ذكرى تحرير الموصل: مشاهد قصيرة من وجع طويل

نوزت شمدين

10 تموز 2023

تجربة السنوات المُرّة والدّمار الذي حدث في نينوى على المستويين البشري والعمراني، أعادت الميل الشعبي لتربطه ببغداد مجدداً، لأن الموصليين فقدوا الثقة بأية شخصية أو كيان سياسي محليّ.. مشاهد قصيرة من وجع الموصل الطويل..

شهدت مدينة الموصل خلال 12 عاماً (2003-2014) ثلاثة انهيارات لسلطة الدولة ومؤسساتها، فتأرجح مزاجها الشعبي ومال باتجاه المركز في بغداد تارة، ونحو فكرة تأسيس كيان إداري مستقل -إسوة بإقليم كردستان- تارة أخرى. 

الاحتلال الأمريكي: السقوط الأوّل

عُرفت الموصل، عاصمة محافظة نينوى، منذ تأسيس الدولة العراقية بولائها المطلق للنظام الحاكم في البلاد. 

في عهد سلطة البعث بقيادة صدام حسين، كان رجال أم الربيعين الأكثر  تقلداً للمناصب القيادية في الحزب، فضلاً عن تصدير المدينة ضباطاً إلى الأجهزة الأمنية بمختلف صنوفها.

بعد يوم من سقوط دولة البعث 10 نيسان 2003، كان هؤلاء الضبّاط والقيادات والموالون للدولة، ماكثين في منازلهم يوم جابت القوات الأمريكية، مدعومة بالبيشمركة الكردية، أنحاء الموصل والبلدات المحيطة بها.

رضخوا لولادة عهد جديد، وانتظروا الخطوة التالية التي ستقدم عليها القوات الأمريكية. 

وعندما أقدم بول بريمر، الحاكم المدني للعراق، على حلّ الجيش العراقي والكيانات الأخرى، وأمر بتطبيق اجتثاث البعث، لم يكن تنظيم “القاعدة” الذي بدأ ينشط حينها بحاجة إلى تجنيد مسلحين من الخارج، لبدء حرب شوارع طويلة ومدمرة مع القوات الأمريكية.

كان هناك بالفعل جيش مدرب يملك الدافع لخوض تلك الحرب وفق مبدأ مقاومة الاحتلال. وقد استعان التنظيم بكثير من عناصره، ولكن ليس لفترة طويلة.

في المقابل، كان ضباط ومنتسبون سابقون من الجيش والشرطة امتثلوا للوعود الأمريكية بعراق جديد ديمقراطيٍ وبعيد عن الدكتاتورية، ففتحت أبواب مراكز الشرطة المحلية مجدداً وتم تشكيل نواة جيش جديد عرف بالحرس الوطني. 

غير أنّ هاتين القوتين كانتا ضعيفتين جداً ولم تمتلكا المقدرة لمواجهة تنظيم “القاعدة” الذي كان ينفذ عملياته ضدهما بسرعة، ويختفي أفراده كالأشباح.

حتّى جاء السقوط الثاني.

القاعدة: السقوط الثاني

في 11 تشرين الثاني عام 2004 سقطت الموصل بيد القاعدة، يُسمّي سكان المدينة هذا اليوم بـ”يوم السقوط الثاني”.

هاجم المئات من عناصر “القاعدة” في وقت مبكّر من الصباح، مقرَّ قيادة شرطة نينوى في الجانب الأيمن للمدينة، ومراكز الشرطة في أنحائها المختلفة، وفجّروا تسعاً منها، وانتشروا في الشوارع الرئيسة معلنين مسكهم للأرض.

اقرأ أيضاً

“طعام وعدو”.. الرصاص والأغاني الصاخبة لخنازير كردستان 

وقتها، كان دريد كشمولة، محافظ نينوى، متواجداً بحماية القوات الأمريكية في مبنى الإدارة المحلية، ومن مكانه أصدر التعليمات بفرض الحظر الشامل للتجوال. وعبثاً، حاول إعادة عناصر الشرطة المحلية الذين تركوا مواقعهم خوفاً من الاستهداف.

حاسب الجيش الأمريكي ضابطاً عراقياً بتهمة “التقصير بالواجب” على حدث سقوط الموصل الثاني.

لكن آثاره قادت إلى الانهيار الكبير.

رايات “داعش”: السقوط الثالث

خلال 11 عاماً تلت غزو العراق شهدت الموصل استهداف منتسبي الجيش والشرطة، والمرشحين للانتخابات البرلمانية والمحلية، كما عاشت مع قتل وخطف منظم ضدّ المسيحيين والإيزيديين والتركمان والشبك والكرد، وشهدت شوارعها تفجير السيارات والعبوات الناسفة والمواجهات المسلّحة. جراء ذلك كلّه، تدفقت منها موجات نزوح متتابعة.

كانت الأحياء السكنية جبهة لعناصر “القاعدة”، “أنصار الإسلام”، “جيش محمد”، “النقشبندية” وقوات الجيش الأمريكي والأمن العراقية، ثم “دولة العراق الإسلامية” عام 2006 التي تحوّلت في 2013 إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”؛ وهو التنظيم الأشرس الذي ابتلع الجماعات المسلحة الأخرى بعد محاربتها.

طوال السنوات العشر تلك، كانت التنظيمات المسلحة، ومن بعدها “داعش”، تموّل نفسَها بالإتاوات من مشاريع مقاولات محافظة نينوى والدوائر الحكومية. كان التُجّار والمهنيون وأساتذة الجامعات والصاغة والميسورون بشكل عام، مجبرين على دفع مبالغ مالية إتاوة، أو مواجهة الموت.

سجلت تلك الفترة مقتل آلاف المواطنين بعمليات كان ينفذها المسلحون في الشوارع وفي وضح النهار وأمام مرأى نقاط التفتيش التي انتشرت في شوارع الموصل الرئيسة ومداخل جسورها الخمسة، منذ تشكيل قيادة عمليات نينوى في أيار 2008.

كانت هذه القوّات تزداد ضعفاً إلى أن انسحبت أمام “داعش” وتركت ترسانتها الكبيرة من الأسلحة وأموال الدولة في المؤسسات والمصارف غنيمة للتنظيم.

تقلّبات الرأي العام

خلال حقبة التدهور الأمني (2003 – 2017) تقلّب الرأي العام في الموصل مراراً.

ففي السنوات الأولى للغزو، بضمنها 2005 التي شُكل فيها مجلس محافظة نينوى، كان الشارع ملبّداً بالأجواء الإيمانية التي تبثّها منابر أكثر من 2000 مسجد وجامع في عموم نينوى، والتي كان الخطباء فيها، وبضغط من الجماعات الدينية المسلحة، يدفعون نحو مقاطعة أيّ نشاط يتعلق بالنظام الجديد، وصولاً للتعامل مع القوات الأمنية العراقية بوصفها “مرتدّة”، أو القوات الأمريكية لأنها “صليبية محتلة”.

وقد نجم عن هذا الخطاب، فضلاً عن التداعيات الأمنية، مقاطعة شعبية واسعة لانتخابات مجالس المحافظات التي استثمرتها القائمة الوطنية الكردستانية -قادها الحزب الديمقراطي والإتحاد الوطني الكردستانيين- محتلة المرتبة الأولى بأعلى الأصوات، تلاها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (شيعي) حاصداً أكثر من 17 ألف صوت، وثالثاً جاء الحزب الإسلامي بحصوله على نحو 7 آلاف صوت، ومجلس عشائر الموصل بـ6 آلاف صوت.

لم يشارك في تلك الانتخابات سوى 165 ألف مقترعٍ، غالبيتهم من مناطق سهل نينوى التي كانت قوات البيشمركة الكردية تسيطر عليها، بوصفها مناطق متنازعاً عليها بين بغداد وإقليم كردستان وفقاً للمادة 140 من الدستور العراقي، كما شارك الشيعة في قضاء تلعفر غرب الموصل، كما أبناء المناطق العربية القبلية جنوب المدينة.

وقتها، لم تتجاوز النسبة 10 بالمئة ممن يحقّ لهم الاقتراع في المحافظة. 

الكرد يهيمنون

شهدت الأعوام الأولى هيمنة الكرد على المشهد في نينوى، وكان ذلك نتاج  حصولهم على المناصب الحكومية الكبرى نتيجة للانتخابات، ولعب خسرو كوران، أحد ممثلي التحالف الكردستاني، وتسلم منصب نائب محافظ نينوى، دور الآمر الناهي في المحافظة. بينما كان المحافظ دريد كشمولة، الذي تولّى المنصب بعد اغتيال خلفه وابن عمّه أسامة كشمولة عام 2004، واجهة فقط.

وخلال تلك الفترة، تغيّر الخطاب من ديني إلى قومي، وبدأ سكان نينوى يتحدثون عن احتلال كردي لأقضية ونواحٍ وقرى، فضلاً عن الاستحواذ على مناصب إدارية عليا في المحافظة ومؤسسات الدولة، إضافة إلى مجلس المحافظة الذي كان يرأسه اللواء سالم حج عيسى (حُكُم عليه عام 2007 بالسجن لخمس سنوات بتهمة الاختلاس)، وأخذت الدعوات تتزايد يوماً بعد آخر لإنهاء السيطرة الكردية وإعادة نينوى إلى حاضنتها العربية.

لاحقاً، تزعّم الشقيقان أسامة وأثيل النجيفي حملة “الانقاذ القومي”، وراحا يحشّدان الرأي العام ضد الوجود الكردي، حتى صار الأمر برنامجَهما الانتخابي الأوحد في قائمتهما (الحدباء الوطنية) التي دخلا بها انتخابات مجالس المحافظات سنة 2009، وحصل أثيل النجيفي لوحده فيها على ما يقرب من 300 ألف صوت، لتستحوذ القائمة على 19 من أصل 37 مقعداً في مجلس محافظة نينوى، مقابل 12 مقعداً للكرد (قائمة نينوى المتآخية) وثلاثة مقاعد للحزب الإسلامي، وثلاثة مقاعد لممثلي الشبك والمسيحيين والإيزيديين. 

وهكذا أصبح أثيل النجيفي محافظاً لنينوى، مع سيطرة لقائمته على مجلس المحافظة وغالبية المناصب الإدارية في المؤسسات الحكومية، لكن اتجاه بوصلته السياسية تغيّر بمرور الأيام، ومعه الرأي العام في نينوى، من القوميّ إلى الطائفيّ هذه المرة، فأخذت الأصوات ترتفع بضرورة إنشاء “إقليم سني”، للمحافظة على المذهب مما يتعرض له.

إقليم نينوى

دخل النجيفي صراعاً مريراً مع حكومة المركز برئاسة نوري المالكي (الشيعية)، والتي كانت تسيطر على قيادة العمليات في نينوى من خلال ضُبّاط مرتبطين بأحزاب طائفية شيعية في السلطة، فحدثت فجوة أمنية كبيرة نتيجة للتقاطعات بينهم ومراجعهم في العاصمة وبين المحافظة، استغلها التنظيم الإرهابي بتكثيف عملياته وبسط نفوذه، وبمقابل ذلك، لم يزدَدْ الوجود الأمني إلّا هشاشة، لدرجة أن معدل الغيابات في بعض الأفواج العسكرية وصل إلى 80 بالمئة، وتفاقم الأمر كثيراً بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد في أواخر 2011، وإنشاء ساحة الاعتصامات الشعبية ضد حكومة بغداد في 2012 بمنطقة السجن القديم في الجانب الأيمن للموصل، والتي مهّدت للسقوط الثالث لنينوى في 10 حزيران 2014.

دخان الحرب ينقشع

في 10 تموز عام 2017، ووسط دمار يُحيط كل المدينة، أعلن حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق، تحرير مدينة الموصل من تنظيم “داعش”.

اتّضح حينها حجم الخراب الذي أصابها. نحو 11 ألف وحدة سكنية تضررت أو سويت بالأرض ولاسيما في المدينة القديمة بالجانب الأيمن التي دفن الكثير من الأهالي المحاصرين تحت ركامها. ودمرت البنية التحتية من مستشفيات وجسور ومحطات مياه وكهرباء وشبكات نقلهما ومقار الدوائر الحكومية. 

كُشِف مُذّاك عن 98 مقبرة جماعية.

دفن تنظيم “داعش” الآلاف من المدنيين في قبور جماعية، وبعد 6 أعوام لم تُفتح منها إلا القليل، وذلك لغياب الإمكانيات الفنية، وفقاً للرواية الحكومية. وينتظر ذوو آلاف من المفقودين فتح البقية، وأكبرها مقبرة الخسفة جنوب الموصل، التي يُرجَّح أنها تضم نحو 6 آلاف رفات لمدنيين ومنتسبين في الجيش والشرطة العراقيين، هذا إلى جانب أن نصف سكان نينوى البالغة أعدادهم 4 ملايين، كانوا نازحين في مدن أخرى أو تلقفتهم المهاجر.

تجربة السنوات الـ14، والدّمار الذي أحدثته في نينوى على المستويين البشري والعمراني، أعادت الميل الشعبي لتربطه بالمركز في بغداد مجدداً، مع فقدان الثقة بأية شخصية أو كيان سياسي محلي، لتجد أحزابٌ أخرى عابرة للمحافظات، مثل “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان، فرصتها السانحة هناك، وتتقاسم بينها السلطات الإدارية والأمنية، ويتصدّر الفساد عناوين ما بعد “داعش”، تؤكد ذلك إجراءات هيئة النزاهة والأحكام القضائية، إذ اعتقل العشرات من الموظفين الحكوميين في دوائر البلدية والتسجيل العقاري وديوان محافظة نينوى ومجلس المحافظة السابق ورؤساء جمعيات الإسكان بتهم “هدر المال العام” والاختلاس والرشوة وتزوير أملاك عقارية عامة والتصرف بها، لدرجة حبس المحافظ الأسبق نوفل العاكوب، لخمس سنوات، و رعد العباسي، معاون المحافظ وزوج البرلمانية بسمية بسيم، بالحبس الشديد لخمسِ سنوات. وصدر حكم غيابي بحق بشار الكيكي، رئيس مجلس محافظة نينوى والبرلماني السابق بالسجن لخمس عشرة سنة، وأحكام تراوحت بين 20 و99 سنة بحق مديرين للتسجيل العقاري (طابو الأيسر) وموظفين فيها، وعدد من الدوائر الحكومية الأخرى. 

بعد سنوات الظلام الثلاث تحت حكم “داعش” ساد محافظة نينوى تسامحٌ شعبي غير مسبوق على الصعيدين القومي والطائفي، فمن جهة إقليم كردستان (القومية)، يتذكّر الناس استقباله مئات الآلاف من نازحي المحافظة عام 2014، وأيضاً لانتهاء السيطرة الكردية عام 2017على سهل نينوى، وحلول فصائل الحشد الشعبي محلها، أبرزها اللواء 30 الذي يضم مقاتلين غالبيتهم من الشبك الشيعة.

وعلى الجهة الطائفية، ونتيجة لمشاركة الحشد الشعبي في عمليات تحرير نينوى من سيطرة “داعش”، وصارت الفصائل عملياً بديلاً عنه، غُض الطرفُ عن مكاتبها الاقتصادية التي فرضت نسباً على المشاريع العامة واستولت على عقارات تابعة للدولة، واستحوذ الوقف الشيعي على مراقد ومزارات ومقامات ومساجد وعقارات مملوكة للوقف السني، لتعتلي صور قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، وأبو مهدي المهندس -اغتالهما الجيش الأمريكي بضربة صاروخية قرب مطار بغداد الدولي في الثالث من كانون الثاني عام 2020- وقادة فصائل أخرى، شوارع الموصل وتقاطعاتها الرئيسة.

ماذا تنتظر نينوى؟

يراهن البعض في نينوى على انتخابات مجالس المحافظات المقبلة، ويعدونها أول انتخابات ستجرى هناك دون وجود تحديات أمنية، مما يعني مشاركة جماهيرية فاعلة لاختيار حكومة محلية يكون ولاؤها لنينوى وليس لأحزاب من خارجها. 

وهناك أمل في المحافظة أن يكون بوسع الحكومة المنتظرة توجيه المال العام لتنفيذ مشاريع البنى التحتية وعلى رأسها المستشفيات، فضلاً امتصاص البطالة وإعادة الحياة لمشاريع القطاع الخاص على المستويين الزراعي والصناعي، والأهم من كل ذلك، ضمان عدم الدخول في صراعات سياسية، سواءً مع المركز في بغداد أو إقليم كردستان.

لكن هل تتحقّق هذه الآمال؟

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية  ”نيريج”  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شهدت مدينة الموصل خلال 12 عاماً (2003-2014) ثلاثة انهيارات لسلطة الدولة ومؤسساتها، فتأرجح مزاجها الشعبي ومال باتجاه المركز في بغداد تارة، ونحو فكرة تأسيس كيان إداري مستقل -إسوة بإقليم كردستان- تارة أخرى. 

الاحتلال الأمريكي: السقوط الأوّل

عُرفت الموصل، عاصمة محافظة نينوى، منذ تأسيس الدولة العراقية بولائها المطلق للنظام الحاكم في البلاد. 

في عهد سلطة البعث بقيادة صدام حسين، كان رجال أم الربيعين الأكثر  تقلداً للمناصب القيادية في الحزب، فضلاً عن تصدير المدينة ضباطاً إلى الأجهزة الأمنية بمختلف صنوفها.

بعد يوم من سقوط دولة البعث 10 نيسان 2003، كان هؤلاء الضبّاط والقيادات والموالون للدولة، ماكثين في منازلهم يوم جابت القوات الأمريكية، مدعومة بالبيشمركة الكردية، أنحاء الموصل والبلدات المحيطة بها.

رضخوا لولادة عهد جديد، وانتظروا الخطوة التالية التي ستقدم عليها القوات الأمريكية. 

وعندما أقدم بول بريمر، الحاكم المدني للعراق، على حلّ الجيش العراقي والكيانات الأخرى، وأمر بتطبيق اجتثاث البعث، لم يكن تنظيم “القاعدة” الذي بدأ ينشط حينها بحاجة إلى تجنيد مسلحين من الخارج، لبدء حرب شوارع طويلة ومدمرة مع القوات الأمريكية.

كان هناك بالفعل جيش مدرب يملك الدافع لخوض تلك الحرب وفق مبدأ مقاومة الاحتلال. وقد استعان التنظيم بكثير من عناصره، ولكن ليس لفترة طويلة.

في المقابل، كان ضباط ومنتسبون سابقون من الجيش والشرطة امتثلوا للوعود الأمريكية بعراق جديد ديمقراطيٍ وبعيد عن الدكتاتورية، ففتحت أبواب مراكز الشرطة المحلية مجدداً وتم تشكيل نواة جيش جديد عرف بالحرس الوطني. 

غير أنّ هاتين القوتين كانتا ضعيفتين جداً ولم تمتلكا المقدرة لمواجهة تنظيم “القاعدة” الذي كان ينفذ عملياته ضدهما بسرعة، ويختفي أفراده كالأشباح.

حتّى جاء السقوط الثاني.

القاعدة: السقوط الثاني

في 11 تشرين الثاني عام 2004 سقطت الموصل بيد القاعدة، يُسمّي سكان المدينة هذا اليوم بـ”يوم السقوط الثاني”.

هاجم المئات من عناصر “القاعدة” في وقت مبكّر من الصباح، مقرَّ قيادة شرطة نينوى في الجانب الأيمن للمدينة، ومراكز الشرطة في أنحائها المختلفة، وفجّروا تسعاً منها، وانتشروا في الشوارع الرئيسة معلنين مسكهم للأرض.

اقرأ أيضاً

“طعام وعدو”.. الرصاص والأغاني الصاخبة لخنازير كردستان 

وقتها، كان دريد كشمولة، محافظ نينوى، متواجداً بحماية القوات الأمريكية في مبنى الإدارة المحلية، ومن مكانه أصدر التعليمات بفرض الحظر الشامل للتجوال. وعبثاً، حاول إعادة عناصر الشرطة المحلية الذين تركوا مواقعهم خوفاً من الاستهداف.

حاسب الجيش الأمريكي ضابطاً عراقياً بتهمة “التقصير بالواجب” على حدث سقوط الموصل الثاني.

لكن آثاره قادت إلى الانهيار الكبير.

رايات “داعش”: السقوط الثالث

خلال 11 عاماً تلت غزو العراق شهدت الموصل استهداف منتسبي الجيش والشرطة، والمرشحين للانتخابات البرلمانية والمحلية، كما عاشت مع قتل وخطف منظم ضدّ المسيحيين والإيزيديين والتركمان والشبك والكرد، وشهدت شوارعها تفجير السيارات والعبوات الناسفة والمواجهات المسلّحة. جراء ذلك كلّه، تدفقت منها موجات نزوح متتابعة.

كانت الأحياء السكنية جبهة لعناصر “القاعدة”، “أنصار الإسلام”، “جيش محمد”، “النقشبندية” وقوات الجيش الأمريكي والأمن العراقية، ثم “دولة العراق الإسلامية” عام 2006 التي تحوّلت في 2013 إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”؛ وهو التنظيم الأشرس الذي ابتلع الجماعات المسلحة الأخرى بعد محاربتها.

طوال السنوات العشر تلك، كانت التنظيمات المسلحة، ومن بعدها “داعش”، تموّل نفسَها بالإتاوات من مشاريع مقاولات محافظة نينوى والدوائر الحكومية. كان التُجّار والمهنيون وأساتذة الجامعات والصاغة والميسورون بشكل عام، مجبرين على دفع مبالغ مالية إتاوة، أو مواجهة الموت.

سجلت تلك الفترة مقتل آلاف المواطنين بعمليات كان ينفذها المسلحون في الشوارع وفي وضح النهار وأمام مرأى نقاط التفتيش التي انتشرت في شوارع الموصل الرئيسة ومداخل جسورها الخمسة، منذ تشكيل قيادة عمليات نينوى في أيار 2008.

كانت هذه القوّات تزداد ضعفاً إلى أن انسحبت أمام “داعش” وتركت ترسانتها الكبيرة من الأسلحة وأموال الدولة في المؤسسات والمصارف غنيمة للتنظيم.

تقلّبات الرأي العام

خلال حقبة التدهور الأمني (2003 – 2017) تقلّب الرأي العام في الموصل مراراً.

ففي السنوات الأولى للغزو، بضمنها 2005 التي شُكل فيها مجلس محافظة نينوى، كان الشارع ملبّداً بالأجواء الإيمانية التي تبثّها منابر أكثر من 2000 مسجد وجامع في عموم نينوى، والتي كان الخطباء فيها، وبضغط من الجماعات الدينية المسلحة، يدفعون نحو مقاطعة أيّ نشاط يتعلق بالنظام الجديد، وصولاً للتعامل مع القوات الأمنية العراقية بوصفها “مرتدّة”، أو القوات الأمريكية لأنها “صليبية محتلة”.

وقد نجم عن هذا الخطاب، فضلاً عن التداعيات الأمنية، مقاطعة شعبية واسعة لانتخابات مجالس المحافظات التي استثمرتها القائمة الوطنية الكردستانية -قادها الحزب الديمقراطي والإتحاد الوطني الكردستانيين- محتلة المرتبة الأولى بأعلى الأصوات، تلاها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (شيعي) حاصداً أكثر من 17 ألف صوت، وثالثاً جاء الحزب الإسلامي بحصوله على نحو 7 آلاف صوت، ومجلس عشائر الموصل بـ6 آلاف صوت.

لم يشارك في تلك الانتخابات سوى 165 ألف مقترعٍ، غالبيتهم من مناطق سهل نينوى التي كانت قوات البيشمركة الكردية تسيطر عليها، بوصفها مناطق متنازعاً عليها بين بغداد وإقليم كردستان وفقاً للمادة 140 من الدستور العراقي، كما شارك الشيعة في قضاء تلعفر غرب الموصل، كما أبناء المناطق العربية القبلية جنوب المدينة.

وقتها، لم تتجاوز النسبة 10 بالمئة ممن يحقّ لهم الاقتراع في المحافظة. 

الكرد يهيمنون

شهدت الأعوام الأولى هيمنة الكرد على المشهد في نينوى، وكان ذلك نتاج  حصولهم على المناصب الحكومية الكبرى نتيجة للانتخابات، ولعب خسرو كوران، أحد ممثلي التحالف الكردستاني، وتسلم منصب نائب محافظ نينوى، دور الآمر الناهي في المحافظة. بينما كان المحافظ دريد كشمولة، الذي تولّى المنصب بعد اغتيال خلفه وابن عمّه أسامة كشمولة عام 2004، واجهة فقط.

وخلال تلك الفترة، تغيّر الخطاب من ديني إلى قومي، وبدأ سكان نينوى يتحدثون عن احتلال كردي لأقضية ونواحٍ وقرى، فضلاً عن الاستحواذ على مناصب إدارية عليا في المحافظة ومؤسسات الدولة، إضافة إلى مجلس المحافظة الذي كان يرأسه اللواء سالم حج عيسى (حُكُم عليه عام 2007 بالسجن لخمس سنوات بتهمة الاختلاس)، وأخذت الدعوات تتزايد يوماً بعد آخر لإنهاء السيطرة الكردية وإعادة نينوى إلى حاضنتها العربية.

لاحقاً، تزعّم الشقيقان أسامة وأثيل النجيفي حملة “الانقاذ القومي”، وراحا يحشّدان الرأي العام ضد الوجود الكردي، حتى صار الأمر برنامجَهما الانتخابي الأوحد في قائمتهما (الحدباء الوطنية) التي دخلا بها انتخابات مجالس المحافظات سنة 2009، وحصل أثيل النجيفي لوحده فيها على ما يقرب من 300 ألف صوت، لتستحوذ القائمة على 19 من أصل 37 مقعداً في مجلس محافظة نينوى، مقابل 12 مقعداً للكرد (قائمة نينوى المتآخية) وثلاثة مقاعد للحزب الإسلامي، وثلاثة مقاعد لممثلي الشبك والمسيحيين والإيزيديين. 

وهكذا أصبح أثيل النجيفي محافظاً لنينوى، مع سيطرة لقائمته على مجلس المحافظة وغالبية المناصب الإدارية في المؤسسات الحكومية، لكن اتجاه بوصلته السياسية تغيّر بمرور الأيام، ومعه الرأي العام في نينوى، من القوميّ إلى الطائفيّ هذه المرة، فأخذت الأصوات ترتفع بضرورة إنشاء “إقليم سني”، للمحافظة على المذهب مما يتعرض له.

إقليم نينوى

دخل النجيفي صراعاً مريراً مع حكومة المركز برئاسة نوري المالكي (الشيعية)، والتي كانت تسيطر على قيادة العمليات في نينوى من خلال ضُبّاط مرتبطين بأحزاب طائفية شيعية في السلطة، فحدثت فجوة أمنية كبيرة نتيجة للتقاطعات بينهم ومراجعهم في العاصمة وبين المحافظة، استغلها التنظيم الإرهابي بتكثيف عملياته وبسط نفوذه، وبمقابل ذلك، لم يزدَدْ الوجود الأمني إلّا هشاشة، لدرجة أن معدل الغيابات في بعض الأفواج العسكرية وصل إلى 80 بالمئة، وتفاقم الأمر كثيراً بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد في أواخر 2011، وإنشاء ساحة الاعتصامات الشعبية ضد حكومة بغداد في 2012 بمنطقة السجن القديم في الجانب الأيمن للموصل، والتي مهّدت للسقوط الثالث لنينوى في 10 حزيران 2014.

دخان الحرب ينقشع

في 10 تموز عام 2017، ووسط دمار يُحيط كل المدينة، أعلن حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق، تحرير مدينة الموصل من تنظيم “داعش”.

اتّضح حينها حجم الخراب الذي أصابها. نحو 11 ألف وحدة سكنية تضررت أو سويت بالأرض ولاسيما في المدينة القديمة بالجانب الأيمن التي دفن الكثير من الأهالي المحاصرين تحت ركامها. ودمرت البنية التحتية من مستشفيات وجسور ومحطات مياه وكهرباء وشبكات نقلهما ومقار الدوائر الحكومية. 

كُشِف مُذّاك عن 98 مقبرة جماعية.

دفن تنظيم “داعش” الآلاف من المدنيين في قبور جماعية، وبعد 6 أعوام لم تُفتح منها إلا القليل، وذلك لغياب الإمكانيات الفنية، وفقاً للرواية الحكومية. وينتظر ذوو آلاف من المفقودين فتح البقية، وأكبرها مقبرة الخسفة جنوب الموصل، التي يُرجَّح أنها تضم نحو 6 آلاف رفات لمدنيين ومنتسبين في الجيش والشرطة العراقيين، هذا إلى جانب أن نصف سكان نينوى البالغة أعدادهم 4 ملايين، كانوا نازحين في مدن أخرى أو تلقفتهم المهاجر.

تجربة السنوات الـ14، والدّمار الذي أحدثته في نينوى على المستويين البشري والعمراني، أعادت الميل الشعبي لتربطه بالمركز في بغداد مجدداً، مع فقدان الثقة بأية شخصية أو كيان سياسي محلي، لتجد أحزابٌ أخرى عابرة للمحافظات، مثل “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان، فرصتها السانحة هناك، وتتقاسم بينها السلطات الإدارية والأمنية، ويتصدّر الفساد عناوين ما بعد “داعش”، تؤكد ذلك إجراءات هيئة النزاهة والأحكام القضائية، إذ اعتقل العشرات من الموظفين الحكوميين في دوائر البلدية والتسجيل العقاري وديوان محافظة نينوى ومجلس المحافظة السابق ورؤساء جمعيات الإسكان بتهم “هدر المال العام” والاختلاس والرشوة وتزوير أملاك عقارية عامة والتصرف بها، لدرجة حبس المحافظ الأسبق نوفل العاكوب، لخمس سنوات، و رعد العباسي، معاون المحافظ وزوج البرلمانية بسمية بسيم، بالحبس الشديد لخمسِ سنوات. وصدر حكم غيابي بحق بشار الكيكي، رئيس مجلس محافظة نينوى والبرلماني السابق بالسجن لخمس عشرة سنة، وأحكام تراوحت بين 20 و99 سنة بحق مديرين للتسجيل العقاري (طابو الأيسر) وموظفين فيها، وعدد من الدوائر الحكومية الأخرى. 

بعد سنوات الظلام الثلاث تحت حكم “داعش” ساد محافظة نينوى تسامحٌ شعبي غير مسبوق على الصعيدين القومي والطائفي، فمن جهة إقليم كردستان (القومية)، يتذكّر الناس استقباله مئات الآلاف من نازحي المحافظة عام 2014، وأيضاً لانتهاء السيطرة الكردية عام 2017على سهل نينوى، وحلول فصائل الحشد الشعبي محلها، أبرزها اللواء 30 الذي يضم مقاتلين غالبيتهم من الشبك الشيعة.

وعلى الجهة الطائفية، ونتيجة لمشاركة الحشد الشعبي في عمليات تحرير نينوى من سيطرة “داعش”، وصارت الفصائل عملياً بديلاً عنه، غُض الطرفُ عن مكاتبها الاقتصادية التي فرضت نسباً على المشاريع العامة واستولت على عقارات تابعة للدولة، واستحوذ الوقف الشيعي على مراقد ومزارات ومقامات ومساجد وعقارات مملوكة للوقف السني، لتعتلي صور قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، وأبو مهدي المهندس -اغتالهما الجيش الأمريكي بضربة صاروخية قرب مطار بغداد الدولي في الثالث من كانون الثاني عام 2020- وقادة فصائل أخرى، شوارع الموصل وتقاطعاتها الرئيسة.

ماذا تنتظر نينوى؟

يراهن البعض في نينوى على انتخابات مجالس المحافظات المقبلة، ويعدونها أول انتخابات ستجرى هناك دون وجود تحديات أمنية، مما يعني مشاركة جماهيرية فاعلة لاختيار حكومة محلية يكون ولاؤها لنينوى وليس لأحزاب من خارجها. 

وهناك أمل في المحافظة أن يكون بوسع الحكومة المنتظرة توجيه المال العام لتنفيذ مشاريع البنى التحتية وعلى رأسها المستشفيات، فضلاً امتصاص البطالة وإعادة الحياة لمشاريع القطاع الخاص على المستويين الزراعي والصناعي، والأهم من كل ذلك، ضمان عدم الدخول في صراعات سياسية، سواءً مع المركز في بغداد أو إقليم كردستان.

لكن هل تتحقّق هذه الآمال؟

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية  ”نيريج”