"طعام وعدو".. الرصاص والأغاني الصاخبة لخنازير كردستان
06 شباط 2024
الخنازير والبشر يخوضون صراعاً وجودياً على المكان في إقليم كردستان، ويسقط في الهجمات المتبادلة ضحايا.. هنا قصة معركة بين البشر والحيوانات تستعمل فيها حتى الأغاني كسلاح..
يركز استيفيان يونان نظره على أقدام الخنازير عندما يخفي نفسه عن أنظارها ليراقبها، فهو يبحث في أصابعها عن علامة تحدد له هدفه القادم.
ویمارس يونان (44 عاماً) صيد الخنازير منذ أكثر من 15 عاماً، وهو يستمتع كثيراً بهوايته في محيط قريته كوند كوسا الواقعة شمالي محافظة دهوك والمناطق الأخرى.
ولا تخلو هذه الهواية من المغامرة والخطورة، إذ أن المواجهة مع الخنازير ليست أمراً سهلاً، بل تتطلب جرأة وقوة وصبراً ومهارة.
ويحرص يونان على اصطياد الخنازير الذكور فقط، أما الإناث والخنانيص (صغار الخنزير) فلا يهتم لأمرها، كما يمتنع عن الصيد في موسم التكاثر.
“نعرف أنثى الخنزير من مشيتها البطيئة مقارنة بالذكر الذي يمشي سريعاً، كما أن حجم أصابعها أصغر من الذكر”، يقول لـ”جمّار”.
وثمة سببان يدفعان سكان قرى إقليم كردستان العراق إلى قتل الخنازير، الأول يتعلق بتناول لحومها من قبل زبائن مسيحيين والثاني لحماية المزارع والحقول منها.
يونان يصطادها للسبب الأول.
لكنه لا يفعل ذلك كل يوم، فهو يصطاد بشكل محدود لا يتجاوز مرتين شهرياً.
“صيد الخنزير مثير جداً. امتلاك الأسلحة ليس كافياً، فالأمر يتطلب خبرة ومعرفة بسلوك وطبيعة هذا الحيوان الذكي والقوي، علاوة على أن الخنزير البري هو حيوان يخرج من مخابئه على شكل قطعان، لذلك فإن صيده يتطلب التحضير الدقيق”.
وعندما يخرج هو وأصدقاؤه للصيد أثناء الليل يحرصون على الاختباء ساعات عدة وسط صمت تام ومن دون أي حركة لمراقبة خروج الخنازير من مخابئها بحثاً عن المياه والمأكل وسط الأحراش الكثيفة أو قرب البساتين والحقول، ومن ثم يستهدفونها بواسطة بندقية كلاشينكوف.
وتخرج الخنازير البرية في فصل الشتاء من مخابئها بحدود الساعة العاشرة صباحاً، وتستمر في البحث عن الطعام حتى نهاية المساء وتعود إلى مخابئها مجتمعة، أما في الصيف فتخرج أغلب الخنازير عند الغسق وتعود لمأواها عند شروق الشمس صباحاً.
ويبين يونان أن صيد الخنازير يحتاج إلى مجموعة من الصيادين كونها تخرج على شكل قطعان ما بين 10 و50 خنزيراً.
ويتطلب استهداف الخنزير سرعة ودقة، وفي أغلب الأحيان تُستخدم الكلاب للمساعدة في الهجوم على الخنازير المصابة بالرصاص لصيدها، إذ أنه في أغلب الأحيان تتهيّج الخنازير المصابة وتهاجم الإنسان بقوة.
“في العام الماضي أصيب أحد أصدقائي بجروح بالغة نتيجة تعرّضه لهجوم خنزير مصاب هائج، وما زال يعاني من الإصابة، كما أن خنزيراً هائجاً آخر هاجم راعياً قرب قريتنا وقتله”، يقول يونان.
“صيد قليل”
تعلن قوات حماية البيئة في إقليم كردستان العراق بين حين وآخر اعتقال صيادين ومتجاوزين على البيئة.
وتشير إحصائيات هذه القوات في محافظة دهوك، وهي المنطقة التي يمارس استيفان وأصدقاؤه ضمن حدودها صيد الخنازير، أنه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 اعتقل نحو 178 شخصاً لتجاوزهم على البيئة، خصوصاً في مجالات الصيد الجائر والتجاوز على الغابات.
وأحيل المتجاوزون إلى القضاء لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقهم، بحسب قائد القوة العميد جمال سعدو كوركي.
“المتجاوزون يواجهون عقوبة السجن وفرض غرامات مالية عليهم، فضلاً عن توقيعهم تعهُّدات قانونية بعدم تكرار تلك الممارسات”.
“حتى الآن لم نعتقل أي شخص بتهمة صيد الخنازير. صيد هذا الحيوان قليل في مناطقنا وهو محصور في عدد من القرى المسيحية” يقول كوركي لـ”جمّار”.
وتسيّر قوات حماية البيئة مفارز جوالة لمراقبة التجاوزات، كما ينتشر أكثر من 30 مقراً خاصاً في مختلف مناطق كردستان لمراقبة البيئة ونشر الوعي البيئي من خلال الندوات والفعاليات المتنوعة في القرى والأرياف النائية بهدف الحفاظ على التنوع البيئي والمساهمة في منع عمليات الصيد والتجاوز على الغابات، لكن تأثيرها ما زال محدوداً.
وأصدر برلمان الإقليم عام 2008 قانوناً لحماية البيئة يهدف إلى المحافظة عليها وتحسينها وتطويرها وحماية الطبيعة والتنوع الأحيائي والصحة العامة من الأخطار والأنشطة الضارة، فضلاً عن المحافظة على الموارد الطبيعية وتنميتها وترشيد استخدامها.
ويفرض القانون على المخالفين عقوبات بالحبس وغرامات مالية تتراوح بين 150 ألفاً و200 مليون دينار (الدولار يساوي 1530 ديناراً في السوق الموازية).
لكن يونان لا يلتفت على ما يبدو إلى هذه الموانع والعقوبات عندما يشتهي لحم الخنزير الذي يصفه بأنه لذيذ وخفيف ويفضله على لحوم الأبقار والأغنام.
“لحم الخنزير طبيعي وصحي أيضاً لأنه يأكل طعاماً نظيفاً مثل الثمار والنباتات والبقوليات الطازجة، على عكس لحوم الأبقار والأغنام التي تربى في المزارع وتلقح بأدوية ومواد كيمياوية تؤثر على صحة الإنسان”.
والخنزير حيوان ثديي يأكل اللحوم والنباتات، وتستأنسه بعض شعوب العالم لاستخدام لحمه كطعام أو استخدام جلده في الصناعات الجلدية واستخدام شعره في صناعة الفرش، وعلى الرغم من أن البعض يعده ثروة حيوانية، إلا أن المسلمين واليهود وبعض الطوائف المسيحية يحرمون لحمه.
مواجهات بالأغاني الصاخبة
يشكو مزارعون عديدون من هجمات الخنازير على بساتينهم، والتي تلحق أضراراً ودماراً بمحاصيلهم وحقولهم.
ويقول عزيز عبد الله، وهو مزارع في منطقة حاج عمران شمال أربيل، إنه في مواجهة دائمة مع الخنازير ويحرس مزرعته ليلاً لإنقاذ ما تبقى من محاصيله، ذلك أن قطعان الخنازير اجتاحت المزرعة مرات عدة ودمرت المحاصيل وخلفت أضراراً كبيرة.
ونتيجة إتلاف الخنازير كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية، تكبد عبد الله خسارة مالية تجاوزت تسعة ملايين دينار.
أما رسول حسين، مزارع في منطقة رابرين بمحافظة السليمانية، فيقول لـ”جمّار” إن “المزارعين هنا مشغولون بحماية المزارع من هجمات الخنازير أكثر من انشغالهم بالزراعة نفسها”.
ويستخدم حسين كلاب الحراسة للمساعدة في حماية المزرعة، كما وضع مكبرات صوت ضخمة تبث أغاني صاخبة لترعب الخنازير وتصد هجماتها لأنها تخشى الأصوات العالية.
وتنتشر في العراق ثلاثة أنواع من الخنازير، هي الخنازير البيض وهي لا تهدد حياة الإنسان، لكنها تلحق أضراراً كبيرة بالحقول والبساتين، والخنازير ذات اللون الأسود وهي تظهر رد فعل خطيراً إذا حاول الإنسان إيذاءها، والثالثة رمادية اللون التي تعد الأكثر خطراً وشراسة.
ويبلغ طول جسم الخنزير البري الكبير نحو 180 سم، ويصل ارتفاعه إلى نحو 110 سم، فيما يبلغ وزنه بين 100 و150 كغم. ويتميز الخنزير بحاسة شم قوية، إذ يشعر برائحة الإنسان على بعد 400 متر.
تكاثر لا تقهره الظروف
توجد الخنازير بكثرة في إقليم كردستان، وخصوصاً في المناطق الجبلية الوعرة والمناطق القريبة من الحقول والبساتين، والنوع الأكثر انتشاراً هناك هو الخنزير الأسود، بحسب الطبيب البيطري سليمان تمر.
ولم تؤثر الحروب والعمليات العسكرية التي شهدتها المنطقة في عدد الخنازير، فهي في تزايد مستمر كونها تلد بكثرة مقارنة مع الحيوانات البرية الأخرى.
ويبدأ موسم التزاوج والتكاثر عند الخنزير البري بين شهر تشرين الثاني وكانون الثاني، ويولد الصغار بعد أربعة أشهر من الحمل، وتلد أنثى الخنزير بين 4 و8 صغار.
ويمثل لحم الخنزير غذاءً مهماً لدول أوروبية وأميركية وآسيوية. وتقول بعض الإحصائيات إن لحم الخنزير الذي يأكله بعض سكان العالم في السنة يعادل ربع الكمية التي يتغذى بها الناس من اللحوم.
ويوجد في العالم نحو مليار رأس من الخنزير، يمتلك الصينيون نحو نصفها، وتحتل الولايات المتحدة المركز الثاني في إنتاج الخنازير، والبرازيل أكبر منتج للخنازير في أميركا الجنوبية.
صراع مع الإنسان
یسعی ناشطون بيئيون في كردستان إلى حماية الخنازير من عمليات القتل من قبل المزارعين وبعض الأشخاص الآخرين.
ويقول الناشط نبز هوريني لـ”جمّار” إن الخنازير تفقد مأواها يوماً بعد آخر بسبب التوسع في عمليات إزالة الغابات لأغراض الزراعة والتنمية العمرانية، وهي تخوض صراعاً مباشراً مع الإنسان، وفي الوقت ذاته يُنظر إلى الخنازير على أنها حيوانات ضارة، ولذلك تتعرض للقتل والصيد بسبب مهاجمتها المحاصيل، ما يعني أن هذا الحيوان معرض للتهديد والخطر.
ويوضح هوريني أن الخنازير تلعب دوراً مهماً في النظام البيئي للغابة من خلال حرث الأرض ونشر البذور أثناء بحثها عن الطعام، فضلاً عن تهوية الأرض بما يساهم في إدخال المياه والمواد العضوية إليها وتنظيفها من الفضلات.
“كما أن الخنزير بمثابة مخزن تتجمع فيه الفيروسات ويمنع انتشارها في البيئة، فضلاً عن أنه مصدر غذاء جيد للحيوانات البرية التي تعتمد في أكلها على اللحوم مثل النمور والدببة والذئاب وغيرها من الحيوانات البرية”.
ويشير إلى أن الخنزير يشكل عنصراً اقتصادياً مهماً، إذ تستفيد الدول المتقدمة من هذا الحيوان في العديد من الصناعات، منها الصناعات الجلدية واستخدام شعره لصناعة الفرشات، كما أن دهون الخنزير تدخل في صناعة حقن الإنسولين وجلده يستخدم في صناعة خيوط العمليات الجراحية.
ويرى هوريني أن الإنسان هو السبب في تجاوز الخنازير على بعض المزارع والحقول، “إذ أن جشع الإنسان في الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي وتدمير الغابات من دون أي اعتبار للطبيعة والحياة البرية، يدفع بهذا الحيوان مضطراً للهجوم على المزارع والحقول في بعض الأماكن من أجل توفير مأكل له”.
وتطوع هوريني مع مجموعة من أصدقائه منذ أكثر من 20 عاماً لحماية الخنازير والحيوانات البرية الأخرى في السليمانية.
وهو يدرك أن التقرب من الخنازير يشكل خطراً على حياته، لكنه يراقب قطعان هذه الحيوانات من بعيد وبشكل مستمر لإبعاد خطر الصيادين عنها ونشر الوعي بضرورة حمايتها، فضلاً عن توفير المياه اللازمة والمأكل للخنازير والحيوانات البرية الأخرى في الأجواء التي يصعب الحصول فيها على المأكل والمياه، خصوصاً في أيام الشتاء القارسة والثلجية وأيام الصيف التي تشتد فيها الحرارة.
قتل لا يتوقف
بعيداً عن مساعي وقوانين الحفاظ على البيئة والتنوع الأحيائي، يواصل يونان استمتاعه بصيد الخنازير، ويعد اليوم الذي يصطاد فيه خنزيراً يوم احتفال، فيقيم حفلة شواء لأصدقائه وسط أجواء المرح والأغاني والدبكة حتى ساعات متأخرة من الليل.
وفي حال اعتذار البعض من حضور الحفلة، يرسل إليهم قطعاً من لحم الخنزير كهدية.
ويبقى صيد الخنازير هواية يونان المفضلة التي يمارسها بين حين وآخر بهدف التسلية والرياضة وقضاء وقت الفراغ، ويرفض في الوقت ذاته مجيء صيادين آخرين إلى منطقته حفاظاً على الخنازير المتواجدة فيها، حتى أنه وضع لافتة في محيط قريته كتب عليها “ممنوع الصيد”.
بينما يواصل عبد الله حماية مزرعته بالبندقية والكلاب من هجمات الخنازير، ولا يتردد في قتلها إذا كان وجودها يلحق أضراراً بمحاصيله الزراعية وأمواله.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
يركز استيفيان يونان نظره على أقدام الخنازير عندما يخفي نفسه عن أنظارها ليراقبها، فهو يبحث في أصابعها عن علامة تحدد له هدفه القادم.
ویمارس يونان (44 عاماً) صيد الخنازير منذ أكثر من 15 عاماً، وهو يستمتع كثيراً بهوايته في محيط قريته كوند كوسا الواقعة شمالي محافظة دهوك والمناطق الأخرى.
ولا تخلو هذه الهواية من المغامرة والخطورة، إذ أن المواجهة مع الخنازير ليست أمراً سهلاً، بل تتطلب جرأة وقوة وصبراً ومهارة.
ويحرص يونان على اصطياد الخنازير الذكور فقط، أما الإناث والخنانيص (صغار الخنزير) فلا يهتم لأمرها، كما يمتنع عن الصيد في موسم التكاثر.
“نعرف أنثى الخنزير من مشيتها البطيئة مقارنة بالذكر الذي يمشي سريعاً، كما أن حجم أصابعها أصغر من الذكر”، يقول لـ”جمّار”.
وثمة سببان يدفعان سكان قرى إقليم كردستان العراق إلى قتل الخنازير، الأول يتعلق بتناول لحومها من قبل زبائن مسيحيين والثاني لحماية المزارع والحقول منها.
يونان يصطادها للسبب الأول.
لكنه لا يفعل ذلك كل يوم، فهو يصطاد بشكل محدود لا يتجاوز مرتين شهرياً.
“صيد الخنزير مثير جداً. امتلاك الأسلحة ليس كافياً، فالأمر يتطلب خبرة ومعرفة بسلوك وطبيعة هذا الحيوان الذكي والقوي، علاوة على أن الخنزير البري هو حيوان يخرج من مخابئه على شكل قطعان، لذلك فإن صيده يتطلب التحضير الدقيق”.
وعندما يخرج هو وأصدقاؤه للصيد أثناء الليل يحرصون على الاختباء ساعات عدة وسط صمت تام ومن دون أي حركة لمراقبة خروج الخنازير من مخابئها بحثاً عن المياه والمأكل وسط الأحراش الكثيفة أو قرب البساتين والحقول، ومن ثم يستهدفونها بواسطة بندقية كلاشينكوف.
وتخرج الخنازير البرية في فصل الشتاء من مخابئها بحدود الساعة العاشرة صباحاً، وتستمر في البحث عن الطعام حتى نهاية المساء وتعود إلى مخابئها مجتمعة، أما في الصيف فتخرج أغلب الخنازير عند الغسق وتعود لمأواها عند شروق الشمس صباحاً.
ويبين يونان أن صيد الخنازير يحتاج إلى مجموعة من الصيادين كونها تخرج على شكل قطعان ما بين 10 و50 خنزيراً.
ويتطلب استهداف الخنزير سرعة ودقة، وفي أغلب الأحيان تُستخدم الكلاب للمساعدة في الهجوم على الخنازير المصابة بالرصاص لصيدها، إذ أنه في أغلب الأحيان تتهيّج الخنازير المصابة وتهاجم الإنسان بقوة.
“في العام الماضي أصيب أحد أصدقائي بجروح بالغة نتيجة تعرّضه لهجوم خنزير مصاب هائج، وما زال يعاني من الإصابة، كما أن خنزيراً هائجاً آخر هاجم راعياً قرب قريتنا وقتله”، يقول يونان.
“صيد قليل”
تعلن قوات حماية البيئة في إقليم كردستان العراق بين حين وآخر اعتقال صيادين ومتجاوزين على البيئة.
وتشير إحصائيات هذه القوات في محافظة دهوك، وهي المنطقة التي يمارس استيفان وأصدقاؤه ضمن حدودها صيد الخنازير، أنه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 اعتقل نحو 178 شخصاً لتجاوزهم على البيئة، خصوصاً في مجالات الصيد الجائر والتجاوز على الغابات.
وأحيل المتجاوزون إلى القضاء لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقهم، بحسب قائد القوة العميد جمال سعدو كوركي.
“المتجاوزون يواجهون عقوبة السجن وفرض غرامات مالية عليهم، فضلاً عن توقيعهم تعهُّدات قانونية بعدم تكرار تلك الممارسات”.
“حتى الآن لم نعتقل أي شخص بتهمة صيد الخنازير. صيد هذا الحيوان قليل في مناطقنا وهو محصور في عدد من القرى المسيحية” يقول كوركي لـ”جمّار”.
وتسيّر قوات حماية البيئة مفارز جوالة لمراقبة التجاوزات، كما ينتشر أكثر من 30 مقراً خاصاً في مختلف مناطق كردستان لمراقبة البيئة ونشر الوعي البيئي من خلال الندوات والفعاليات المتنوعة في القرى والأرياف النائية بهدف الحفاظ على التنوع البيئي والمساهمة في منع عمليات الصيد والتجاوز على الغابات، لكن تأثيرها ما زال محدوداً.
وأصدر برلمان الإقليم عام 2008 قانوناً لحماية البيئة يهدف إلى المحافظة عليها وتحسينها وتطويرها وحماية الطبيعة والتنوع الأحيائي والصحة العامة من الأخطار والأنشطة الضارة، فضلاً عن المحافظة على الموارد الطبيعية وتنميتها وترشيد استخدامها.
ويفرض القانون على المخالفين عقوبات بالحبس وغرامات مالية تتراوح بين 150 ألفاً و200 مليون دينار (الدولار يساوي 1530 ديناراً في السوق الموازية).
لكن يونان لا يلتفت على ما يبدو إلى هذه الموانع والعقوبات عندما يشتهي لحم الخنزير الذي يصفه بأنه لذيذ وخفيف ويفضله على لحوم الأبقار والأغنام.
“لحم الخنزير طبيعي وصحي أيضاً لأنه يأكل طعاماً نظيفاً مثل الثمار والنباتات والبقوليات الطازجة، على عكس لحوم الأبقار والأغنام التي تربى في المزارع وتلقح بأدوية ومواد كيمياوية تؤثر على صحة الإنسان”.
والخنزير حيوان ثديي يأكل اللحوم والنباتات، وتستأنسه بعض شعوب العالم لاستخدام لحمه كطعام أو استخدام جلده في الصناعات الجلدية واستخدام شعره في صناعة الفرش، وعلى الرغم من أن البعض يعده ثروة حيوانية، إلا أن المسلمين واليهود وبعض الطوائف المسيحية يحرمون لحمه.
مواجهات بالأغاني الصاخبة
يشكو مزارعون عديدون من هجمات الخنازير على بساتينهم، والتي تلحق أضراراً ودماراً بمحاصيلهم وحقولهم.
ويقول عزيز عبد الله، وهو مزارع في منطقة حاج عمران شمال أربيل، إنه في مواجهة دائمة مع الخنازير ويحرس مزرعته ليلاً لإنقاذ ما تبقى من محاصيله، ذلك أن قطعان الخنازير اجتاحت المزرعة مرات عدة ودمرت المحاصيل وخلفت أضراراً كبيرة.
ونتيجة إتلاف الخنازير كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية، تكبد عبد الله خسارة مالية تجاوزت تسعة ملايين دينار.
أما رسول حسين، مزارع في منطقة رابرين بمحافظة السليمانية، فيقول لـ”جمّار” إن “المزارعين هنا مشغولون بحماية المزارع من هجمات الخنازير أكثر من انشغالهم بالزراعة نفسها”.
ويستخدم حسين كلاب الحراسة للمساعدة في حماية المزرعة، كما وضع مكبرات صوت ضخمة تبث أغاني صاخبة لترعب الخنازير وتصد هجماتها لأنها تخشى الأصوات العالية.
وتنتشر في العراق ثلاثة أنواع من الخنازير، هي الخنازير البيض وهي لا تهدد حياة الإنسان، لكنها تلحق أضراراً كبيرة بالحقول والبساتين، والخنازير ذات اللون الأسود وهي تظهر رد فعل خطيراً إذا حاول الإنسان إيذاءها، والثالثة رمادية اللون التي تعد الأكثر خطراً وشراسة.
ويبلغ طول جسم الخنزير البري الكبير نحو 180 سم، ويصل ارتفاعه إلى نحو 110 سم، فيما يبلغ وزنه بين 100 و150 كغم. ويتميز الخنزير بحاسة شم قوية، إذ يشعر برائحة الإنسان على بعد 400 متر.
تكاثر لا تقهره الظروف
توجد الخنازير بكثرة في إقليم كردستان، وخصوصاً في المناطق الجبلية الوعرة والمناطق القريبة من الحقول والبساتين، والنوع الأكثر انتشاراً هناك هو الخنزير الأسود، بحسب الطبيب البيطري سليمان تمر.
ولم تؤثر الحروب والعمليات العسكرية التي شهدتها المنطقة في عدد الخنازير، فهي في تزايد مستمر كونها تلد بكثرة مقارنة مع الحيوانات البرية الأخرى.
ويبدأ موسم التزاوج والتكاثر عند الخنزير البري بين شهر تشرين الثاني وكانون الثاني، ويولد الصغار بعد أربعة أشهر من الحمل، وتلد أنثى الخنزير بين 4 و8 صغار.
ويمثل لحم الخنزير غذاءً مهماً لدول أوروبية وأميركية وآسيوية. وتقول بعض الإحصائيات إن لحم الخنزير الذي يأكله بعض سكان العالم في السنة يعادل ربع الكمية التي يتغذى بها الناس من اللحوم.
ويوجد في العالم نحو مليار رأس من الخنزير، يمتلك الصينيون نحو نصفها، وتحتل الولايات المتحدة المركز الثاني في إنتاج الخنازير، والبرازيل أكبر منتج للخنازير في أميركا الجنوبية.
صراع مع الإنسان
یسعی ناشطون بيئيون في كردستان إلى حماية الخنازير من عمليات القتل من قبل المزارعين وبعض الأشخاص الآخرين.
ويقول الناشط نبز هوريني لـ”جمّار” إن الخنازير تفقد مأواها يوماً بعد آخر بسبب التوسع في عمليات إزالة الغابات لأغراض الزراعة والتنمية العمرانية، وهي تخوض صراعاً مباشراً مع الإنسان، وفي الوقت ذاته يُنظر إلى الخنازير على أنها حيوانات ضارة، ولذلك تتعرض للقتل والصيد بسبب مهاجمتها المحاصيل، ما يعني أن هذا الحيوان معرض للتهديد والخطر.
ويوضح هوريني أن الخنازير تلعب دوراً مهماً في النظام البيئي للغابة من خلال حرث الأرض ونشر البذور أثناء بحثها عن الطعام، فضلاً عن تهوية الأرض بما يساهم في إدخال المياه والمواد العضوية إليها وتنظيفها من الفضلات.
“كما أن الخنزير بمثابة مخزن تتجمع فيه الفيروسات ويمنع انتشارها في البيئة، فضلاً عن أنه مصدر غذاء جيد للحيوانات البرية التي تعتمد في أكلها على اللحوم مثل النمور والدببة والذئاب وغيرها من الحيوانات البرية”.
ويشير إلى أن الخنزير يشكل عنصراً اقتصادياً مهماً، إذ تستفيد الدول المتقدمة من هذا الحيوان في العديد من الصناعات، منها الصناعات الجلدية واستخدام شعره لصناعة الفرشات، كما أن دهون الخنزير تدخل في صناعة حقن الإنسولين وجلده يستخدم في صناعة خيوط العمليات الجراحية.
ويرى هوريني أن الإنسان هو السبب في تجاوز الخنازير على بعض المزارع والحقول، “إذ أن جشع الإنسان في الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي وتدمير الغابات من دون أي اعتبار للطبيعة والحياة البرية، يدفع بهذا الحيوان مضطراً للهجوم على المزارع والحقول في بعض الأماكن من أجل توفير مأكل له”.
وتطوع هوريني مع مجموعة من أصدقائه منذ أكثر من 20 عاماً لحماية الخنازير والحيوانات البرية الأخرى في السليمانية.
وهو يدرك أن التقرب من الخنازير يشكل خطراً على حياته، لكنه يراقب قطعان هذه الحيوانات من بعيد وبشكل مستمر لإبعاد خطر الصيادين عنها ونشر الوعي بضرورة حمايتها، فضلاً عن توفير المياه اللازمة والمأكل للخنازير والحيوانات البرية الأخرى في الأجواء التي يصعب الحصول فيها على المأكل والمياه، خصوصاً في أيام الشتاء القارسة والثلجية وأيام الصيف التي تشتد فيها الحرارة.
قتل لا يتوقف
بعيداً عن مساعي وقوانين الحفاظ على البيئة والتنوع الأحيائي، يواصل يونان استمتاعه بصيد الخنازير، ويعد اليوم الذي يصطاد فيه خنزيراً يوم احتفال، فيقيم حفلة شواء لأصدقائه وسط أجواء المرح والأغاني والدبكة حتى ساعات متأخرة من الليل.
وفي حال اعتذار البعض من حضور الحفلة، يرسل إليهم قطعاً من لحم الخنزير كهدية.
ويبقى صيد الخنازير هواية يونان المفضلة التي يمارسها بين حين وآخر بهدف التسلية والرياضة وقضاء وقت الفراغ، ويرفض في الوقت ذاته مجيء صيادين آخرين إلى منطقته حفاظاً على الخنازير المتواجدة فيها، حتى أنه وضع لافتة في محيط قريته كتب عليها “ممنوع الصيد”.
بينما يواصل عبد الله حماية مزرعته بالبندقية والكلاب من هجمات الخنازير، ولا يتردد في قتلها إذا كان وجودها يلحق أضراراً بمحاصيله الزراعية وأمواله.