أوجاع الطفل العراقي: حكوميّ.. أهليّ.. خارجيّ و"سكوة" 

مهند فارس

30 كانون الثاني 2024

يضطر مرضى الأمراض التنفسية إلى الوقوف في صفوف طويلة، ليتمكنوا من الوصول إلى قناع "CPAP"واستخدامه، ويصل الأطفال الموت مئة مرّة، قبل أن يتم تشخيصهم.. عن "مهرة" وشبيهاتها وأوجاعهم في العراق..

مُهرة، مولودة عراقية، لم تبلغ عامها الأول بعد، لكنها بلغت الموت أكثر من مرة؛ بسبب “الاختناق الولادي” الذي تعاني منه. وبحثاً عن العلاج، حملها والداها إلى مستشفيات بغداد، لكن الطب الحكومي في العاصمة لم ينجح في إنقاذها، فجربوا المستشفيات والعيادات الخاصة، في بغداد وصلاح الدين، وكان ذلك أيضاً بلا جدوى، مُهرة ما زالت تختنق. 

كان التشخيص الخاطئ هو ما تسبب باستمرار معاناة مهرة، فقد عزا بعض الأطباء سبب اختناقها المتكرر إلى ضعف المناعة الولادي، وآخرون اعتقدوا أن التلوث البيئي الذي يتصاعد في البلاد، هو السبب، فيما اعتقد بعض آخر من الأطباء أن الربو هو سبب أزمتها الصحية. 

بحسب ما روت والدتها لجمّار، “كل طبيب وصف لها أدوية وفقاً لتشخيصه، لكن جميعها كانت بعيدة عن العلاج الحقيقي الذي تحتاجه مهرة، حتّى قارب تشخيص أحد الأطباء الصواب، فتحة في القلب، هي سبب أزمتها المستمرة”. 

للاطمئنان على قلب مهرة، سافر بها والداها إلى إقليم كردستان. وبعد إجراء الفحوصات اللازمة في مستشفىً خاص، تبين أن مهرة تعاني من 5 فتحات قلبية – لم تكن واحدة. إضافة إلى التهاب في الدم سببه تلوث مستلزمات المشافي التي دارت بينها الطفلة بحثاً عن علاج. 

“إهمال أو سوء تشخيص، بغض النظر عما تحوّل إليه الطب، فإنني فقدت إيماني به”، تقول أُمّ مهرة بنبرة أسى، بعد رحلة طويلة لاكتشاف مرض طفلتها الصغيرة. 

يدخل دورة العلاج هذه عراقيون كثيرون، فيما يضطر آخرون إلى إكمالها سفراً إلى ما بات يعرف بـ”السياحة العلاجية” التي غالباً ما تكون في دول الجوار، أو أبعد من ذلك إلى الهند وأوروبا.  

ووفقاً لبرنامج الإخلاء الطبي في العراق، أنفق العراقيون عام  2018، 500 مليون دولار على الرعاية الصحية في الهند وحدها، بينما أصدرت الحكومة الهندية في ذلك العام نحو 50 ألف تأشيرة طبية للعراقيين. وبحسب ماجد شنكالي، رئيس لجنة الصحة النيابية، فإن العراقيين ينفقون سنوياً من 750 مليوناً إلى مليار دولار، للعلاج في الخارج. 

رحلة الاختناق.. قناع “من واحد لواحد” 

في تقريرها السنوي لعام 2023، الخاص بمراقبة توفر الموارد والخدمات الصحية، كشفت منظمة الصحة العالمية عن وجود نقص حاد في الإمدادات الطبية، والكوادر، والأدوية والموارد المالية والتدريبية، الخاصة بمستشفيات الأطفال في العراق.   

من أجل الاقتراب أكثر من المشكلة، دخلنا إلى مدينة الطب في بغداد، المجمع الطبي الأكبر في العراق، ودخلنا أيضاً إلى مستشفى الطفل في منطقة الإسكان، إضافة إلى مستشفى حماية الأطفال الذي يعد مركزاً للدراسات الطبية. كانت هذه المستشفيات، جميعها، تعاني من قلّة النظافة، وتهالك بعض الغرف، وأسرّة مرضاها غير نظيفة، ومقاعد الانتظار والفحص فيها قديمة، والحشرات والقوارض يمكن رؤيتها على الأرض والجدران. تواصلنا مع إعلام مدينة الطب وإدارتها للحصول على ردّ يخصّ الأوضاع في المؤسسة الطبية، لكننا لم نحصل على إجابات. 

نقص الرعاية الصحية، والخدمات الطبية في مستشفيات الأطفال يصل حد إعادة تدوير أقنعة الأوكسجين بين الأطفال المرضى، بحسب شهادة واحدة من طبيبات الأطفال لجمّار، “احنا بالعراق الماسك يستخدمه 100 طفل من واحد لواحد، فتخيل أن طفلا منهم يعاني التهاباً أو مرضاً معدياً”. تؤيد هذه الشهادة واحدة من الممرضات العاملات في مستشفى الطفل المركزي، وتقول إن استخدام الكمامة الواحدة بين عدة مرضى، يتم دون تدقيق في الحالة المرضية للمستخدم السابق.  

يضطر مرضى الربو والسعال الديكي والتهاب القصبات وعائلاتهم، إلى الوقوف في صفوف طويلة، ليتمكنوا من الوصول إلى قناع “CPAP“واستخدامه، أحياناً يحدث ذلك بلا تعقيم. ونتيجة لتلوّث الأجواء داخل المؤسسات الصحية، فإن حالات الإصابة بالأمراض التنفسيّة تشهد زيادة كبيرة كل عام، فعلى سبيل المثال، تضاعف عدد المصابين بالربو في بغداد بين عامي 2011 – 2013 ليبلغ أكثر من 30 ألفاً، وفق  دراسة نشرتها كلية العلوم للبنات في جامعة بغداد.  

عام 2022، كشف باسم خشان، عضو مجلس النواب العراقي، عن فضيحة تتعلق بصفقة وزارة الصحة لشراء أقنعة “CPAP” خلال جائحة “كورونا”، خشان ذكر أن الصفقة المتورطة بها أيضاً شركة كيماديا، تقضي بتزويد محافظات الوسط والجنوب لشحنات من هذه الأقنعة، وفي حين أن محافظة المثنى تحتاج إلى 300 قناع فقط، فقد جرى تزويدها بأكثر من 175 ألف قناع، ومثلها النجف (350 ألف قناع) والعمارة (350 ألف قناع) وكربلاء (300 ألف قناع)  وبينما يبلغ سعر القناع الواحد بحسب خشان أقل من 5 دولارات، كان سعر القناع الواحد في صفقة وزارة الصحة يبلغ 24 دولاراً.  

من المجمعات الطبيّة إلى مواقع السوشيال ميديا 

طب الأطفال هو الآخر، استُغل ليتحوّل في جانب منه إلى “بزنس”، فقد تحوّلت العديد من العيادات الطبيّة الخاصّة إلى دكاكين تجارية، وصار بعض التجّار مثلاً يشتري عمارة، ويحولها إلى مجمع طبي، تتوزع غرفه بين الأطباء، وهؤلاء الأطباء يصفون العلاجات بالتنسيق مع الصيدليات العاملة في المجمّع نفسه، أو القريبة منه؛ بهدف منع المراجعين من صرف وصفاتهم من صيدليات أخرى. 

تقول ورود من بغداد، في حديث لجمّار، “أحد الأطباء في عيادة خاصة وصف لطفلتي جرعة زائدة من دواء أستيمافيون، إثر نزلة برد أصابتها، وأدت هذه الجرعة إلى حدوث تسمم نجت منه الطفلة بأعجوبة” تحوّلت هذه الحادثة بالنسبة لورود إلى ذكرى مرعبة مع الأطباء، فهي لا تستطيع نسيان الطريقة التي كادت أن تخسر بها طفلتها. 

في ظل الإهمال الرسمي متعدد الأوجه للقطاع الصحي، ظهرت مبادرات اجتماعية تعويضية تتكفل بعلاج حالات مرضيّة معينة ومحدودة، عبر الإعلان على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف جمع التبرعات، وكذلك حالات تعاون بين الجيران وأهالي الأحياء السكنية لجمع مبالغ في حالات مرضية فردية، ومبادرات من بعض الشخصيات العامة الإعلامية والسياسية في دول أخرى، لعلاج حالات مرضية عراقية على نفقتها الخاصة.  

فمثلاً، أثناء فعاليات بطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم التي أقيمت في محافظة البصرة، ومع مظاهر البذخ التي رافقتها، تبنى إعلامي قطري علاج مرض ضمور العضلات الشوكي الذي يعاني منه الطفل نادر، تبلغ كلفة علاج “الزولجينسما” نحو مليوني دولار. 

في شباط 2021، تكفّل سياسي من دولة الإمارات، في علاج الطفلة لافين ابراهيم التي تعاني من المرض ذاته، بعد مناشدات وجهها له أهلها، كما تكفل سياسي إماراتي آخر في تشرين الأول 2022، بعلاج الطفلة شمس من المرض نفسه.  

هذه المبادرات رغم أنها تساعد في بعض الحالات، إلا أنها لا يمكن أن تشكل بديلاً عن دور القطاع الصحي العام، حيث لا تعدو كونها حالات فردية، لا يحصل عليها جميع المرضى. 

تجربةالسكوة 

تلجأ بعض العائلات إلى ما يسمّى “الطب الشعبي” وتعتقد أنه البديل عن المستشفيات والعيادات، الحكومية والخاصة، وهذا له مشاكله التي تؤدي في أحيان إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى الموت. مثلما حدث في محافظة الأنبار عام 2019، عندما أُعلن عن وفاة طفلين في يوم واحد؛ “بسبب تسمم ناتج عن إعطائهما مادة السكوة” وفي العام نفسه كشف الدكتور أحمد عريبي، طبيب الأطفال في مستشفى الفلوجة، عن “وفاة 10 أطفال خلال شهري آذار ونيسان بسبب مادة “السكوة” التي تسمّى في بعض مناطق العراق “الكروف”. 

السكوة خلطة شعبية، تتكون من الأعشاب، والمعادن كالرصاص، وجلد القنفذ، ويسود اعتقاد عند بعض السكان أنها علاج للإسهال، تُعطى للطفل بطرق مختلفة، كالشم، أو شق الرأس ووضع عجينة الخليط على الجرح، أو مزجها وشربها، وفي كل الحالات تتسبب بحدوث تسمم قد يؤدي إلى الموت. 

بالنسبة للدكتور أنور جاسم، أخصائي طب الأطفال في بغداد، لا يقف الضرر عند الاستخدام الخاطئ للأعشاب، بل يقصّر بعض الأهالي في الالتزام بجدول التطعيم الدوري للطفل، وأيضاً يهملون نظامه الغذائي، ونظافته، ويستخدمون الأدوية والطرق العلاجية الخاطئة، وخاصة استخدام المضادات الحيوية بصورة عشوائية. 

الدكتورة شيماء الكمالي، أخصائية أمراض الطفل، تؤكد أن اللجوء للطب البديل والتداوي بالأعشاب معاناة يعيشها طب الأطفال. لأنه يساهم في زيادة حالات الوفاة، “خاصة بعض الطرق مثل كوي منطقة البطن، أو السكوة”. 

تقول الكمالي إن بعض الأهالي يرفضون علاج أبنائهم من اليرقان، المعروف بأبو صفار، داخل المشافي، ويلجؤون لاستخدام الثوم والكهرب والكحل، وهي “وصفة أخرى لا يتحملها جسد الطفل وتسبب الوفاة، وفي أحسن الأحوال تصيبه بمضاعفات تسبب إعاقة دماغية دائمة”.  

تعزو الكمالي الإصرار على هذه الممارسات إلى استفحال أزمة الثقة بين المجتمع والطبيب، وتعدها من أكبر مسببات تفشي الأمراض، بين الأطفال والبالغين أيضاً. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

مُهرة، مولودة عراقية، لم تبلغ عامها الأول بعد، لكنها بلغت الموت أكثر من مرة؛ بسبب “الاختناق الولادي” الذي تعاني منه. وبحثاً عن العلاج، حملها والداها إلى مستشفيات بغداد، لكن الطب الحكومي في العاصمة لم ينجح في إنقاذها، فجربوا المستشفيات والعيادات الخاصة، في بغداد وصلاح الدين، وكان ذلك أيضاً بلا جدوى، مُهرة ما زالت تختنق. 

كان التشخيص الخاطئ هو ما تسبب باستمرار معاناة مهرة، فقد عزا بعض الأطباء سبب اختناقها المتكرر إلى ضعف المناعة الولادي، وآخرون اعتقدوا أن التلوث البيئي الذي يتصاعد في البلاد، هو السبب، فيما اعتقد بعض آخر من الأطباء أن الربو هو سبب أزمتها الصحية. 

بحسب ما روت والدتها لجمّار، “كل طبيب وصف لها أدوية وفقاً لتشخيصه، لكن جميعها كانت بعيدة عن العلاج الحقيقي الذي تحتاجه مهرة، حتّى قارب تشخيص أحد الأطباء الصواب، فتحة في القلب، هي سبب أزمتها المستمرة”. 

للاطمئنان على قلب مهرة، سافر بها والداها إلى إقليم كردستان. وبعد إجراء الفحوصات اللازمة في مستشفىً خاص، تبين أن مهرة تعاني من 5 فتحات قلبية – لم تكن واحدة. إضافة إلى التهاب في الدم سببه تلوث مستلزمات المشافي التي دارت بينها الطفلة بحثاً عن علاج. 

“إهمال أو سوء تشخيص، بغض النظر عما تحوّل إليه الطب، فإنني فقدت إيماني به”، تقول أُمّ مهرة بنبرة أسى، بعد رحلة طويلة لاكتشاف مرض طفلتها الصغيرة. 

يدخل دورة العلاج هذه عراقيون كثيرون، فيما يضطر آخرون إلى إكمالها سفراً إلى ما بات يعرف بـ”السياحة العلاجية” التي غالباً ما تكون في دول الجوار، أو أبعد من ذلك إلى الهند وأوروبا.  

ووفقاً لبرنامج الإخلاء الطبي في العراق، أنفق العراقيون عام  2018، 500 مليون دولار على الرعاية الصحية في الهند وحدها، بينما أصدرت الحكومة الهندية في ذلك العام نحو 50 ألف تأشيرة طبية للعراقيين. وبحسب ماجد شنكالي، رئيس لجنة الصحة النيابية، فإن العراقيين ينفقون سنوياً من 750 مليوناً إلى مليار دولار، للعلاج في الخارج. 

رحلة الاختناق.. قناع “من واحد لواحد” 

في تقريرها السنوي لعام 2023، الخاص بمراقبة توفر الموارد والخدمات الصحية، كشفت منظمة الصحة العالمية عن وجود نقص حاد في الإمدادات الطبية، والكوادر، والأدوية والموارد المالية والتدريبية، الخاصة بمستشفيات الأطفال في العراق.   

من أجل الاقتراب أكثر من المشكلة، دخلنا إلى مدينة الطب في بغداد، المجمع الطبي الأكبر في العراق، ودخلنا أيضاً إلى مستشفى الطفل في منطقة الإسكان، إضافة إلى مستشفى حماية الأطفال الذي يعد مركزاً للدراسات الطبية. كانت هذه المستشفيات، جميعها، تعاني من قلّة النظافة، وتهالك بعض الغرف، وأسرّة مرضاها غير نظيفة، ومقاعد الانتظار والفحص فيها قديمة، والحشرات والقوارض يمكن رؤيتها على الأرض والجدران. تواصلنا مع إعلام مدينة الطب وإدارتها للحصول على ردّ يخصّ الأوضاع في المؤسسة الطبية، لكننا لم نحصل على إجابات. 

نقص الرعاية الصحية، والخدمات الطبية في مستشفيات الأطفال يصل حد إعادة تدوير أقنعة الأوكسجين بين الأطفال المرضى، بحسب شهادة واحدة من طبيبات الأطفال لجمّار، “احنا بالعراق الماسك يستخدمه 100 طفل من واحد لواحد، فتخيل أن طفلا منهم يعاني التهاباً أو مرضاً معدياً”. تؤيد هذه الشهادة واحدة من الممرضات العاملات في مستشفى الطفل المركزي، وتقول إن استخدام الكمامة الواحدة بين عدة مرضى، يتم دون تدقيق في الحالة المرضية للمستخدم السابق.  

يضطر مرضى الربو والسعال الديكي والتهاب القصبات وعائلاتهم، إلى الوقوف في صفوف طويلة، ليتمكنوا من الوصول إلى قناع “CPAP“واستخدامه، أحياناً يحدث ذلك بلا تعقيم. ونتيجة لتلوّث الأجواء داخل المؤسسات الصحية، فإن حالات الإصابة بالأمراض التنفسيّة تشهد زيادة كبيرة كل عام، فعلى سبيل المثال، تضاعف عدد المصابين بالربو في بغداد بين عامي 2011 – 2013 ليبلغ أكثر من 30 ألفاً، وفق  دراسة نشرتها كلية العلوم للبنات في جامعة بغداد.  

عام 2022، كشف باسم خشان، عضو مجلس النواب العراقي، عن فضيحة تتعلق بصفقة وزارة الصحة لشراء أقنعة “CPAP” خلال جائحة “كورونا”، خشان ذكر أن الصفقة المتورطة بها أيضاً شركة كيماديا، تقضي بتزويد محافظات الوسط والجنوب لشحنات من هذه الأقنعة، وفي حين أن محافظة المثنى تحتاج إلى 300 قناع فقط، فقد جرى تزويدها بأكثر من 175 ألف قناع، ومثلها النجف (350 ألف قناع) والعمارة (350 ألف قناع) وكربلاء (300 ألف قناع)  وبينما يبلغ سعر القناع الواحد بحسب خشان أقل من 5 دولارات، كان سعر القناع الواحد في صفقة وزارة الصحة يبلغ 24 دولاراً.  

من المجمعات الطبيّة إلى مواقع السوشيال ميديا 

طب الأطفال هو الآخر، استُغل ليتحوّل في جانب منه إلى “بزنس”، فقد تحوّلت العديد من العيادات الطبيّة الخاصّة إلى دكاكين تجارية، وصار بعض التجّار مثلاً يشتري عمارة، ويحولها إلى مجمع طبي، تتوزع غرفه بين الأطباء، وهؤلاء الأطباء يصفون العلاجات بالتنسيق مع الصيدليات العاملة في المجمّع نفسه، أو القريبة منه؛ بهدف منع المراجعين من صرف وصفاتهم من صيدليات أخرى. 

تقول ورود من بغداد، في حديث لجمّار، “أحد الأطباء في عيادة خاصة وصف لطفلتي جرعة زائدة من دواء أستيمافيون، إثر نزلة برد أصابتها، وأدت هذه الجرعة إلى حدوث تسمم نجت منه الطفلة بأعجوبة” تحوّلت هذه الحادثة بالنسبة لورود إلى ذكرى مرعبة مع الأطباء، فهي لا تستطيع نسيان الطريقة التي كادت أن تخسر بها طفلتها. 

في ظل الإهمال الرسمي متعدد الأوجه للقطاع الصحي، ظهرت مبادرات اجتماعية تعويضية تتكفل بعلاج حالات مرضيّة معينة ومحدودة، عبر الإعلان على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف جمع التبرعات، وكذلك حالات تعاون بين الجيران وأهالي الأحياء السكنية لجمع مبالغ في حالات مرضية فردية، ومبادرات من بعض الشخصيات العامة الإعلامية والسياسية في دول أخرى، لعلاج حالات مرضية عراقية على نفقتها الخاصة.  

فمثلاً، أثناء فعاليات بطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم التي أقيمت في محافظة البصرة، ومع مظاهر البذخ التي رافقتها، تبنى إعلامي قطري علاج مرض ضمور العضلات الشوكي الذي يعاني منه الطفل نادر، تبلغ كلفة علاج “الزولجينسما” نحو مليوني دولار. 

في شباط 2021، تكفّل سياسي من دولة الإمارات، في علاج الطفلة لافين ابراهيم التي تعاني من المرض ذاته، بعد مناشدات وجهها له أهلها، كما تكفل سياسي إماراتي آخر في تشرين الأول 2022، بعلاج الطفلة شمس من المرض نفسه.  

هذه المبادرات رغم أنها تساعد في بعض الحالات، إلا أنها لا يمكن أن تشكل بديلاً عن دور القطاع الصحي العام، حيث لا تعدو كونها حالات فردية، لا يحصل عليها جميع المرضى. 

تجربةالسكوة 

تلجأ بعض العائلات إلى ما يسمّى “الطب الشعبي” وتعتقد أنه البديل عن المستشفيات والعيادات، الحكومية والخاصة، وهذا له مشاكله التي تؤدي في أحيان إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى الموت. مثلما حدث في محافظة الأنبار عام 2019، عندما أُعلن عن وفاة طفلين في يوم واحد؛ “بسبب تسمم ناتج عن إعطائهما مادة السكوة” وفي العام نفسه كشف الدكتور أحمد عريبي، طبيب الأطفال في مستشفى الفلوجة، عن “وفاة 10 أطفال خلال شهري آذار ونيسان بسبب مادة “السكوة” التي تسمّى في بعض مناطق العراق “الكروف”. 

السكوة خلطة شعبية، تتكون من الأعشاب، والمعادن كالرصاص، وجلد القنفذ، ويسود اعتقاد عند بعض السكان أنها علاج للإسهال، تُعطى للطفل بطرق مختلفة، كالشم، أو شق الرأس ووضع عجينة الخليط على الجرح، أو مزجها وشربها، وفي كل الحالات تتسبب بحدوث تسمم قد يؤدي إلى الموت. 

بالنسبة للدكتور أنور جاسم، أخصائي طب الأطفال في بغداد، لا يقف الضرر عند الاستخدام الخاطئ للأعشاب، بل يقصّر بعض الأهالي في الالتزام بجدول التطعيم الدوري للطفل، وأيضاً يهملون نظامه الغذائي، ونظافته، ويستخدمون الأدوية والطرق العلاجية الخاطئة، وخاصة استخدام المضادات الحيوية بصورة عشوائية. 

الدكتورة شيماء الكمالي، أخصائية أمراض الطفل، تؤكد أن اللجوء للطب البديل والتداوي بالأعشاب معاناة يعيشها طب الأطفال. لأنه يساهم في زيادة حالات الوفاة، “خاصة بعض الطرق مثل كوي منطقة البطن، أو السكوة”. 

تقول الكمالي إن بعض الأهالي يرفضون علاج أبنائهم من اليرقان، المعروف بأبو صفار، داخل المشافي، ويلجؤون لاستخدام الثوم والكهرب والكحل، وهي “وصفة أخرى لا يتحملها جسد الطفل وتسبب الوفاة، وفي أحسن الأحوال تصيبه بمضاعفات تسبب إعاقة دماغية دائمة”.  

تعزو الكمالي الإصرار على هذه الممارسات إلى استفحال أزمة الثقة بين المجتمع والطبيب، وتعدها من أكبر مسببات تفشي الأمراض، بين الأطفال والبالغين أيضاً.