من البرلمان إلى السجن: القوانين الفضفاضة لقمع الحريات 

الفضل أحمد

25 آذار 2024

تجري ممارسة نمط جديد من أنماط قمع حرية التعبير، قد تؤدي إلى فقدان النواب عضويتهم في البرلمان، وإلى اتساع الحملة على المنظمات والأفراد إذا ما انتقدوا مسؤولين أو مؤسسات.. تحليل لنمط جديد من قمع الحريات في العراق.

أصدرت محكمة جنح الكرخ المختصّة بقضايا النزاهة قراراً قضائيّاً بحبس هادي السلامي، النائب في البرلمان عن محافظة النجف، لمدة 6 أشهر وفق أحكام المادة 331 من قانون العقوبات، وذلك إثر دعوى تقدّمت بها وزارة التجارة ضدّه. 

ورغم أن النائب يمتلك حصانة تمنع اعتقاله أو تحريك دعاوى قضائيّة بحقّه أثناء فترة تولّيه منصبه، إلّا أن تفسير المحكمة الاتحادية العليا رقم 90 عام 2021، قضى بإمكانيّة اعتقال النائب في التهم التي تندرج ضمن (الجنح)، والتي تتضمن العقوبات بالحبس ما دون الخمس سنوات. 

استند تفسير المحكمة الاتحادية على اقتصار ذكر المادة 63 من الدستور العراقي التي تشير للحصانة النيابية لمفردة “الجناية” وهي العقوبات التي تشمل الحبس أكثر من خمس سنوات، دون أي إشارة للجنح. 

ويسمح هذا التفسير عمليّاً بملاحقة النواب بقضايا الجنح بمجرّد انتقادهم لوزراء ومسؤولين، وإجبارهم، في نهاية المطاف، على التوقّف عن أداء مهامهم النيابيّة. 

وقد أشار نواب عدّة، في جلسات علنيّة سابقة للمجلس، إلى هذه القضيّة وتحدثوا عن حالات أجبروا فيها على المثول أمام المحاكم نتيجة انتقادهم لمسؤولين تنفيذيين، إلّا أنّ أي خطوات عمليّة، لحل المشكلة، لم تحصل. 

جذر المشكلة 

ما حصل للسلامي يتعدّى كونه حادثة فرديّة مرتبطة بأحد أعضاء مجلس النواب، بل يدخل في إطار عمليّة واسعة وممنهجة للسلطات، للعمل على الحد من حريّة التعبير في العراق، مستغلةً، بذلك، عدم دقّة القوانين العراقيّة وامتلاكها تعابير فضفاضة تبيح اعتقال أي شخص قد ينتقد أداء الحكومة أو سلوك مسؤوليها، أو يساهم بكشف ملفات فساد أمام الرأي العام. 

ولا تختلف قضية السلامي كثيراً عن قضايا ناشطين وإعلاميين اعتقلوا أو صدرت مذكرات إلقاء قبض بحقّهم نتيجة انتقادهم للسلطات، إلّا باختلاف الأدوات. ففي حالات مثل الناشط حيدر الزيدي والإعلامي أحمد ملّا طلال والكاتب سرمد الطائي وآخرين، يتم اللجوء إلى أحكام المادة 226 من قانون العقوبات، والتي تبيح اعتقال الأفراد لـ7 سنوات نتيجة القيام بما تصفه المادة القانونية “إهانة السلطات”، بينما في حالة النائب البرلماني يتم اللجوء إلى المواد المرتبطة بجرائم الجنح ذات القدرة على تجاوز الحصانة النيابيّة لتحقيق الأثر نفسه.  

ورغم تنازل وزارة التجارة، لاحقاً، عن الدعوى المقامة على السلامي -كما تم التنازل في معظم الحالات عن الدعاوى بحق الناشطين المختلفين- إلّا أن هذه الدعاوى تعد -ومنذ لحظة تحريكها- أداة للقمع من خلال تخويف المجتمع من تبعات انتقادهم للسلطة. 

في جميع هذه القضايا، يتم إغفال الحق الأساسي للمواطنين -بمن في ذلك النوّاب- للحديث بما يؤمنون به. والحقيقة أن هذا الحق يتم تقويضه باستمرار.  

وبدلاً من الخوض في الرأي والحق في التعبير عنه، يجري حرف النقاش العام إلى مواضيع “أخرى” تبتعد عن مناقشة أصالة حق الأفراد في التعبير عن آرائهم. ففي حالة السلامي، جرت المحاكمة على أساس المادة 331 من قانون العقوبات، والمتعلّقة عمليّاً بسلب الحق في النقد والكلام، لكن شبكة واسعة من الإعلام القريب من السلطات، اتهموا النائب بتزوير وثائق حكومية، كطريقة لتبرير سلوك القمع، حيث تم تأطير السلامي كمرتكب لجريمة التزوير، بدل الحديث عنه كضحيّة لنمط قمعي يستهدف منع الناس من انتقاد السلطات. 

وقد أخذ يُتبَع سلوك لتشتيت الرأي العام عن قضايا الحريّات مع كل عمليّة اعتقال أو تضييق، وذلك لتحويل المتضرّرين من كونهم ضحايا لقول آرائهم، إلى جناة يستحقون ما جرى بحقّهم من اعتقال أو تضييق. 

قبل وبعد القمع 

وجود التعبيرات الفضفاضة في قانون العقوبات العراقي مثل “إهانة السلطات” المادة 226، و”الإخلال بالحياء والآداب العامة” المادة 403، يتيح لمؤسسات الدولة المختلفة الملاحقة القضائية لمن يُسائلها أو ينتقدها، والتمكن من إسكاته في نهاية المطاف من خلال الفوز عليه قضائياً. 

وبعد تنازل السلطات عن الدعاوى القانونيّة بحق المعارضين، تُطلق حملات إعلاميّة تمجّد الجهات نفسها التي حركت الدعاوى، وتربط بصفات مثل “العفو” و”التسامح”.. لا لشيء، إلّا لتوقّفهم عن انتهاك الحريّات، فيما يجبر بعض الضحايا على امتداح سجّانيهم، في أسلوبٍ آخر من أساليب القمع. 

كذلك، يتم خلق صورة نمطيّة عن المعارضين بكونهم مرتبطين بأجندات خارجيّة وعملاء لدول غربيّة. أو كما يجري مؤخراً، باتهامهم بنشر المثليّة الجنسيّة ودعم مفهوم الجندر أو ترويجهم للمحتوى الهابط وسعيهم لتخريب المبادئ والقيم الاجتماعيّة وتشجيعهم على انحلال الأسرة. جميع هذه المصطلحات تخدم إفراغ الشخصيات المعارضة من رمزيّتها الأخلاقيّة والوطنيّة، مما يسهّل في النهاية استهدافها دون أن يكون هناك تعاطف اجتماعي مع قضاياها. وتشترك هذه الاتهامات مع البنود القانونية الحاليّة بكونها مطّاطة وتستند إلى مفاهيم أخلاقيّة غير محدّدة. 

بالإضافة إلى حرفها عن كونها قضيّة حريّة تعبير، فقد أكسبت قضيّة السلامي طابعاً طائفيّاً بتصويرها على أنّها مشكلة شخصية بين وزير التجارة الذي ينتمي للطائفة السنيّة، ونائب عن محافظة النجف الشيعية.  

وبتحريكها بهذه الطريقة، تتفاقم النعرات الطائفية لتخدم مصالح الطبقة السياسيّة الحاليّة التي تستثمر عادةً في الصراع الطائفي وتعتمد عليه كجزءٍ أساسي من خطابها لتحشيد الناخبين، ويتم كذلك تشتيت انتباه المجتمع عن كون القضيّة بالأساس تتعلق بالحقوق والحريّات. 

التأثيرات المستقبلية 

باعتقال السلامي، تجري ممارسة نمط جديد من أنماط القمع، ويمكن أن يتطوّر -ما لم يتم الوقوف ضدّه- ليشمل استخدام مواد قانونيّة أخرى كـ330 و334-340 من قانون العقوبات التي تكتسب صفة الجنح، بالإضافة إلى كونها جرائم مخلّة بالشرف يفقد النائب عضويّته في حال صدر أمر قضائي بحقّه وفقها.  

وبشكلٍ عملي، يمكن سحب العضوية النيابية من أي نائب يُتهم بإحدى الجرائم المخلّة بالشرف كما حصل مع محمد الحلبوسي رئيس البرلمان السابق. ومع استمرار الحملة الحاليّة للتقويض من الحقوق والحريّات، فمن المرجّح استهداف نوّاب آخرين واستعمال هذه الأداة القانونيّة لأغراض الابتزاز السياسي وتحييد المعارضين بدل أن تكون وسيلة لإحقاق العدالة. 

بالمقابل، فأن أي محاولة نيابية لدرء الخطر عن أعضاء البرلمان، لا يمكن أن تتم بمعزل عن إيقاف القمع والتضييق بحق فاعلين آخرين كالناشطين ومنظمات المجتمع المدني ومختلف شرائح المجتمع الأخرى. إذ أن الحقوق والحريّات تأتي دفعةً واحدة، وسيؤدي اجتزاؤها أو محاولة جعلها متلائمة مع جماعات أو سلطات معيّنة دون أخرى إلى مزيدٍ من القمع. فاستمرار وجود خطوط حمر تحت عناوين “إهانة السلطات” و”الجندر” و”المحتوى الهابط” سينعكس سلباً على النوّاب ويقلّل من مساحات عملهم ومساءلتهم للسلطات كما يؤثّر على بقيّة أفراد المجتمع. 

واقع برلماني متردٍ 

يحاول معظم النوّاب الالتزام بعمليّتي المراقبة والتشريع، دون أن يكون لهم دورٌ سياسي أعمق، مبررين خيارهم باختصار صورتهم على أنهم “نواب خدميون” أو “نواب مستقلون”، وهو في الحقيقة خيار تم تبنّيه من نواب لا يرغبون بمواجهة أو مساءلة الإطار التنسيقي -الكتلة البرلمانية الأكبر- تجنباً للاصطدام معها. 

إلّا أن حادثة السلامي بيّنت عدم قدرة ديمومة نموذج النائب الخدمي أو المستقل سياسيّاً، إذ بالإمكان ملاحقته وإسكاته وتضييق صلاحياته بطرق تكتسب طابعاً قانونيّاً. فحياد السلامي السياسي عن قضايا الحريّات لم يمنع السلطات من استهدافه. وحتّى امتلاكه لمواقف تتّسق مع حملة التضييق على الحريّات في السابق -كموقفه بالضد من قاعات الأعراس والاحتفالات في النجف- لم يشفع له، إذ أن مسألة قمع الحريّة بالنسبة للسلطات ترتبط بأهداف سياسيّة تتمثل بإسكات المعارضين لها، وغير نابعة من فهم أخلاقي معيّن، إذ لا تتعدّى التفسيرات الأخلاقية المختلفة لعملية القمع هذه أن تكون أداةً للتغطية على الأهداف السياسيّة. 

فحتّى أولئك الأفراد أو المؤسسات الذين يساهمون اليوم في تقويض حريّة التعبير عن الرأي بحججٍ شتّى، يمكن أن يكونوا أهدافاً مستقبليّة لاستشراء هذا النمط من القمع. وهذا السيناريو هو الأقرب للحصول ما لم تتم إزالة المفردات الفضفاضة والتعبيرات المطّاطيّة في جملة القوانين العراقيّة، والوقوف بشكلٍ جاد وجريء أمام محاولات إسكات الناس ورسم خطوط حمراء جديدة في العراق. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

أصدرت محكمة جنح الكرخ المختصّة بقضايا النزاهة قراراً قضائيّاً بحبس هادي السلامي، النائب في البرلمان عن محافظة النجف، لمدة 6 أشهر وفق أحكام المادة 331 من قانون العقوبات، وذلك إثر دعوى تقدّمت بها وزارة التجارة ضدّه. 

ورغم أن النائب يمتلك حصانة تمنع اعتقاله أو تحريك دعاوى قضائيّة بحقّه أثناء فترة تولّيه منصبه، إلّا أن تفسير المحكمة الاتحادية العليا رقم 90 عام 2021، قضى بإمكانيّة اعتقال النائب في التهم التي تندرج ضمن (الجنح)، والتي تتضمن العقوبات بالحبس ما دون الخمس سنوات. 

استند تفسير المحكمة الاتحادية على اقتصار ذكر المادة 63 من الدستور العراقي التي تشير للحصانة النيابية لمفردة “الجناية” وهي العقوبات التي تشمل الحبس أكثر من خمس سنوات، دون أي إشارة للجنح. 

ويسمح هذا التفسير عمليّاً بملاحقة النواب بقضايا الجنح بمجرّد انتقادهم لوزراء ومسؤولين، وإجبارهم، في نهاية المطاف، على التوقّف عن أداء مهامهم النيابيّة. 

وقد أشار نواب عدّة، في جلسات علنيّة سابقة للمجلس، إلى هذه القضيّة وتحدثوا عن حالات أجبروا فيها على المثول أمام المحاكم نتيجة انتقادهم لمسؤولين تنفيذيين، إلّا أنّ أي خطوات عمليّة، لحل المشكلة، لم تحصل. 

جذر المشكلة 

ما حصل للسلامي يتعدّى كونه حادثة فرديّة مرتبطة بأحد أعضاء مجلس النواب، بل يدخل في إطار عمليّة واسعة وممنهجة للسلطات، للعمل على الحد من حريّة التعبير في العراق، مستغلةً، بذلك، عدم دقّة القوانين العراقيّة وامتلاكها تعابير فضفاضة تبيح اعتقال أي شخص قد ينتقد أداء الحكومة أو سلوك مسؤوليها، أو يساهم بكشف ملفات فساد أمام الرأي العام. 

ولا تختلف قضية السلامي كثيراً عن قضايا ناشطين وإعلاميين اعتقلوا أو صدرت مذكرات إلقاء قبض بحقّهم نتيجة انتقادهم للسلطات، إلّا باختلاف الأدوات. ففي حالات مثل الناشط حيدر الزيدي والإعلامي أحمد ملّا طلال والكاتب سرمد الطائي وآخرين، يتم اللجوء إلى أحكام المادة 226 من قانون العقوبات، والتي تبيح اعتقال الأفراد لـ7 سنوات نتيجة القيام بما تصفه المادة القانونية “إهانة السلطات”، بينما في حالة النائب البرلماني يتم اللجوء إلى المواد المرتبطة بجرائم الجنح ذات القدرة على تجاوز الحصانة النيابيّة لتحقيق الأثر نفسه.  

ورغم تنازل وزارة التجارة، لاحقاً، عن الدعوى المقامة على السلامي -كما تم التنازل في معظم الحالات عن الدعاوى بحق الناشطين المختلفين- إلّا أن هذه الدعاوى تعد -ومنذ لحظة تحريكها- أداة للقمع من خلال تخويف المجتمع من تبعات انتقادهم للسلطة. 

في جميع هذه القضايا، يتم إغفال الحق الأساسي للمواطنين -بمن في ذلك النوّاب- للحديث بما يؤمنون به. والحقيقة أن هذا الحق يتم تقويضه باستمرار.  

وبدلاً من الخوض في الرأي والحق في التعبير عنه، يجري حرف النقاش العام إلى مواضيع “أخرى” تبتعد عن مناقشة أصالة حق الأفراد في التعبير عن آرائهم. ففي حالة السلامي، جرت المحاكمة على أساس المادة 331 من قانون العقوبات، والمتعلّقة عمليّاً بسلب الحق في النقد والكلام، لكن شبكة واسعة من الإعلام القريب من السلطات، اتهموا النائب بتزوير وثائق حكومية، كطريقة لتبرير سلوك القمع، حيث تم تأطير السلامي كمرتكب لجريمة التزوير، بدل الحديث عنه كضحيّة لنمط قمعي يستهدف منع الناس من انتقاد السلطات. 

وقد أخذ يُتبَع سلوك لتشتيت الرأي العام عن قضايا الحريّات مع كل عمليّة اعتقال أو تضييق، وذلك لتحويل المتضرّرين من كونهم ضحايا لقول آرائهم، إلى جناة يستحقون ما جرى بحقّهم من اعتقال أو تضييق. 

قبل وبعد القمع 

وجود التعبيرات الفضفاضة في قانون العقوبات العراقي مثل “إهانة السلطات” المادة 226، و”الإخلال بالحياء والآداب العامة” المادة 403، يتيح لمؤسسات الدولة المختلفة الملاحقة القضائية لمن يُسائلها أو ينتقدها، والتمكن من إسكاته في نهاية المطاف من خلال الفوز عليه قضائياً. 

وبعد تنازل السلطات عن الدعاوى القانونيّة بحق المعارضين، تُطلق حملات إعلاميّة تمجّد الجهات نفسها التي حركت الدعاوى، وتربط بصفات مثل “العفو” و”التسامح”.. لا لشيء، إلّا لتوقّفهم عن انتهاك الحريّات، فيما يجبر بعض الضحايا على امتداح سجّانيهم، في أسلوبٍ آخر من أساليب القمع. 

كذلك، يتم خلق صورة نمطيّة عن المعارضين بكونهم مرتبطين بأجندات خارجيّة وعملاء لدول غربيّة. أو كما يجري مؤخراً، باتهامهم بنشر المثليّة الجنسيّة ودعم مفهوم الجندر أو ترويجهم للمحتوى الهابط وسعيهم لتخريب المبادئ والقيم الاجتماعيّة وتشجيعهم على انحلال الأسرة. جميع هذه المصطلحات تخدم إفراغ الشخصيات المعارضة من رمزيّتها الأخلاقيّة والوطنيّة، مما يسهّل في النهاية استهدافها دون أن يكون هناك تعاطف اجتماعي مع قضاياها. وتشترك هذه الاتهامات مع البنود القانونية الحاليّة بكونها مطّاطة وتستند إلى مفاهيم أخلاقيّة غير محدّدة. 

بالإضافة إلى حرفها عن كونها قضيّة حريّة تعبير، فقد أكسبت قضيّة السلامي طابعاً طائفيّاً بتصويرها على أنّها مشكلة شخصية بين وزير التجارة الذي ينتمي للطائفة السنيّة، ونائب عن محافظة النجف الشيعية.  

وبتحريكها بهذه الطريقة، تتفاقم النعرات الطائفية لتخدم مصالح الطبقة السياسيّة الحاليّة التي تستثمر عادةً في الصراع الطائفي وتعتمد عليه كجزءٍ أساسي من خطابها لتحشيد الناخبين، ويتم كذلك تشتيت انتباه المجتمع عن كون القضيّة بالأساس تتعلق بالحقوق والحريّات. 

التأثيرات المستقبلية 

باعتقال السلامي، تجري ممارسة نمط جديد من أنماط القمع، ويمكن أن يتطوّر -ما لم يتم الوقوف ضدّه- ليشمل استخدام مواد قانونيّة أخرى كـ330 و334-340 من قانون العقوبات التي تكتسب صفة الجنح، بالإضافة إلى كونها جرائم مخلّة بالشرف يفقد النائب عضويّته في حال صدر أمر قضائي بحقّه وفقها.  

وبشكلٍ عملي، يمكن سحب العضوية النيابية من أي نائب يُتهم بإحدى الجرائم المخلّة بالشرف كما حصل مع محمد الحلبوسي رئيس البرلمان السابق. ومع استمرار الحملة الحاليّة للتقويض من الحقوق والحريّات، فمن المرجّح استهداف نوّاب آخرين واستعمال هذه الأداة القانونيّة لأغراض الابتزاز السياسي وتحييد المعارضين بدل أن تكون وسيلة لإحقاق العدالة. 

بالمقابل، فأن أي محاولة نيابية لدرء الخطر عن أعضاء البرلمان، لا يمكن أن تتم بمعزل عن إيقاف القمع والتضييق بحق فاعلين آخرين كالناشطين ومنظمات المجتمع المدني ومختلف شرائح المجتمع الأخرى. إذ أن الحقوق والحريّات تأتي دفعةً واحدة، وسيؤدي اجتزاؤها أو محاولة جعلها متلائمة مع جماعات أو سلطات معيّنة دون أخرى إلى مزيدٍ من القمع. فاستمرار وجود خطوط حمر تحت عناوين “إهانة السلطات” و”الجندر” و”المحتوى الهابط” سينعكس سلباً على النوّاب ويقلّل من مساحات عملهم ومساءلتهم للسلطات كما يؤثّر على بقيّة أفراد المجتمع. 

واقع برلماني متردٍ 

يحاول معظم النوّاب الالتزام بعمليّتي المراقبة والتشريع، دون أن يكون لهم دورٌ سياسي أعمق، مبررين خيارهم باختصار صورتهم على أنهم “نواب خدميون” أو “نواب مستقلون”، وهو في الحقيقة خيار تم تبنّيه من نواب لا يرغبون بمواجهة أو مساءلة الإطار التنسيقي -الكتلة البرلمانية الأكبر- تجنباً للاصطدام معها. 

إلّا أن حادثة السلامي بيّنت عدم قدرة ديمومة نموذج النائب الخدمي أو المستقل سياسيّاً، إذ بالإمكان ملاحقته وإسكاته وتضييق صلاحياته بطرق تكتسب طابعاً قانونيّاً. فحياد السلامي السياسي عن قضايا الحريّات لم يمنع السلطات من استهدافه. وحتّى امتلاكه لمواقف تتّسق مع حملة التضييق على الحريّات في السابق -كموقفه بالضد من قاعات الأعراس والاحتفالات في النجف- لم يشفع له، إذ أن مسألة قمع الحريّة بالنسبة للسلطات ترتبط بأهداف سياسيّة تتمثل بإسكات المعارضين لها، وغير نابعة من فهم أخلاقي معيّن، إذ لا تتعدّى التفسيرات الأخلاقية المختلفة لعملية القمع هذه أن تكون أداةً للتغطية على الأهداف السياسيّة. 

فحتّى أولئك الأفراد أو المؤسسات الذين يساهمون اليوم في تقويض حريّة التعبير عن الرأي بحججٍ شتّى، يمكن أن يكونوا أهدافاً مستقبليّة لاستشراء هذا النمط من القمع. وهذا السيناريو هو الأقرب للحصول ما لم تتم إزالة المفردات الفضفاضة والتعبيرات المطّاطيّة في جملة القوانين العراقيّة، والوقوف بشكلٍ جاد وجريء أمام محاولات إسكات الناس ورسم خطوط حمراء جديدة في العراق.