"الأجراس لم تعد تقرع": قبل أن يغادر المسيح بعقوبة 

أحمد نجم

01 آذار 2024

أُسَر قليلة من المسيحيين نجت وبقيت في بعقوبة.. فكيف تعيش؟ وهل تواجه أي مخاوف؟ ولماذا تتحدث عن "الهجرة"؟ قبل أن يغادر المسيح بعقوبة

البحث عن المسيحيين في تاريخ بعقوبة الحديث وذاكرتها أسهل بكثير من البحث عنهم في أحيائها وشوارعها، ومن يجد أحد الأفراد المتبقين منهم في المدينة فإنه لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليكتشف حجم الحذر والرغبة في تجنب الخوض في القضايا الشائكة، التي قد تعكر أجواء الأقلية الصغيرة جداً، والموزعة على جانبي المدينة. 

المسيحيون ليسوا وحدهم من يعاني داخل بعقوبة (60 كلم شرق بغداد) من سوء الخدمات وقلّة فرص العمل، والفوضى الناتجة عن عدم تطبيق القانون، لكنهم وحدهم يعانون من خطر وجوديٍّ يهدد باندثارهم، بصفتهم فئة اجتماعية فاعلة، وانقطاع صلاتهم التاريخية بالمدينة؛ فالعائلات المتبقية منهم محدودة العدد، وتخطط للهجرة. 

تتعامل الجهات الرسمية مع واقع المسيحيين باستسلام، وتبدو عاجزة؛ ليس فقط عن إيقاف هجرة الأسر المسيحية أو تشجيع المهاجرين على العودة، بل عاجزة أيضاً عن إحصاء دقيق لأعداد الأفراد المتبقين منهم، ومتابعة احتياجاتهم. تغيب لغة الأرقام الدقيقة في تصريحات المسؤولين المحليين وتحل بدلاً عنها أرقام تخمينية. 

تركت النزاعات الطائفية والأمنية بصماتها على وجه بعقوبة، من خلال بروز التكتلات السكانية الطائفية بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل. ثمة وضع جديد المسيحيون فيه هم الأكثر تضرراً. 

الرابط الأخير 

لا يزال ثامر يشوع (58 عاماً) يعيش في حي بعقوبة الجديدة. اثنان من إخوته هاجرا إلى أستراليا، وآخر إلى قضاء الحمدانية في نينوى، وبقي له شقيقان، يعيشان بالقرب منه، بالإضافة لابنه الأكبر فيليب. 

يعمل يشوع موظفاً في وزارة الصناعة، ويخطط بعد التقاعد للسفر إلى الأردن، ومن ثم إلى أستراليا حيث يسكن بعض إخوته. تهامس باللغة السريانية مع شقيقته التي قدمت من منزلها في أربيل إلى مدينتها الأم؛ لغرض إكمال معاملة إصدار هوية وطنية جديدة، ثم قال، “هذه الأوراق الرسمية هي آخر ما يربط الأسر المسيحية المهاجرة ببعقوبة”. 

في حياته المهنية يعاني يشوع من التهميش، خاصة في استثنائه عند توزيع المناصب والمسؤوليات داخل دائرته، “في الوظيفة يعتبروننا مواطنين من الدرجة الثانية وآني ما أقبل أكون مواطن من الدرجة الثانية في وطني”.  

بدا فيليب أكثر تفاؤلاً من والده داخل المقهى الصغير الذي يديره، وهو يكشف عن خطط لتوسعته وفتح فرع آخر، لكنه كشف لاحقاً عن سعيه لجمع أكبر قدر ممكن من المال يمكّنه من بدء حياة جديدة بعد الهجرة. 

حلم الهجرة 

في الجانب الشرقي لبعقوبة، يرغب الشقيقان العشرينيان رامي ورافد، ببدء حياة جديدة خارج المدينة، لكن الوضع المادي الصعب يحول دون ذلك. 

 يعمل الأخَوَان في مجال سحب المياه الثقيلة من المنازل، ويسكنان مع أبيهما في بيت تابع لكنيسة أمّ المشورة الصالحة، التي بُنيت ملاصقة لشارع البلدية عام 1964، وهي الكنيسة الوحيدة في بعقوبة. 

أغلقت الكنيسة عام 2005، وفي عام 2018 قاد فريق من الناشطين والمتطوعين بالتعاون مع منظمات دولية ومؤسسات حكومية حملة لإعادة تأهيلها وافتتاحها، محمد العراقي أحد هؤلاء المبادرين، اعتبر أن الخطوة كانت تهدف لترسيخ التعايش السلمي؛ لكنه يرى وجود رغبة واضحة بالهجرة حالياً لدى بعض الأسر المسيحية المتبقية. 

لم تعد الكنيسة كما كانت سابقاً بعد إعادة افتتاحها، ومواظبة الأخوين على رعايتها وتنظيفها، إذ لا تقام في الكنيسة طقوس وقدّاسات أسبوعية، فمسيحيو بعقوبة يفضلون تأدية طقوسهم مع أقاربهم في بغداد أو نينوى أو كردستان.  

يقول الشقيقان إن الأسر المسيحية الباقية في المدينة من النادر أن تزور الكنيسة حتى في المناسبات والأعياد بسبب قلة أعدادهم، وعدم وجود كاهن مخصص. انعدام التواصل هذا بين الأسر المسيحية يعمّق من شعور الاغتراب والرغبة في الهجرة. 

والد الشابين رامي ورافد، تعرّض للاختطاف مرتين خلال فترات النزاع الطائفي، وأطلق سراحه بعد دفع فدية مالية، رغم ذلك بقيت العائلة تسكن بعقوبة حتى بعد سيطرة تنظيم القاعدة على معظم الأحياء عام 2007. يقول رامي إن الأسر المسيحية المهاجرة التي يتواصلون معها، لا تشجعهم على البقاء، وكلما تحدثوا معهم يسألونهم باستغراب، “شعدكم باقين؟”. 

بحسبهما فإنّ المسؤولين المحليين يحرصون على الحضور خلال المناسبات الدينية، ويلتقطون الصور معهم، لكنهم لا يتواصلون بعد ذلك، ولا يردّون على اتصالاتهم. يؤيد يشوع قولهما، “يضحكون بوجوهنا ويجاملوننا لكنهم لا ينفذون وعودهم لنا”. 

 كانت أعداد المسيحيين في العراق تقدر بحوالي 1.5 مليون شخص قبل عام 2003، بينما تقدر أعدادهم حالياً بنحو 250 ألفاً فقط، أي أقل من 17٪ مما كانوا عليه قبل الاحتلال. 

في بعقوبة تزداد النسبة انخفاضاً، ويؤكد عصام افرام، مدير عام دائرة الأوقاف المسيحية في ديوان الوقف المسيحي، أن عدد الأسر المسيحية في بعقوبة حالياً يتراوح بين 7-10 فقط، بينما كان عددهم قبل 2005 نحو 100 عائلة. هذا يعني أن  8 بالمئة فقط من الأسر المسيحية التي كانت تسكن بعقوبة قبل 2005 موجودة حالياً في المدينة. وهم على قلّة أعدادهم الآن متنوعون مذهبياً، حيث إن الغالبية كاثوليك، وبعضهم أرثوذكس وبعضهم بروتستانت. 

يشير افرام إلى أن أحداً من الوقف المسيحي لم يذهب لهذه الأسر منذ فترة وباء كورونا بداية عام 2020، أمّا قبل ذلك فقد أقام الأب مارتن القدّاسات والطقوس في الكنسية بعد افتتاحها مرتين أو ثلاثة. 

بدأت أول هجرة منظمة لمسيحيي بعقوبة بحسب افرام عام 2005، أما العقود التي سبقت هذا التاريخ فقد شهدت هجرات محدودة، منها هجرة بعض الأسر المسيحية مع تهجير من نظام البعث الذي سمّاهم “التبعية” مطلع الثمانينيات، على أساس عرقي ضد الكرد الفيليين وقوميات أخرى، ويشير إلى أن جميع مسيحيي بعقوبة وهم نحو 60 فرد الآن، يرغبون في الهجرة، وبعضهم غير مستقر في المدينة. 

يلمس افرام من خلال تواصله مع الأسر المسيحية باستمرار وجود هاجس القلق الأمني، والتخوّف من بعض الاتهامات، مثل اتهام البعض منهم خلال مرورهم في السيطرات الأمنية بأنهم “يعملون مع الأمريكان”. لا يخفي تشاؤمه، فهو يتوقع أن تخلو المدينة من المسيحيين خلال المستقبل القريب، خاصة في ظل “ضعف ارتباط المسيحيين ببعضهم وغياب الطقوس المشتركة” ويتساءل عن وضع المسيحي الذي لا يجد كنيسة لمدة 6 سنوات، ولديه أطفال، ماذا سيفهم من طقوسه وعاداته ودينه وتاريخه؟  

“كل من تواصلت معه كان يفكر بالهجرة وخاصة الشباب” جملة قالها لافرام الكاهن المكلّف بمتابعة شؤون مسيحيي بعقوبة.  

بحسب مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، فإن المسيحيين أكثر تأثراً من باقي فئات المجتمع بالأوضاع الحالية، يقول صلاح مهدي مدير مكتب المفوضية: “التعاطف مع هذه الشريحة لم ينتج عنه إجراءات تشجيعية لعودة المهاجرين أو الحفاظ على من تبقى منهم”. 

 كذلك دائرة الهجرة والمهجرين في المحافظة، المسؤولة عن ملف الهجرة، تؤكد عدم امتلاكها لأية قاعدة بيانات تخص المهاجرين المسيحيين داخل أو خارج العراق، ولا أيّ تواصل مع من تبقى في المدينة. 

يؤكد افرام لجمّار، أنه لا وجود لبيانات عّما حصل مع مسيحيي بعقوبة بعد 2006، وغياب البيانات عن أعداد المهاجرين منهم. ويضيف أنه يسعى اليوم لمساعدة المسيحيين على البقاء، حتى لا يشعر بتأنيب الضمير لاحقاً، ويقول بأن توجه الدولة القوي لدعم الوجود المسيحي، “أتى بعد فوات الاوان”. ويصف افرام شعوراً واضحاًً عند الأسر المسيحية في بعقوبة، “يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية”.  

يصف ثامر يشوع هذا الشعور، “إذا وكعت بمشكلة هنا كمسيحي ما تخلص” خاصة بعدما حصل مع ابن أخيه الذي يعمل مهندسا كهربائيا، حين اصطدمت سيارته صيف عام 2019 بسيارة تكسي تحمل أربعة أشخاص. 

 يروي ثامر يشوع بألم الموقف الذي أعقب الحادث، لحسن الحظ لم يمت أحداً بسبب الحادث، وغادر المصابون المستشفى سريعاً، “لمن شافونا مسيح التموا علينا كأنما عدو وطلبوا التعويض كله برأسنا “. 

يتحدث يشوع عن تواطؤ الشرطة مع الطرف الآخر، “استعانت العائلة بشيخ عشيرة، ولم تحل المشكلة إلا بعد أن دفعت العائلة 15 مليون دينار لتصليح السيارة وتعويض الطرف الآخر”.  

قيادة الشرطة في ديالى، أكدت على لسان العقيد هيثم الشمري، المتحدث الرسمي باسمها، وجود مخاوف أمنية لدى الأسر المهاجرة، رغم الاستقرار الذي تشهده المدينة، وأشار إلى أن مديريته قدمت الدعم للعوائل المتبقية وتتواصل معهم في المناسبات الدينية.  

استدراج وقتل وتهجير 

يحمل الدكتور جورج سيمون، أستاذ جامعي متقاعد، ما يصفها بأنها أسوأ مشاعر إنسانية، فهو يعتبر نفسه خرج من بعقوبة مطروداً. 

ولد سيمون في بعقوبة، ونشأ وعاش فيها، عام 2006 استُدرِج زوج اخته وشقيقه إلى كراج بعقوبة – بغداد، وقُتلا هناك في الشارع، اعتبرت هذه الجريمة إيذانا ببدء مرحلة من العنف تجاه المسيحيين في المدينة. يتذكر سيمون أحداث تلك السنة، “صار قتل في شوارع بعقوبة، وعدة مرات نروح للسوك ماكو شي، وبعدين تشتغل طلقات وقتل ونحير شلون نرجع”. 

هاجر الأستاذ الجامعي على مرحلتين، الأولى عام 2006 إلى الحمدانية في الموصل، ثم عاد وحده لاحقاً حتى إحالته على التقاعد، والثانية إلى أربيل التي استقر فيها بعد دخول تنظيم داعش، وباع منزله في بعقوبة. يخبرنا أنه لم يُجبر على بيع منزله، لكنه اضطر لقبول سعر أقل من قيمته الحقيقية، “ما انطوني سعره الحقيقي، لان يعرفون هذا مال مسيحي ما يكعد بيه ويبيعه بأي سعر”. 

العقيد هيثم الشمري، المتحدث باسم شرطة ديالى، نفى حدوث حالات انتزاع لأملاك وبيوت المسيحيين، وأكد تواصله المباشر مع الأسر المتبقية في المدينة خلال أعياد الميلاد، حيث أوضح تقديمه للدعم المستمر لهم، وتلبية طلباتهم مثل “نقل أحد المنتسبين في جهاز الشرطة من المكوّن المسيحي ليعمل بالقرب من محل سكنه، بعد أن كان يعمل في منطقة بعيدة”. 

عندما يذهب سيمون إلى بعقوبة حالياً، لا يشعر بأن له مستقبلاً فيها، “حتى هنا في كردستان لا أشعر بالاستقرار الحقيقي لأن الفساد والمشاكل في كل البلد”. أمّا خيار العودة؛ فغير مطروح بالنسبة له، فأولاده أسسوا حياتهم في أربيل، ولا يفكرون بالعودة، وهو يعتقد أن السلطات تفكر بالطريقة ذاتها التي أنتجت المشاكل السابقة، “رجعتنا ما لها معنى”. 

في مدينة الحمدانية يسكن حنا يشوع (69 عاماً) شقيق ثامر، ويتردد إلى بعقوبة بين الحين والآخر. كان يشوع يعمل مدرساً قبل أن يهاجر نتيجة تعرضه لعدة تهديدات. 

ولد حنا ونشأ في منطقة العنافصة، وسط بعقوبة، ثم انتقل لاحقاً للسكن في المجمع الصناعي، تلقى تهديدين متتاليين في حزيران عام 2006، وجد ورقة التهديد الأولى في باب المدرسة، أما ورقة التهديد الثانية فقد دُسّت أسفل باب بيته. كانت التهديدات تتضمن اتهامه بالعمل مع القوات الأمريكية، ما اضطره لمغادرة المنطقة. يسخر يشوع من هذه التهمة لأنه قبل ذلك بسنتين كان معتقلاً لدى القوات الأمريكية بتهمة المقاومة، نتيجة إدانته الاحتلال الأمريكي للبلد. 

يتفق حنا يشوع مع الدكتور جورج سيمون في نظرته للمستقبل، كلاهما لا يرى مستقبلاً للوجود المسيحي في بعقوبة “المتبقي من المسيحيين في بعقوبة يرغبون ويخططون باللحاق بنا” يقول يشوع ذلك وهو يؤكد بأن ما حصل لم يكن يخطر على بالهم أبداً. 

الجيل الجديد 

الشباب المسيحيون الذين ولدوا بعد عام 2005 يواجهون تحدياً آخر، يتمثل بضعف أو انعدام التواصل في ما بينهم، بسبب قلة عددهم، ولأنهم لا يعيشون في الحي نفسه. يعمّق هذا لديهم الشعور بالوحدة والاغتراب، ويشكل حافزاً إضافياً للمغادرة. 

أخبرنا مدير إعلام محافظة ديالى ياسر البدر أن الناحية الاقتصادية والاجتماعية لا تشجع المسيحيين على البقاء، لأن الغالبية منهم ترتبط بالعمل خارج المحافظة، كما أن تواصلهم مع أقاربهم المهاجرين يعتبر حافزاً مشجعاً على الهجرة. وبحسبه فإنه يذكر أن نسبة من الدرجات الوظيفية في المؤسسات الحكومية مخصصة للأقليات، ومنهم المسيحيون، لكن عدداً ممن تحدثنا إليهم أكد عدم استفادتهم من تلك النسبة، مثل ثامر يشوع، ونفى آخرون وجودها، ما ينمي شعورهم بالتمييز. 

لا يشكو معظم من تحدثنا إليهم من مضايقات مجتمعية، لكنهم يشعرون باغتراب داخلي كما يصفونه، نتيجة شعورهم بالاختلاف عن المحيط الاجتماعي. 

فيليب صاحب المقهى، أحد هؤلاء المسيحيين النادرين في بعقوبة، لديه أصدقاء مسلمون، ولا يعرف أحداً من مسيحيي بعقوبة. والدهُ يشير إلى مأزق آخر، وهو الزواج، إذ أنّ البحث عن زوجة مهمة شاقّة قد توصل العائلة المسيحية إلى الموصل أو كردستان، في مهمة البحث عن التوافق الديني والاجتماعي الذي يفضي إلى الزواج.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

البحث عن المسيحيين في تاريخ بعقوبة الحديث وذاكرتها أسهل بكثير من البحث عنهم في أحيائها وشوارعها، ومن يجد أحد الأفراد المتبقين منهم في المدينة فإنه لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليكتشف حجم الحذر والرغبة في تجنب الخوض في القضايا الشائكة، التي قد تعكر أجواء الأقلية الصغيرة جداً، والموزعة على جانبي المدينة. 

المسيحيون ليسوا وحدهم من يعاني داخل بعقوبة (60 كلم شرق بغداد) من سوء الخدمات وقلّة فرص العمل، والفوضى الناتجة عن عدم تطبيق القانون، لكنهم وحدهم يعانون من خطر وجوديٍّ يهدد باندثارهم، بصفتهم فئة اجتماعية فاعلة، وانقطاع صلاتهم التاريخية بالمدينة؛ فالعائلات المتبقية منهم محدودة العدد، وتخطط للهجرة. 

تتعامل الجهات الرسمية مع واقع المسيحيين باستسلام، وتبدو عاجزة؛ ليس فقط عن إيقاف هجرة الأسر المسيحية أو تشجيع المهاجرين على العودة، بل عاجزة أيضاً عن إحصاء دقيق لأعداد الأفراد المتبقين منهم، ومتابعة احتياجاتهم. تغيب لغة الأرقام الدقيقة في تصريحات المسؤولين المحليين وتحل بدلاً عنها أرقام تخمينية. 

تركت النزاعات الطائفية والأمنية بصماتها على وجه بعقوبة، من خلال بروز التكتلات السكانية الطائفية بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل. ثمة وضع جديد المسيحيون فيه هم الأكثر تضرراً. 

الرابط الأخير 

لا يزال ثامر يشوع (58 عاماً) يعيش في حي بعقوبة الجديدة. اثنان من إخوته هاجرا إلى أستراليا، وآخر إلى قضاء الحمدانية في نينوى، وبقي له شقيقان، يعيشان بالقرب منه، بالإضافة لابنه الأكبر فيليب. 

يعمل يشوع موظفاً في وزارة الصناعة، ويخطط بعد التقاعد للسفر إلى الأردن، ومن ثم إلى أستراليا حيث يسكن بعض إخوته. تهامس باللغة السريانية مع شقيقته التي قدمت من منزلها في أربيل إلى مدينتها الأم؛ لغرض إكمال معاملة إصدار هوية وطنية جديدة، ثم قال، “هذه الأوراق الرسمية هي آخر ما يربط الأسر المسيحية المهاجرة ببعقوبة”. 

في حياته المهنية يعاني يشوع من التهميش، خاصة في استثنائه عند توزيع المناصب والمسؤوليات داخل دائرته، “في الوظيفة يعتبروننا مواطنين من الدرجة الثانية وآني ما أقبل أكون مواطن من الدرجة الثانية في وطني”.  

بدا فيليب أكثر تفاؤلاً من والده داخل المقهى الصغير الذي يديره، وهو يكشف عن خطط لتوسعته وفتح فرع آخر، لكنه كشف لاحقاً عن سعيه لجمع أكبر قدر ممكن من المال يمكّنه من بدء حياة جديدة بعد الهجرة. 

حلم الهجرة 

في الجانب الشرقي لبعقوبة، يرغب الشقيقان العشرينيان رامي ورافد، ببدء حياة جديدة خارج المدينة، لكن الوضع المادي الصعب يحول دون ذلك. 

 يعمل الأخَوَان في مجال سحب المياه الثقيلة من المنازل، ويسكنان مع أبيهما في بيت تابع لكنيسة أمّ المشورة الصالحة، التي بُنيت ملاصقة لشارع البلدية عام 1964، وهي الكنيسة الوحيدة في بعقوبة. 

أغلقت الكنيسة عام 2005، وفي عام 2018 قاد فريق من الناشطين والمتطوعين بالتعاون مع منظمات دولية ومؤسسات حكومية حملة لإعادة تأهيلها وافتتاحها، محمد العراقي أحد هؤلاء المبادرين، اعتبر أن الخطوة كانت تهدف لترسيخ التعايش السلمي؛ لكنه يرى وجود رغبة واضحة بالهجرة حالياً لدى بعض الأسر المسيحية المتبقية. 

لم تعد الكنيسة كما كانت سابقاً بعد إعادة افتتاحها، ومواظبة الأخوين على رعايتها وتنظيفها، إذ لا تقام في الكنيسة طقوس وقدّاسات أسبوعية، فمسيحيو بعقوبة يفضلون تأدية طقوسهم مع أقاربهم في بغداد أو نينوى أو كردستان.  

يقول الشقيقان إن الأسر المسيحية الباقية في المدينة من النادر أن تزور الكنيسة حتى في المناسبات والأعياد بسبب قلة أعدادهم، وعدم وجود كاهن مخصص. انعدام التواصل هذا بين الأسر المسيحية يعمّق من شعور الاغتراب والرغبة في الهجرة. 

والد الشابين رامي ورافد، تعرّض للاختطاف مرتين خلال فترات النزاع الطائفي، وأطلق سراحه بعد دفع فدية مالية، رغم ذلك بقيت العائلة تسكن بعقوبة حتى بعد سيطرة تنظيم القاعدة على معظم الأحياء عام 2007. يقول رامي إن الأسر المسيحية المهاجرة التي يتواصلون معها، لا تشجعهم على البقاء، وكلما تحدثوا معهم يسألونهم باستغراب، “شعدكم باقين؟”. 

بحسبهما فإنّ المسؤولين المحليين يحرصون على الحضور خلال المناسبات الدينية، ويلتقطون الصور معهم، لكنهم لا يتواصلون بعد ذلك، ولا يردّون على اتصالاتهم. يؤيد يشوع قولهما، “يضحكون بوجوهنا ويجاملوننا لكنهم لا ينفذون وعودهم لنا”. 

 كانت أعداد المسيحيين في العراق تقدر بحوالي 1.5 مليون شخص قبل عام 2003، بينما تقدر أعدادهم حالياً بنحو 250 ألفاً فقط، أي أقل من 17٪ مما كانوا عليه قبل الاحتلال. 

في بعقوبة تزداد النسبة انخفاضاً، ويؤكد عصام افرام، مدير عام دائرة الأوقاف المسيحية في ديوان الوقف المسيحي، أن عدد الأسر المسيحية في بعقوبة حالياً يتراوح بين 7-10 فقط، بينما كان عددهم قبل 2005 نحو 100 عائلة. هذا يعني أن  8 بالمئة فقط من الأسر المسيحية التي كانت تسكن بعقوبة قبل 2005 موجودة حالياً في المدينة. وهم على قلّة أعدادهم الآن متنوعون مذهبياً، حيث إن الغالبية كاثوليك، وبعضهم أرثوذكس وبعضهم بروتستانت. 

يشير افرام إلى أن أحداً من الوقف المسيحي لم يذهب لهذه الأسر منذ فترة وباء كورونا بداية عام 2020، أمّا قبل ذلك فقد أقام الأب مارتن القدّاسات والطقوس في الكنسية بعد افتتاحها مرتين أو ثلاثة. 

بدأت أول هجرة منظمة لمسيحيي بعقوبة بحسب افرام عام 2005، أما العقود التي سبقت هذا التاريخ فقد شهدت هجرات محدودة، منها هجرة بعض الأسر المسيحية مع تهجير من نظام البعث الذي سمّاهم “التبعية” مطلع الثمانينيات، على أساس عرقي ضد الكرد الفيليين وقوميات أخرى، ويشير إلى أن جميع مسيحيي بعقوبة وهم نحو 60 فرد الآن، يرغبون في الهجرة، وبعضهم غير مستقر في المدينة. 

يلمس افرام من خلال تواصله مع الأسر المسيحية باستمرار وجود هاجس القلق الأمني، والتخوّف من بعض الاتهامات، مثل اتهام البعض منهم خلال مرورهم في السيطرات الأمنية بأنهم “يعملون مع الأمريكان”. لا يخفي تشاؤمه، فهو يتوقع أن تخلو المدينة من المسيحيين خلال المستقبل القريب، خاصة في ظل “ضعف ارتباط المسيحيين ببعضهم وغياب الطقوس المشتركة” ويتساءل عن وضع المسيحي الذي لا يجد كنيسة لمدة 6 سنوات، ولديه أطفال، ماذا سيفهم من طقوسه وعاداته ودينه وتاريخه؟  

“كل من تواصلت معه كان يفكر بالهجرة وخاصة الشباب” جملة قالها لافرام الكاهن المكلّف بمتابعة شؤون مسيحيي بعقوبة.  

بحسب مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، فإن المسيحيين أكثر تأثراً من باقي فئات المجتمع بالأوضاع الحالية، يقول صلاح مهدي مدير مكتب المفوضية: “التعاطف مع هذه الشريحة لم ينتج عنه إجراءات تشجيعية لعودة المهاجرين أو الحفاظ على من تبقى منهم”. 

 كذلك دائرة الهجرة والمهجرين في المحافظة، المسؤولة عن ملف الهجرة، تؤكد عدم امتلاكها لأية قاعدة بيانات تخص المهاجرين المسيحيين داخل أو خارج العراق، ولا أيّ تواصل مع من تبقى في المدينة. 

يؤكد افرام لجمّار، أنه لا وجود لبيانات عّما حصل مع مسيحيي بعقوبة بعد 2006، وغياب البيانات عن أعداد المهاجرين منهم. ويضيف أنه يسعى اليوم لمساعدة المسيحيين على البقاء، حتى لا يشعر بتأنيب الضمير لاحقاً، ويقول بأن توجه الدولة القوي لدعم الوجود المسيحي، “أتى بعد فوات الاوان”. ويصف افرام شعوراً واضحاًً عند الأسر المسيحية في بعقوبة، “يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية”.  

يصف ثامر يشوع هذا الشعور، “إذا وكعت بمشكلة هنا كمسيحي ما تخلص” خاصة بعدما حصل مع ابن أخيه الذي يعمل مهندسا كهربائيا، حين اصطدمت سيارته صيف عام 2019 بسيارة تكسي تحمل أربعة أشخاص. 

 يروي ثامر يشوع بألم الموقف الذي أعقب الحادث، لحسن الحظ لم يمت أحداً بسبب الحادث، وغادر المصابون المستشفى سريعاً، “لمن شافونا مسيح التموا علينا كأنما عدو وطلبوا التعويض كله برأسنا “. 

يتحدث يشوع عن تواطؤ الشرطة مع الطرف الآخر، “استعانت العائلة بشيخ عشيرة، ولم تحل المشكلة إلا بعد أن دفعت العائلة 15 مليون دينار لتصليح السيارة وتعويض الطرف الآخر”.  

قيادة الشرطة في ديالى، أكدت على لسان العقيد هيثم الشمري، المتحدث الرسمي باسمها، وجود مخاوف أمنية لدى الأسر المهاجرة، رغم الاستقرار الذي تشهده المدينة، وأشار إلى أن مديريته قدمت الدعم للعوائل المتبقية وتتواصل معهم في المناسبات الدينية.  

استدراج وقتل وتهجير 

يحمل الدكتور جورج سيمون، أستاذ جامعي متقاعد، ما يصفها بأنها أسوأ مشاعر إنسانية، فهو يعتبر نفسه خرج من بعقوبة مطروداً. 

ولد سيمون في بعقوبة، ونشأ وعاش فيها، عام 2006 استُدرِج زوج اخته وشقيقه إلى كراج بعقوبة – بغداد، وقُتلا هناك في الشارع، اعتبرت هذه الجريمة إيذانا ببدء مرحلة من العنف تجاه المسيحيين في المدينة. يتذكر سيمون أحداث تلك السنة، “صار قتل في شوارع بعقوبة، وعدة مرات نروح للسوك ماكو شي، وبعدين تشتغل طلقات وقتل ونحير شلون نرجع”. 

هاجر الأستاذ الجامعي على مرحلتين، الأولى عام 2006 إلى الحمدانية في الموصل، ثم عاد وحده لاحقاً حتى إحالته على التقاعد، والثانية إلى أربيل التي استقر فيها بعد دخول تنظيم داعش، وباع منزله في بعقوبة. يخبرنا أنه لم يُجبر على بيع منزله، لكنه اضطر لقبول سعر أقل من قيمته الحقيقية، “ما انطوني سعره الحقيقي، لان يعرفون هذا مال مسيحي ما يكعد بيه ويبيعه بأي سعر”. 

العقيد هيثم الشمري، المتحدث باسم شرطة ديالى، نفى حدوث حالات انتزاع لأملاك وبيوت المسيحيين، وأكد تواصله المباشر مع الأسر المتبقية في المدينة خلال أعياد الميلاد، حيث أوضح تقديمه للدعم المستمر لهم، وتلبية طلباتهم مثل “نقل أحد المنتسبين في جهاز الشرطة من المكوّن المسيحي ليعمل بالقرب من محل سكنه، بعد أن كان يعمل في منطقة بعيدة”. 

عندما يذهب سيمون إلى بعقوبة حالياً، لا يشعر بأن له مستقبلاً فيها، “حتى هنا في كردستان لا أشعر بالاستقرار الحقيقي لأن الفساد والمشاكل في كل البلد”. أمّا خيار العودة؛ فغير مطروح بالنسبة له، فأولاده أسسوا حياتهم في أربيل، ولا يفكرون بالعودة، وهو يعتقد أن السلطات تفكر بالطريقة ذاتها التي أنتجت المشاكل السابقة، “رجعتنا ما لها معنى”. 

في مدينة الحمدانية يسكن حنا يشوع (69 عاماً) شقيق ثامر، ويتردد إلى بعقوبة بين الحين والآخر. كان يشوع يعمل مدرساً قبل أن يهاجر نتيجة تعرضه لعدة تهديدات. 

ولد حنا ونشأ في منطقة العنافصة، وسط بعقوبة، ثم انتقل لاحقاً للسكن في المجمع الصناعي، تلقى تهديدين متتاليين في حزيران عام 2006، وجد ورقة التهديد الأولى في باب المدرسة، أما ورقة التهديد الثانية فقد دُسّت أسفل باب بيته. كانت التهديدات تتضمن اتهامه بالعمل مع القوات الأمريكية، ما اضطره لمغادرة المنطقة. يسخر يشوع من هذه التهمة لأنه قبل ذلك بسنتين كان معتقلاً لدى القوات الأمريكية بتهمة المقاومة، نتيجة إدانته الاحتلال الأمريكي للبلد. 

يتفق حنا يشوع مع الدكتور جورج سيمون في نظرته للمستقبل، كلاهما لا يرى مستقبلاً للوجود المسيحي في بعقوبة “المتبقي من المسيحيين في بعقوبة يرغبون ويخططون باللحاق بنا” يقول يشوع ذلك وهو يؤكد بأن ما حصل لم يكن يخطر على بالهم أبداً. 

الجيل الجديد 

الشباب المسيحيون الذين ولدوا بعد عام 2005 يواجهون تحدياً آخر، يتمثل بضعف أو انعدام التواصل في ما بينهم، بسبب قلة عددهم، ولأنهم لا يعيشون في الحي نفسه. يعمّق هذا لديهم الشعور بالوحدة والاغتراب، ويشكل حافزاً إضافياً للمغادرة. 

أخبرنا مدير إعلام محافظة ديالى ياسر البدر أن الناحية الاقتصادية والاجتماعية لا تشجع المسيحيين على البقاء، لأن الغالبية منهم ترتبط بالعمل خارج المحافظة، كما أن تواصلهم مع أقاربهم المهاجرين يعتبر حافزاً مشجعاً على الهجرة. وبحسبه فإنه يذكر أن نسبة من الدرجات الوظيفية في المؤسسات الحكومية مخصصة للأقليات، ومنهم المسيحيون، لكن عدداً ممن تحدثنا إليهم أكد عدم استفادتهم من تلك النسبة، مثل ثامر يشوع، ونفى آخرون وجودها، ما ينمي شعورهم بالتمييز. 

لا يشكو معظم من تحدثنا إليهم من مضايقات مجتمعية، لكنهم يشعرون باغتراب داخلي كما يصفونه، نتيجة شعورهم بالاختلاف عن المحيط الاجتماعي. 

فيليب صاحب المقهى، أحد هؤلاء المسيحيين النادرين في بعقوبة، لديه أصدقاء مسلمون، ولا يعرف أحداً من مسيحيي بعقوبة. والدهُ يشير إلى مأزق آخر، وهو الزواج، إذ أنّ البحث عن زوجة مهمة شاقّة قد توصل العائلة المسيحية إلى الموصل أو كردستان، في مهمة البحث عن التوافق الديني والاجتماعي الذي يفضي إلى الزواج.