزراعية ومستوطنات نمريك وجرمو، وقوانين أورنمو وإصلاحات أوروكاجينا، وتمثال نارام-سين الذي عُثر عليه في دهوك (تمثال باسطكي)، ومعاني أسماء مدن أربيل (الآلهة الأربع في الأكدية) والسليمانية (زاموا في العصر الآشوري) وتكريت وبعقوبة (بالسريانية). كما يوضّح المنهج المناطق الأثرية في مختلف محافظات البلاد مثل عگرگوف في بغداد والمدن الآشورية الأربع في نينوى، والآثار البابلية في هيت وعنه في الأنبار، وكيش وبورسيبا في بابل، ونيبور وإيسن في الديوانية. لكن يفتقر كل ذلك للمنهج العلمي ويكشف سرد كل هذه التفاصيل – من دون سياقها ومعرفة الطلاب بما تعنيه اللغات القديمة ومفاهيم حقب ما قبل الميلاد وما بعده – خللاً كبيراً في هذا الكتاب، الذي يشبه مجلّة تعريفية بالقُطر. ومن الكوارث الجسيمة استخدام صور مع شروحات خاطئة، حيث يستخدمون كنيسة من سوريا في الغالب ويقدمونها على أنها في الموصل، ويضعون صورة تمثال نذري على أنه الإله إنليل، وصورة أور عند حديثهم عن مدينة الوركاء في المثنى، وصورة لمعبد كاريوس الهلنستي في الوركاء يعرفونه على أنه زقورة، ويقدّمون لوح شمش البابلي الأموري على أنه مسلة الملك السومري أورنمو. 

جزء من بوابة عشتار الموجودة في متحف برلين 

في المراحل المتوسطة والثانوية: تهميش التاريخ الحديث 

وكما هو حال مناهج ما قبل الغزو الأميركي للعراق، يبدأ التعريف المنهجي بالتاريخ القديم في الصف الأول المتوسط، إذ يتناول الكتاب بالكامل التاريخ القديم في العراق والدول العربية، بالإضافة إلى لمحة عالمية على الحضارات القديمة في بلاد فارس واليونان والرومان. مع ذلك، لا يوضح الفصل المتعلق بالعراق القديم الحقبَ السياسية بشكل واضح، ويركّز على الجانب الحضاري أكثر، إذ نجده يخلط سقوط بابل الأمورية بظهور الآشوريين من دون توضيح دور الحيثيين في إسقاط بابل وتجاهل الكاشيين، كما أنه يذكر ملوك سلالة أور الثالثة مباشرة، دون توضيح عودتهم بعد إسقاط الكوتيين للإمبراطورية الأكدية. فيبدو المنهج وكأنه عرض سريع وغير منظّم. ثم يرد خطأ أن تل حلف (الموجود في سوريا) يقع شمال غربي الموصل، كما يتم الحديث بشكل موجز عن السومريين ويربطون أور بالنبي إبراهيم وابنه إسماعيل، ويضعون صوراً للكعبة ومدينة الخليل في فلسطين، مع أن الربط توراتي وليس عليه دليل أركيولوجي، فضلاً عن كتابة اسم الأمير السومري كوديا على نحوٍ خاطئ (كودية). ومن نواحٍ أخرى، يستخدم الكتاب خرائط غير دقيقة أو للدول في أقصى اتساعها عند تقديم حضارات بلاد النيل (بضم الشام وجزء من الأناضول) والجزيرة العربية (بضم سواحل بلاد الشام) والحضارة الساسانية (في أقصى توسعٍ لها). أما منهج اللغة العربية، فيضم بعض الصور لبوابة عشتار والقاعة الآشورية في متحف اللوفر وصورة للأميرة السومرية بو-آبي عند الحديث عن منزلة المرأة. بخلاف ذلك، يركّز المنهج على نصوص من القرآن وأحاديث نبوية، وقصيدة للرصافي عن المولد النبوي، ومفاهيم التسامح والوحدة الوطنية، ونصوص عن الرحالة ابن فضلان والجاحظ والفارابي. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية سوى إشارات وصور لمدينتي أور والحضر.  

تكاد مناهج الصف الثاني المتوسط تخلو من أيّة إشارة للعراق القديم من ناحية الموضوعات والصور. فلا شيء عن العراق القديم في مادة اللغة العربية، التي تركز على مفاهيم الإخوة في الإسلام، والوطن واللغة، وتقدّم نصوصاً لشعراء لبنانيين مثل ميخائيل نعيمة وفوزي معلوف وجبران خليل جبران، ونصوصاً تعزّز دور المرأة من خلال الدكتورة والوزيرة العراقية نزيهة الدليمي وعالمة الفيزياء الحائزة على جائزة نوبل ماري كوري. ولم يتضمّن منهج اللغة الإنجليزية شيئاً عن التاريخ القديم فيما عدا غلاف الكتاب وتمثال آشوريّ لبطل يحمل أسداً، يُرجّح أنه يمثل جلجامش. وفي مادة الاجتماعيات، هناك عرض للتاريخ العربي قبل الإسلام وفي صدر الإسلام حتى وفاة النبي محمد ويتحاشى التطرّق للحقب الإسلامية التالية، مع تضمين إشارات للأديان الأخرى: الصابئية واليهودية والمسيحية. باعتماد تصنيف توراتي غير علمي يعدّ العرب مقسّمين إلى عنصرٍ ساميّ في المشرق وآخر حاميّ في شمال إفريقيا.   

في الصف الثالث المتوسط، توظّف مادة اللغة العربية صورة المتحف العراقي وتتحدّث عن الحضارات، وتقدم نصاً استشراقياً من كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب»، كما تقدّم نصاً عن حمورابي في باب الدستور والحضارة، فضلاً عن مسرحية «شمسو» لخالد الشواف عن الفترة البابلية الأخيرة والصراع مع الحيثيين. وبينما يغيب العراق القديم عن منهج اللغة الإنجليزية، تذكر مواد الاجتماعيات السياحة الأثرية – مع صور للحضر وأور – فيما تركز على العثمانيين وتاريخ العراق الحديث حتى قيام الجمهورية العراقية في عام 1958.  

في الصف الرابع العلمي والأدبي، يغيب العراق القديم عن مادة اللغة العربية التي تركز على الأدب الجاهلي. بينما يوظّف منهج اللغة الإنجليزية صور بوابة عشتار في مطلع كل فصل، وصوراً عن جنائن بابل وبوابة نركال في الموصل، ونصاً عن الأهوار بوصفها «جنة عدن» وآخر عن المتحف العراقي مع صور لرأس سرجون الأكدي وأور وكلخ (النمرود). في الفرع الأدبي، يدرس الطلاب مجدداً نبذة عن حضارات بلاد النهرين ومصر وبلاد الشام وفارس والروم والعرب قبل الإسلام، مع تركيز على الحضارة العربية الإسلامية من ناحية الإنجازات لا الحروب والجانب السياسي، فيما تذكر مادة الجغرافيا نبذة عن المعارف الجغرافية في بلاد النهرين، ولا سيما الفلك ورسم الخرائط.  

في الصف الخامس العلمي والأدبي، يقتصر حضور العراق القديم على نصٍّ عن مهرجان بابل وآخر عن المتحف، مع صور لرأس سرجون الأكدي وكنوز كالخ (النمرود) الآشورية ومدينة الحضر في منهج اللغة الإنجليزية. ويغيب العراق القديم عن منهج اللغة العربية الذي يركز على الأدب الأموي والعباسي والأندلسي، فيما يدرس طلاب الفرع الأدبي تاريخ أوروبا وأميركا الحديث والمعاصر، إلى جانب الجغرافيا الطبيعية.   

بالمثل، يقتصر حضور العراق القديم في مناهج الصف السادس بفرعيه على صور للحضر وبابل ونص عن أجنبي يمتلك شركة سفريات سياحية للعراق في منهج اللغة الإنجليزية. ولا يسجل منهج اللغة العربية ذكراً عن العراق القديم، بينما يركز على الأدب الحديث والمعاصر وشعر القضية الفلسطينية، فيما يدرس طلاب الفرع الأدبي تاريخ البلاد العربية المعاصر وحركات التحرّر (وهو ما كان الطلاب يدرسونه في صفوف أخرى في مناهج ما قبل 2003)، إلى جانب الجغرافيا البشرية. 

  

العراق القديم على يافطات المدارس  

قبل 2003، أُطلق على بعض المدارس أسماء مستلهمة من العراق القديم، فضلاً عن المناسبات المتعلقة بالحزب الحاكم والأفكار القومية وشخصيات من التاريخ العربي والإسلامي وأسماء المدن العراقية والعربية وبعض القرى والمدن الفلسطينية، فضلاً عن الأسماء المحايدة مثل الابتكار والتآخي والتآزر والوحدة الوطنية. بعد عام 2003، أزيلت الأسماء ذات الطابع القومي والحزبي، وحلّت أسماء دينية لها صلة بالأحزاب الشيعية الحاكمة. ففي نظرة للمدارس الابتدائية الحكومية في الرصافة الأولى ببغداد، على سبيل المثال، نجد أن سبع مدارس فقط، من أصل 416 مدرسة (1.6%)، تحمل أسماءً تعكس حضارة العراق القديم: الزقورة المختلطة وسومر المختلطة والرافدين المختلطة في قطاع الشعب، ومدارس عشتار للبنين وبابل المختلطة وحضارة العراق المختلطة في قطاع الحسينية والراشدية، ومدرسة حمورابي للبنين في قطاع الأعظمية والمركز وفلسطين. في المقابل، هناك 52 مدرسة حكومية في الرصافة الأولى (12.5%) ذات أسماء مرتبطة بالرموز الدينية والمذهبية والسياسية الحالية.   

وفي الرصافة الأولى أيضا، نجد أن أربع مدارس أهلية مختلطة فقط، من أصل 90 مدرسة (4.4%) تحمل أسماءً من وحي العراق القديم، هي: الوركاء وأور ونبوخذنصر وسما سومر. في المقابل، تحمل خمس مدارس (5.5%) أسماءً دينية/ مذهبية. 

  

الجامعات: أقسام جديدة للتاريخ والآثار 

مع عودة بعثات التنقيب الأجنبية إلى العراق، الذي يضم أكثر من 15 ألف موقع أثري وفقًا لأطلس المواقع الأثرية في العراق الذي أعدّه الآثاري الراحل ووزير الثقافة والسياحة والآثار السابق عبد الأمير الحمداني، شهد العراق افتتاح أقسام وكليات آثار جديدة بعد أن اقتصر الأمر على قسمين للآثار ضمن كليتي الآداب بجامعتي بغداد والموصل قبل 2003. لكن إقبال الطلاب على دراسة الآثار قليل نظراً لقلة فرص العمل بعد التخرّج وانخفاض الرواتب.  

عام 2021، قبلت كلية الآثار بجامعة الموصل 41 طالباً، منهم 28 في جولة القبول الأولى، لكن 11 طالباً فقط باشروا الدراسة في قسم يضم 82 عضواً تدريسياً وجامعة احتضنت 17 ألف طالب وطالبة في ذلك العام. مع ذلك، تضخّم عدد كليات وأقسام التاريخ والآثار بعد عام 2014 وافتتحت كلية آثار أهلية أيضاً.  

يمتلك العراق راهناً عشرة أقسام لتدريس التاريخ ضمن كليات الآداب في الجامعات الحكومية التالية: جامعة بغداد (تأسّس القسم في عام 1949)، وجامعة البصرة (1964)، وجامعة الموصل (1966)، وجامعة الكوفة (1989)، وجامعة ذي قار (1999)، وجامعة الأنبار (2001)، والجامعة المستنصرية (2005)، وجامعة كركوك (2014)، والجامعة العراقية، وجامعة سامراء.   

وهناك خمسة أقسام للآثار ضمن كليات الآداب في جامعات بغداد (1951)، وبابل (2004)، والمثنى (2014)، وسامراء (2021)، وجامعة تكريت، فضلاً عن قسم الدراسات المسمارية في جامعة القادسية (2015). كما يضم العراق اليوم أربع كليّات للآثار في جامعات الموصل (2008)، والكوفة (2011)، والقادسية (2014)، وذي قار.   

وفي قطاع التعليم الخاص، هناك ثلاثة أقسام للتاريخ في كلية المأمون الجامعة (1990) وكلية الرشيد الجامعة (2011) وكلية الآداب بجامعة الإمام جعفر الصادق، فضلاً عن قسمٍ للآثار في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة المستقبل (2020).  

وعن توظيف رموز العراق القديم في الجامعات الحكومية الجديدة نجد كلية طب حمورابي بجامعة بابل (2017)، وجامعة سومر (2014)، وجامعة نينوى (2014)، بالإضافة إلى أربع جامعات أهلية، هي: كلية بلاد الرافدين الجامعة، وجامعة أوروك الأهلية، وجامعة آشور، وجامعة كلكامش. يقابل ذلك 13 جامعة أهلية جديدة تحمل أسماءً ذات طابع إسلامي/ مذهبي، هي: جامعة الإمام جعفر الصادق، وجامعة أهل البيت، وكلية مدينة العلم الجامعة، وكلية الشيخ الطوسي الجامعة، وكلية صدر العراق الجامعة، وكلية الحسين الجامعة، وكلية الإمام الجامعة، وكلية الطف الجامعة، وجامعة وارث الأنبياء، وكلية الهادي الجامعة، وجامعة المصطفى الأمين، وكلية أصول الدين الجامعة، وجامعة الزهراء للبنات.  

اجترار التاريخ في إعادة رسم خريطة العراق  

استحضر حزب البعث التاريخ القديم والعربي في إعادة تسمية المحافظات العراقية، وغيّرَ، عام 1969، مصطلح «ألوية» بـ«محافظات» حيث كان العراق في العهد الملكي يضمّ 14 لواءً هي الموصل والسليمانية وأربيل وكركوك والدليم (أصبح لواء الرمادي في عام 1962) وديالى وبغداد والديوانية والحلة وكربلاء والكوت والعمارة والمِنْتِفِجْ (الناصرية بعد عام 1969) والبصرة. وفي عام 1976، استحدثت محافظات دهوك (مقتطعة من محافظة الموصل) والنجف والمثنى (من محافظة الديوانية) وصلاح الدين (من محافظة بغداد، فضلاً عن الشرقاط من الموصل). وبالطبع، وُظّف التاريخ في اسم محافظة المثنى -على اسم المثنى بن حارثة الشيباني وهو قائد من عرب العراق في القرن السابع الميلادي- وصلاح الدين الأيوبي المولود في تكريت، مركز محافظة صلاح الدين الجديدة. في عام 1976، أيضاً أصبح اسم محافظة الرمادي محافظة الأنبار، الاسم الشائع في أيام المناذرة العرب، وأصبح اسم الكوت محافظة واسط -نسبة للمدينة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وأصبحت محافظة الديوانية تُعرف باسم القادسية، ومحافظة الناصرية باسم ذي قار، على اسمي أشهر معارك العرب ضد الفرس. ومن وحي التاريخ القديم، غيّر نظام البعث اسم محافظة الحلة إلى محافظة بابل، واسم الموصل إلى محافظة نينوى (عاصمة الآشوريين التي بناها الملك سنحاريب)، فيما أصبحت محافظة العمارة تُعرف باسم محافظة ميسان، مستلهمين اسم مملكة ميشان العربية، التي كتبت بالخط الآرامي، في القرن الثاني قبل الميلاد. 

بعد 2003 انتشرت مطالب بتغيير اسم محافظة بابل إلى “الحسن”، بما يعكس تغيّر الخطاب الحكومي السائد من القومية العربية والتاريخ القديم إلى الخطاب الإسلامي/ المذهبي. 

التاريخ العراقي في معالم المدن  

بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، أقيم تمثال الجنرال البريطاني ستانلي مود، الذي دخل بغداد في عام 1917، ونُصب أمام السفارة البريطانية في منطقة الشوّاكة في عام 1923. ربّما كان ذلك التمثال، الذي أنجزه السير ويليام غوسكومب جون، أوّل تمثالٍ في بغداد منذ تأسيسها كعاصمة على يد أبي جعفر المنصور، حيث يحظر الإسلام تمثيل الشخوص في أعمالٍ نحتية. 

صبيحة ثورة 14 تموز/ يوليو من عام 1958، هُدم ذلك التمثال وأعقب ذلك تكليف النحات الإيطالي الشهير بييترو كانونيكا، الذي أنجز تماثيل تخلّد أتاتورك في إزمير وأنقرة والخديوي إسماعيل في الإسكندرية وقيصر روسيا ألكساندر الثاني في سان بطرسبرغ، لإنجاز تمثالٍ من البرونز للملك فيصل الأول (1933) ورئيس الوزراء المنتحر عبد المحسن السعدون (1933). في عام 1958، حُطّم تمثال الملك الفيصل الأول، لكن صدام حسين أعاد نصب نسخة منه في عام 1989 ليربط نفسه أيديولوجياً مع مؤسس العراق الحديث أو لتوطيد العلاقات مع المملكة الأردنية الهاشمية بعد الحرب العراقية-الإيرانية. ثم سُرق تمثال السعدون البرونزي في أعقاب الغزو الأميركي لبغداد واُستعيض عنه بتمثال رخيص، قبل أن تُنصب نسخة نحاسية منه في عام 2013. 

بعد إنجاز نصب الحرية للنحات جواد سليم في العهد الجمهوري، زخر العراق في فترة نظام البعث بالعديد من النُصب، استلهم بعضها الفترة العباسية وأجواء ألف ليلة وليلة، لاسيما تمثال كهرمانة (1971) وتمثال شهرزاد وشهريار (1975) وتمثال المتنبي، وجميعها من أعمال النحات العراقي الراحل محمد عبد الغني حكمت، وتمثال أبي جعفر المنصور للنحات خالد الرحال (1977)، فضلاً عن معالم بارزة وضخمة مثل نصبي الشهيد والجندي المجهول وقوسي النصر في ساحات الاحتفالات في ثمانينيات القرن الماضي. واستلهمت الطرز المعمارية أيضًا في إنشاء أول الفنادق الضخمة في البلاد، مثل بابل وعشتار شيراتون والرشيد والمنصور، كما برز تصميم الزقورة في قصر الزقورة في المنطقة الخضراء اليوم (بُني في عام 1975).  

نصب الشهيد في بغداد 

بعد تعرض الكثير من المعالم المرتبطة بالنظام السابق للتدمير والإزالة أو الضرر بعد عام 2003، وموجة من الخطابات الإسلامية المعادية للفنون، أعادت الحكومة النظر في الأمر وعمدت لاستلهام التاريخ من جديد وكلّفت الراحل محمد عبد الغني حكمت لإقامة نصب إنقاذ الحضارة (2011) ونصب الفانوس السحري (2011) ونصب فتاة بغداد (2013) وأشعار بغداد (2013)، في استلهام للختم الأسطواني برموز مسمارية وعناصر من الثقافة العربية العباسية. علاوة على ذلك، جُسّد الملك السومري جلجامش في تمثال من أعمال النحات عبّاس غريب (2018) ونصب من أعمال النحات هادي حمزة الطائي (2021)، فضلاً عن ميدان صقور الحضر -بجداريات تجسد معالم الموصل والحضر وتماثيل صقور- من أعمال النحاتين عمر الخفّاف وخالد العبادي في الموصل (2022)، وتمثال الملك آشوربانيبال أمام مكتبة جامعة الموصل للنحات خليل خميس (أزيح الستار عنه في تشرين الأول/ أكتوبر 2023). مع كثرة الأعمال الأخيرة، إلاّ أن الجودة الفنية لبعضها وفرادة موضوعاتها أثارت الكثير من اللغط في الشارع العراقي.  

في نيسان 2019، ولكون وزير الثقافة الراحل عبد الأمير الحمداني كان آثارياً، أْعيدت تسمية ساحة الاحتفالات ومسارحها، التي تأسست في عام 1986 وأضيف لها قوس النصر في عام 1989، باسم «بيت أكيتو»، احتفاءً بعيد رأس السنة البابلية-الآشورية. المفارقة أن الغالبية الساحقة من العراقيين لم يسمعوا بهذا العيد قبل عام 2003، وتساءل أغلب المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي عن معناه في حينها. 

السينما والرسوم المتحركة 

كثيراً ما يشكو العراقيون من قلة تمثيل حضارة بلاد النهرين في أعمال هوليوود، لكن العراق نفسه، وعلى الرغم من ضعف إنتاجه السينمائي، لم يكترث كثيراً لتمثيل تاريخه في الفن السابع. ومن أوائل تلك الأعمال المستلهمة من التاريخ القديم فيلم نبوخذنصر (انتاج وتأليف كامل العزاوي، 1962) والذي يتحدث عن الملك الكلدي نبوخذنصر الثاني وحروبه ضد آشور في فترة حكم والده «نبوبولاصر» وحملاته في بلاد الشام واليهودية وبنائه الجنائن المعلقة لزوجته الميدية. كان ذلك أول فيلم عراقي ملون، ولم تعقبه أيّة أفلام تتحدّث عن تاريخ العراق القديم، فيما عدا فيلم الرأس (1976) الذي يتحدث عن سرقة رأس ملك الحضر سنطروق الثاني واسترجاع الرأس بعد مطاردة المهربين إلى سوريا ولبنان. وفي ثمانينيات القرن الماضي، أُنتجت أفلام عن الحرب العراقية-الإيرانية وفيلم القادسية، بتعاون مصري، في عام 1981، وفيلم المسألة الكبرى عن أحداث ثورة العشرين (1983)، وفيلم «بابل حبيبتي»، في تعاون عراقي-مصري في عام 1987، والذي يتحدث عن زيارة وفد مصري يضم علماء آثار وفنانين لحضور مهرجان بابل في العراق. 

بينما لم ينتج العراق مسلسلات تلفزيونية عن العراق القديم، ركزت المسلسلات التاريخية على التاريخ العربي والفترة العباسية وبعض الشخصيات من العهد العثماني الأخير، منها مسلسل المتنبي (1980)، والنعمان الأخير وحرب البسوس (كلاهما في عام 1981)، ومسلسل عثمان الموصلي (1989)، ومسلسل أوائل العرب (1996)، ومسلسل أبو جعفر المنصور (1998)، ومسلسل القلم والمحنة (2000)، ومسلسل شخصيات لم ينصفها التاريخ (2001).  

مشهد من فيلم “بابل حبيبتي” 

في عام 1982، أنتج التلفزيون العراقي والمركز العربي للأفلام المتحركة فيلم «الأميرة والنهر»، أول فيلم كارتون عراقي مستوحى من قصص بلاد النهرين، مع تصميم الرسوم في جمهورية ألمانيا الشرقية. ركّز الفيلم على مملكة لكش السومرية عن الملك وبناته الثلاث ووصية الأب الأخيرة بتوحيد بلاد النهرين. بالطبع، كان ذلك الفيلم الكرتوني الأول والأخير الذي ينتجه العراق.  

بعد 2003، ومع تراجع الدور الحكومي في الإنتاج السينمائي في العراق وبقية دول العالم وتصدّر القطاع الخاص للمشهد، غاب تمثيل العراق القديم كليًا، فيما عدا أفلام مُنتجة بميزانيات منخفضة وذاتية أو مشاريع تخرّج لطلاب كليات السينما والمسرح. 

  

التاريخ القديم في الصناعة  

قبل 2003، كان توظيف التاريخ حاضراً في أسماء المنتجات الصناعية في العراق، مثل شركة الصناعات الخفيفة «عشتار»، التي تأسست في عام 1959، والمنشأة العامة للدخان العراقية، التي تأسست إثر دمج معامل أهلية للسجائر في الخمسينات وأُمّمت في عام 1963، وكانت تنتج أنواعاً من السجائر منها سومر وبغداد والرشيد، فضلاً عن مصنع شخّاط (أعواد ثقاب) الأمين (في عام 1975)، وشركة حمورابي العامة للمقاولات الإنشائية (1988)، ومعامل سمنت بابل (1955) والرافدين في نينوى (1956)، وهكذا نشاهد توظيف التاريخ العراقي القديم والعبّاسي في أسماء منتجات تلك الحقب. لكن في عراق ما بعد الغزو، غاب دور الدولة في تأسيس معامل جديدة، وأغلقت الكثير من المصانع القديمة، وبرزت الأسماء الدينية بشكلٍ واضح في المنتجات الاستهلاكية الحالية بهدف استقطاب المستهلك ومشاعره الدينية/ المذهبية.  

إجمالاً، وبغض النظر عن تسييس التاريخ القديم وربطه بشخصية «القائد الرمز» في عهد صدام حسين، فقد كان الخطاب العام السائد مزيجاً من الأفكار العروبية الإقليمية والقُطرية المستلهمة من التاريخ القديم، أما الخطاب الراهن فهو مشتّت بكثرة وتشتُّت الفصائل والأحزاب، وفردي شعبوي غالباً، لكنّه ديني مذهبي بالدرجة الأساس ويحاول ربط طقوس الإله تموز بالطقوس الدينية المتعلقة بعاشوراء أو ربط أور بالنبي إبراهيم اعتماداً على نصٍ غير واضح من سفر التكوين أو ربط قدماء العراقيين بنبط كوثى، مع أن هذه التسمية إسلامية فقط ولا علاقة لها بالأنباط (في الأردن وجنوب فلسطين وشمال الجزيرة)، فضلاً عن تسييس الهوية السومرية (المنقرضة منذ العصور القديمة بعد أن انصهرت في موجات العموريين والكلديين والآراميين والعرب) لتمرير مطالب تأسيس إقليم سومر على أسس مذهبية كامنة. ومهما يكن، فإن حضور التاريخ القديم في جميع الأحوال هامشي تكميلي، قياساً بحجمه وأهميته، بمقابل خطاب قومي عربي سابقاً أو مذهبي حالياً، ولا يرقى إلى محاولات توظيفه لبناء هوية وطنية جامعة. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”