من أنا لأخيّب ظن السيّد؟ 

مرتضى كزار

23 تموز 2023

التعامل مع موضوع حرق القرآن على أنه مواجهة الإسلام مع الديمقراطية وحقوق الإنسان هو الاستكانة الخيالية التي نخوط فيها جميعاً، وأن هذه الاستجابة العنفية هي بالضبط ما يريد عتاولة اليمين الإرهابي.. عن ضفادع لا تخيّب ظنّ السيد.

 الضفدع الذي يستطيع أن يقفز، قصة كتبها مارك توين في أيام الحرب الأهلية الأمريكية، قد تصلح كأمثولة لأحوالنا ونحن نستجيب لفخ البروبغاندا الثقافية والمعركة الزائفة التي أثارتها حوادث حرق القرآن والعلم العراقي في الأيام الماضية، والآتية. 

الفكرة أن بطل مارك توين قرر أن يصطاد ضفدعاً ويعلّمه القفز، بل تمادى وأسَّس مباريات للضفادع النطاطة وسهر الليالي لتدريب ضفدعه على النط ودللّــه وأطعمه حتى صار بحجم قطة. خطة اللعبة هي أن يقفز ضفدعان باتجاه مستقيم حتى يلقيان نفسيهما في كوب مياه ساخنة، يتباريان بالقفز نحو حتفهما، وحدث أن الضفدع السمين، المدرّب جيداً، قد خسر المباريات من الجولة الأولى، دون جهد يذكر من الضفدع الخصم الذي اتخذ مساره نحو الكوب اللاهب بسلاسة، وذلك لأن الضفدع من شيمته القفز، ولعلك إذا دربته على ما يُحسن فعله طبيعياً، ستتعب نفسك بلا داعٍ. 

ها نحن أولئك؛ دخلنا حفلة الحرب الثقافية متأخرين، يتقدّمنا أفذاذنا من جهابذة الأمة وزعمائها الأميّين، والتوتكتوكرية والتويترية والشعراء المهاويل ومدوني التواصل الاجتماعي، فلتات الدهر، النحارير العباقرة، أهل النجابة والحذاقة والألمعيّة، تخبو بيننا أصوات العقلاء تحت ضجيج الرجال الضفادع الذين لا تحتاج إلى تدريبهم لكي يقعوا في الفخ، الضفدع يقفز، وأصحابنا يُطبّشون في مستنقع أفكارهم، ماهرون بالفطرة بلا تدريب، لا تحتاج إلى عناء لتعلمهم التطبيش والغرق، قد تعلموا على السير نحو الهزيمة الحضارية منذ نعومة أظفارهم، مكتوب على عقولهم: نحن في معارك البطل المخصيّ الغادي إلى حتفه، “نفوز فوزاً عظيماً”. 

يقول نجيب محفوظ في حكايات حارتنا عن أيام طفولته: كانت حارتنا تقدّس طائفتين: الفتوّات والبلهاء. لذا، فهي لا تشبه حارتنا العراقية التي تقدّس طائفة واحدة وحيدة وموحودة: الفتوّات البلهاء. 

منذ سنوات شاع مصطلح “حارق متسلسل للقرآن” في الوقفات المتكررة التي ينظمها مهرجو اليمين الأوروبي الهادفة إلى استثارة العرب والمهاجرين الملونين بشكل عام، والحارق المتسلسل هو رجل دين أو متحمّس كاثوليكي أو أرثوذكسي شرقي غالباً يؤمن بنظرية مؤامرة تفيد بأن «قردة الرمال» حسب وصفهم للعرب، قادمون لتدمير حضارة الإنسان الأبيض العريقة، ولا يشبع الحارق من لذة الحرق ويصبح مهووساً بحرق القرآن علانية، ضامناً جمهوراً سهل الاستفزاز يتحلق حوله كل مرة. 

وقبل الحارق المتسلسل، كانت حملة ترامب الانتخابية قد دفعت الكثير من المراقبين والأكاديميين إلى التأشير نحو ظاهرة الــ  provocateur، البروفاكيتور، هو الناشط الذي يقوم بتصرف مسرحي ما يضمن فيه استثارة جماعة معينة، فيقوم هؤلاء بالانصياع للاستفزاز بالعنف، فيقوم الرأي العام بتجريم الطرف المستفَز، فتنقلب الدفة الانتخابية، الغايات تبرر الوسائل والوسائل لا تراعي أعرافاً ولا أخلاقيات ولا مشاعر الأقليات والأكثريات، هذا النوع من الحروب مُصمَّم خصيصاً كي ينجح في إشعال صعقة أخلاقية في ضمير المتلقي، ويضرب هورمون العقلانية عند الخصم في مقتل، ويحدث أحياناً أن يضاعف البروفاكيتور من جرعة الاستفزاز، فيمارس أقصى درجات حرية التعبير نذالة وخبثاً، ويجلس شامتاً على حطام التعايش البشري منتظراً ردة فعل الخصم كي يستمتع بالضحك عليه، وعلى حوصلته الضيقة في المطاولة مع الصراع. 

هذا النوع من الحروب مصمم خصيصاً على مقاسنا، حتى أنهم حسبوا حساباً لتمدّد الياخة في حال تقصر أعناقنا قليلاً ونحن نتصاغر ونخرج من التاريخ. 

وفي كل مرة ينجح البروفاكيتور، تصاب منظومة الخصم الثقافية بالعطب، جمهور البروفاكيتور الداعم له لا يحتاج أيضاً إلى الكثير من الحقيقة ليتبعه، عاطفيون وغاضبون ونادمون حتى على خسارتهم في معارك تحرير العبيد! ولا ينتظرون إلا رؤية الضفدع يسقط في الكوب، وأن تتحقق الصور النمطية في أذهانهم عن العربي الكالح البربري الخارج من العصور الوسطى، وينسبون كل خراب البشرية إلى الديمقراطيات والحريّات. ثم سك الترامبيون الضفادع مصطلح «الحقائق البديلة» الذي يبررون فيه الأكاذيب التي صاحبت قراراته العنصرية ضد العراقيين، وصار من اللائق جداً أن تفبرك حادثة أو خصلة لغريمك الثقافي الذي تخالفه في الدين واللون والمعتقد، كمثال: لفقوا عملية إرهابية بكاملها حدثت في صالة بولينغ قام بها عراقيان! وعلى إثر تلك القصة الوهمية أصدر ترمب بمنع العراقيين من الدخول إلى بلاد الأحلام، وحينما يجابهه الصحفيون يقول في مذكراته: إن الناس بحاجة إلى المبالغة وإلى شيء يمكن الإمساك به، وإن الحقائق البديلة هي حقائق في آخر المطاف سواء حدثت أم لم تحدث! 

وليس ببعيد عنا كتاب أبو بكر ناجي “إدارة التوحش” الذي يشرح فيه استراتيجيات تنظيم الجهاد في إثارة الرعب واستعمال أبشع أدوات الحرب وحشية دون رعاية للقيم والأخلاق، النسخة الشرقية من البروفكيتور التي كانت تبث عبر يوتيوب! يوم كان مسموحاً فيه أن تنشر فيديوهات ذبح العراقيين والتمثيل بجثثهم بطريقة احتفالية، يوم كانت جثثنا المقطعة ورؤوسنا المشويّة لا تخرق قواعد النشر في ممالك وادي السليكون. 

وليس غريباً أن المصطلح نفسه يطلق على ملابس الجلد النسائية الداخلية التي تعرضها محلات البورنو لتحفيز واستفزاز شهوات الرجال ممّن يستمتعون بممارسة الجنس المذل، التائقين إلى تدنيس فحولتهم والاستمتاع بـلسع السياط وقيود السلاسل. 

يضاف إلى معادلة الصراع عنصر آخر، هو أن أصحابنا يخوطون بصف الاستكان، يخوطون داخل استكانة غير موجودة بالأحرى، أو أنهم ضفادع لا تعرف الطريق إلى الكوب حتى!، تتسلم أدمغة زعمائنا إشارات الحرب الثقافية بطريقة شديدة المراهقة، وينسبون كل ما حدث إلى سببين: إن حارق القرآن العراقي هو طالب شهرة! وإن الغرب مزدوج المعايير، المعايير التي لا يؤمنون بها أصلاً. ولا يدركون أن جزءاً كبيراً من مراسيم الدخول في اللعبة الثقافية هو فهمها على الأقل، وأن التعامل مع الموضوع على أنه مواجهة الإسلام مع الديمقراطية وحقوق الإنسان هو الاستكانة الخيالية التي نخوط فيها جميعاً، وأن هذه الاستجابة العنفية هي بالضبط ما يريد عتاولة اليمين الإرهابي أن يستخرجه منهم. 

لأن هؤلاء، قد دخلوا الحفلة مبكّرين، بضفادع غير مدرّبة. ضفادع تمجّد الرب وتقرأ الصلوات، لها باع طويل في مصارعة الحريات ومناهضة الحياة، بينما نحن فينطبق علينا غناء نجاة الصغيرة وهي تعاتب حبيبها الخبير في الغرام وهي المبتدئة المستجدة “خذني بكل بساطتي وطفولتي، أنا لم أزل أحبو وأنت قدير”. 

أتذكر هنا حادثة في مظاهرات مأساة حي الشيخ جرّاح في فلسطين المحتلة، قد تصلح كمثال آخر عن مأساتنا الضفدعية. كان العرب يتظاهرون في ولاية واشنطن، ومعهم أنصارهم غير العرب من كل الألوان والسحنات والألسن، وكنت مع رفاقي أتصفح الوجوه وأقرأ اللافتات المناهضة لدولة الفصل العنصري، وأتلذذ بمغانم المؤازرة ومؤاخاة الإنسان للإنسان ونصرته للمظلومين الذين قد يخالفهم في طباعهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد مضت التظاهرة هادئة ومؤثرة وحافلة بالخطابات والشعارات الذكية، حتى قفز بيننا ضفدع سمين بحجم قط! 

من الجانب المقابل لحشود المتظاهرين، في الشارع الفارغ كما هي شوارع المدينة في أيام الآحاد، برز شاب وشابة يحملان العلم الإسرائيلي ولافتة مكتوب عليها: “فلنصنع السلام لا الحرب”، وهي كما يبدو عبارة استفزازية تريد أن تصادق على الصورة النمطية للمحتج العربي الموصوم بالعنف والغلظة والإرهاب، لم يطق الشابان منظر الناس يتظاهرون ويستقطبون المارّة بالحقيقة، غير البديلة، فصاغوا عبارتهم المخاتلة التي توحي أن ممارسات إسرائيل العنصرية هي ممارسات مسالمة لتقليم أظافر الجيوب الإرهابية، سيما وأن غالب المتظاهرين كانوا من غير الإسلاميين. وهنا هرع ضفدع بيننا نحو الشاب والشابة، حبيبان أو زوج وزوجة كما يبدو، اختطف العلم وأحرقه ووجدت اللافتة طريقها إلى مؤخرته فتعانق السلام والحب في مكان ما بين خصيتيه. 

استجابت الشابة إلى دورها المعد سلفاً، عليها أن تصرخ وتولول وتقول “وا إنسانيتاه وا مدنيتاه وا حرية تعبيراه”، ولتحقق نظرة الآخر الدعائية عن الإنسان الفنان في تضييع حقه، والقفز إلى الكوب دون معلم. يشبه الأمر حلبات الصراع الأمريكية، الجميع يتفقون على أن القصة كلها مدبرة وتجارية لكن الجميع ينفعلون متأثرين بالأحداث والانعطافات الدرامية.  

يربي اليمين الأوروبي عناصره من المهاجرين ليصبحوا سايكوباثيين، يأتي المهاجر من بلاد عالم ثالثية متعباً من ثقل حمولته الدرامية والدينية وناقماً على لونه وشكله ولهجته، يسائل هويته ويطاردها، يجمعها ويعيد تركيبها ثم تتساقط منه، مع هذا فهو قادم من مناخ تربوي فوقي يعزز شعوره بأنه مركز كل شيء وأصل كل شيء، فتخذله المدنية الأوروبية وهي تعامله كفرد اعتيادي، ينكفئ وينطوي داخل نفسه، يفشل في الاندماج مع الحياة الجديدة، يتلفت كثيراً إلى الوراء، لا تفهم النساء مكمن النزيف في نرجسيته، يهجرنه ويجد نفسه مداناً في المحاكم بجرم التعنيف الأسري أو التحرش، لا ينجح في إدارة حوار من سطرين في لغته الجديدة، لا يحصل على عمل لائق ولا تعترف الجامعات بشهادته العراقية، يهشه المجتمع الجديد وتطرده ذاكرته من الوطن، تأكل عقله الرخو مقولات متطرفة ومقتبسات مترجمة بأسلوب رديء تبجل الكذب وتستند كلياً على إهانة الآخر، لكنها تطبطب على آلامه وتعيد له اعتباره وثقته بنفسه، يجري المورفين مجدداً في كرامته، يطلق لسانه بالشتائم متأثراً بالمناخ العدواني المتطرف الذي يتابعه على مواقع التواصل، ويقرأ ويشاهد كيف أن أعلى هرم في الدولة يستخدم الإهانة والشتيمة والكذب في خطاباته، فلا يرى بُداً من إظهار رذائله الشخصية وحسده وقصوره وكسله على أنه فلسفة فكرية، وقديماً قالوا: الاخصاء الثقافي ينجب ذواتاً سايكوباثية، يسهل عليها أن تنسب كل خيباتها إلى الديمقراطية والمرأة والمثلية، تماماً كما ينسب غريمها الديني والطائفي المسلم كل خيباته إلى الديمقراطية والمرأة والمثلية. 

ضفدعان متعادلان، أليس كذلك؟! 

يتداولان بينهما أكاذيب عن بعضهما البعض وعن الآخر، يصدقانها، ويضغطان على زر الحرب، يطوفان في غياهب الخوارزميات التي تتفنن في إثبات صحة الحقائق البديلة، بل يروم لها أن توافقك على كل ما تريد أن تصدق، ففي دين خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تحكم مواقع التواصل: القناعات صناعية يمكنك تلفيقها على مزاجك. ولعل الدين ورجاله هم أكثر الخاسرين من أزمة انحسار الوظائف واستبدالها بالروبوتات، فقد يجري استبدالهم تدريجياً، طوعاً أو كراهية، بوعاظ من اليوتيوبرية والمغردين، إذ تجند الكثير من الحملات الانتخابية فناني الراب ليوصلوا خطاباً دينياً محافظاً يخطف قلوب المراهقين، وتحولت الكنائس إلى شركات شبه ربحية، وصارت رسالة الرب في أحضان الرابرية، مثلما صارت المنابر بيننا لخطباء شوارعيين يلاحقون التريندات وتوافه الأمور. 

وتأتي الكلمة السحرية “حرية التعبير” كأنها طلسم لا يجوز الاقتراب منه، تدخل الحفل فيهب نحوها الجميع طرداً وتوبيخاً، يسفهونها ولا يفهمونها، ونكون كمن فرّغ أكسير الدواء من الموت الحضاري في البلاعة. حتى كأن المنظّر العراقي يغالب نفسه في تعمد إساءة فهم المفردات الوافدة، التي أخذته على حين غرة، وهو مشغول بإنشاء فكرة يغازل فيها السيد القائد أو بالمزايدة على وطنية مواطنيه الأبرياء. 

إن الإرث اللوثري الذي تدين به السويد مثلاً، والذي أنتج النسخة المعدلة من البروتستانتية المسيحية، التي تقترب من العلمانية غير الطقسية، هو إرث يستأهل المثابرة والحراسة، لكن التحديات القادمة تحتاج إلى إعادة النظر في التأشير على حريات التعبير التي تشتمل على جرائم كراهية، فمن التعبير ما قتل، وعلى الجانب الآخر، لا يبدو أن الزعماء العراقيين ينتمون إلى هذه المنازلة، وليسوا على قدر المسؤولية على الأقل، وليس فيهم من يحرص على سلامة الجاليات العراقية المسالمة في المهجر، المعرضة بفعل هذا التناطح غير المتكافئ إلى عذابات معقدة لا يستأهلها أحد. 

٤٥١ فهرنهايت هي درجة اللازمة لاحتراق كتاب، حسبما يرى برادبيري مؤلف رواية ٤٥١ فهرنهايت، وحدث أن احتفى ناشروا نيويورك بإحراق رواية حكاية الخادمة لمارغريت أتوود، ليس لاستفزاز مشاعر قرائها، بل للابتهاج بنسخة فاخرة من الرواية مطبوعة على ورق معدني ممغنط وغير قابل للاحتراق!، وهي رسالة بليغة تقول إن الكتب لا يمكن إحراقها.  

من أنا لأخيّب ظن السيّد، الذي اصطادني من المستنقع وعلمني ما لا أحتاج لتعلمه، لسان حال ضفدع بحجم قطة فاته أن يعتذر لمحمود درويش.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

 الضفدع الذي يستطيع أن يقفز، قصة كتبها مارك توين في أيام الحرب الأهلية الأمريكية، قد تصلح كأمثولة لأحوالنا ونحن نستجيب لفخ البروبغاندا الثقافية والمعركة الزائفة التي أثارتها حوادث حرق القرآن والعلم العراقي في الأيام الماضية، والآتية. 

الفكرة أن بطل مارك توين قرر أن يصطاد ضفدعاً ويعلّمه القفز، بل تمادى وأسَّس مباريات للضفادع النطاطة وسهر الليالي لتدريب ضفدعه على النط ودللّــه وأطعمه حتى صار بحجم قطة. خطة اللعبة هي أن يقفز ضفدعان باتجاه مستقيم حتى يلقيان نفسيهما في كوب مياه ساخنة، يتباريان بالقفز نحو حتفهما، وحدث أن الضفدع السمين، المدرّب جيداً، قد خسر المباريات من الجولة الأولى، دون جهد يذكر من الضفدع الخصم الذي اتخذ مساره نحو الكوب اللاهب بسلاسة، وذلك لأن الضفدع من شيمته القفز، ولعلك إذا دربته على ما يُحسن فعله طبيعياً، ستتعب نفسك بلا داعٍ. 

ها نحن أولئك؛ دخلنا حفلة الحرب الثقافية متأخرين، يتقدّمنا أفذاذنا من جهابذة الأمة وزعمائها الأميّين، والتوتكتوكرية والتويترية والشعراء المهاويل ومدوني التواصل الاجتماعي، فلتات الدهر، النحارير العباقرة، أهل النجابة والحذاقة والألمعيّة، تخبو بيننا أصوات العقلاء تحت ضجيج الرجال الضفادع الذين لا تحتاج إلى تدريبهم لكي يقعوا في الفخ، الضفدع يقفز، وأصحابنا يُطبّشون في مستنقع أفكارهم، ماهرون بالفطرة بلا تدريب، لا تحتاج إلى عناء لتعلمهم التطبيش والغرق، قد تعلموا على السير نحو الهزيمة الحضارية منذ نعومة أظفارهم، مكتوب على عقولهم: نحن في معارك البطل المخصيّ الغادي إلى حتفه، “نفوز فوزاً عظيماً”. 

يقول نجيب محفوظ في حكايات حارتنا عن أيام طفولته: كانت حارتنا تقدّس طائفتين: الفتوّات والبلهاء. لذا، فهي لا تشبه حارتنا العراقية التي تقدّس طائفة واحدة وحيدة وموحودة: الفتوّات البلهاء. 

منذ سنوات شاع مصطلح “حارق متسلسل للقرآن” في الوقفات المتكررة التي ينظمها مهرجو اليمين الأوروبي الهادفة إلى استثارة العرب والمهاجرين الملونين بشكل عام، والحارق المتسلسل هو رجل دين أو متحمّس كاثوليكي أو أرثوذكسي شرقي غالباً يؤمن بنظرية مؤامرة تفيد بأن «قردة الرمال» حسب وصفهم للعرب، قادمون لتدمير حضارة الإنسان الأبيض العريقة، ولا يشبع الحارق من لذة الحرق ويصبح مهووساً بحرق القرآن علانية، ضامناً جمهوراً سهل الاستفزاز يتحلق حوله كل مرة. 

وقبل الحارق المتسلسل، كانت حملة ترامب الانتخابية قد دفعت الكثير من المراقبين والأكاديميين إلى التأشير نحو ظاهرة الــ  provocateur، البروفاكيتور، هو الناشط الذي يقوم بتصرف مسرحي ما يضمن فيه استثارة جماعة معينة، فيقوم هؤلاء بالانصياع للاستفزاز بالعنف، فيقوم الرأي العام بتجريم الطرف المستفَز، فتنقلب الدفة الانتخابية، الغايات تبرر الوسائل والوسائل لا تراعي أعرافاً ولا أخلاقيات ولا مشاعر الأقليات والأكثريات، هذا النوع من الحروب مُصمَّم خصيصاً كي ينجح في إشعال صعقة أخلاقية في ضمير المتلقي، ويضرب هورمون العقلانية عند الخصم في مقتل، ويحدث أحياناً أن يضاعف البروفاكيتور من جرعة الاستفزاز، فيمارس أقصى درجات حرية التعبير نذالة وخبثاً، ويجلس شامتاً على حطام التعايش البشري منتظراً ردة فعل الخصم كي يستمتع بالضحك عليه، وعلى حوصلته الضيقة في المطاولة مع الصراع. 

هذا النوع من الحروب مصمم خصيصاً على مقاسنا، حتى أنهم حسبوا حساباً لتمدّد الياخة في حال تقصر أعناقنا قليلاً ونحن نتصاغر ونخرج من التاريخ. 

وفي كل مرة ينجح البروفاكيتور، تصاب منظومة الخصم الثقافية بالعطب، جمهور البروفاكيتور الداعم له لا يحتاج أيضاً إلى الكثير من الحقيقة ليتبعه، عاطفيون وغاضبون ونادمون حتى على خسارتهم في معارك تحرير العبيد! ولا ينتظرون إلا رؤية الضفدع يسقط في الكوب، وأن تتحقق الصور النمطية في أذهانهم عن العربي الكالح البربري الخارج من العصور الوسطى، وينسبون كل خراب البشرية إلى الديمقراطيات والحريّات. ثم سك الترامبيون الضفادع مصطلح «الحقائق البديلة» الذي يبررون فيه الأكاذيب التي صاحبت قراراته العنصرية ضد العراقيين، وصار من اللائق جداً أن تفبرك حادثة أو خصلة لغريمك الثقافي الذي تخالفه في الدين واللون والمعتقد، كمثال: لفقوا عملية إرهابية بكاملها حدثت في صالة بولينغ قام بها عراقيان! وعلى إثر تلك القصة الوهمية أصدر ترمب بمنع العراقيين من الدخول إلى بلاد الأحلام، وحينما يجابهه الصحفيون يقول في مذكراته: إن الناس بحاجة إلى المبالغة وإلى شيء يمكن الإمساك به، وإن الحقائق البديلة هي حقائق في آخر المطاف سواء حدثت أم لم تحدث! 

وليس ببعيد عنا كتاب أبو بكر ناجي “إدارة التوحش” الذي يشرح فيه استراتيجيات تنظيم الجهاد في إثارة الرعب واستعمال أبشع أدوات الحرب وحشية دون رعاية للقيم والأخلاق، النسخة الشرقية من البروفكيتور التي كانت تبث عبر يوتيوب! يوم كان مسموحاً فيه أن تنشر فيديوهات ذبح العراقيين والتمثيل بجثثهم بطريقة احتفالية، يوم كانت جثثنا المقطعة ورؤوسنا المشويّة لا تخرق قواعد النشر في ممالك وادي السليكون. 

وليس غريباً أن المصطلح نفسه يطلق على ملابس الجلد النسائية الداخلية التي تعرضها محلات البورنو لتحفيز واستفزاز شهوات الرجال ممّن يستمتعون بممارسة الجنس المذل، التائقين إلى تدنيس فحولتهم والاستمتاع بـلسع السياط وقيود السلاسل. 

يضاف إلى معادلة الصراع عنصر آخر، هو أن أصحابنا يخوطون بصف الاستكان، يخوطون داخل استكانة غير موجودة بالأحرى، أو أنهم ضفادع لا تعرف الطريق إلى الكوب حتى!، تتسلم أدمغة زعمائنا إشارات الحرب الثقافية بطريقة شديدة المراهقة، وينسبون كل ما حدث إلى سببين: إن حارق القرآن العراقي هو طالب شهرة! وإن الغرب مزدوج المعايير، المعايير التي لا يؤمنون بها أصلاً. ولا يدركون أن جزءاً كبيراً من مراسيم الدخول في اللعبة الثقافية هو فهمها على الأقل، وأن التعامل مع الموضوع على أنه مواجهة الإسلام مع الديمقراطية وحقوق الإنسان هو الاستكانة الخيالية التي نخوط فيها جميعاً، وأن هذه الاستجابة العنفية هي بالضبط ما يريد عتاولة اليمين الإرهابي أن يستخرجه منهم. 

لأن هؤلاء، قد دخلوا الحفلة مبكّرين، بضفادع غير مدرّبة. ضفادع تمجّد الرب وتقرأ الصلوات، لها باع طويل في مصارعة الحريات ومناهضة الحياة، بينما نحن فينطبق علينا غناء نجاة الصغيرة وهي تعاتب حبيبها الخبير في الغرام وهي المبتدئة المستجدة “خذني بكل بساطتي وطفولتي، أنا لم أزل أحبو وأنت قدير”. 

أتذكر هنا حادثة في مظاهرات مأساة حي الشيخ جرّاح في فلسطين المحتلة، قد تصلح كمثال آخر عن مأساتنا الضفدعية. كان العرب يتظاهرون في ولاية واشنطن، ومعهم أنصارهم غير العرب من كل الألوان والسحنات والألسن، وكنت مع رفاقي أتصفح الوجوه وأقرأ اللافتات المناهضة لدولة الفصل العنصري، وأتلذذ بمغانم المؤازرة ومؤاخاة الإنسان للإنسان ونصرته للمظلومين الذين قد يخالفهم في طباعهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد مضت التظاهرة هادئة ومؤثرة وحافلة بالخطابات والشعارات الذكية، حتى قفز بيننا ضفدع سمين بحجم قط! 

من الجانب المقابل لحشود المتظاهرين، في الشارع الفارغ كما هي شوارع المدينة في أيام الآحاد، برز شاب وشابة يحملان العلم الإسرائيلي ولافتة مكتوب عليها: “فلنصنع السلام لا الحرب”، وهي كما يبدو عبارة استفزازية تريد أن تصادق على الصورة النمطية للمحتج العربي الموصوم بالعنف والغلظة والإرهاب، لم يطق الشابان منظر الناس يتظاهرون ويستقطبون المارّة بالحقيقة، غير البديلة، فصاغوا عبارتهم المخاتلة التي توحي أن ممارسات إسرائيل العنصرية هي ممارسات مسالمة لتقليم أظافر الجيوب الإرهابية، سيما وأن غالب المتظاهرين كانوا من غير الإسلاميين. وهنا هرع ضفدع بيننا نحو الشاب والشابة، حبيبان أو زوج وزوجة كما يبدو، اختطف العلم وأحرقه ووجدت اللافتة طريقها إلى مؤخرته فتعانق السلام والحب في مكان ما بين خصيتيه. 

استجابت الشابة إلى دورها المعد سلفاً، عليها أن تصرخ وتولول وتقول “وا إنسانيتاه وا مدنيتاه وا حرية تعبيراه”، ولتحقق نظرة الآخر الدعائية عن الإنسان الفنان في تضييع حقه، والقفز إلى الكوب دون معلم. يشبه الأمر حلبات الصراع الأمريكية، الجميع يتفقون على أن القصة كلها مدبرة وتجارية لكن الجميع ينفعلون متأثرين بالأحداث والانعطافات الدرامية.  

يربي اليمين الأوروبي عناصره من المهاجرين ليصبحوا سايكوباثيين، يأتي المهاجر من بلاد عالم ثالثية متعباً من ثقل حمولته الدرامية والدينية وناقماً على لونه وشكله ولهجته، يسائل هويته ويطاردها، يجمعها ويعيد تركيبها ثم تتساقط منه، مع هذا فهو قادم من مناخ تربوي فوقي يعزز شعوره بأنه مركز كل شيء وأصل كل شيء، فتخذله المدنية الأوروبية وهي تعامله كفرد اعتيادي، ينكفئ وينطوي داخل نفسه، يفشل في الاندماج مع الحياة الجديدة، يتلفت كثيراً إلى الوراء، لا تفهم النساء مكمن النزيف في نرجسيته، يهجرنه ويجد نفسه مداناً في المحاكم بجرم التعنيف الأسري أو التحرش، لا ينجح في إدارة حوار من سطرين في لغته الجديدة، لا يحصل على عمل لائق ولا تعترف الجامعات بشهادته العراقية، يهشه المجتمع الجديد وتطرده ذاكرته من الوطن، تأكل عقله الرخو مقولات متطرفة ومقتبسات مترجمة بأسلوب رديء تبجل الكذب وتستند كلياً على إهانة الآخر، لكنها تطبطب على آلامه وتعيد له اعتباره وثقته بنفسه، يجري المورفين مجدداً في كرامته، يطلق لسانه بالشتائم متأثراً بالمناخ العدواني المتطرف الذي يتابعه على مواقع التواصل، ويقرأ ويشاهد كيف أن أعلى هرم في الدولة يستخدم الإهانة والشتيمة والكذب في خطاباته، فلا يرى بُداً من إظهار رذائله الشخصية وحسده وقصوره وكسله على أنه فلسفة فكرية، وقديماً قالوا: الاخصاء الثقافي ينجب ذواتاً سايكوباثية، يسهل عليها أن تنسب كل خيباتها إلى الديمقراطية والمرأة والمثلية، تماماً كما ينسب غريمها الديني والطائفي المسلم كل خيباته إلى الديمقراطية والمرأة والمثلية. 

ضفدعان متعادلان، أليس كذلك؟! 

يتداولان بينهما أكاذيب عن بعضهما البعض وعن الآخر، يصدقانها، ويضغطان على زر الحرب، يطوفان في غياهب الخوارزميات التي تتفنن في إثبات صحة الحقائق البديلة، بل يروم لها أن توافقك على كل ما تريد أن تصدق، ففي دين خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تحكم مواقع التواصل: القناعات صناعية يمكنك تلفيقها على مزاجك. ولعل الدين ورجاله هم أكثر الخاسرين من أزمة انحسار الوظائف واستبدالها بالروبوتات، فقد يجري استبدالهم تدريجياً، طوعاً أو كراهية، بوعاظ من اليوتيوبرية والمغردين، إذ تجند الكثير من الحملات الانتخابية فناني الراب ليوصلوا خطاباً دينياً محافظاً يخطف قلوب المراهقين، وتحولت الكنائس إلى شركات شبه ربحية، وصارت رسالة الرب في أحضان الرابرية، مثلما صارت المنابر بيننا لخطباء شوارعيين يلاحقون التريندات وتوافه الأمور. 

وتأتي الكلمة السحرية “حرية التعبير” كأنها طلسم لا يجوز الاقتراب منه، تدخل الحفل فيهب نحوها الجميع طرداً وتوبيخاً، يسفهونها ولا يفهمونها، ونكون كمن فرّغ أكسير الدواء من الموت الحضاري في البلاعة. حتى كأن المنظّر العراقي يغالب نفسه في تعمد إساءة فهم المفردات الوافدة، التي أخذته على حين غرة، وهو مشغول بإنشاء فكرة يغازل فيها السيد القائد أو بالمزايدة على وطنية مواطنيه الأبرياء. 

إن الإرث اللوثري الذي تدين به السويد مثلاً، والذي أنتج النسخة المعدلة من البروتستانتية المسيحية، التي تقترب من العلمانية غير الطقسية، هو إرث يستأهل المثابرة والحراسة، لكن التحديات القادمة تحتاج إلى إعادة النظر في التأشير على حريات التعبير التي تشتمل على جرائم كراهية، فمن التعبير ما قتل، وعلى الجانب الآخر، لا يبدو أن الزعماء العراقيين ينتمون إلى هذه المنازلة، وليسوا على قدر المسؤولية على الأقل، وليس فيهم من يحرص على سلامة الجاليات العراقية المسالمة في المهجر، المعرضة بفعل هذا التناطح غير المتكافئ إلى عذابات معقدة لا يستأهلها أحد. 

٤٥١ فهرنهايت هي درجة اللازمة لاحتراق كتاب، حسبما يرى برادبيري مؤلف رواية ٤٥١ فهرنهايت، وحدث أن احتفى ناشروا نيويورك بإحراق رواية حكاية الخادمة لمارغريت أتوود، ليس لاستفزاز مشاعر قرائها، بل للابتهاج بنسخة فاخرة من الرواية مطبوعة على ورق معدني ممغنط وغير قابل للاحتراق!، وهي رسالة بليغة تقول إن الكتب لا يمكن إحراقها.  

من أنا لأخيّب ظن السيّد، الذي اصطادني من المستنقع وعلمني ما لا أحتاج لتعلمه، لسان حال ضفدع بحجم قطة فاته أن يعتذر لمحمود درويش.