"هل دفعت بالكارت؟": مؤسسات الدولة أول المخالفين لقرار "التحوّل المالي الالكتروني" 

ميادة داود

01 حزيران 2023

كان مجلس الوزراء متحمساً أكثر ممّا يجب عندما أقر حزمة إجراءات للانتقال نحو التعاملات المالية إلكترونياً، على أن يتم البدء بتنفيذها في 1 حزيران.. وبحلول الموعد، فإن أول المخالفين المؤسسات الحكومية.. عن قرار "التحوّل المالي الالكتروني" والسكان المترددين..

يمتلك عادل سلمان، وهو متقاعد تجاوز السبعين من عمره، بطاقة للدفع الإلكتروني، لكنه يستخدمها مرة واحدة في الشهر عندما يتسلّم راتبه التقاعدي من أحد المكاتب المتخصصة بتسليم الأموال نقداً لحاملي البطاقات الإلكترونية مقابل عمولة، والتي تعرف بالمنافذ. 

وعندما يذهب سلمان إلى المكتب يسحب راتبه كله من البطاقة ولا يبقي فيها شيئاً، ذلك أنه اعتاد منذ صباه على التعامل بالمال الورقي ولا يملك معلومات كافية عن التعاملات المالية الإلكترونية، كما أنه مثل غيره لا يستطيع الدفع لمختلف المحال التجارية بالبطاقة الإلكترونية لأنها لا تمتلك الأجهزة المخصصة لذلك. 

“يعني من أريد أشتري خضرة أو طماطة أنطي بطاقة ماستر لابو المخضّر؟” يقول سلمان لـ”جمّار” محاولاً بتساؤله شرح سبب عدم تعامله بالبطاقة. 

ومن نمط تعامل سلمان وغيره ملايين العراقيين، يمكن تلمُّس صعوبة تحوّل العراق في غضون أشهر إلى التعامل المالي الإلكتروني، إذ أن البائعين والمشترين لم يهيئوا أنفسهم بعد لهذه التعاملات. 

ومن الأسباب الأخرى لعدم اعتماد العراقيين على بطاقات الدفع الإلكتروني هي عدم ثقتهم بالمصارف العاملة في العراق، الحكومية أو الأهلية، وبالتالي فإنهم يفضلون الاحتفاظ بنقودهم في منازلهم على إيداعها لدى أحد المصارف لتظهر كرصيد في البطاقة الإلكترونية. 

ويعود انعدام الثقة هذا إلى رداءة النظام المصرفي في العراق وتورُّط مصارف عديدة في عمليات احتيال دفع ثمنها الزبائن وحدهم بعدما تخلّت الحكومة عن دورها في استعادة حقوقهم. 

لكن، وعلى ما يبدو، كان مجلس الوزراء متحمساً أكثر مما يجب عندما أقر في 17 كانون الثاني 2023 حزمة إجراءات للانتقال نحو التعاملات الإلكترونية، على أن يتم البدء بتنفيذها في 1 حزيران 2023. 

كان من ضمن الإجراءات إلزام المدارس الخاصة جميعها والجامعات والكليات الأهلية ومحطات تجهيز الوقود بصنوفها ومواقعها جميعها، وفي أنحاء العراق جميعاً، بفتح حسابات مصرفية وتهيئة أجهزة نقاط البيع الخاصة بالدفع الإلكتروني (POS) مع الإبقاء على التسلم النقدي جنباً إلى جنب، مع ربط تجديد رخص عمل ومنح إجازات ممارسة المهنة من خلال تلك الأجهزة. 

وكذلك المراكز والمحال التجارية بأنواعها والمطاعم والصيدليات والعيادات الطبية الخاصة والمذاخر ومنافذ التسويق بالجملة والمفرد جميعها، والخدمات المرخصة التي تقتضي الدفع لمصلحتها في حدود أمانة بغداد ومراكز المحافظات والأقضية، جرى إلزامها بالإجراء نفسه، لتحصيل الأموال ولتمكين الراغبين من المراجعين بالدفع عبر البطاقات، مع الإبقاء على التسلم النقدي أيضاً. 

وقد دخل الموعد المحدد لهذه القرارات حيز التنفيذ، إلا أن الأسواق باقية على حالها ولم يطرأ تغيير يُذكر عليها في هذا الخصوص، ولم يُعلن عن تطبيق التعاملات الإلكترونية سوى من بضع وزارات نشرت بيانات أعلنت فيها بدء التطبيق. 

أما أغلب مؤسسات الدولة، فلا يبدو أنها مهتمة للقرار، لتصبح أول المخالفين له. 

البنى والثقافة 

وَعَدَ البنك المركزي، بعد صدور قرارات مجلس الوزراء، باتخاذ إجراءات لتوفير أجهزة الدفع الإلكتروني في كل مكان، غير أنها لم تتوفر حتى الآن سوى في أماكن محدودة للغاية، منها نحو 11 محطة وقود في جانبي الكرخ والرصافة في بغداد، من أصل أكثر من 200 محطّة في العاصمة. 

ويعزو محمد قاسم، وهو شاب يمتلك محلاً لبيع العطور، سبب عدم انتشار أجهزة الدفع الإلكتروني إلى أن الناس في العراق تفضّل البيع والشراء بالنقد، لكنه يتوقّع نجاح التجربة لو تم توفير الأجهزة وتسهيل وصولها إلى أصحاب المتاجر. 

وكان من ضمن قرارات مجلس الوزراء، تسهيل البنك المركزي إجراءات منح رخص تحصيل البطاقات المصرفية الدولية باستخدام أجهزة نقاط البيع (POS) وتقليل العمولات على المصارف والجهات التي تستخدم تلك الأجهزة. 

وكذلك تهيئة المصارف الحكومية والخاصة كافة، أجهزة الدفع الإلكتروني للمتاجر والمطاعم والمستشفيات والجامعات والمدارس وسائر المؤسسات، على أن يتم إعفاء أجهزة الدفع والتحصيل الإلكتروني (POS) وأجهزة الصرافات الآلية (ATM) الخاصة بأنظمة الدفع والتحصيل بالبطاقات المصرفية المستوردة من المصارف، من رسوم الجمارك والضرائب بأشكالها كافة، وإعفاء التعاملات بالدفع الإلكتروني (POS) جميعها من الضرائب. 

كانت الغاية من تلك القرارات تسهيل انتشار الأجهزة ليتمكن الناس من فهم التعامل بها والتحول نحو التعاملات المالية الإلكترونية، غير أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ. 

وترى سلام سميسم، خبيرة اقتصادية، أن العراق غير مستعد بعد للتحوّل الشامل إلى الدفع الإلكتروني على الرغم من كل الإجراءات الحكومية والبيانات الصادرة عن مجلس الوزراء والبنك المركزي، والسبب في ذلك يعود إلى عدم توفر البنية التحتية وثقافة المجتمع التي تفضل التعامل بالنقد على إبقاء الأموال في المصارف. 

وتضيف لـ”جمّار” أن حربي الخليج الأولى والثانية والحصار الاقتصادي، كل ذلك حرم العراق 13 عاماً من اللحاق بركب الحضارة وطفرة التطور التكنولوجي التي سمحت للدفع الإلكتروني بالتوسع حتى في البلدان المجاورة وليس البلدان المتقدمة فقط. 

وتشير إلى أن هذه التقنيات تتطور بالتدرج وليس بشكل مفاجئ، ولاسيما أن العراق كان منعزلاً عالمياً عما يحصل خارجه من تطور هائل في هذا المجال، وهذا ما يجعل العمل ببطاقات الدفع الإلكتروني محدوداً للغاية ولا يعرفه أغلب المتعاملين، ويفاقم من ذلك انعدام البنى التحتية المناسبة والثقافة المجتمعية. 

خوف وانعدام ثقة 

عندما التقى “جمّار” مجموعة من المتبضعين والتجار اتضح أنهم يتجنبون التعامل بالدفع الإلكتروني لأسباب عديدة أبرزها عدم ثقتهم بالنظام المصرفي والأمن الإلكتروني في العراق. 

ويخشى التجار أيضاً فرض ضرائب على محالهم وأعمالهم إذا ما تعاملوا بالبطاقات الإلكترونية. 

أحد المشترين أبدى مخاوف من إمكانية تعرّض بياناته للسرقة إذا استخدم وسائل الدفع الإلكتروني، ضارباً مثالاً على ذلك ما حصل مع شركة آسياسيل للهواتف النقالة عام 2017 عندما سُربت بياناتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى مخاوفه من الفساد المستشري والذي يمكن أن يسفر عن منح تراخيص التعاملات الإلكترونية لشركات غير موثوقة. 

“لا أثق بالنظام المصرفي في العراق. ربما يتم استخدام بياناتنا بشكل سيئ كما حصل العام الماضي حين وجد أشخاص أنفسهم مدينين بمبالغ طائلة بعد تقديمهم أوراقهم الرسمية إلى أحد المصارف”، يجيب أبو علي، أحد الباعة في السوق العربي وسط بغداد. 

وبالفعل، فقد بدأ أشخاص وصفحات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي بمحاولات استغفال أولئك الذين يمتلكون بطاقات بنكية، من خلال استدراجهم لسحب بياناتها وسحب الأموال من حساباتهم. 

وقد أصدرت مصارف عدّة تحذيرات لزبائنها من عمليات احتيال تجري على “السوشيال ميديا”. 

ومع كل ذلك، يبدي مظهر محمد صالح، المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، تفاؤله إزاء مسألة الانتقال إلى التعاملات المالية الإلكترونية. 

قال صالح لـ”جمّار” إن “البنية التحتية للعراق بدأت تتوجه بشكل صحيح في الوقت الحالي باتجاه التخلي عن استعمال النقد لصالح الدفع الإلكتروني، وهي خطوة بدأت من خلال استخدام الهاتف النقال، وهو من وسائل الدفع الإلكتروني المهمة ولكنها غير كافية لوحدها”. 

ويمتلك العراق عدّة شركات تحويل مالي، وتوفّر شركات الاتصالات هذه الخدمة في منافذ عديدة. 

أشار صالح إلى أن الدفع إلى الأمام يجب أن يكون بمبادرة من الدولة في الجباية الإلكترونية للرسوم والضرائب وغيرها من المدفوعات، مثل الدفع مقابل الحصول على خدمات الكهرباء والماء وجوازات السفر وإصدار الأوراق الرسمية وغيرها، ما يقلل من المعاملات الورقية والنقد المستخدم في الاقتصاد إضافة إلى تقليل الفساد الإداري. 

ويستند صالح في رؤيته إلى أن الاقتصاد الحكومي يشكل 63 بالمئة من الناتج المحلي، “ولذلك أعتقد إذا بدأ العمل في مؤسسات الحكومة بداية موفقة وصحيحة فإن الأمر يعطي قوة للدفع الإلكتروني”. 

ويبين المستشار الحكومي أن المجتمع الذي يتعامل بالنقد بشكل كامل تتراوح تكاليف تعاملاته بين 1 و5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي تكاليف طباعة ونقل وخزن وعد وفرز وتعويض تلف النقود، عادّاً إياها “كلفة اقتصادية كبيرة مقارنة باستبدالها بضغطة زر في عالم يتطور بشكل متسارع”. 

وبحسب تقرير لموقع “ريست اوف ذا وورلد”، فإن أقل من خُمس العراقيين يمتلكون حساباً مصرفياً نشطاً، بينما عدادات النقود الكاش تعمل بكثافة في الأسواق والبازارات. 

مزيد من الوقت 

إيجابيات التحوّل إلى التعاملات المالية الإلكترونية حفزّت البعض من الصحفيين والمدونين على إطلاق حملات تثقيفية بهذا الشأن اعتماداً على إمكانياتهم الشخصية. 

نبيل النجار، الصحفي الاقتصادي، واحد من هؤلاء. 

أنشأ النجار محتوى رقمياً اسمه “ثقافة الدفع الإلكتروني” للتعريف بمزايا هذا النوع من التعاملات، وهو يشدّد على أن التحول من النقد إلى البطاقات يحتاج نشر ثقافة الدفع الإلكتروني في المجتمع. 

“فكرتُ بإنشاء المحتوى لتعزيز الفكرة ونشرها في المجتمع، وعلى الرغم من بساطة الصفحة استطعت جذب العديد من المواطنين ليس للتعريف فقط ولكن لطرح المشكلات التي تواجه الأفراد وطريقة حلها”، قال النجار لـ”جمّار”. 

ومع أنه متفائل بأن التحوّل ممكن، إلا أنه يقرّ بأن الموضوع يحتاج إلى وقت أطول من مجرد بضعة أشهر. 

“لو نظرنا إلى توطين الرواتب لرأينا حتى اليوم أن هناك موظفين كثيرين مترددين في توطين رواتبهم، وحتى من تم توطين راتبه يقوم بسحب المال مباشرة والاحتفاظ به وكأنه يثق بالكاش أكثر من الصرافات”. 

وتكمن فوائد الدفع الإلكتروني في السيطرة على المدفوعات، حيث تكون التعاملات المالية واضحة ومسيطر عليها وتنتفي الحاجة إلى أموال نقدية خلال السفر، كما تختفي مشكلة تلف الأموال وخطورة التنقل مع مبالغ كبيرة. 

وقد بدأت السلطات في العراق أولى خطوات التوجه نحو الدفع الإلكتروني عام 2013 ثم صدر نظام خدمات الدفع الإلكتروني للأموال رقم 3 لسنة 2014. 

وتشير إحصائيات البنك المركزي العراقي إلى أن عدد شركات الدفع الإلكتروني في العراق بلغ 16 شركة، يتم استخدام خدماتها من قبل أكثر من ستة ملايين مواطن أغلبهم من الموظفين والمتقاعدين، لكن هذا الاستخدام يقتصر على استلام الرواتب بواسطة البطاقات الإلكترونية ولا يشمل البيع والشراء على نطاق واسع. 

مؤسسات متأخرة! 

ألزمت قرارات مجلس الوزراء المؤسسات الرسمية والمشاريع التجارية باستخدام فتح حسابات مصرفية وتهيئة أجهزة البيع الخاصة بالدفع الإلكتروني (POS) بحلول الأول من حزيران، لكن مؤسسات رسميّة لم تثبت الأجهزة إلا قبل يومين من دخول القرار حيّز التنفيذ. 

على سبيل المثال، لم تلتحق وزارة التربية بخدمة الدفع الالكتروني إلا قبل يوم واحد من سريان القرار، وكذلك الحال مع أمانة بغداد المسؤولة عن نحو 14 بلدية، والتي لم تقم بنصب إلا أربعة أجهزة بشكل تجريبي. 

ولم يظهر انتشار لأجهزة ATM ولم يتوفّر جهاز POS أيضاً في المحال التجارية، الكبيرة والصغيرة، إلا على نطاق ضيّق، بالرغم من أن أسعاره تتراوح من نحو 100 دولار وصعوداً. 

قال موظف في أمانة بغداد، رفض الإشارة إلى اسمه، إن “المؤسسات، حتّى لو وفرت الجهاز، فإن غالبية المراجعين للدوائر لا يملكون بطاقات بنكية يمكنهم دفع الرسوم من خلالها”. 

بوستر ترويجي لهيئة الكمارك يشجّع على نظام الدفع الالكتروني  

ويبلغ الإصدار النقدي للعملة العراقيّة نحو 100 تريليون دينار، إلا أن نحو 70‎ بالمئة منه هي عملة يجري تداولها خارج الجهاز المصرفي، وبشكل اكتناز نقدي لدى السكّان. 

وبالمقارنة مع دول المنطقة، فإن العراق يعد واحدا من البلدان الأقل توفيراً لأجهزة الصراف الآلي ATM، إذ يوجد 5,35 جهازاً لكل 100 ألف نسمة، بينما في الأردن هناك 30,56 جهازاً لكل 100 ألف نسمة، بحسب البنك الدولي عام 2022. 

وسارت عمليّة التحوّل الرقمي في القطاع المصرفي في العراق ببطء شديد، إذ حتّى عام 2016 كان العراق يمتلك 660 جهاز ATM، وفي عام 2019 ارتفعت إلى نحو ألف جهاز، لتبلغ أفضل مستوياتها عام 2022 نحو 1500 جهاز. 

بالمقابل، فإن أجهزة POS التي يجري الدفع من خلالها، كانت بحدود 6 آلاف جهاز عام 2016، لترتفع عام 2022 إلى نحو 17 ألف جهاز، بحسب رابطة المصارف العراقيّة. 

رغم ذلك، ما تزال هذه الأعداد قليلة جداً، وتؤكد عدم أخذ قرار مجلس الوزراء بجدية، إن كان على صعيد المؤسسات الرسمية أو السكان. 

حاول “جمّار” الحصول على معلومات عن زيادة أعداد أجهزة ATM وPOS مع دخول القرار الحكومي حيّز التنفيذ، إلا أن البنك المركزي رفض التعليق. 

أما على صعيد تعاملات السكّان مع التحوّل المالي الرقمي، فإن بيانات البنك المركزي تشير إلى أن نحو 7 ملايين شخص في العراق يمتلكون حسابات بنكية في المصارف الحكومية والأهلية، بينما بلغت عدد بطاقات الدفع الالكتروني نحو 14 مليون بطاقة عام 2022. 

“الارتفاع في استخدام التكنولوجيا في القطاع المالي لن يشهد تحوّلاً خلال 6 أشهر فحسب”، قال خبير مالي مُقرب من حكومة السوداني. 

“هذا عبث”، أضاف. 

وفق الخبير المالي، فإن فكرة الحكومة جيّدة، لكنها تبقى ناقصة لأنها لم تتضمن حوافز لاستخدام البطاقات البنكية، وضرائب على استخدام “الكاش” في المؤسسات الرسمية. 

“المشكلة نفسها دائماً، الحكومة تريد تسجيل إنجاز لا يمكن تحقيقه بقرارات غير مدروسة”. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يمتلك عادل سلمان، وهو متقاعد تجاوز السبعين من عمره، بطاقة للدفع الإلكتروني، لكنه يستخدمها مرة واحدة في الشهر عندما يتسلّم راتبه التقاعدي من أحد المكاتب المتخصصة بتسليم الأموال نقداً لحاملي البطاقات الإلكترونية مقابل عمولة، والتي تعرف بالمنافذ. 

وعندما يذهب سلمان إلى المكتب يسحب راتبه كله من البطاقة ولا يبقي فيها شيئاً، ذلك أنه اعتاد منذ صباه على التعامل بالمال الورقي ولا يملك معلومات كافية عن التعاملات المالية الإلكترونية، كما أنه مثل غيره لا يستطيع الدفع لمختلف المحال التجارية بالبطاقة الإلكترونية لأنها لا تمتلك الأجهزة المخصصة لذلك. 

“يعني من أريد أشتري خضرة أو طماطة أنطي بطاقة ماستر لابو المخضّر؟” يقول سلمان لـ”جمّار” محاولاً بتساؤله شرح سبب عدم تعامله بالبطاقة. 

ومن نمط تعامل سلمان وغيره ملايين العراقيين، يمكن تلمُّس صعوبة تحوّل العراق في غضون أشهر إلى التعامل المالي الإلكتروني، إذ أن البائعين والمشترين لم يهيئوا أنفسهم بعد لهذه التعاملات. 

ومن الأسباب الأخرى لعدم اعتماد العراقيين على بطاقات الدفع الإلكتروني هي عدم ثقتهم بالمصارف العاملة في العراق، الحكومية أو الأهلية، وبالتالي فإنهم يفضلون الاحتفاظ بنقودهم في منازلهم على إيداعها لدى أحد المصارف لتظهر كرصيد في البطاقة الإلكترونية. 

ويعود انعدام الثقة هذا إلى رداءة النظام المصرفي في العراق وتورُّط مصارف عديدة في عمليات احتيال دفع ثمنها الزبائن وحدهم بعدما تخلّت الحكومة عن دورها في استعادة حقوقهم. 

لكن، وعلى ما يبدو، كان مجلس الوزراء متحمساً أكثر مما يجب عندما أقر في 17 كانون الثاني 2023 حزمة إجراءات للانتقال نحو التعاملات الإلكترونية، على أن يتم البدء بتنفيذها في 1 حزيران 2023. 

كان من ضمن الإجراءات إلزام المدارس الخاصة جميعها والجامعات والكليات الأهلية ومحطات تجهيز الوقود بصنوفها ومواقعها جميعها، وفي أنحاء العراق جميعاً، بفتح حسابات مصرفية وتهيئة أجهزة نقاط البيع الخاصة بالدفع الإلكتروني (POS) مع الإبقاء على التسلم النقدي جنباً إلى جنب، مع ربط تجديد رخص عمل ومنح إجازات ممارسة المهنة من خلال تلك الأجهزة. 

وكذلك المراكز والمحال التجارية بأنواعها والمطاعم والصيدليات والعيادات الطبية الخاصة والمذاخر ومنافذ التسويق بالجملة والمفرد جميعها، والخدمات المرخصة التي تقتضي الدفع لمصلحتها في حدود أمانة بغداد ومراكز المحافظات والأقضية، جرى إلزامها بالإجراء نفسه، لتحصيل الأموال ولتمكين الراغبين من المراجعين بالدفع عبر البطاقات، مع الإبقاء على التسلم النقدي أيضاً. 

وقد دخل الموعد المحدد لهذه القرارات حيز التنفيذ، إلا أن الأسواق باقية على حالها ولم يطرأ تغيير يُذكر عليها في هذا الخصوص، ولم يُعلن عن تطبيق التعاملات الإلكترونية سوى من بضع وزارات نشرت بيانات أعلنت فيها بدء التطبيق. 

أما أغلب مؤسسات الدولة، فلا يبدو أنها مهتمة للقرار، لتصبح أول المخالفين له. 

البنى والثقافة 

وَعَدَ البنك المركزي، بعد صدور قرارات مجلس الوزراء، باتخاذ إجراءات لتوفير أجهزة الدفع الإلكتروني في كل مكان، غير أنها لم تتوفر حتى الآن سوى في أماكن محدودة للغاية، منها نحو 11 محطة وقود في جانبي الكرخ والرصافة في بغداد، من أصل أكثر من 200 محطّة في العاصمة. 

ويعزو محمد قاسم، وهو شاب يمتلك محلاً لبيع العطور، سبب عدم انتشار أجهزة الدفع الإلكتروني إلى أن الناس في العراق تفضّل البيع والشراء بالنقد، لكنه يتوقّع نجاح التجربة لو تم توفير الأجهزة وتسهيل وصولها إلى أصحاب المتاجر. 

وكان من ضمن قرارات مجلس الوزراء، تسهيل البنك المركزي إجراءات منح رخص تحصيل البطاقات المصرفية الدولية باستخدام أجهزة نقاط البيع (POS) وتقليل العمولات على المصارف والجهات التي تستخدم تلك الأجهزة. 

وكذلك تهيئة المصارف الحكومية والخاصة كافة، أجهزة الدفع الإلكتروني للمتاجر والمطاعم والمستشفيات والجامعات والمدارس وسائر المؤسسات، على أن يتم إعفاء أجهزة الدفع والتحصيل الإلكتروني (POS) وأجهزة الصرافات الآلية (ATM) الخاصة بأنظمة الدفع والتحصيل بالبطاقات المصرفية المستوردة من المصارف، من رسوم الجمارك والضرائب بأشكالها كافة، وإعفاء التعاملات بالدفع الإلكتروني (POS) جميعها من الضرائب. 

كانت الغاية من تلك القرارات تسهيل انتشار الأجهزة ليتمكن الناس من فهم التعامل بها والتحول نحو التعاملات المالية الإلكترونية، غير أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ. 

وترى سلام سميسم، خبيرة اقتصادية، أن العراق غير مستعد بعد للتحوّل الشامل إلى الدفع الإلكتروني على الرغم من كل الإجراءات الحكومية والبيانات الصادرة عن مجلس الوزراء والبنك المركزي، والسبب في ذلك يعود إلى عدم توفر البنية التحتية وثقافة المجتمع التي تفضل التعامل بالنقد على إبقاء الأموال في المصارف. 

وتضيف لـ”جمّار” أن حربي الخليج الأولى والثانية والحصار الاقتصادي، كل ذلك حرم العراق 13 عاماً من اللحاق بركب الحضارة وطفرة التطور التكنولوجي التي سمحت للدفع الإلكتروني بالتوسع حتى في البلدان المجاورة وليس البلدان المتقدمة فقط. 

وتشير إلى أن هذه التقنيات تتطور بالتدرج وليس بشكل مفاجئ، ولاسيما أن العراق كان منعزلاً عالمياً عما يحصل خارجه من تطور هائل في هذا المجال، وهذا ما يجعل العمل ببطاقات الدفع الإلكتروني محدوداً للغاية ولا يعرفه أغلب المتعاملين، ويفاقم من ذلك انعدام البنى التحتية المناسبة والثقافة المجتمعية. 

خوف وانعدام ثقة 

عندما التقى “جمّار” مجموعة من المتبضعين والتجار اتضح أنهم يتجنبون التعامل بالدفع الإلكتروني لأسباب عديدة أبرزها عدم ثقتهم بالنظام المصرفي والأمن الإلكتروني في العراق. 

ويخشى التجار أيضاً فرض ضرائب على محالهم وأعمالهم إذا ما تعاملوا بالبطاقات الإلكترونية. 

أحد المشترين أبدى مخاوف من إمكانية تعرّض بياناته للسرقة إذا استخدم وسائل الدفع الإلكتروني، ضارباً مثالاً على ذلك ما حصل مع شركة آسياسيل للهواتف النقالة عام 2017 عندما سُربت بياناتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى مخاوفه من الفساد المستشري والذي يمكن أن يسفر عن منح تراخيص التعاملات الإلكترونية لشركات غير موثوقة. 

“لا أثق بالنظام المصرفي في العراق. ربما يتم استخدام بياناتنا بشكل سيئ كما حصل العام الماضي حين وجد أشخاص أنفسهم مدينين بمبالغ طائلة بعد تقديمهم أوراقهم الرسمية إلى أحد المصارف”، يجيب أبو علي، أحد الباعة في السوق العربي وسط بغداد. 

وبالفعل، فقد بدأ أشخاص وصفحات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي بمحاولات استغفال أولئك الذين يمتلكون بطاقات بنكية، من خلال استدراجهم لسحب بياناتها وسحب الأموال من حساباتهم. 

وقد أصدرت مصارف عدّة تحذيرات لزبائنها من عمليات احتيال تجري على “السوشيال ميديا”. 

ومع كل ذلك، يبدي مظهر محمد صالح، المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، تفاؤله إزاء مسألة الانتقال إلى التعاملات المالية الإلكترونية. 

قال صالح لـ”جمّار” إن “البنية التحتية للعراق بدأت تتوجه بشكل صحيح في الوقت الحالي باتجاه التخلي عن استعمال النقد لصالح الدفع الإلكتروني، وهي خطوة بدأت من خلال استخدام الهاتف النقال، وهو من وسائل الدفع الإلكتروني المهمة ولكنها غير كافية لوحدها”. 

ويمتلك العراق عدّة شركات تحويل مالي، وتوفّر شركات الاتصالات هذه الخدمة في منافذ عديدة. 

أشار صالح إلى أن الدفع إلى الأمام يجب أن يكون بمبادرة من الدولة في الجباية الإلكترونية للرسوم والضرائب وغيرها من المدفوعات، مثل الدفع مقابل الحصول على خدمات الكهرباء والماء وجوازات السفر وإصدار الأوراق الرسمية وغيرها، ما يقلل من المعاملات الورقية والنقد المستخدم في الاقتصاد إضافة إلى تقليل الفساد الإداري. 

ويستند صالح في رؤيته إلى أن الاقتصاد الحكومي يشكل 63 بالمئة من الناتج المحلي، “ولذلك أعتقد إذا بدأ العمل في مؤسسات الحكومة بداية موفقة وصحيحة فإن الأمر يعطي قوة للدفع الإلكتروني”. 

ويبين المستشار الحكومي أن المجتمع الذي يتعامل بالنقد بشكل كامل تتراوح تكاليف تعاملاته بين 1 و5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي تكاليف طباعة ونقل وخزن وعد وفرز وتعويض تلف النقود، عادّاً إياها “كلفة اقتصادية كبيرة مقارنة باستبدالها بضغطة زر في عالم يتطور بشكل متسارع”. 

وبحسب تقرير لموقع “ريست اوف ذا وورلد”، فإن أقل من خُمس العراقيين يمتلكون حساباً مصرفياً نشطاً، بينما عدادات النقود الكاش تعمل بكثافة في الأسواق والبازارات. 

مزيد من الوقت 

إيجابيات التحوّل إلى التعاملات المالية الإلكترونية حفزّت البعض من الصحفيين والمدونين على إطلاق حملات تثقيفية بهذا الشأن اعتماداً على إمكانياتهم الشخصية. 

نبيل النجار، الصحفي الاقتصادي، واحد من هؤلاء. 

أنشأ النجار محتوى رقمياً اسمه “ثقافة الدفع الإلكتروني” للتعريف بمزايا هذا النوع من التعاملات، وهو يشدّد على أن التحول من النقد إلى البطاقات يحتاج نشر ثقافة الدفع الإلكتروني في المجتمع. 

“فكرتُ بإنشاء المحتوى لتعزيز الفكرة ونشرها في المجتمع، وعلى الرغم من بساطة الصفحة استطعت جذب العديد من المواطنين ليس للتعريف فقط ولكن لطرح المشكلات التي تواجه الأفراد وطريقة حلها”، قال النجار لـ”جمّار”. 

ومع أنه متفائل بأن التحوّل ممكن، إلا أنه يقرّ بأن الموضوع يحتاج إلى وقت أطول من مجرد بضعة أشهر. 

“لو نظرنا إلى توطين الرواتب لرأينا حتى اليوم أن هناك موظفين كثيرين مترددين في توطين رواتبهم، وحتى من تم توطين راتبه يقوم بسحب المال مباشرة والاحتفاظ به وكأنه يثق بالكاش أكثر من الصرافات”. 

وتكمن فوائد الدفع الإلكتروني في السيطرة على المدفوعات، حيث تكون التعاملات المالية واضحة ومسيطر عليها وتنتفي الحاجة إلى أموال نقدية خلال السفر، كما تختفي مشكلة تلف الأموال وخطورة التنقل مع مبالغ كبيرة. 

وقد بدأت السلطات في العراق أولى خطوات التوجه نحو الدفع الإلكتروني عام 2013 ثم صدر نظام خدمات الدفع الإلكتروني للأموال رقم 3 لسنة 2014. 

وتشير إحصائيات البنك المركزي العراقي إلى أن عدد شركات الدفع الإلكتروني في العراق بلغ 16 شركة، يتم استخدام خدماتها من قبل أكثر من ستة ملايين مواطن أغلبهم من الموظفين والمتقاعدين، لكن هذا الاستخدام يقتصر على استلام الرواتب بواسطة البطاقات الإلكترونية ولا يشمل البيع والشراء على نطاق واسع. 

مؤسسات متأخرة! 

ألزمت قرارات مجلس الوزراء المؤسسات الرسمية والمشاريع التجارية باستخدام فتح حسابات مصرفية وتهيئة أجهزة البيع الخاصة بالدفع الإلكتروني (POS) بحلول الأول من حزيران، لكن مؤسسات رسميّة لم تثبت الأجهزة إلا قبل يومين من دخول القرار حيّز التنفيذ. 

على سبيل المثال، لم تلتحق وزارة التربية بخدمة الدفع الالكتروني إلا قبل يوم واحد من سريان القرار، وكذلك الحال مع أمانة بغداد المسؤولة عن نحو 14 بلدية، والتي لم تقم بنصب إلا أربعة أجهزة بشكل تجريبي. 

ولم يظهر انتشار لأجهزة ATM ولم يتوفّر جهاز POS أيضاً في المحال التجارية، الكبيرة والصغيرة، إلا على نطاق ضيّق، بالرغم من أن أسعاره تتراوح من نحو 100 دولار وصعوداً. 

قال موظف في أمانة بغداد، رفض الإشارة إلى اسمه، إن “المؤسسات، حتّى لو وفرت الجهاز، فإن غالبية المراجعين للدوائر لا يملكون بطاقات بنكية يمكنهم دفع الرسوم من خلالها”. 

بوستر ترويجي لهيئة الكمارك يشجّع على نظام الدفع الالكتروني  

ويبلغ الإصدار النقدي للعملة العراقيّة نحو 100 تريليون دينار، إلا أن نحو 70‎ بالمئة منه هي عملة يجري تداولها خارج الجهاز المصرفي، وبشكل اكتناز نقدي لدى السكّان. 

وبالمقارنة مع دول المنطقة، فإن العراق يعد واحدا من البلدان الأقل توفيراً لأجهزة الصراف الآلي ATM، إذ يوجد 5,35 جهازاً لكل 100 ألف نسمة، بينما في الأردن هناك 30,56 جهازاً لكل 100 ألف نسمة، بحسب البنك الدولي عام 2022. 

وسارت عمليّة التحوّل الرقمي في القطاع المصرفي في العراق ببطء شديد، إذ حتّى عام 2016 كان العراق يمتلك 660 جهاز ATM، وفي عام 2019 ارتفعت إلى نحو ألف جهاز، لتبلغ أفضل مستوياتها عام 2022 نحو 1500 جهاز. 

بالمقابل، فإن أجهزة POS التي يجري الدفع من خلالها، كانت بحدود 6 آلاف جهاز عام 2016، لترتفع عام 2022 إلى نحو 17 ألف جهاز، بحسب رابطة المصارف العراقيّة. 

رغم ذلك، ما تزال هذه الأعداد قليلة جداً، وتؤكد عدم أخذ قرار مجلس الوزراء بجدية، إن كان على صعيد المؤسسات الرسمية أو السكان. 

حاول “جمّار” الحصول على معلومات عن زيادة أعداد أجهزة ATM وPOS مع دخول القرار الحكومي حيّز التنفيذ، إلا أن البنك المركزي رفض التعليق. 

أما على صعيد تعاملات السكّان مع التحوّل المالي الرقمي، فإن بيانات البنك المركزي تشير إلى أن نحو 7 ملايين شخص في العراق يمتلكون حسابات بنكية في المصارف الحكومية والأهلية، بينما بلغت عدد بطاقات الدفع الالكتروني نحو 14 مليون بطاقة عام 2022. 

“الارتفاع في استخدام التكنولوجيا في القطاع المالي لن يشهد تحوّلاً خلال 6 أشهر فحسب”، قال خبير مالي مُقرب من حكومة السوداني. 

“هذا عبث”، أضاف. 

وفق الخبير المالي، فإن فكرة الحكومة جيّدة، لكنها تبقى ناقصة لأنها لم تتضمن حوافز لاستخدام البطاقات البنكية، وضرائب على استخدام “الكاش” في المؤسسات الرسمية. 

“المشكلة نفسها دائماً، الحكومة تريد تسجيل إنجاز لا يمكن تحقيقه بقرارات غير مدروسة”.