"نص ردن".. الملابس ليست وصفاً لأخلاق المرأة في الصيف 

زينب المشاط

17 آب 2023

كانت أمي ترى أن ملابسي لا تُرضي الذوق العام! كنت أسألها دائماً وأنا أتصفح في ألبوم صورها: "ليش كنتي تلبسين قصير وبراحتج وآني تحاسبيني على لبسي إللي هو هواية محتشم بالنسبة للبسكم بذاك الوقت؟".. "زمنا غير زمنكم!"، كانت تُجيب... هل يُمكن للبس حقاً أن يكون وصفاً لأخلاق المرأة؟

“أنت جسمج يختلف”، كانت أُمّي تردّ عليّ كلّما جادلتها بشأن منعها إياي من ارتداء ملابس بأكمام قصيرة -نص ردن-، بينما تسمح لأختي الصغيرة بذلك. 

جسمي نفسه، سيمنعني بعد أعوام، في صيف 2016، من ارتداء فستان يمنحني البرودة وسط قيظ بغداد. 

كان فستاناً قطنياً طويلاً، سهل الارتداء، أبيض اللون ويحتوي على خطوط عرضية زرقاء، بارداً جداً وخفيفاً يتسلل عبره الهواء. لكني كُلما ارتديته دخلت شِجاراً مع الرجل الذي كنت أُحب. وَجَدَهُ مُغرياً ويبرز تفاصيل ردفيَّ. كيف؟! فهو فستان فضفاض لا يأخذ شكل جسدي الذي تضاعف حقدي عليه! 

جسدي الذي كان ممتلئاً، اضطرني لارتداء ملابس فضفاضة تخفي شكله، أما إذا كانت خامة الملابس خفيفة، فيجب عليّ أن أرتدي تحتها “بطانة” لتحجب رؤية الناظرين عنه. عن كابوس اللبس في أصياف العراق أتحدث. 

عمل فني: ميس السراي

“نساء نص ردن وما يستحن 

تعاني نساءٌ كثيرات في العراق من سلاطة الآراء الاجتماعية التي تفرض عليهن ما يلبسن. تحدّثت إلى نساء من مناطق مختلفة لأعرف كيف مررن بمآزق الصيف وقيظه.  

قالت زينب نصر، 33 عاماً، التي تسكن منطقة الشعب، شمال شرقي بغداد، إنها تعاني إلى اليوم هذه المعضلة. 

“من اروح للمول علمود اشتري ملابس.. كل الملابس القطنية والمريحة تكون نص ردن وخامتها حلوة، أما خامة الملابس الخاصة بالمحجبات تكون سيئة”. 

نصر محجبة، وعندما تحاول ارتداء خامة قماش صيفية خفيفة، تضطر للبس العديد من البطانات تحتها، لأنها قد تشفّ وتظهر أجزاءً من الجسد، أو تظهره من خلال التصاقه به. 

قد تضفي البطانة “ستراً” كما يُقال. لكني لا أعرف ستر من ماذا؟ فأنا ارتدي ثوباً يستر جسدي وأُعزّزه بآخر.. أتساءل دائماً ما الذي يستر المستور؟  

فإضافة إلى الأثواب طويلة الأكمام التي ترتديها المرأة -سواء كانت سافرة مثلي أم محجبة مثل زينب نصر- علينا أيضاً ارتداء بطانة، أي ثوب مضاعف، في صيف تتجاوز درجة الحرارة فيه 50 مئوية، ونحاول دائماً اختيار قماش خفيف مثل “الكودري” أو “الكشمير” أو “الفانيلة القطنية” لنقنع أنفسنا بأنها باردة إذا ما ارتديناها تحت أثوابنا. 

لكن في الواقع، أننا نلبس ثوبين معاً، ما يزيد علينا الحرارة.  

لا تحرم النساء من ارتداء الملابس المريحة فقط، بل مُنعتُ من الألوان الزاهية التي تخفّف من أذى سهام الشمس على الجلد.  

يتطلّب فصل الصيف الساخن ألواناً فاتحةً، لكني كنت مقيدة دائماً باختيار الألوان المُعتمة. فاللون الفاتح أو المبهج “يُلفت الأنظار”، كما أخبرني الجميع آنذاك. لهذا اخترت ألواناً غامقة، وفقدت شغفي بالألوان المبهجة، وصرت إلى اليوم لا أجيد اختيارها. 

“من اطلع من البيت أتنقّل (مستخدمة وسائل النقل العام) أو أراجع دوائر حكومية أو أروح للسوق ألبس ملابس غامقة حتى لا ألفت انتباه”. تفعل نصر مثلما فعلت. 

الألوان الفاتحة والمبهجة ترتديها نصر، فقط، عندما تخرج مع أسرتها في عزومات خاصة أو زيارات عائلية. 

“الألوان الفسفورية، وقميص قصير بالكاد يخفي (شكل جسدي) هذا ما ارتديه فقط في الزيارات العائلية أو من اطلع مع أهلي لمطعم”. 

أما المحجبة، فإذا ارتدت لوناً فاتحاً ستكون بحاجة إلى “بطانة”.  

شهد حسين، (27 عاماً)، من محافظة البصرة، تقول “مرّة بالجامعة لبست قميص أبيض ولبست تحته بلوز بدون ردن بالصيف وكل الموجودين انتقدوني وقالوا: لازم تلبسين بلوز ردن طويلة تحت القميص”. 

لم تكن الألوان المبهجة مزعجة بالنسبة لنا لأنها تحتاج الى بطانات كثيرة تخفي جسدنا، نحن نتجنبها أيضاً لأننا نوصف بـ(ما نستحي) بنظر البعض لو لبسناها، تقول بريان أحمد من السليمانية (30 عاماً) “كنت أقف جنب أحد الزملاء ذات مرة ومرّت بنت لابسة لونا مبهجا وصارخا، فقال الشخص الذي يقف جنبي (شنو هذا اللون الي لابسته هذي ما تستحي)”. 

زمننا غير زمنكم 

حاولتِ النساء وبعد الانفتاح الإلكتروني الذي شهده العراق عام 2003 مواكبة الموضة، وذاك مختلف عن اختيار ملابس تظهر الأجساد، ومع ذلك فقد واجهن الكثير من المضايقات، حتى أن البعض يطلق علينا مصطلح “نسوان نص ردن” فقط لأننا نختار ملابس يجدها المجتمع أكثر انفتاحاً، لأنها لا تتوافق مع ذائقة الكثيرين كقميص بأكمام قصيرة، أو تنورة قصيرة لا تعلو فوق مفصل الركبة. 

بريان تقول “لبسي مو غير مقبول اجتماعياً وليس عارياً لكني اتجنب الخروج لأي سوق في السليمانية بثوب (بأكمام قصيرة) حتى ما أعرض نفسي  للكلاب”، كما تصف المتحرشين. 

المعاناة نفسها تواجه هاجر التميمي (40 عاماً) وهي مدرسة لغة انكليزية في منطقة شارع فلسطين ببغداد، تصف نفسها “حرة” و”متمردّة” فقط لأنها ترتدي بلوزة (نص ردن) أو بنطلون جينز. 

أنا أيضاً لا أجد أن ملابسي عارية، ارتدي تنورة قصيرة، وجينزا وفستانا قصيرا لكنه لا يتجاوز مفصل ركبة الساق، ولا أهتم لو وصفت من قبل أحدهم بأني (فتاة نص ردن). وبالرغم من ذلك كانت أمي ترى أن ملابسي لا تُرضي الذوق العام! كنت أسألها دائماً وأنا أتصفح في ألبوم صورها “ليش كنتي تلبسين قصير وبراحتج وآني تحاسبيني على لبسي إللي هو هواية محتشم بالنسبة للبسكم بذاك الوقت؟” 

“زمنّا غير زمنكم!”، كانت تجيب. 

الجملة ذاتها، ترددها الكثير من السيدات، فانتصار جابر، وهي ناشطة مدنية يسارية، تقول “بناتي يسألوني دائماً من يشوفون صوري ليش كنتي تلبسين براحتج، ومن يطلعون للشارع  أكولهم لبسوا شي محتشم حتى تاخذون راحتكم لأن زمنا غير زمنكم”. 

عمل فني: ميس السراي

“امي كانت تقول ابوج ياخذني على ابو نؤاس وكانت النساء ترتدي تنورة قصيرة أو بلوزة بأكمام قصيرة، أما اليوم فالأحزاب حولت الدين إلى تجارة، فضلاً عن غياب الثقافة، والجهل الذي لعب دورا كبيرا بالمجتمع، والاخلاق تغيرت قبل تربينا انه عيب تتدخل بجارك وتباوع على بنت جارك اليوم وفي بعض المجتمعات الرجل صار يتحرّش ببنت عمه”، تقول هاجر.  

بيد أن هذه التغيرات تجاه لبس المرأة لم تبدأ عام 2003.  

ارتدت انتصار ومجايلاتها في الستينات “الميني جوب، والتنورة القصيرة، والبلوزة ذات الأكمام القصيرة أو من دون أكمام”، لمواكبة الموضة آنذاك.  

“لو لاحظتي الصور في السبعينات كنا شابات صغيرات ونطلع بنص ردن”، تروي الباحثة في علم الاجتماع لاهاي عبد الحسين أن في سبعينيات القرن الماضي كانت هناك حداثة وانفتاح، وكانت المرأة تتابع الموضة وتتبعها، ولم يكن التحرش منتشراً أو تقيد حرية اختيارهن لملبسهن. 

الأمر تغيّر بعد الحرب العراقية الإيرانية ووقوع الضحايا والحزن الذي خيم على المجتمع أحدث تغييرا كبيراً “سادت موجات حزن وألم وأثرت كثيراً حتى على المرأة، بعدها دخلنا مرحلة الحصار التي كانت أكثر قسوة”، تقول عبد الحسين. 

تستذكر انتصار التي كانت موظفة في دائرة حكومية حين بدأت الحملة الإيمانية بعد الحرب العراقية الإيرانية، القرار الذي فرض على النساء بلبس الملابس الطويلة، “التنورة القصيرة أو البنطرون أوبلوزة بنص ردن ممنوعة واللي ما ينفذ يتعاقب”. 

لم يقتصر التدخل في لبس المرأة آنذاك على دوائر الدولة. 

رقباء في كل مكان 

امتزاج الدين بالسياسة بعد 2003 أثر كثيراً في المجتمع، هذا ما تشير له أغلب النساء اللواتي تحدّثت إليهن. 

بريان أحداهن “بسبب الإسلام السياسي، وإعلان الثورة الإسلامية في إيران تأثر مجتمعنا وفرضت قيود على المرأة باختيار زيّها.. قبل عامين تقريبا أقام الإتحاد الإسلامي الكردستاني مؤتمراً وحجّب فيه أكثر من 100 بنت قاصر لا تعي معنى الحجاب من الأساس”.  

لم تعد الرقابة على ما ترتديه المرأة مقتصراً على الدولة، بل بات المجتمع بأفراده، سواء من أهل المرأة أو الغرباء، رقباء على لبسها في العلن.  

تذكر شهد التي كانت حاضرة مع زملائها طقساً دينياً في أحد شوارع البصرة، وقد حرصت على ارتداء ثوب أسود طويل يناسب هذا الطقس، ووضعت شالاً فوق رأسها لكنه لم يغطِّ شعرها بالكامل، فتعرضت لموقف غاية بالحرج “رآني رجل كبير وقتها وظل يصيح بنص الشارع ما تستحين مطلعة شعرج غطي شعرج، لولا زملائي ما أعرف شنو كان صار، مع أني كنت أقف بعيدة عنه بمسافة كبيرة”. 

الحرج والتقييد يطال المرأة في العراق من شماله إلى جنوبه، بغض النظر عمّا إذا كانت سافرة أو محجبة. هاجر هي الأخرى تعرضت لموقف مشابه بينما كانت تستقل الحافلة “امرأة عجوز شافتني جالسة بالباص ولابسة قميص وبنطرون فقالت لي: يابنتي دحطي شال او فوطة على راسج، احرجتني أمام كل الناس”. 

الأسرة أيضاً تقيّد المرأة باختيار زيّها، لكن خوفاً على ابنتهم كما تقول بريان “من باب الحرص وحتى لا نتعرّض لموقف سخيف أهلي دائماً يسألوني متأكدة تلبسين هذا اللبس وتطلعين بي؟”.  

مصطفى (فضل الإشارة إلى اسمه الأول)، وهو إعلامي ومعد برامج يوافق بريان الرأي لكنه يجد أيضاً أن الرجل “يقبل يتفرج على نساء أخريات، لكن ما يقبل أحد يتفرج على امرأة تخصه”. 

لهذا يحاول الرجل أن يمنع المرأة “التابعة له” من ارتداء أي زيّ يجعل منها محط أنظار رجال آخرين “السبب الأول لهذا المنع حتى لا تجي حجاية ع الرجال، يعني لا أحد يقول شوف هذا بلا غيرة بحيث اخته او زوجته لابسة براحتها”، أردف مصطفى. 

عقاب بالعلن  

لا يقتصر دور المجتمع على الرقابة والفرض، بل يتعدّاه للعقاب. 

كانت هاجر طالبة في جامعة الموصل وخرجت إلى سوق سرجنار في الموصل مع صديقتها التركمانية التي ارتدت بنطرون (ستريج)، “فقام رجال بالسوق وداروا على الستريج تيزاب (الأسيد) وهمزين صديقتي ما احتركت هواية”. 

التحرش الجسدي لا يختلف عن التعدي الجسدي مثل محاولة الحرق، وهو ما بات أمراً شائعاً.  

تحكي لي زينب نصر في أحد ايام الصيف الحارة، “فات واحد بالماطور ولمس مؤخرتي وانهزم، لا أكدر ألحك عليه، وإذا اصيح الشارع فارغ محد يسمعني”. 

أما بريان، فلم يحمِها وجودها في السليمانية ونشأتها هناك من التحرش بسبب ارتدائها بلوزة بلا أكمام حين كانت فتيّة بسن الخامسة عشرة “كنت البس بلوز بدون ردن، وقام أحدهم بلمس صدري في السوق”. 

الخطر قد يكون مناطقياً أيضاً، فاختيار الملابس بالنسبة للنساء تختلف بين البصرة وبغداد والموصل وكردستان، تقول هاجر “بيت أهلي بالحلة وإذا أروح هناك أكون حاطة شال بحقيبتي وبس أوصل ألبسه”.  

حتى داخل بغداد تختلف حرية المرأة في اختيار ملابسها من منطقة لأخرى، يقول مصطفى الجبوري “الملابس التي أسمح لأختي أو أمي بارتدائها في منطقة معيّنة ببغداد لا أسمح لهنّ بلبسها في مناطق أخرى ممكن تعرضهن لتحرش أو اعتداء جسدي وليس لفظياً فقط”.  

عمل فني: ميس السراي

قد لا يكون الأذى جسدياً مباشراً أحياناً، ولكنه يتحول إلى أذى يطال خصوصية المرأة وسمعتها.  

في محافظة البصرة تعرضت صديقة شهد حسين التي كانت تتجول مع عائلتها في شوارع البصرة مساءً “من شافوها بعض الشباب وانتبهوا انه هي مُلفتة (بلبسها) ظلوا ياخذولها صور وبعدها لكيناهم ناشريلها فيديوهات على مواقع التواصل”. 

الفتاة وعائلتها تعاملت بلا مبالاة مع الموقف، على عكس شهد التي وجدته غاية بالخطورة على الفتاة “مع وجود جهات تابعة لأحزاب دينية ممكن أن تشكل خطرا على البنت عندما تضبط فيديوهات مثل هذه”. 

هل نحن مزدوجات؟ 

“الله موجود بس بالعراق” تقولها شهد ضاحكة، فهي عبارة قرأتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لنقد المرأة التي تمارس حرية اختيار الملابس خارج العراق “فعلا أني بس أوصل إقليم كردستان ألبس فستان قصير شوية وانزع الحجاب”. 

قد يصف البعض فعل هاجر وشهد بالازدواجية، لكن الكبت وحرمان المرأة من اختيار ملابسها في فصل حار جداً كفصل الصيف يمنحها الحق بممارسة هذه الحرية بمكان آخر. 

تجيب بريان بغضب “اللي يكول ازدواجية على نفسه، لأن اللبس حرية شخصية ما اكدر أمارسها ببلدي، فطبيعي رح أمارسها في بلد يحترم هذه الحرية”. 

هذه الازدواجية يمارسها الرجال مع زوجاتهم أيضاً. فزوج هاجر (قبل أن يصبح طليقها) قام بإلزامها بارتداء “حجاب مبالغ به عباية وجفوف، كان يقول لا تشوفيني منفتح وكنت عايش خارج العراق آني بداخلي معقد”. 

لكن زوجها كان سخياً معها كُلما سافرا خارج العراق “بس نوصل مطار بيروت يكوللي هنا نزعي الحجاب وشيعجبج لبسي”! 

أما أنا فقد مارست ازدواجيتي وحريتي في كل بلدٍ ذهبت إليه وارتديت ايضاً ما حرمت منه، التنورة القصيرة والبلوزة (نص ردن)، والبنطرون الشورت القصير وحتى المايوه. 

ولكن حتى مع هذه الازدواجية فقد تشكلت لديّ، ولدى أخريات، رقابة ذاتية في داخلنا حتى لو كنا خارج العراق. 

حينما زرت هولندا عام 2019 أعجبني هناك “جمبسوت”، وهو زيّ نسائي يتصل به الجزء العلوي “البلوز” بالجزء السفلي “البنطرون”، وكان هذا الجمبسوت قصيراً جداً وتمنيت لو أني أستطيع ارتدائه في العراق، لكن ليأسي من ذلك قررت شراءه لابنة اخي، التي كان عمرها ٨ سنوات. لكني لم اتوقف بالتأكيد عن ممارسة ازدواجيتي تجاه حريتي بارتداء ملابسي، حتى أني أحببت جسدي فجأة بعد صفات كثيرة وجهت ضده من أسرتي بسبب المجتمع، بل وأيقنت أن لا “عيب” في جسدي ولا جسدي “عيب”، كما وصفه حبيبي سابقاً.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“أنت جسمج يختلف”، كانت أُمّي تردّ عليّ كلّما جادلتها بشأن منعها إياي من ارتداء ملابس بأكمام قصيرة -نص ردن-، بينما تسمح لأختي الصغيرة بذلك. 

جسمي نفسه، سيمنعني بعد أعوام، في صيف 2016، من ارتداء فستان يمنحني البرودة وسط قيظ بغداد. 

كان فستاناً قطنياً طويلاً، سهل الارتداء، أبيض اللون ويحتوي على خطوط عرضية زرقاء، بارداً جداً وخفيفاً يتسلل عبره الهواء. لكني كُلما ارتديته دخلت شِجاراً مع الرجل الذي كنت أُحب. وَجَدَهُ مُغرياً ويبرز تفاصيل ردفيَّ. كيف؟! فهو فستان فضفاض لا يأخذ شكل جسدي الذي تضاعف حقدي عليه! 

جسدي الذي كان ممتلئاً، اضطرني لارتداء ملابس فضفاضة تخفي شكله، أما إذا كانت خامة الملابس خفيفة، فيجب عليّ أن أرتدي تحتها “بطانة” لتحجب رؤية الناظرين عنه. عن كابوس اللبس في أصياف العراق أتحدث. 

عمل فني: ميس السراي

“نساء نص ردن وما يستحن 

تعاني نساءٌ كثيرات في العراق من سلاطة الآراء الاجتماعية التي تفرض عليهن ما يلبسن. تحدّثت إلى نساء من مناطق مختلفة لأعرف كيف مررن بمآزق الصيف وقيظه.  

قالت زينب نصر، 33 عاماً، التي تسكن منطقة الشعب، شمال شرقي بغداد، إنها تعاني إلى اليوم هذه المعضلة. 

“من اروح للمول علمود اشتري ملابس.. كل الملابس القطنية والمريحة تكون نص ردن وخامتها حلوة، أما خامة الملابس الخاصة بالمحجبات تكون سيئة”. 

نصر محجبة، وعندما تحاول ارتداء خامة قماش صيفية خفيفة، تضطر للبس العديد من البطانات تحتها، لأنها قد تشفّ وتظهر أجزاءً من الجسد، أو تظهره من خلال التصاقه به. 

قد تضفي البطانة “ستراً” كما يُقال. لكني لا أعرف ستر من ماذا؟ فأنا ارتدي ثوباً يستر جسدي وأُعزّزه بآخر.. أتساءل دائماً ما الذي يستر المستور؟  

فإضافة إلى الأثواب طويلة الأكمام التي ترتديها المرأة -سواء كانت سافرة مثلي أم محجبة مثل زينب نصر- علينا أيضاً ارتداء بطانة، أي ثوب مضاعف، في صيف تتجاوز درجة الحرارة فيه 50 مئوية، ونحاول دائماً اختيار قماش خفيف مثل “الكودري” أو “الكشمير” أو “الفانيلة القطنية” لنقنع أنفسنا بأنها باردة إذا ما ارتديناها تحت أثوابنا. 

لكن في الواقع، أننا نلبس ثوبين معاً، ما يزيد علينا الحرارة.  

لا تحرم النساء من ارتداء الملابس المريحة فقط، بل مُنعتُ من الألوان الزاهية التي تخفّف من أذى سهام الشمس على الجلد.  

يتطلّب فصل الصيف الساخن ألواناً فاتحةً، لكني كنت مقيدة دائماً باختيار الألوان المُعتمة. فاللون الفاتح أو المبهج “يُلفت الأنظار”، كما أخبرني الجميع آنذاك. لهذا اخترت ألواناً غامقة، وفقدت شغفي بالألوان المبهجة، وصرت إلى اليوم لا أجيد اختيارها. 

“من اطلع من البيت أتنقّل (مستخدمة وسائل النقل العام) أو أراجع دوائر حكومية أو أروح للسوق ألبس ملابس غامقة حتى لا ألفت انتباه”. تفعل نصر مثلما فعلت. 

الألوان الفاتحة والمبهجة ترتديها نصر، فقط، عندما تخرج مع أسرتها في عزومات خاصة أو زيارات عائلية. 

“الألوان الفسفورية، وقميص قصير بالكاد يخفي (شكل جسدي) هذا ما ارتديه فقط في الزيارات العائلية أو من اطلع مع أهلي لمطعم”. 

أما المحجبة، فإذا ارتدت لوناً فاتحاً ستكون بحاجة إلى “بطانة”.  

شهد حسين، (27 عاماً)، من محافظة البصرة، تقول “مرّة بالجامعة لبست قميص أبيض ولبست تحته بلوز بدون ردن بالصيف وكل الموجودين انتقدوني وقالوا: لازم تلبسين بلوز ردن طويلة تحت القميص”. 

لم تكن الألوان المبهجة مزعجة بالنسبة لنا لأنها تحتاج الى بطانات كثيرة تخفي جسدنا، نحن نتجنبها أيضاً لأننا نوصف بـ(ما نستحي) بنظر البعض لو لبسناها، تقول بريان أحمد من السليمانية (30 عاماً) “كنت أقف جنب أحد الزملاء ذات مرة ومرّت بنت لابسة لونا مبهجا وصارخا، فقال الشخص الذي يقف جنبي (شنو هذا اللون الي لابسته هذي ما تستحي)”. 

زمننا غير زمنكم 

حاولتِ النساء وبعد الانفتاح الإلكتروني الذي شهده العراق عام 2003 مواكبة الموضة، وذاك مختلف عن اختيار ملابس تظهر الأجساد، ومع ذلك فقد واجهن الكثير من المضايقات، حتى أن البعض يطلق علينا مصطلح “نسوان نص ردن” فقط لأننا نختار ملابس يجدها المجتمع أكثر انفتاحاً، لأنها لا تتوافق مع ذائقة الكثيرين كقميص بأكمام قصيرة، أو تنورة قصيرة لا تعلو فوق مفصل الركبة. 

بريان تقول “لبسي مو غير مقبول اجتماعياً وليس عارياً لكني اتجنب الخروج لأي سوق في السليمانية بثوب (بأكمام قصيرة) حتى ما أعرض نفسي  للكلاب”، كما تصف المتحرشين. 

المعاناة نفسها تواجه هاجر التميمي (40 عاماً) وهي مدرسة لغة انكليزية في منطقة شارع فلسطين ببغداد، تصف نفسها “حرة” و”متمردّة” فقط لأنها ترتدي بلوزة (نص ردن) أو بنطلون جينز. 

أنا أيضاً لا أجد أن ملابسي عارية، ارتدي تنورة قصيرة، وجينزا وفستانا قصيرا لكنه لا يتجاوز مفصل ركبة الساق، ولا أهتم لو وصفت من قبل أحدهم بأني (فتاة نص ردن). وبالرغم من ذلك كانت أمي ترى أن ملابسي لا تُرضي الذوق العام! كنت أسألها دائماً وأنا أتصفح في ألبوم صورها “ليش كنتي تلبسين قصير وبراحتج وآني تحاسبيني على لبسي إللي هو هواية محتشم بالنسبة للبسكم بذاك الوقت؟” 

“زمنّا غير زمنكم!”، كانت تجيب. 

الجملة ذاتها، ترددها الكثير من السيدات، فانتصار جابر، وهي ناشطة مدنية يسارية، تقول “بناتي يسألوني دائماً من يشوفون صوري ليش كنتي تلبسين براحتج، ومن يطلعون للشارع  أكولهم لبسوا شي محتشم حتى تاخذون راحتكم لأن زمنا غير زمنكم”. 

عمل فني: ميس السراي

“امي كانت تقول ابوج ياخذني على ابو نؤاس وكانت النساء ترتدي تنورة قصيرة أو بلوزة بأكمام قصيرة، أما اليوم فالأحزاب حولت الدين إلى تجارة، فضلاً عن غياب الثقافة، والجهل الذي لعب دورا كبيرا بالمجتمع، والاخلاق تغيرت قبل تربينا انه عيب تتدخل بجارك وتباوع على بنت جارك اليوم وفي بعض المجتمعات الرجل صار يتحرّش ببنت عمه”، تقول هاجر.  

بيد أن هذه التغيرات تجاه لبس المرأة لم تبدأ عام 2003.  

ارتدت انتصار ومجايلاتها في الستينات “الميني جوب، والتنورة القصيرة، والبلوزة ذات الأكمام القصيرة أو من دون أكمام”، لمواكبة الموضة آنذاك.  

“لو لاحظتي الصور في السبعينات كنا شابات صغيرات ونطلع بنص ردن”، تروي الباحثة في علم الاجتماع لاهاي عبد الحسين أن في سبعينيات القرن الماضي كانت هناك حداثة وانفتاح، وكانت المرأة تتابع الموضة وتتبعها، ولم يكن التحرش منتشراً أو تقيد حرية اختيارهن لملبسهن. 

الأمر تغيّر بعد الحرب العراقية الإيرانية ووقوع الضحايا والحزن الذي خيم على المجتمع أحدث تغييرا كبيراً “سادت موجات حزن وألم وأثرت كثيراً حتى على المرأة، بعدها دخلنا مرحلة الحصار التي كانت أكثر قسوة”، تقول عبد الحسين. 

تستذكر انتصار التي كانت موظفة في دائرة حكومية حين بدأت الحملة الإيمانية بعد الحرب العراقية الإيرانية، القرار الذي فرض على النساء بلبس الملابس الطويلة، “التنورة القصيرة أو البنطرون أوبلوزة بنص ردن ممنوعة واللي ما ينفذ يتعاقب”. 

لم يقتصر التدخل في لبس المرأة آنذاك على دوائر الدولة. 

رقباء في كل مكان 

امتزاج الدين بالسياسة بعد 2003 أثر كثيراً في المجتمع، هذا ما تشير له أغلب النساء اللواتي تحدّثت إليهن. 

بريان أحداهن “بسبب الإسلام السياسي، وإعلان الثورة الإسلامية في إيران تأثر مجتمعنا وفرضت قيود على المرأة باختيار زيّها.. قبل عامين تقريبا أقام الإتحاد الإسلامي الكردستاني مؤتمراً وحجّب فيه أكثر من 100 بنت قاصر لا تعي معنى الحجاب من الأساس”.  

لم تعد الرقابة على ما ترتديه المرأة مقتصراً على الدولة، بل بات المجتمع بأفراده، سواء من أهل المرأة أو الغرباء، رقباء على لبسها في العلن.  

تذكر شهد التي كانت حاضرة مع زملائها طقساً دينياً في أحد شوارع البصرة، وقد حرصت على ارتداء ثوب أسود طويل يناسب هذا الطقس، ووضعت شالاً فوق رأسها لكنه لم يغطِّ شعرها بالكامل، فتعرضت لموقف غاية بالحرج “رآني رجل كبير وقتها وظل يصيح بنص الشارع ما تستحين مطلعة شعرج غطي شعرج، لولا زملائي ما أعرف شنو كان صار، مع أني كنت أقف بعيدة عنه بمسافة كبيرة”. 

الحرج والتقييد يطال المرأة في العراق من شماله إلى جنوبه، بغض النظر عمّا إذا كانت سافرة أو محجبة. هاجر هي الأخرى تعرضت لموقف مشابه بينما كانت تستقل الحافلة “امرأة عجوز شافتني جالسة بالباص ولابسة قميص وبنطرون فقالت لي: يابنتي دحطي شال او فوطة على راسج، احرجتني أمام كل الناس”. 

الأسرة أيضاً تقيّد المرأة باختيار زيّها، لكن خوفاً على ابنتهم كما تقول بريان “من باب الحرص وحتى لا نتعرّض لموقف سخيف أهلي دائماً يسألوني متأكدة تلبسين هذا اللبس وتطلعين بي؟”.  

مصطفى (فضل الإشارة إلى اسمه الأول)، وهو إعلامي ومعد برامج يوافق بريان الرأي لكنه يجد أيضاً أن الرجل “يقبل يتفرج على نساء أخريات، لكن ما يقبل أحد يتفرج على امرأة تخصه”. 

لهذا يحاول الرجل أن يمنع المرأة “التابعة له” من ارتداء أي زيّ يجعل منها محط أنظار رجال آخرين “السبب الأول لهذا المنع حتى لا تجي حجاية ع الرجال، يعني لا أحد يقول شوف هذا بلا غيرة بحيث اخته او زوجته لابسة براحتها”، أردف مصطفى. 

عقاب بالعلن  

لا يقتصر دور المجتمع على الرقابة والفرض، بل يتعدّاه للعقاب. 

كانت هاجر طالبة في جامعة الموصل وخرجت إلى سوق سرجنار في الموصل مع صديقتها التركمانية التي ارتدت بنطرون (ستريج)، “فقام رجال بالسوق وداروا على الستريج تيزاب (الأسيد) وهمزين صديقتي ما احتركت هواية”. 

التحرش الجسدي لا يختلف عن التعدي الجسدي مثل محاولة الحرق، وهو ما بات أمراً شائعاً.  

تحكي لي زينب نصر في أحد ايام الصيف الحارة، “فات واحد بالماطور ولمس مؤخرتي وانهزم، لا أكدر ألحك عليه، وإذا اصيح الشارع فارغ محد يسمعني”. 

أما بريان، فلم يحمِها وجودها في السليمانية ونشأتها هناك من التحرش بسبب ارتدائها بلوزة بلا أكمام حين كانت فتيّة بسن الخامسة عشرة “كنت البس بلوز بدون ردن، وقام أحدهم بلمس صدري في السوق”. 

الخطر قد يكون مناطقياً أيضاً، فاختيار الملابس بالنسبة للنساء تختلف بين البصرة وبغداد والموصل وكردستان، تقول هاجر “بيت أهلي بالحلة وإذا أروح هناك أكون حاطة شال بحقيبتي وبس أوصل ألبسه”.  

حتى داخل بغداد تختلف حرية المرأة في اختيار ملابسها من منطقة لأخرى، يقول مصطفى الجبوري “الملابس التي أسمح لأختي أو أمي بارتدائها في منطقة معيّنة ببغداد لا أسمح لهنّ بلبسها في مناطق أخرى ممكن تعرضهن لتحرش أو اعتداء جسدي وليس لفظياً فقط”.  

عمل فني: ميس السراي

قد لا يكون الأذى جسدياً مباشراً أحياناً، ولكنه يتحول إلى أذى يطال خصوصية المرأة وسمعتها.  

في محافظة البصرة تعرضت صديقة شهد حسين التي كانت تتجول مع عائلتها في شوارع البصرة مساءً “من شافوها بعض الشباب وانتبهوا انه هي مُلفتة (بلبسها) ظلوا ياخذولها صور وبعدها لكيناهم ناشريلها فيديوهات على مواقع التواصل”. 

الفتاة وعائلتها تعاملت بلا مبالاة مع الموقف، على عكس شهد التي وجدته غاية بالخطورة على الفتاة “مع وجود جهات تابعة لأحزاب دينية ممكن أن تشكل خطرا على البنت عندما تضبط فيديوهات مثل هذه”. 

هل نحن مزدوجات؟ 

“الله موجود بس بالعراق” تقولها شهد ضاحكة، فهي عبارة قرأتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لنقد المرأة التي تمارس حرية اختيار الملابس خارج العراق “فعلا أني بس أوصل إقليم كردستان ألبس فستان قصير شوية وانزع الحجاب”. 

قد يصف البعض فعل هاجر وشهد بالازدواجية، لكن الكبت وحرمان المرأة من اختيار ملابسها في فصل حار جداً كفصل الصيف يمنحها الحق بممارسة هذه الحرية بمكان آخر. 

تجيب بريان بغضب “اللي يكول ازدواجية على نفسه، لأن اللبس حرية شخصية ما اكدر أمارسها ببلدي، فطبيعي رح أمارسها في بلد يحترم هذه الحرية”. 

هذه الازدواجية يمارسها الرجال مع زوجاتهم أيضاً. فزوج هاجر (قبل أن يصبح طليقها) قام بإلزامها بارتداء “حجاب مبالغ به عباية وجفوف، كان يقول لا تشوفيني منفتح وكنت عايش خارج العراق آني بداخلي معقد”. 

لكن زوجها كان سخياً معها كُلما سافرا خارج العراق “بس نوصل مطار بيروت يكوللي هنا نزعي الحجاب وشيعجبج لبسي”! 

أما أنا فقد مارست ازدواجيتي وحريتي في كل بلدٍ ذهبت إليه وارتديت ايضاً ما حرمت منه، التنورة القصيرة والبلوزة (نص ردن)، والبنطرون الشورت القصير وحتى المايوه. 

ولكن حتى مع هذه الازدواجية فقد تشكلت لديّ، ولدى أخريات، رقابة ذاتية في داخلنا حتى لو كنا خارج العراق. 

حينما زرت هولندا عام 2019 أعجبني هناك “جمبسوت”، وهو زيّ نسائي يتصل به الجزء العلوي “البلوز” بالجزء السفلي “البنطرون”، وكان هذا الجمبسوت قصيراً جداً وتمنيت لو أني أستطيع ارتدائه في العراق، لكن ليأسي من ذلك قررت شراءه لابنة اخي، التي كان عمرها ٨ سنوات. لكني لم اتوقف بالتأكيد عن ممارسة ازدواجيتي تجاه حريتي بارتداء ملابسي، حتى أني أحببت جسدي فجأة بعد صفات كثيرة وجهت ضده من أسرتي بسبب المجتمع، بل وأيقنت أن لا “عيب” في جسدي ولا جسدي “عيب”، كما وصفه حبيبي سابقاً.