القفاصة في العراق: تاريخ من المرونة والخيال والخفة
23 نيسان 2024
دفع أبو محمد ثمن سيارة لم يلمس حتى مقودها، وباع فالح بيته ليسدد ديناً لم يكسب منه فلساً واحداً، ذلك أنهما وقعا في فخاخ "التقفيص"
ربما لم يسبق لعراقي أن نجا طوال حياته من “القفّاصة”1، وإن حصل ذلك فعن طريق الخطأ على الأرجح، وعلى النّاجي مراجعة أقرب سوق شعبية أو مكان تجاري أو إحدى دوائر الدولة، فلا يمكن النجاة من الفخاخ التي ينصبها القفاصة، وكلما تمكن المرء من كشف حيلة، حتى تظهر أخرى أكثر خفة وجودة ومهارة.
يطوّر القفاصة أساليبهم بطرق بارعة لا يمكن كشفها مهما كان المرء ذكياً.
يقسم وقت القفاص إلى ثلاثة أقسام وبحسب الحاجة: وقت إنتاج الحيلة، وقت التدرب عليها، وقت التطبيق.
وفيما تتنوع الأساليب، كذلك تتنوع الاختصاصات، وهنا ثلاثة أقسام من القفاصة حسب الانتماء: قفاص يعمل لوحده، قفاص داخل جماعة من القفاصة، قفاص داخل عائلة من القفاصة، وفي الحالتين الأخيرتين تقسم المهام والواردات بشكل عادل، وإن وقع ثمة خلل في التوزيع تبدأ أولى عمليات الانقسام الداخلي، أو ما يسمى الخروج من المجموعة للدخول إلى مجموعة جديدة.
ولكي تصبح قفاصاً عليك أن تتمتع بمجموعة كبيرة من المواهب، لا يمكن حصرها ولا يمكن مراقبة تطورها وآلياتها.
من البديهيات كي تصبح قفاصاً ذا سمعة حسنة في مجال عملك، عليك أن تمتلك: الخفة، سرعة البديهة، القدرة على مواجهة التحديات أو الإخفاق، الخطط البديلة، سرعة التفكير، سرعة الإنجاز، يجب أن تكون سريعاً في كل شيء، كما لو أن الزمن هو ثانية واحدة فحسب.
وجعل المشهد بهذه الكثافة والقوة يحتاج استعارات متلاحقة ومنسجمة، استعارات تجعل القفاص من نوع مألوف ومرحب به من قبل الضحية، إضافة لذلك يجب أن يمتلك القدرة على الانصهار في أي حدث داخل أي تجمع، بحيث يصبح كائناً سائلاً يمكنه المرور من أي منفذ، لا يشعر بالاستغراب ولا يثير الشك، وذلك الاندماج يحتاج حيوية ومهارة فريدة من نوعها.
البيئة المناسبة للتقفيص
التقفيص عملية غير مرتبطة بالزمن أو المكان، فالحيلة أنتجها البشر مثل سواها من العمليات الأخرى، وبالعادة تنشط في الظروف غير الطبيعية، في ظروف يغيب فيها القانون، في الأزمات الاقتصادية كما حصل في العراق في عقد التسعينيات والحصار الاقتصادي الذي نال من العراقيين، وقتها أنتجت حيل وطرق عديدة للاحتيال.
وهناك مئات الآلاف من العراقيين لم يعرفوا معنى الحيلة قبل ذلك الزمن، مئات الآلاف من الضحايا؛ والتقفيص يحتاج ظروفاً وشروطاً حين تتحقق تصبح العملية على وشك الحدوث.
ثمة ظروف خاصة لا يمكن أن تحدث عملية التقفيص من دونها، ومن تلك الظروف توافر بيئة آمنة، بحيث ينجو المحتال بفعلته، إضافة لضحية تتوافر فيها مجموعة من الميزات، أهمها: عدم التركيز، والبحث عن الربح السريع.
عادة يستغل القفاصون عدم تركيزك، الذي سيكون هو الثغرة الأوضح، فالعملية تبدأ ما أن يكتشف القفاص أن المرء قلّ تركيزه أو فقده.
ينظر القفاصة إلى أصحاب المحال والمصانع والأعمال المشابهة كفرائس سهلة.
يدخل شخص ما وحده أو مع مجموعة، ويبدأ بالحديث معك على أنه من معارفك، قد يلمح من اسم المحل أو من خلال أي إشارة أو من خلال مراقبة سابقة معلومة ما عن حياتك، فتجده يعاملك بلطف ومحبة، على أنه صديق أحد أفراد أسرتك، فيطلب منك مجموعة كبيرة من حاجات ما أن تضعها في سيارته حتى ينطلق نحو المجهول ولم تنتبه إلا بعد فوات الأوان، مستغلا ليس عدم تركيزك بل نشوتك في القدرة على بيع أكبر عدد من الحاجات.
وهذه الحيلة لم تعد غريبة، فقد وقع فيها مئات الناس، لو سألت حينها: من أنت؟ من تعرف؟ ماذا تريد بالضبط؟ ستكون العملية قد تعقدت على القفاص، لكن الانتباه بعد فوات الأوان غير مجد في الغالب، هذا مثال بسيط فقط.
وقد تنالك عملية التقفيص حتى لو كنت فرداً أعزل يمشي في الشارع، والربح السريع هو الصفة المطلوب توافرها فيك في ذلك الوقت.
لو كنت سائق تاكسي يمكن أن يغريك القفاص بأجرة أكثر من المتوقع، وبأكثر من مشوار تذهب معه، ربما يخبرك أنه تاجر أو ما شابه ذلك. لو كنت طالباً، فالقفاص يعرف أنك بحاجة إلى عمل، وأول الحوار بينكما سيكون عن فرصة توظيفك.
في السنوات الأخيرة، وبسبب حاجة الشبان إلى العمل، نشطت الحيلة في التعيينات وسحب الأموال مقابل توظيف غير موجود إلا في عقل الحالم البسيط الذي ينتظر تلك الفرصة الذهبية للتخلص من بطالته.
بعض القفاصة يبذل جهداً، إذ وسعوا عملياتهم لجلب عدد أكبر من الفرائس، ولطبقات أغنى، فأخذوا يستأجرون مكتب عمل مليئاً بالموظفين، وفي منطقة راقية ومعروفة، لبثّ الأمان التام في نفوس الفرائس، والحصول على مبالغ وصفقات أكبر حجماً.
ويملك القفاصة معرفة نفسية موسعة بالمجتمع، يعرفون بالضبط كل طبقة وكل فئة ماذا تريد وبماذا ترغب، وكيف يمكن أن تقع في الفخ. القفاصة هم خبراء نفسيون لم يُنتبه لهم بشكل جيد.
وتعد المؤسسات الحكومية من أفضل البيئات للتقفيص، وقد دخلها بالفعل قفاصة بوصفهم مستشارين أو مدربين دوليين أو متخصصين في إيجاد حلول لمشاكل العمل أو مطورين للكوادر.
دخل القفاصة بوصفهم مقاولين ورجال أعمال، لهم حصتهم الكبيرة من المشاريع المتلكئة والمتوقفة في العراق، مشاريع ضخمة سلمت من دون معايير لقفاصة لهم شبكاتهم الخاصة في جسد الدولة.
القفاصة وجدوا عراق ما بعد 2003 بيئة مناسبة للتحايل على الدولة وكسب الأموال عبر حيل بسيطة وغير مكلفة، ونشطوا بصفات متعددة لا يمكن حصرها، وحتى الآن ثمة العديد من المشاريع والأموال بذمة القفاصة الذين قد يكونون مجرد أفراد داخل حقل كبير من القفاصة ينتهي بوزراء أو نواب أو شخصيات سياسية معروفة.
فروقات بين القفاصة واللصوص
القفاص تعرفه، تعرف شكله، يتحدث معك، مرة أو أكثر بحسب الحيلة، ثمة حيل تتطلب أكثر من عشرة لقاءات، تعرف اسمه، وربما عنوان منزله الوهمي في الغالب، يأخذك في جولة ليعرّفك على بعض الأصدقاء إن تطلب الأمر، يجعلك تثق به، يعاملك كأنه يعرفك منذ سنوات، عمله لا يتطلب سوى التطبيق السليم للحيلة.
لكن اللص غير مرئي، ملثم عادة، أو يرتدي ما يخفي ملامحه، القفاص يعيش بالقرب منك، يتجول في الليل والنهار، اللص يحضر في الظلام، لكن القفاصة لا يخشون الشمس.
والفرق الآخر الذي يمكن ملاحظته بسهولة ويسر بين اللص والقفاص هو أن السرقة التقليدية تتطلب شجاعة وقوة جسمانية وسرعة في التنفيذ والهرب، لكن القفاص قد يكون يعاني مرضاً عضالاً، وهذا ليس غريباً.
اللصوص عادة أفراد، كل يعمل بمفرده، أو مع فرد واحد آخر في أفضل الأحوال. في الأسواق والحالات الاستثنائية يصبحون شبكة، يتواجدون في المكان ذاته من أجل حماية بعضهم، لكن شبكة القفاصة تنتشر بشكل دقيق ومحسوب، واحد بالقرب منك، يأخذك لآخر يجلس في مكتب أو محل، مرتبط بدوره بآخر ربما يعمل سائقاً، أي أن العملية ونوعها هي من تحدد ترتيب كل واحد من شبكة القفاصة.
من أجل غشك، يتظاهر القفاصة عادة بنوع من الثراء كي تثق بهم، يلتقون في الأماكن الفاخرة، يشترون ملابس وحاجات باهظة الثمن من أجل جذب الانتباه.
لا يحتاج اللص التقليدي للنساء، لكن القفاصة خير من يستثمرونهن في عملياتهم، فعادة تكون في مكتب القفاص نساء جميلات رشيقات، غاية في التهذيب والهدوء.
تجذبك هذه المرأة أو تلك من أجل زيارة المكان أكثر من مرة إذا كان القفاص من أصحاب المكاتب، والتي باتت منتشرة في العديد من الشوارع التجارية في بغداد على الأقل، وقد يأخذ الواحد منها تسمية مكتب لاستثمار الأموال أو مكتب لتشغيل الأموال، فالأمر متعلق بأموالك في جميع الأحوال.
قد يكون القفاص محترماً اجتماعياً، ومحبوباً من قبل المحيطين به، وهذا ما لم يحظَ به اللص، لأن الاحتيال قد يكون بطرق كتومة أو ظاهرها عمل وباطنها احتيال، بينما يمكن أن تنتهي سمعة اللص إلى الأبد من أجل سرقة بسيطة جداً.
بعض المحتالين لديهم مراكز متقدمة اجتماعياً وينظر إليهم كتجار أو رجال أعمال، وهي ميزة لا يحظى بها اللص، فعادة يعمل القفاصة في مجال بيع السيارات أو العقارات أو غيرها من المفاصل التي من السهل فيها كسب ثقة وأموال الآخرين، وفي بعض الحالات قد يكون القفاص أستاذك في المدرسة، يُحرّف درجاتك كي تذهب للدراسة الخصوصية في منزله.
اللصوصية لا تنفعك حين تقع في مأزق، لكن الاحتيال يمكنه فعل ذلك. تنتشر حكاية عن محتال أمسكت به قوة قاسية أيام نظام صدام حسين، والمعروف عن تلك السلطة أنها لا تتوانى في استخدام شتى أساليب التعذيب والإرهاب، وما أن بدأ رجال مقر الاعتقال بتعذيبه حتى صرخ بهم: “افعلوا أي شيء أو نوع من التعذيب الجسدي عدا البصاق”، توقف الضابط المسؤول عن تعذيبه وسأله “لماذا؟”، أجاب المحتال: “لأن البصاق فيه إهانة لا أتحملها”، فأمر الضابط رجاله بالاستمرار في البصاق عليه ليلة كاملة، فتجنب بتلك الحيلة التعذيب الجسدي واستبدله بالبصاق.
قصتان “قفاصيتان“
ليس بالإمكان اختصار قصص العراقيين مع القفاصة، ففي ذاكرة أغلبهم عشرات القصص عنهم.
سيكون بإمكان أي عراقي سرد قصته مع القفاصة، ولكن من أجل اكتمال الصورة عن خفتهم ومهارتهم وخيالهم، لا بد من إيراد أمثلة عن عملياتهم.
هناك قصص باتت مشهورة، وأخرى مستهلكة، قصص يتداولها الناس للسخرية وأخرى للموعظة والانتباه، وأدناه قصتان متداولتان لم تخضعا لأي محاولة شرح أو تغيير:
-1-
في أحد الأيام بعد سقوط النظام السابق عام 2003، طُرق باب منزل “أبو محمد” -اسم مستعار-، ولما خرج وجد رجلاً في الأربعين من عمره يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق ويبدو غاية في التهذيب وحسن السلوك، طلب من أبي محمد أن يدخله إلى البيت من أجل حديث خاص.
أدخله أبو محمد فقال له الرجل: “قبل عشر سنوات سُرقت منك سيارة من نوع برازيلي حمراء اللون، أليس كذلك؟”، أجاب أبو محمد: “نعم، كيف عرفت؟”، قال الرجل “أنا سرقتها، والآن أريد التكفير عن ذنبي بعد تحسن أوضاعي، فقد صرت أملك أموالاً وشركات وأريد تعويضك”.
أبدى أبو محمد مسامحته له على فعلته، وقال له إن الموضوع قديم ولا يستوجب دفع تعويض، لكن الضيف أصرّ على أنه يريد شراء سيارة جديدة له.
وبعد الإصرار والإلحاح، وافق أبو محمد على الذهاب معه إلى معارض السيارات لشراء سيارة جديدة، وبالفعل تم الاتفاق على شراء واحدة من السيارات، لكن الرجل الأربعيني طلب تجربة قيادتها للتأكد من كفاءتها قبل تسليم ثمنها، فانطلق بالسيارة تاركاً أبا محمد في المعرض.
مرّت ساعة ولم يعد “المشتري”، عندها سأل صاحب المعرض أبا محمد عن سبب تأخر ابنه، فأجابه بأنه ليس ابنه وإنما شخص لا يعرفه.
لم يكترث صاحب المعرض لرواية أبي محمد، واهتم فقط بإرغامه على دفع ثمن السيارة باعتباره كفيلاً بمن هرب بها، فدفع الثمن ولم يحصل حتى على إطار من إطاراتها.
-2-
يسكن فالح إحدى المناطق الشعبية في بغداد ويعمل سائق تاكسي، وذات يوم استأجره رجل وسيم وأنيق من مطار بغداد إلى منطقة الجادرية وسط العاصمة، وعندما أوصله أعطاه ضعف الأجرة المتفق عليها، شريطة أن يعود فالح عصراً ليقل الرجل من الجادرية إلى منطقة المنصور.
وبحسب الاتفاق، حضر فالح في الوقت المحدد وأقلّ الرجل، وعند الوصول إلى المنصور طلب من فالح انتظاره في المكان الذي توقف فيه، وانتظر فالح نحو 20 دقيقة، فجاء الرجل حاملاً حقيبة دبلوماسية وطلب من السائق إعادته إلى الجادرية.
في العادة، لا تتجاوز أجرة الذهاب والإياب بين الجادرية والمنصور 25 ألف دينار (نحو 17 دولاراً)، إلا أن الرجل منح فالحاً 100 دولار.
انتاب فالح الفضول وبدأ يسأله عن عمله، فأخبره أنه رجل أعمال كبير ويمتلك شركات في لندن وماليزيا ودبي.
وبعد أيام اتصل الرجل بفالح طالباً منه إيصاله من الجادرية إلى المطار، ولما أوصله أعطاه 100 دولار أيضاً، بينما الأجرة لا تتعدى 15 دولاراً.
مرّت أيام أخرى فاتصل الرجل بفالح مجدداً وطلب منه التواجد بعد ساعة قرب ساحة عباس بن فرناس -يقع قربها المدخل الرئيس للمطار-، وبالفعل توجه فالح إلى الساحة في الموعد ووجد الرجل بانتظاره، لكنه كان على غير العادة صامتاً لا يتحدث وممتعضاً ومتوتراً.
سأله فالح عن السبب، فقال له الرجل “كل نقودي في السوق، وهناك صفقة ذهبية لا أريدها أن تهرب مني، وفي الوقت ذاته لا أستطيع تمويلها، فالأموال قد تتأخر شهراً لكي أجمعها”، فقال فالح: “وماذا ستفعل؟”، أجاب الرجل: “أبحث عن شريك يعطيني 100 ألف دولار، وبعد شهر أعيد له المبلغ مضاعفاً، أي 200 ألف دولار”.
من دون أدنى تفكير، قال فالح: “سهلة أستاذ، غداً سيأتيك المبلغ”، فقال له الرجل: “لا، أنت إنسان كادح لا تستطيع توفير هكذا مبلغ”، لكن فالح أصر على أن يأتيه بالمبلغ في اليوم التالي طالما أن الربح مضاعف وقريب.
عاد فالح المعروف بين أقربائه وجيرانه بالأمانة وحسن السلوك، وبدأ بجمع المبلغ، اقترض من ميسوري الحال، وبعد ثلاثة أيام جمع المال واتصل بالرجل، والتقيا في أحد مطاعم الجادرية وسلمه إياه.
بعد انتهاء لقاء المطعم اختفى الرجل هو ورقم هاتفه وسترته وشركاته، وبدأت الناس تطالب فالح بأموالها، فما كان منه إلا أن يبيع بيته ليسدد الدين، خاسراً بذلك منزله البسيط الذي هو كل ما يملك.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
ربما لم يسبق لعراقي أن نجا طوال حياته من “القفّاصة”1، وإن حصل ذلك فعن طريق الخطأ على الأرجح، وعلى النّاجي مراجعة أقرب سوق شعبية أو مكان تجاري أو إحدى دوائر الدولة، فلا يمكن النجاة من الفخاخ التي ينصبها القفاصة، وكلما تمكن المرء من كشف حيلة، حتى تظهر أخرى أكثر خفة وجودة ومهارة.
يطوّر القفاصة أساليبهم بطرق بارعة لا يمكن كشفها مهما كان المرء ذكياً.
يقسم وقت القفاص إلى ثلاثة أقسام وبحسب الحاجة: وقت إنتاج الحيلة، وقت التدرب عليها، وقت التطبيق.
وفيما تتنوع الأساليب، كذلك تتنوع الاختصاصات، وهنا ثلاثة أقسام من القفاصة حسب الانتماء: قفاص يعمل لوحده، قفاص داخل جماعة من القفاصة، قفاص داخل عائلة من القفاصة، وفي الحالتين الأخيرتين تقسم المهام والواردات بشكل عادل، وإن وقع ثمة خلل في التوزيع تبدأ أولى عمليات الانقسام الداخلي، أو ما يسمى الخروج من المجموعة للدخول إلى مجموعة جديدة.
ولكي تصبح قفاصاً عليك أن تتمتع بمجموعة كبيرة من المواهب، لا يمكن حصرها ولا يمكن مراقبة تطورها وآلياتها.
من البديهيات كي تصبح قفاصاً ذا سمعة حسنة في مجال عملك، عليك أن تمتلك: الخفة، سرعة البديهة، القدرة على مواجهة التحديات أو الإخفاق، الخطط البديلة، سرعة التفكير، سرعة الإنجاز، يجب أن تكون سريعاً في كل شيء، كما لو أن الزمن هو ثانية واحدة فحسب.
وجعل المشهد بهذه الكثافة والقوة يحتاج استعارات متلاحقة ومنسجمة، استعارات تجعل القفاص من نوع مألوف ومرحب به من قبل الضحية، إضافة لذلك يجب أن يمتلك القدرة على الانصهار في أي حدث داخل أي تجمع، بحيث يصبح كائناً سائلاً يمكنه المرور من أي منفذ، لا يشعر بالاستغراب ولا يثير الشك، وذلك الاندماج يحتاج حيوية ومهارة فريدة من نوعها.
البيئة المناسبة للتقفيص
التقفيص عملية غير مرتبطة بالزمن أو المكان، فالحيلة أنتجها البشر مثل سواها من العمليات الأخرى، وبالعادة تنشط في الظروف غير الطبيعية، في ظروف يغيب فيها القانون، في الأزمات الاقتصادية كما حصل في العراق في عقد التسعينيات والحصار الاقتصادي الذي نال من العراقيين، وقتها أنتجت حيل وطرق عديدة للاحتيال.
وهناك مئات الآلاف من العراقيين لم يعرفوا معنى الحيلة قبل ذلك الزمن، مئات الآلاف من الضحايا؛ والتقفيص يحتاج ظروفاً وشروطاً حين تتحقق تصبح العملية على وشك الحدوث.
ثمة ظروف خاصة لا يمكن أن تحدث عملية التقفيص من دونها، ومن تلك الظروف توافر بيئة آمنة، بحيث ينجو المحتال بفعلته، إضافة لضحية تتوافر فيها مجموعة من الميزات، أهمها: عدم التركيز، والبحث عن الربح السريع.
عادة يستغل القفاصون عدم تركيزك، الذي سيكون هو الثغرة الأوضح، فالعملية تبدأ ما أن يكتشف القفاص أن المرء قلّ تركيزه أو فقده.
ينظر القفاصة إلى أصحاب المحال والمصانع والأعمال المشابهة كفرائس سهلة.
يدخل شخص ما وحده أو مع مجموعة، ويبدأ بالحديث معك على أنه من معارفك، قد يلمح من اسم المحل أو من خلال أي إشارة أو من خلال مراقبة سابقة معلومة ما عن حياتك، فتجده يعاملك بلطف ومحبة، على أنه صديق أحد أفراد أسرتك، فيطلب منك مجموعة كبيرة من حاجات ما أن تضعها في سيارته حتى ينطلق نحو المجهول ولم تنتبه إلا بعد فوات الأوان، مستغلا ليس عدم تركيزك بل نشوتك في القدرة على بيع أكبر عدد من الحاجات.
وهذه الحيلة لم تعد غريبة، فقد وقع فيها مئات الناس، لو سألت حينها: من أنت؟ من تعرف؟ ماذا تريد بالضبط؟ ستكون العملية قد تعقدت على القفاص، لكن الانتباه بعد فوات الأوان غير مجد في الغالب، هذا مثال بسيط فقط.
وقد تنالك عملية التقفيص حتى لو كنت فرداً أعزل يمشي في الشارع، والربح السريع هو الصفة المطلوب توافرها فيك في ذلك الوقت.
لو كنت سائق تاكسي يمكن أن يغريك القفاص بأجرة أكثر من المتوقع، وبأكثر من مشوار تذهب معه، ربما يخبرك أنه تاجر أو ما شابه ذلك. لو كنت طالباً، فالقفاص يعرف أنك بحاجة إلى عمل، وأول الحوار بينكما سيكون عن فرصة توظيفك.
في السنوات الأخيرة، وبسبب حاجة الشبان إلى العمل، نشطت الحيلة في التعيينات وسحب الأموال مقابل توظيف غير موجود إلا في عقل الحالم البسيط الذي ينتظر تلك الفرصة الذهبية للتخلص من بطالته.
بعض القفاصة يبذل جهداً، إذ وسعوا عملياتهم لجلب عدد أكبر من الفرائس، ولطبقات أغنى، فأخذوا يستأجرون مكتب عمل مليئاً بالموظفين، وفي منطقة راقية ومعروفة، لبثّ الأمان التام في نفوس الفرائس، والحصول على مبالغ وصفقات أكبر حجماً.
ويملك القفاصة معرفة نفسية موسعة بالمجتمع، يعرفون بالضبط كل طبقة وكل فئة ماذا تريد وبماذا ترغب، وكيف يمكن أن تقع في الفخ. القفاصة هم خبراء نفسيون لم يُنتبه لهم بشكل جيد.
وتعد المؤسسات الحكومية من أفضل البيئات للتقفيص، وقد دخلها بالفعل قفاصة بوصفهم مستشارين أو مدربين دوليين أو متخصصين في إيجاد حلول لمشاكل العمل أو مطورين للكوادر.
دخل القفاصة بوصفهم مقاولين ورجال أعمال، لهم حصتهم الكبيرة من المشاريع المتلكئة والمتوقفة في العراق، مشاريع ضخمة سلمت من دون معايير لقفاصة لهم شبكاتهم الخاصة في جسد الدولة.
القفاصة وجدوا عراق ما بعد 2003 بيئة مناسبة للتحايل على الدولة وكسب الأموال عبر حيل بسيطة وغير مكلفة، ونشطوا بصفات متعددة لا يمكن حصرها، وحتى الآن ثمة العديد من المشاريع والأموال بذمة القفاصة الذين قد يكونون مجرد أفراد داخل حقل كبير من القفاصة ينتهي بوزراء أو نواب أو شخصيات سياسية معروفة.
فروقات بين القفاصة واللصوص
القفاص تعرفه، تعرف شكله، يتحدث معك، مرة أو أكثر بحسب الحيلة، ثمة حيل تتطلب أكثر من عشرة لقاءات، تعرف اسمه، وربما عنوان منزله الوهمي في الغالب، يأخذك في جولة ليعرّفك على بعض الأصدقاء إن تطلب الأمر، يجعلك تثق به، يعاملك كأنه يعرفك منذ سنوات، عمله لا يتطلب سوى التطبيق السليم للحيلة.
لكن اللص غير مرئي، ملثم عادة، أو يرتدي ما يخفي ملامحه، القفاص يعيش بالقرب منك، يتجول في الليل والنهار، اللص يحضر في الظلام، لكن القفاصة لا يخشون الشمس.
والفرق الآخر الذي يمكن ملاحظته بسهولة ويسر بين اللص والقفاص هو أن السرقة التقليدية تتطلب شجاعة وقوة جسمانية وسرعة في التنفيذ والهرب، لكن القفاص قد يكون يعاني مرضاً عضالاً، وهذا ليس غريباً.
اللصوص عادة أفراد، كل يعمل بمفرده، أو مع فرد واحد آخر في أفضل الأحوال. في الأسواق والحالات الاستثنائية يصبحون شبكة، يتواجدون في المكان ذاته من أجل حماية بعضهم، لكن شبكة القفاصة تنتشر بشكل دقيق ومحسوب، واحد بالقرب منك، يأخذك لآخر يجلس في مكتب أو محل، مرتبط بدوره بآخر ربما يعمل سائقاً، أي أن العملية ونوعها هي من تحدد ترتيب كل واحد من شبكة القفاصة.
من أجل غشك، يتظاهر القفاصة عادة بنوع من الثراء كي تثق بهم، يلتقون في الأماكن الفاخرة، يشترون ملابس وحاجات باهظة الثمن من أجل جذب الانتباه.
لا يحتاج اللص التقليدي للنساء، لكن القفاصة خير من يستثمرونهن في عملياتهم، فعادة تكون في مكتب القفاص نساء جميلات رشيقات، غاية في التهذيب والهدوء.
تجذبك هذه المرأة أو تلك من أجل زيارة المكان أكثر من مرة إذا كان القفاص من أصحاب المكاتب، والتي باتت منتشرة في العديد من الشوارع التجارية في بغداد على الأقل، وقد يأخذ الواحد منها تسمية مكتب لاستثمار الأموال أو مكتب لتشغيل الأموال، فالأمر متعلق بأموالك في جميع الأحوال.
قد يكون القفاص محترماً اجتماعياً، ومحبوباً من قبل المحيطين به، وهذا ما لم يحظَ به اللص، لأن الاحتيال قد يكون بطرق كتومة أو ظاهرها عمل وباطنها احتيال، بينما يمكن أن تنتهي سمعة اللص إلى الأبد من أجل سرقة بسيطة جداً.
بعض المحتالين لديهم مراكز متقدمة اجتماعياً وينظر إليهم كتجار أو رجال أعمال، وهي ميزة لا يحظى بها اللص، فعادة يعمل القفاصة في مجال بيع السيارات أو العقارات أو غيرها من المفاصل التي من السهل فيها كسب ثقة وأموال الآخرين، وفي بعض الحالات قد يكون القفاص أستاذك في المدرسة، يُحرّف درجاتك كي تذهب للدراسة الخصوصية في منزله.
اللصوصية لا تنفعك حين تقع في مأزق، لكن الاحتيال يمكنه فعل ذلك. تنتشر حكاية عن محتال أمسكت به قوة قاسية أيام نظام صدام حسين، والمعروف عن تلك السلطة أنها لا تتوانى في استخدام شتى أساليب التعذيب والإرهاب، وما أن بدأ رجال مقر الاعتقال بتعذيبه حتى صرخ بهم: “افعلوا أي شيء أو نوع من التعذيب الجسدي عدا البصاق”، توقف الضابط المسؤول عن تعذيبه وسأله “لماذا؟”، أجاب المحتال: “لأن البصاق فيه إهانة لا أتحملها”، فأمر الضابط رجاله بالاستمرار في البصاق عليه ليلة كاملة، فتجنب بتلك الحيلة التعذيب الجسدي واستبدله بالبصاق.
قصتان “قفاصيتان“
ليس بالإمكان اختصار قصص العراقيين مع القفاصة، ففي ذاكرة أغلبهم عشرات القصص عنهم.
سيكون بإمكان أي عراقي سرد قصته مع القفاصة، ولكن من أجل اكتمال الصورة عن خفتهم ومهارتهم وخيالهم، لا بد من إيراد أمثلة عن عملياتهم.
هناك قصص باتت مشهورة، وأخرى مستهلكة، قصص يتداولها الناس للسخرية وأخرى للموعظة والانتباه، وأدناه قصتان متداولتان لم تخضعا لأي محاولة شرح أو تغيير:
-1-
في أحد الأيام بعد سقوط النظام السابق عام 2003، طُرق باب منزل “أبو محمد” -اسم مستعار-، ولما خرج وجد رجلاً في الأربعين من عمره يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق ويبدو غاية في التهذيب وحسن السلوك، طلب من أبي محمد أن يدخله إلى البيت من أجل حديث خاص.
أدخله أبو محمد فقال له الرجل: “قبل عشر سنوات سُرقت منك سيارة من نوع برازيلي حمراء اللون، أليس كذلك؟”، أجاب أبو محمد: “نعم، كيف عرفت؟”، قال الرجل “أنا سرقتها، والآن أريد التكفير عن ذنبي بعد تحسن أوضاعي، فقد صرت أملك أموالاً وشركات وأريد تعويضك”.
أبدى أبو محمد مسامحته له على فعلته، وقال له إن الموضوع قديم ولا يستوجب دفع تعويض، لكن الضيف أصرّ على أنه يريد شراء سيارة جديدة له.
وبعد الإصرار والإلحاح، وافق أبو محمد على الذهاب معه إلى معارض السيارات لشراء سيارة جديدة، وبالفعل تم الاتفاق على شراء واحدة من السيارات، لكن الرجل الأربعيني طلب تجربة قيادتها للتأكد من كفاءتها قبل تسليم ثمنها، فانطلق بالسيارة تاركاً أبا محمد في المعرض.
مرّت ساعة ولم يعد “المشتري”، عندها سأل صاحب المعرض أبا محمد عن سبب تأخر ابنه، فأجابه بأنه ليس ابنه وإنما شخص لا يعرفه.
لم يكترث صاحب المعرض لرواية أبي محمد، واهتم فقط بإرغامه على دفع ثمن السيارة باعتباره كفيلاً بمن هرب بها، فدفع الثمن ولم يحصل حتى على إطار من إطاراتها.
-2-
يسكن فالح إحدى المناطق الشعبية في بغداد ويعمل سائق تاكسي، وذات يوم استأجره رجل وسيم وأنيق من مطار بغداد إلى منطقة الجادرية وسط العاصمة، وعندما أوصله أعطاه ضعف الأجرة المتفق عليها، شريطة أن يعود فالح عصراً ليقل الرجل من الجادرية إلى منطقة المنصور.
وبحسب الاتفاق، حضر فالح في الوقت المحدد وأقلّ الرجل، وعند الوصول إلى المنصور طلب من فالح انتظاره في المكان الذي توقف فيه، وانتظر فالح نحو 20 دقيقة، فجاء الرجل حاملاً حقيبة دبلوماسية وطلب من السائق إعادته إلى الجادرية.
في العادة، لا تتجاوز أجرة الذهاب والإياب بين الجادرية والمنصور 25 ألف دينار (نحو 17 دولاراً)، إلا أن الرجل منح فالحاً 100 دولار.
انتاب فالح الفضول وبدأ يسأله عن عمله، فأخبره أنه رجل أعمال كبير ويمتلك شركات في لندن وماليزيا ودبي.
وبعد أيام اتصل الرجل بفالح طالباً منه إيصاله من الجادرية إلى المطار، ولما أوصله أعطاه 100 دولار أيضاً، بينما الأجرة لا تتعدى 15 دولاراً.
مرّت أيام أخرى فاتصل الرجل بفالح مجدداً وطلب منه التواجد بعد ساعة قرب ساحة عباس بن فرناس -يقع قربها المدخل الرئيس للمطار-، وبالفعل توجه فالح إلى الساحة في الموعد ووجد الرجل بانتظاره، لكنه كان على غير العادة صامتاً لا يتحدث وممتعضاً ومتوتراً.
سأله فالح عن السبب، فقال له الرجل “كل نقودي في السوق، وهناك صفقة ذهبية لا أريدها أن تهرب مني، وفي الوقت ذاته لا أستطيع تمويلها، فالأموال قد تتأخر شهراً لكي أجمعها”، فقال فالح: “وماذا ستفعل؟”، أجاب الرجل: “أبحث عن شريك يعطيني 100 ألف دولار، وبعد شهر أعيد له المبلغ مضاعفاً، أي 200 ألف دولار”.
من دون أدنى تفكير، قال فالح: “سهلة أستاذ، غداً سيأتيك المبلغ”، فقال له الرجل: “لا، أنت إنسان كادح لا تستطيع توفير هكذا مبلغ”، لكن فالح أصر على أن يأتيه بالمبلغ في اليوم التالي طالما أن الربح مضاعف وقريب.
عاد فالح المعروف بين أقربائه وجيرانه بالأمانة وحسن السلوك، وبدأ بجمع المبلغ، اقترض من ميسوري الحال، وبعد ثلاثة أيام جمع المال واتصل بالرجل، والتقيا في أحد مطاعم الجادرية وسلمه إياه.
بعد انتهاء لقاء المطعم اختفى الرجل هو ورقم هاتفه وسترته وشركاته، وبدأت الناس تطالب فالح بأموالها، فما كان منه إلا أن يبيع بيته ليسدد الدين، خاسراً بذلك منزله البسيط الذي هو كل ما يملك.