جندرنا جندر جندركم 

مرتضى كزار

12 آب 2023

في أقلِّ من شهر طبعت الدوريات وصدرت الكتب ودُبّجت المقالات وغصت غرف الواتساب وتليغرام وكلبهاوس، وصرفت الشيكات بميزانيات مليارية لتصنيع حملة إعلامية ضد مفردة «جندر». والحاصل هو إرغام الناس على تلقّي المفردة بشكل خاطئ من البداية.. لكن لماذا حصل كل ذلك؟

يُروى عن بغداد في زمن المأمون، أنَّ الأسواق كانت تضج بالحديث عن محنة خلق القرآن، فقد يسألك البقّال أو الحمّال أو عامل الحمّام هل تؤمن أن القرآن مخلوق أم منزل؟ سعى جهاز الخليفة الدعائي إلى حقن الناس بالعقيدة والغضب ضد القائلين بأزلية القرآن، وبذلك سهل عليه القصاص من معارضيه وتعذيب الإمام ابن حنبل، دون أن «يخرج عليه الناس» الذين شحنهم بالغضب العقائدي، ليربح بذلك زخماً جماهيرياً يواري به خساراته، وتاريخنا عامرٌ بذلك النوع من الترندات الجدلية، حيث يشارك الجمهور في ترجيح إحدى كفتي الصراع؛ مثل قضية الفاضل والمفضول، ومقتل الحلاج والسؤال هل كان علي يصلي؟ 

في أنطاكيا القديمة، كان القساوسة يمارسون التكتيك نفسه، ترحيل الجدل من الكنيسة إلى الشارع، كان الصراع قائماً بين الجماعة التي تؤمن بألوهية المسيح والجماعة التي تؤمن ببشرية المسيح، ومن أجل الإطاحة بكلِّ رجال الدين الذين لا يؤمنون بألوهية المسيح حقنوا المجتمع بالعصبية واستثمروا في خداعه وتضليله، فتجد العامّة من خارج الكهنوت يناقشون مسألة لاهوتية شديدة التعقيد، مثل هل أن المسيح هو جوهر الرب أو هو مجرد رجل اعتيادي بلغ أقصى مراتب الأخلاق البشرية، ومن طريف ما يُروى أن الجماعة المؤمنة ببشرية المسيح وظّفوا مومساً واتفقوا معها للإيقاع بأحد الأساقفة من الذين يؤمنون بألوهية المسيح، بواسطة إغرائه للنوم معها ومن ثم القبض عليه بالجرم المشهود، فسمعَتهم المومس يتحدثون عن عقيدتهم فغضبتْ منهم وطردتهم ونكثت الاتفاق زاعمة أن المسيح هو الابن والآب والروح المقدسة، حتى أنها قرأت لهم شطراً من الإنجيل. 

كأن القصة تشبه ذلك المشهد من فيلم «السفارة في العمارة» حينما تقول فتاة الليل لعادل إمام: «أنا تجيبني جنب السفارة الإسرائيلية يا عميل يا واطي!»، ذلك لأن هناك نوعاً من الجدال لا يمكن حسمه في السرير أو أثناء شراء البقالة، لكن العقل وحينما تنفد خزينته ويصبح قاصراً عند المواجهة يبادر إلى رمي الكرة في ملعب الجماهير، لأن الجماهير لا تحتاج إلى العقل كي تقنعها بوجهة نظرك، فيكسب السياسي بالعواطف والغضب المجتمعي ما خسره في العقل والعلم والسياسة. 

 في عراق المليشيات اليوم يفتعل الساسة معركة وهمية للتخفيف من المأزق الاقتصادي الخانق الذي يعاني منه ملوك الطائفة والحصار الأمريكي على ثرواتهم وتجارتهم العابرة للقارات، على أن لفظة «الساسة» واسعة جداً على العقل المراهق الذي يفكر هؤلاء بواسطته. في أقل من شهر طبعت الدوريات وصدرت الكتب ودبجت المقالات وغصت غرف الواتساب وتليغرام وكلبهاوس، وصرفت الشيكات بميزانيات مليارية لتصنيع حملة إعلامية ضد مفردة «جندر». والحاصل هو إرغام الناس على تلقي المفردة بشكل خاطئ من البداية، وقديما قال أبقراط: «يستحيل على الإنسان أن يتعرّف على شيء ما إذا كان يعتقد أنه يعرفه»، بمعنى أن المعرفة الخاطئة -والمسبقة- ستجعل التعريف الصحيح للمفردة مستحيلاً.   

الجندر بالنسبة لهؤلاء هو: أن يطلب الرجال التحوّل إلى نساء، أن يصبح على الرجال تسليم مؤخراتهم إلى الرجال كارهين، على أن يرتب ذلك بقانون، وأن تصبح الحمّامات مشتركة، وأن تسترجل النساء وتصبح لهن القيمومة والعصمة والحق في تعدد الأزواج، و«كض أخوك لا يتجندر»، وأن نجبر الطفل على استئصال أعضائه الحساسة، كما يحدث في الغرب الكافر ومنظومته العلمانية المتفسخة والتي ستنهار قريباً بعد أن «ظهر الفساد في البر والبحر» وخرج الناس عن «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»، وهي مكيدة من الشيطان الأكبر الذي أغلق مجرى أموالنا ويطاردنا في بلاد الله الواسعة، ولنا ألف عظة وقدوة في ولي أمر المسلمين الأرثوذكسي، قاهر الميمييّن، الفارس الأبيض على الجواد الأشهب المبشر به في آخر الزمان،  فلاديمير بن فلاديميروفيتش بن بوتين. 

 وهي رؤية روزخونية قرووسطية تؤمن بنظرية المؤامرة، ويتعالى عليها حتى رجال الكنائس المحافظة ونشطاء اليمين المتطرف في الجدل الجندري الغربي.   

يخلط هذا الفهم بين الجندر وبين الهويّة الجندرية، مثل الخلط بين المثلية والجسد الذي يولد بأعضاء ناقصة أو غير محددة أو لا تنسجم مع ميولاته الجنسية، على أن كل هذه المفردات قد تتداخل وتتباعد في سياقات مختلفة، ومنها ما هو قانوني أو بايلوجي أو نسق اجتماعي أو جريمة لا تغتفر مثل استغلال الأطفال وتزيين القاصرين بالمكياج الإغرائي للبالغين والتجارة الجنسية بهم في الأزقة الخلفية، أو التغزل بالبنات القاصرات في فيديوهات الأغاني الجديدة، وكلها ممارسات تراقبها المليشيات وقادتها، تدعمها بالخفاء أو تهادنها أو تعقد معها علاقة تخادم. 

 الجندر، ج ن د ر، الكلمة وحدها تدل على ما تدل عليه خانة «الجنس» في هوية الأحوال العراقية، ويملأ الفراغ أمامها بعبارة أنثى أو ذكر، نقطة رأس سطر. 

لكن الكلمة في السياق العربي الأكاديمي لا تعني ذلك، والموضوع برمته نزاع اصطلاحي مفرداتي كما هي أغلب جدالاتنا المجوّفة، التي تفعل بها الترجمة ما تفعل، لكن هناك سياقاً دائماً يحرس المفردات ويوضح معانيها. يعود استخدام المصطلح بحمولته الفكرية والسياسية إلى القرن الثامن عشر، مواكباً لظهور الأصوات المطالبة بحقوق المرأة، في كتابات الفيلسوفة البريطانية ماري وولستونكرافت التي ترى بعض الدراسات أنها أول من صاغ عبارات واضحة عن حقوق المرأة بشكلها المعاصر، لافتات كانت مخيفة ومهرطقة وخارجة عن المألوف، مثل: النساء لسن أقل شأناً من الرجال، و…، ينبغي معاملة كل من الرجل والمرأة على أنهما مخلوقان رشيدان، يصنعان نظاما اجتماعيا يقوم على العقل!. كلام خطير أليس كذلك؟! 

ولا عجب أن هذه الموهبة اللاذعة ستتزوج فيلسوفاً نظّر للأناركية وللمذهب البراغماتي، وتنجب منه بنتاً اسمها ماري شيلي، ستكتب فيما بعد رواية اسمها «فرانكشتاين»! 

الجندر إذن، اصطلاحاً وليس لغةً، وفي السياق الفكري، يشير إلى قضايا المرأة ويراقب رؤية المجتمع لأدوارها وقدراتها في الأدب والاجتماع والانثروبولوجيا، ففلسفة الجندر تدخل في دراسات واختصاصات شتى.  

ثم يأتي الفيلسوف ستيورات ميل ويكتب مقالاً يعتبر حجة ومرجعاً في تاريخ حقوق النساء سمّاه «استعباد النساء»، ليتطور المفهوم وينتعش، وتكتب سيمون دو بوفوار كتابها الجنس الثاني وتحلّل فيه دور المرأة وتنتقد النظرة الدونية لمفهوم الأنوثة كبنية اجتماعية، ويدخل المصطلح بعد الثورة الصناعية والاستعمار والحربين العالميتين إلى حياتنا وأروقتنا العلمية، لا بل يدخل إلى المعاهد الدينية وترى من طلّاب الشريعة من يكتب شيئاً عن ملامح نظرية الجندر في الإسلام، أو «من أجل نظرية جندرية إسلامية». 

ثم ترتبط النسوية بمجابهة النظام الأبوي الذكوري الذي يرتعب من فطنتها ودخولها عالم الإدارة والأكاديميا، فتندفع عجلة الكفاح النسوي كاسحة ألغام البطاركة والملالي، ويحدث أن تنتصر دائماً ولا تعود إلا بمغانم التغيير، وتساند كل القضايا التي تجاورها وتنتصر لضحايا الأنظمة المتسلطة كالمثلية بتفرعاتها من باب المؤازرة، وتقطف ثمار الاحتجاج طويل الأمد، الاحتجاج مدى الحياة، وها نحن اليوم في عام 2023، نجد نشطاء مثليين في الكنائس كقساوسة وفي مساجد أوربا كأئمة، لا بل أعضاء ونواب في أحزاب اليمين الجمهوري المتطرف! وأصبحت المثلية بفضل معاضدة النساء أمراً شبه مفروغ منه، يسانده من كان ناقماً عليه. 

ليظهر ما يعرف اليوم بمفهوم الهوية الجندرية، وليس الجندر!، والهوية الجندرية مصطلح شائك لا يزال في مطبخ الفضاء الغربي، خاضعاً للنقاش الحر والمساءلة والمراجعة، واستعماله لابتزاز الحركات النسوية العراقية أو المثلية وخلطه مع الجندر هو لؤم ديماغوجي لا مبرر له. 

تحمل الفصائل الدينية في العراق أوزاراً ثقيلة ضد المرأة وثارات قديمة متجددة، فهي تراقب وتشهد ما فعلته المرأة الإيرانية في غضون أسابيع من صداع مزمن لسماحة المرشد، وكيف غمست رؤوس الفساد والعنت الديني البطرياركي بالوحل و«شرشحته» عالمياً، واستطاعت أن تجعل نظام الفقيه يتداعى، ويدخل إلى عنق الزجاجة بالمعكوس، ليبقى داخلها. 

تهدف الحملة أيضاً؛ إلى عزل العراق ثقافياً عن محيط الإعلام العالمي، كي يأكل اللصوص ويوصوصون بلا صحافة استقصائية عالمية حرّة، تفضح فسادهم وممارساتهم الإجرامية من خطف واعتقال وتغييب واغتيال، فتراه يحرص على شيطنة منظمات المرأة والمجتمع المدني وصحافة «العلمانيين» كما يسمِّيها، وحركاتهم الماجنة التي تريد أن تجندر الرجال وتخنث الصبيان!.   

هل يصبح العقل الإمامي أقل رشداً من العقول المجاورة له؟، التي سلّمت ذخيرتها من الخرافات الرجعية والدموية واستسلمت لعالم الحداثة والحريّات بعد أن أيقنت أن البلدان اليوم لن تصمد ولن تحافظ على صدارتها إذا اعتمدت على النفط والقيم البالية، أم يراجع أدبياته ويعيد تعريفاته للحريات والحقوق النسوية. 

 
لا يبدو أن هذا سيحدث قريباً، مثلما تفشل صواريخ هؤلاء في تصويب أهدافها تفشل تنظيراتهم في الوقوع على المصطلح، لأن تلك الصواريخ تشبه مقالاتهم وأوامرهم الإدارية والوزارية المذعورة من تداول مفردة الجندر، لا تغادر قواعدها كي تصيب، تنطلق كي تثير الغبار وتقتل مواطنيها، وكي تجلب الأغنيات الحماسية عن «المملوح الشروگي …الذي لم يعبر فوقه أحد» مزيداً من المشاهدات في اليوتيوب-في اليوتيوب فقط- ليس إلّا. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يُروى عن بغداد في زمن المأمون، أنَّ الأسواق كانت تضج بالحديث عن محنة خلق القرآن، فقد يسألك البقّال أو الحمّال أو عامل الحمّام هل تؤمن أن القرآن مخلوق أم منزل؟ سعى جهاز الخليفة الدعائي إلى حقن الناس بالعقيدة والغضب ضد القائلين بأزلية القرآن، وبذلك سهل عليه القصاص من معارضيه وتعذيب الإمام ابن حنبل، دون أن «يخرج عليه الناس» الذين شحنهم بالغضب العقائدي، ليربح بذلك زخماً جماهيرياً يواري به خساراته، وتاريخنا عامرٌ بذلك النوع من الترندات الجدلية، حيث يشارك الجمهور في ترجيح إحدى كفتي الصراع؛ مثل قضية الفاضل والمفضول، ومقتل الحلاج والسؤال هل كان علي يصلي؟ 

في أنطاكيا القديمة، كان القساوسة يمارسون التكتيك نفسه، ترحيل الجدل من الكنيسة إلى الشارع، كان الصراع قائماً بين الجماعة التي تؤمن بألوهية المسيح والجماعة التي تؤمن ببشرية المسيح، ومن أجل الإطاحة بكلِّ رجال الدين الذين لا يؤمنون بألوهية المسيح حقنوا المجتمع بالعصبية واستثمروا في خداعه وتضليله، فتجد العامّة من خارج الكهنوت يناقشون مسألة لاهوتية شديدة التعقيد، مثل هل أن المسيح هو جوهر الرب أو هو مجرد رجل اعتيادي بلغ أقصى مراتب الأخلاق البشرية، ومن طريف ما يُروى أن الجماعة المؤمنة ببشرية المسيح وظّفوا مومساً واتفقوا معها للإيقاع بأحد الأساقفة من الذين يؤمنون بألوهية المسيح، بواسطة إغرائه للنوم معها ومن ثم القبض عليه بالجرم المشهود، فسمعَتهم المومس يتحدثون عن عقيدتهم فغضبتْ منهم وطردتهم ونكثت الاتفاق زاعمة أن المسيح هو الابن والآب والروح المقدسة، حتى أنها قرأت لهم شطراً من الإنجيل. 

كأن القصة تشبه ذلك المشهد من فيلم «السفارة في العمارة» حينما تقول فتاة الليل لعادل إمام: «أنا تجيبني جنب السفارة الإسرائيلية يا عميل يا واطي!»، ذلك لأن هناك نوعاً من الجدال لا يمكن حسمه في السرير أو أثناء شراء البقالة، لكن العقل وحينما تنفد خزينته ويصبح قاصراً عند المواجهة يبادر إلى رمي الكرة في ملعب الجماهير، لأن الجماهير لا تحتاج إلى العقل كي تقنعها بوجهة نظرك، فيكسب السياسي بالعواطف والغضب المجتمعي ما خسره في العقل والعلم والسياسة. 

 في عراق المليشيات اليوم يفتعل الساسة معركة وهمية للتخفيف من المأزق الاقتصادي الخانق الذي يعاني منه ملوك الطائفة والحصار الأمريكي على ثرواتهم وتجارتهم العابرة للقارات، على أن لفظة «الساسة» واسعة جداً على العقل المراهق الذي يفكر هؤلاء بواسطته. في أقل من شهر طبعت الدوريات وصدرت الكتب ودبجت المقالات وغصت غرف الواتساب وتليغرام وكلبهاوس، وصرفت الشيكات بميزانيات مليارية لتصنيع حملة إعلامية ضد مفردة «جندر». والحاصل هو إرغام الناس على تلقي المفردة بشكل خاطئ من البداية، وقديما قال أبقراط: «يستحيل على الإنسان أن يتعرّف على شيء ما إذا كان يعتقد أنه يعرفه»، بمعنى أن المعرفة الخاطئة -والمسبقة- ستجعل التعريف الصحيح للمفردة مستحيلاً.   

الجندر بالنسبة لهؤلاء هو: أن يطلب الرجال التحوّل إلى نساء، أن يصبح على الرجال تسليم مؤخراتهم إلى الرجال كارهين، على أن يرتب ذلك بقانون، وأن تصبح الحمّامات مشتركة، وأن تسترجل النساء وتصبح لهن القيمومة والعصمة والحق في تعدد الأزواج، و«كض أخوك لا يتجندر»، وأن نجبر الطفل على استئصال أعضائه الحساسة، كما يحدث في الغرب الكافر ومنظومته العلمانية المتفسخة والتي ستنهار قريباً بعد أن «ظهر الفساد في البر والبحر» وخرج الناس عن «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»، وهي مكيدة من الشيطان الأكبر الذي أغلق مجرى أموالنا ويطاردنا في بلاد الله الواسعة، ولنا ألف عظة وقدوة في ولي أمر المسلمين الأرثوذكسي، قاهر الميمييّن، الفارس الأبيض على الجواد الأشهب المبشر به في آخر الزمان،  فلاديمير بن فلاديميروفيتش بن بوتين. 

 وهي رؤية روزخونية قرووسطية تؤمن بنظرية المؤامرة، ويتعالى عليها حتى رجال الكنائس المحافظة ونشطاء اليمين المتطرف في الجدل الجندري الغربي.   

يخلط هذا الفهم بين الجندر وبين الهويّة الجندرية، مثل الخلط بين المثلية والجسد الذي يولد بأعضاء ناقصة أو غير محددة أو لا تنسجم مع ميولاته الجنسية، على أن كل هذه المفردات قد تتداخل وتتباعد في سياقات مختلفة، ومنها ما هو قانوني أو بايلوجي أو نسق اجتماعي أو جريمة لا تغتفر مثل استغلال الأطفال وتزيين القاصرين بالمكياج الإغرائي للبالغين والتجارة الجنسية بهم في الأزقة الخلفية، أو التغزل بالبنات القاصرات في فيديوهات الأغاني الجديدة، وكلها ممارسات تراقبها المليشيات وقادتها، تدعمها بالخفاء أو تهادنها أو تعقد معها علاقة تخادم. 

 الجندر، ج ن د ر، الكلمة وحدها تدل على ما تدل عليه خانة «الجنس» في هوية الأحوال العراقية، ويملأ الفراغ أمامها بعبارة أنثى أو ذكر، نقطة رأس سطر. 

لكن الكلمة في السياق العربي الأكاديمي لا تعني ذلك، والموضوع برمته نزاع اصطلاحي مفرداتي كما هي أغلب جدالاتنا المجوّفة، التي تفعل بها الترجمة ما تفعل، لكن هناك سياقاً دائماً يحرس المفردات ويوضح معانيها. يعود استخدام المصطلح بحمولته الفكرية والسياسية إلى القرن الثامن عشر، مواكباً لظهور الأصوات المطالبة بحقوق المرأة، في كتابات الفيلسوفة البريطانية ماري وولستونكرافت التي ترى بعض الدراسات أنها أول من صاغ عبارات واضحة عن حقوق المرأة بشكلها المعاصر، لافتات كانت مخيفة ومهرطقة وخارجة عن المألوف، مثل: النساء لسن أقل شأناً من الرجال، و…، ينبغي معاملة كل من الرجل والمرأة على أنهما مخلوقان رشيدان، يصنعان نظاما اجتماعيا يقوم على العقل!. كلام خطير أليس كذلك؟! 

ولا عجب أن هذه الموهبة اللاذعة ستتزوج فيلسوفاً نظّر للأناركية وللمذهب البراغماتي، وتنجب منه بنتاً اسمها ماري شيلي، ستكتب فيما بعد رواية اسمها «فرانكشتاين»! 

الجندر إذن، اصطلاحاً وليس لغةً، وفي السياق الفكري، يشير إلى قضايا المرأة ويراقب رؤية المجتمع لأدوارها وقدراتها في الأدب والاجتماع والانثروبولوجيا، ففلسفة الجندر تدخل في دراسات واختصاصات شتى.  

ثم يأتي الفيلسوف ستيورات ميل ويكتب مقالاً يعتبر حجة ومرجعاً في تاريخ حقوق النساء سمّاه «استعباد النساء»، ليتطور المفهوم وينتعش، وتكتب سيمون دو بوفوار كتابها الجنس الثاني وتحلّل فيه دور المرأة وتنتقد النظرة الدونية لمفهوم الأنوثة كبنية اجتماعية، ويدخل المصطلح بعد الثورة الصناعية والاستعمار والحربين العالميتين إلى حياتنا وأروقتنا العلمية، لا بل يدخل إلى المعاهد الدينية وترى من طلّاب الشريعة من يكتب شيئاً عن ملامح نظرية الجندر في الإسلام، أو «من أجل نظرية جندرية إسلامية». 

ثم ترتبط النسوية بمجابهة النظام الأبوي الذكوري الذي يرتعب من فطنتها ودخولها عالم الإدارة والأكاديميا، فتندفع عجلة الكفاح النسوي كاسحة ألغام البطاركة والملالي، ويحدث أن تنتصر دائماً ولا تعود إلا بمغانم التغيير، وتساند كل القضايا التي تجاورها وتنتصر لضحايا الأنظمة المتسلطة كالمثلية بتفرعاتها من باب المؤازرة، وتقطف ثمار الاحتجاج طويل الأمد، الاحتجاج مدى الحياة، وها نحن اليوم في عام 2023، نجد نشطاء مثليين في الكنائس كقساوسة وفي مساجد أوربا كأئمة، لا بل أعضاء ونواب في أحزاب اليمين الجمهوري المتطرف! وأصبحت المثلية بفضل معاضدة النساء أمراً شبه مفروغ منه، يسانده من كان ناقماً عليه. 

ليظهر ما يعرف اليوم بمفهوم الهوية الجندرية، وليس الجندر!، والهوية الجندرية مصطلح شائك لا يزال في مطبخ الفضاء الغربي، خاضعاً للنقاش الحر والمساءلة والمراجعة، واستعماله لابتزاز الحركات النسوية العراقية أو المثلية وخلطه مع الجندر هو لؤم ديماغوجي لا مبرر له. 

تحمل الفصائل الدينية في العراق أوزاراً ثقيلة ضد المرأة وثارات قديمة متجددة، فهي تراقب وتشهد ما فعلته المرأة الإيرانية في غضون أسابيع من صداع مزمن لسماحة المرشد، وكيف غمست رؤوس الفساد والعنت الديني البطرياركي بالوحل و«شرشحته» عالمياً، واستطاعت أن تجعل نظام الفقيه يتداعى، ويدخل إلى عنق الزجاجة بالمعكوس، ليبقى داخلها. 

تهدف الحملة أيضاً؛ إلى عزل العراق ثقافياً عن محيط الإعلام العالمي، كي يأكل اللصوص ويوصوصون بلا صحافة استقصائية عالمية حرّة، تفضح فسادهم وممارساتهم الإجرامية من خطف واعتقال وتغييب واغتيال، فتراه يحرص على شيطنة منظمات المرأة والمجتمع المدني وصحافة «العلمانيين» كما يسمِّيها، وحركاتهم الماجنة التي تريد أن تجندر الرجال وتخنث الصبيان!.   

هل يصبح العقل الإمامي أقل رشداً من العقول المجاورة له؟، التي سلّمت ذخيرتها من الخرافات الرجعية والدموية واستسلمت لعالم الحداثة والحريّات بعد أن أيقنت أن البلدان اليوم لن تصمد ولن تحافظ على صدارتها إذا اعتمدت على النفط والقيم البالية، أم يراجع أدبياته ويعيد تعريفاته للحريات والحقوق النسوية. 

 
لا يبدو أن هذا سيحدث قريباً، مثلما تفشل صواريخ هؤلاء في تصويب أهدافها تفشل تنظيراتهم في الوقوع على المصطلح، لأن تلك الصواريخ تشبه مقالاتهم وأوامرهم الإدارية والوزارية المذعورة من تداول مفردة الجندر، لا تغادر قواعدها كي تصيب، تنطلق كي تثير الغبار وتقتل مواطنيها، وكي تجلب الأغنيات الحماسية عن «المملوح الشروگي …الذي لم يعبر فوقه أحد» مزيداً من المشاهدات في اليوتيوب-في اليوتيوب فقط- ليس إلّا.