«بغداد تثور»: مساحة ثالثة في ساحة التحرير

هُما غوپتا

26 نيسان 2023

«بغداد تثور».. فيلم يواجه المشاهد بالصدمة النفسية والإصابات والموت الذي استُحضر في حراك «تشرين» في العراق.. قصة أكبر حدث سياسي اجتماعي في تاريخ البلاد من خلال عيني طيبة ورفاقها..

يبدأ أوّل مشهد من فيلم «بغداد تثور» (2023) بمجموعة شباب وشابات محتجين يردّون بـ”لا” على سلسلة من الأسئلة: هل أنت أمريكيـة؟ هل أنت إيرانيـة؟ هل أنت شيعيـة؟ هل أنت سنّيـة؟ لكن عند سؤالها “هل أنت عراقيـة؟” تهتف المجموعة بفرح “نعم!” يمهّد هذا المشهد الطريق أمام الرؤية الجماعيّة الوطنيّة واللاطائفيّة الموجودة في لبّ «ثورة تشرين» والتي بدأت في العراق في تشرين الأوّل 2019.  يُسرَد الفيلم بعيون طِيبَة وطموحاتها – هي مُسعفة وثائرة تبلغ من العمر  19 عاماً – تنجو من زواج عنيف لتكتشف عراقاً لم تتخيله إلا عبر أشكال التضامن التي بنتها في خيم اعتصامات «تشرين»، حيث أصبح الغرباء أقرباء بين ليلةٍ وضحاها.

في الفيلم تقود طيبة والناشطان الزميلان يوسف وخضر فريقاً طبياً ليعالج المحتجين والمحتجات المصابين بالغاز المسيل للدموع. تعمّد مخرج الفيلم كرّار العزّاوي التركيز على سرديّة طيبة بصفتها البطلة المركزيّة لتتمكّن من الاشتباك مع الأساليب المجرَّدة (والمجرِّدة للإنسانية في كثير من الأحيان) التي مُثّل عبرها المحتجّون في «تشرين» في الإعلام داخل العراق وخارجه. عند تكرار سؤال الشابات والشباب عمّا يريدون ولماذا لن يعودوا أدراجهم، تجيب طيبة ببساطة، “انريد وطن”، فيتمكنون من إعادة بنائه على شاكلة العالم الذي خلقوه في «ساحة التحرير». والمشاعر هذه مألوفة للعزاوي، فهو أيضاً كان ناشطاً لفترة طويلة، واضطرّ إلى ترك البلاد عام 2016 والاستقرار في النرويج.

لا يُستهان بخيار العزاوي في الانطلاق في مهمة تحدّي السرديّات السائدة الصعبة والخطيرة في إنتاجه لوثائقي طويل، أثناء ثورة قُتل فيها المئات من المحتجين وأصيب فيها الآلاف. فقد اختار فريق العزاوي، بما في ذلك المصوّر حسين مناف ومدير الإنتاج محمد عزيز إلى جانب عدد لا يحصى من العاملين خلف الكواليس وأمامها، المشاركة في المسعى الخلّاق، على الرغم من علمهم بأنّ قصصهم لن تُحكى لو لم يصوّروها هم. على الرغم من حركة الكاميرا المضطربة في بعض الأحيان، بإشارة إلى لحظة حرجة، أوصى العزّاوي فريقه بالحفاظ على طيبة في إطار الكاميرا. لقد كان من الضروري للجمهور أن يكون مع طيبة، وذلك لكي يتمكّن من التعاطف معها من خلال لحظات من مشاعر النشوة والتحدّي واليأس التي خاضها آلاف الشباب والشابات مثلها. وعلاوةً على ذلك فقد ساعد التركيز على حياة بعض الأفراد في الفيلم الجمهورَ في فهم المسارات المركّبة التي قادت كلّ منظِّم ومنظِّمة إلى ساحة «التحرير» رغماً عن جميع العواقب.

وقد علّق العزاوي بأنّه إن سألنا كلّ من شارك في حراك «تشرين» عن أفضل أيّام حياتهم فسيردّون بأنّ أفضلها كانت الأيّام التي عاشوها في الثورة. ولعلّ ذلك هو ما يعقِّد الفيلم هذا، فهو يواجه المشاهد بالصدمة النفسة والإصابات والموت الذي استُحضر في حراك «تشرين»، ويكشف في الوقت نفسه عن القوّة والصمود والخيال الهائل الذي تمتّع به المشاركون في الثورة والذين يعتقدون أنّ الثورة مستمرّة. وتتجسّد الخسارة على سبيل المثال في الموت التراجيدي لأحد الأبطال، يوسف ستّار، والذي أهدي الفيلم له. لكنّ الوعد الذي قطعته ثورة «تشرين» وإمكاناتها لا يزال حياً في ذاكرة المساحة الثالثة التي خلقها المحتجّون عبر الحواجز والجسور المحتلَّة والساحات العامّة والجداريات والأكل والمواصلات المشتركة والبنى التحتية التعليمية والترفيهية والكهربائية والطبية. وفيما استهدفت انتقادات المحتجين للنظام الحاكم نقص الوظائف والغذاء والأمن والبنية التحتية الأساسية والحَوْكمة الأخلاقية والمحاسبة، يقدّم «بغداد تثور» للجمهور لمحة خاطفة عن مجتمع يتميّز بالوفرة، حيث يضمن التعاون غير الهرمي والتعاطف وإعادة توزيع الغذاء والخيم والبطانيات والدواء عدم خلود أيّ أحد للنوم وهو يشعر بالمرض أو بالتعب أو بالجوع أو بالوحدة.

“الإعلان الرسمي لفيلم “بغداد تثور

لكنّ اللمحات هذه لا تخصّ حراك «تشرين» وحسب، فعلى سبيل المثال، وفي أثناء حراك «ثورة الفلاحين» في الهند بين عامي 2020  و2021، اعتصم عشرات آلاف الفلاحين في نيودلهي عند حدود تكري والسينغهو والغازيپور، إلى جانب «القلعة الحمراء». وقد أقامت الاعتصامات الاحتجاجية هذه مدناً مؤقّتة تفيض بالعيادات الطبية والمكتبات والمطابخ والبلديات المؤقتة. وكما حصل في ساحة «التحرير»، حيث يُظهر فيلم العزّاوي كمّ العراقيات والعراقيين المحتجين الذين شعروا لأوّل مرّة بعراقيّتهم، تضمّنت منتديات المناظرات النقاشات المفعمة بالحيوية في اعتصامات الفلاحين تضامناً مشابهاً وعابراً للأقاليم وإدراكاً لظروف الفلاحين الاقتصادية في الهند الجديدة، منظّرين له. من ميدان «التحرير» في القاهرة إلى ساحة «الشهيد» في بيروت إلى منتزة «زوكوتي» في مدينة نيويورك إلى ساحة «التحرير» في بغداد – خلقت خيم الاعتصام والاحتجاج مساحات من التجريب للتنظيم الذاتي والعلاقات الاجتماعية التكافؤية التي رفضت المؤسسات الحكومية الموجودة والأحزاب السياسية. ومع ذلك، غالباً ما تقع السرديّة الخاصّة بنهاية الاعتصامات هذه فريسة لنزعة قصر الأمد والتوقعات القاتمة: “لا يمكن للثورة أن تنجح”، “ما من خطة عند الشباب”، “عليهم بالنضوج والعودة إلى العالم الحقيقي”، “لن تتغيّر الأمور أبدًا”.

في عرضه الأوّل في 20 آذار 2023 – أي بعد ثلاث سنوات على حراك «تشرين» وعشرين عاماً على الاحتلال الأمريكي للعراق – يحاول فيلم «بغداد تثور» إزالة السرديّات السطحيّة هذه للفشل ويركّز بدلها على ثورات العقل. عندما تتجرّأ طيبة على التصريح بأنّ الثورة لا قيادة لها، وترفض الاستحواذ على مطالب المحتجين من قبل الفصائل السياسية الموجودة، تتحدّى هي بذلك مئات السنين من المحاولات الهرمية والمبنية على نموذج السلطة من الأعلى إلى الأسفل، لحكم المحافظات التي تشكّل العراق الحديث. وهي تتحدّى، حتّى ولو عبر ايماءات البسيطة، مثلما عند محاولة الزملاء من المحتجين التلميح إلى عدم تمكّنها من حمل بضع بطانيات بنفسها، تسارع هي إلى تحدّي القواعد المُجندرة فتتساءل عن اعتمادهم للطبقيّات. يكشف تركيز الفيلم على المحاورات البسيطة ظاهرياً كيف يتطلّب التنظيم الذاتي التأمّل الذاتي والمحاسبة المتبادلة باستمرار.

ويحدث مشهد قوي آخر في خيمة حيث يتحدّث جيل أكبر من النشطاء مع طيبة ومع أصدقائها وصديقاتها. يشير رجل أكبر سنّاً إلى اعتماد جيله لمقولة “القوّة هي الحق”، فقد استسلم لسلطة القادة العسكرية والسياسية على حد سواء. لكنّ طيبة تفسّر كيف تربّى جيلها مع الاحتلال العسكري والقنابل والاختطافات لذا فما من شيءٍ ليخسروه أو يخافوه. ولعلّ هذا الجيل يتمتّع بمزيدٍ من الميزات المشتركة مع شباب أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي الذين شعروا هم كذلك بأنّ لا شيء يخسرونه. وما يزيد من ارتباط حراكات الماضي تلك بالحاضرة هي الطريقة العنيفة التي قُمعت بها، عبر إطلاق النار على الجماهير والاعتقالات أو الاغتيالات المستهدفة لمنظّمات ومنظّمين سياسيين أساسيين. عندما أطلقت الشرطة النار على عمّال سكك الحديد وعلى المهاجرات والمهاجرين الريفيين في 20 كانون الثاني 1948، ردّ الشعب ببناء نصب تذكارية مؤقّتة لتكريم الأرواح المفقودة في جميع أنحاء بغداد. يُظهر فيلم «بغداد تثور» أيضاً اللحظات الجماعية الرقيقة هذه من الحداد على كلّ حياة فُقدت.

على الرغم من الصدمات النفسية التي تعرض بها المتظاهرون، يُختتَم الفيلم بنبرة أمل ويذكّر المشاهدات والمشاهدين بالتركيز على الأفق البعيد. ومثلما سار الطلاب مع مهاجري الريف أثناء «الوثبة» عام ١٩٤٨ ومثلما سار هؤلاء في انتفاضة عام ١٩٥٢ ضدّ تجديد المعاهدة الإنكليزية العراقية التي بدّت المصالح الأجنبيّة على العراقية، يحافظ حراك «تشرين» على إرث الحركات الاحتجاجية الجماهيريّة من القرن العشرين التي تردّ على دورات الأجيال المختلفة من نزع الملكيّة والصراع السياسي والتدخّل الأجنبي. وقد جلبت كلّ دورة من الاحتجاجات الجماهيريّة في الماضي مكاسب اجتماعية واقتصاديّة كُسبت بعد عناء لسكّان العراق الإصلاحات التعليميّة والعمالة والإسكان وحتّى إعادة توزيع الأراضي. وكان قد طلب العزّاوي من مصوّري الفيلم التركيز على اللقطات الطويلة بحيث تتوقّف الكاميرا عن الحركة كليّاً. تردّد حركة الكاميرا هذه التي تبدو لانهائيّة تقريباً صدى الزخم اللانهائي لحركات العراق السياسية في الماضي وفي الحاضر، وذلك على الرغم من مدّها وجزرها. وعند النظر إليه في سياق التاريخ الأكبر، يمكن اعتبار حراك «تشرين» فترة قصيرة من النشوة، أو ذكرى خالدة التقطها الفيلم وكذلك كلّ من شهد على بشائر عراق آخر.

عُرض فيلم «بغداد تثور» لأوّل مرّة في «مهرجان كوبنهاجن للأفلام الوثائقيّة» في الدانمارك في 20آذار 2023.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يبدأ أوّل مشهد من فيلم «بغداد تثور» (2023) بمجموعة شباب وشابات محتجين يردّون بـ”لا” على سلسلة من الأسئلة: هل أنت أمريكيـة؟ هل أنت إيرانيـة؟ هل أنت شيعيـة؟ هل أنت سنّيـة؟ لكن عند سؤالها “هل أنت عراقيـة؟” تهتف المجموعة بفرح “نعم!” يمهّد هذا المشهد الطريق أمام الرؤية الجماعيّة الوطنيّة واللاطائفيّة الموجودة في لبّ «ثورة تشرين» والتي بدأت في العراق في تشرين الأوّل 2019.  يُسرَد الفيلم بعيون طِيبَة وطموحاتها – هي مُسعفة وثائرة تبلغ من العمر  19 عاماً – تنجو من زواج عنيف لتكتشف عراقاً لم تتخيله إلا عبر أشكال التضامن التي بنتها في خيم اعتصامات «تشرين»، حيث أصبح الغرباء أقرباء بين ليلةٍ وضحاها.

في الفيلم تقود طيبة والناشطان الزميلان يوسف وخضر فريقاً طبياً ليعالج المحتجين والمحتجات المصابين بالغاز المسيل للدموع. تعمّد مخرج الفيلم كرّار العزّاوي التركيز على سرديّة طيبة بصفتها البطلة المركزيّة لتتمكّن من الاشتباك مع الأساليب المجرَّدة (والمجرِّدة للإنسانية في كثير من الأحيان) التي مُثّل عبرها المحتجّون في «تشرين» في الإعلام داخل العراق وخارجه. عند تكرار سؤال الشابات والشباب عمّا يريدون ولماذا لن يعودوا أدراجهم، تجيب طيبة ببساطة، “انريد وطن”، فيتمكنون من إعادة بنائه على شاكلة العالم الذي خلقوه في «ساحة التحرير». والمشاعر هذه مألوفة للعزاوي، فهو أيضاً كان ناشطاً لفترة طويلة، واضطرّ إلى ترك البلاد عام 2016 والاستقرار في النرويج.

لا يُستهان بخيار العزاوي في الانطلاق في مهمة تحدّي السرديّات السائدة الصعبة والخطيرة في إنتاجه لوثائقي طويل، أثناء ثورة قُتل فيها المئات من المحتجين وأصيب فيها الآلاف. فقد اختار فريق العزاوي، بما في ذلك المصوّر حسين مناف ومدير الإنتاج محمد عزيز إلى جانب عدد لا يحصى من العاملين خلف الكواليس وأمامها، المشاركة في المسعى الخلّاق، على الرغم من علمهم بأنّ قصصهم لن تُحكى لو لم يصوّروها هم. على الرغم من حركة الكاميرا المضطربة في بعض الأحيان، بإشارة إلى لحظة حرجة، أوصى العزّاوي فريقه بالحفاظ على طيبة في إطار الكاميرا. لقد كان من الضروري للجمهور أن يكون مع طيبة، وذلك لكي يتمكّن من التعاطف معها من خلال لحظات من مشاعر النشوة والتحدّي واليأس التي خاضها آلاف الشباب والشابات مثلها. وعلاوةً على ذلك فقد ساعد التركيز على حياة بعض الأفراد في الفيلم الجمهورَ في فهم المسارات المركّبة التي قادت كلّ منظِّم ومنظِّمة إلى ساحة «التحرير» رغماً عن جميع العواقب.

وقد علّق العزاوي بأنّه إن سألنا كلّ من شارك في حراك «تشرين» عن أفضل أيّام حياتهم فسيردّون بأنّ أفضلها كانت الأيّام التي عاشوها في الثورة. ولعلّ ذلك هو ما يعقِّد الفيلم هذا، فهو يواجه المشاهد بالصدمة النفسة والإصابات والموت الذي استُحضر في حراك «تشرين»، ويكشف في الوقت نفسه عن القوّة والصمود والخيال الهائل الذي تمتّع به المشاركون في الثورة والذين يعتقدون أنّ الثورة مستمرّة. وتتجسّد الخسارة على سبيل المثال في الموت التراجيدي لأحد الأبطال، يوسف ستّار، والذي أهدي الفيلم له. لكنّ الوعد الذي قطعته ثورة «تشرين» وإمكاناتها لا يزال حياً في ذاكرة المساحة الثالثة التي خلقها المحتجّون عبر الحواجز والجسور المحتلَّة والساحات العامّة والجداريات والأكل والمواصلات المشتركة والبنى التحتية التعليمية والترفيهية والكهربائية والطبية. وفيما استهدفت انتقادات المحتجين للنظام الحاكم نقص الوظائف والغذاء والأمن والبنية التحتية الأساسية والحَوْكمة الأخلاقية والمحاسبة، يقدّم «بغداد تثور» للجمهور لمحة خاطفة عن مجتمع يتميّز بالوفرة، حيث يضمن التعاون غير الهرمي والتعاطف وإعادة توزيع الغذاء والخيم والبطانيات والدواء عدم خلود أيّ أحد للنوم وهو يشعر بالمرض أو بالتعب أو بالجوع أو بالوحدة.

“الإعلان الرسمي لفيلم “بغداد تثور

لكنّ اللمحات هذه لا تخصّ حراك «تشرين» وحسب، فعلى سبيل المثال، وفي أثناء حراك «ثورة الفلاحين» في الهند بين عامي 2020  و2021، اعتصم عشرات آلاف الفلاحين في نيودلهي عند حدود تكري والسينغهو والغازيپور، إلى جانب «القلعة الحمراء». وقد أقامت الاعتصامات الاحتجاجية هذه مدناً مؤقّتة تفيض بالعيادات الطبية والمكتبات والمطابخ والبلديات المؤقتة. وكما حصل في ساحة «التحرير»، حيث يُظهر فيلم العزّاوي كمّ العراقيات والعراقيين المحتجين الذين شعروا لأوّل مرّة بعراقيّتهم، تضمّنت منتديات المناظرات النقاشات المفعمة بالحيوية في اعتصامات الفلاحين تضامناً مشابهاً وعابراً للأقاليم وإدراكاً لظروف الفلاحين الاقتصادية في الهند الجديدة، منظّرين له. من ميدان «التحرير» في القاهرة إلى ساحة «الشهيد» في بيروت إلى منتزة «زوكوتي» في مدينة نيويورك إلى ساحة «التحرير» في بغداد – خلقت خيم الاعتصام والاحتجاج مساحات من التجريب للتنظيم الذاتي والعلاقات الاجتماعية التكافؤية التي رفضت المؤسسات الحكومية الموجودة والأحزاب السياسية. ومع ذلك، غالباً ما تقع السرديّة الخاصّة بنهاية الاعتصامات هذه فريسة لنزعة قصر الأمد والتوقعات القاتمة: “لا يمكن للثورة أن تنجح”، “ما من خطة عند الشباب”، “عليهم بالنضوج والعودة إلى العالم الحقيقي”، “لن تتغيّر الأمور أبدًا”.

في عرضه الأوّل في 20 آذار 2023 – أي بعد ثلاث سنوات على حراك «تشرين» وعشرين عاماً على الاحتلال الأمريكي للعراق – يحاول فيلم «بغداد تثور» إزالة السرديّات السطحيّة هذه للفشل ويركّز بدلها على ثورات العقل. عندما تتجرّأ طيبة على التصريح بأنّ الثورة لا قيادة لها، وترفض الاستحواذ على مطالب المحتجين من قبل الفصائل السياسية الموجودة، تتحدّى هي بذلك مئات السنين من المحاولات الهرمية والمبنية على نموذج السلطة من الأعلى إلى الأسفل، لحكم المحافظات التي تشكّل العراق الحديث. وهي تتحدّى، حتّى ولو عبر ايماءات البسيطة، مثلما عند محاولة الزملاء من المحتجين التلميح إلى عدم تمكّنها من حمل بضع بطانيات بنفسها، تسارع هي إلى تحدّي القواعد المُجندرة فتتساءل عن اعتمادهم للطبقيّات. يكشف تركيز الفيلم على المحاورات البسيطة ظاهرياً كيف يتطلّب التنظيم الذاتي التأمّل الذاتي والمحاسبة المتبادلة باستمرار.

ويحدث مشهد قوي آخر في خيمة حيث يتحدّث جيل أكبر من النشطاء مع طيبة ومع أصدقائها وصديقاتها. يشير رجل أكبر سنّاً إلى اعتماد جيله لمقولة “القوّة هي الحق”، فقد استسلم لسلطة القادة العسكرية والسياسية على حد سواء. لكنّ طيبة تفسّر كيف تربّى جيلها مع الاحتلال العسكري والقنابل والاختطافات لذا فما من شيءٍ ليخسروه أو يخافوه. ولعلّ هذا الجيل يتمتّع بمزيدٍ من الميزات المشتركة مع شباب أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي الذين شعروا هم كذلك بأنّ لا شيء يخسرونه. وما يزيد من ارتباط حراكات الماضي تلك بالحاضرة هي الطريقة العنيفة التي قُمعت بها، عبر إطلاق النار على الجماهير والاعتقالات أو الاغتيالات المستهدفة لمنظّمات ومنظّمين سياسيين أساسيين. عندما أطلقت الشرطة النار على عمّال سكك الحديد وعلى المهاجرات والمهاجرين الريفيين في 20 كانون الثاني 1948، ردّ الشعب ببناء نصب تذكارية مؤقّتة لتكريم الأرواح المفقودة في جميع أنحاء بغداد. يُظهر فيلم «بغداد تثور» أيضاً اللحظات الجماعية الرقيقة هذه من الحداد على كلّ حياة فُقدت.

على الرغم من الصدمات النفسية التي تعرض بها المتظاهرون، يُختتَم الفيلم بنبرة أمل ويذكّر المشاهدات والمشاهدين بالتركيز على الأفق البعيد. ومثلما سار الطلاب مع مهاجري الريف أثناء «الوثبة» عام ١٩٤٨ ومثلما سار هؤلاء في انتفاضة عام ١٩٥٢ ضدّ تجديد المعاهدة الإنكليزية العراقية التي بدّت المصالح الأجنبيّة على العراقية، يحافظ حراك «تشرين» على إرث الحركات الاحتجاجية الجماهيريّة من القرن العشرين التي تردّ على دورات الأجيال المختلفة من نزع الملكيّة والصراع السياسي والتدخّل الأجنبي. وقد جلبت كلّ دورة من الاحتجاجات الجماهيريّة في الماضي مكاسب اجتماعية واقتصاديّة كُسبت بعد عناء لسكّان العراق الإصلاحات التعليميّة والعمالة والإسكان وحتّى إعادة توزيع الأراضي. وكان قد طلب العزّاوي من مصوّري الفيلم التركيز على اللقطات الطويلة بحيث تتوقّف الكاميرا عن الحركة كليّاً. تردّد حركة الكاميرا هذه التي تبدو لانهائيّة تقريباً صدى الزخم اللانهائي لحركات العراق السياسية في الماضي وفي الحاضر، وذلك على الرغم من مدّها وجزرها. وعند النظر إليه في سياق التاريخ الأكبر، يمكن اعتبار حراك «تشرين» فترة قصيرة من النشوة، أو ذكرى خالدة التقطها الفيلم وكذلك كلّ من شهد على بشائر عراق آخر.

عُرض فيلم «بغداد تثور» لأوّل مرّة في «مهرجان كوبنهاجن للأفلام الوثائقيّة» في الدانمارك في 20آذار 2023.