المدوَّنة الشرعيّة في العراق: نُصرةً للحكم الديني واستعباداً للنساء
20 آب 2024
إذا كانت النساء مواطناتٍ من الدرجة الثانية كما تتعامل معهنّ القوانين المُجحفة والسياسات التمييزية اليوم، فسيصبحن تابعات أو عبيداً تحت رحمة الأوصياء من كهنة الدين ورجال العشيرة والبيت إذا تمّ تمرير "تعديل" قانون الأحوال الشخصية.. عن "المدونة الشرعية" التي تجري المحاولة لتمريرها..
إننا نعيش في عالمٍ تعوم فيه الحقائق وتحل بدلاً عنها مجموعة لا نهائية من التشابيه أو النماذج المصطنعة والنسخ التي لا تُخفي الحقيقة فحسب، بل تُقّدَم على أنها الحقيقة، يكتب جان بودريار المفكر الفرنسي في كتابه “التشبيه والمحاكاة”. وتنطبق نظريته على لغة “الاختيار” التي وظفها النائب رائد المالكي من أجل الترويج لمقترحه بـ”تعديل” قانون الأحوال الشخصية رقم 188 للعام 1959، مطمئناً العراقيين أنهم سيكونون مخيّرين بين تنظيم مسائلهم الشخصية وفق هذا القانون أو من خلال الرجوع إلى الفقه المذهبي الذي ستنص عليه المدوّنة الشرعية المقترحة، بعد أن تُصاغ فقراتها من قبل المجالس الشيعية والسنية في ظرف ستة أشهر بعد إقرار القانون، في خرقٍ لصلاحيات مجلس النواب القانونية.
لغة “الاختيار” هذه تقدم أنموذجاً لتبسيط وتضليل وطمس الكثير من الحقائق التي لا يُمكننا فهمها إلا من خلال تتبع مسار الأحداث منذ 2003 وحتى هذه اللحظة وقراءتها ضمن سياق تاريخي يعود إلى منتصف القرن العشرين حين شُرّع القانون، وردود الأفعال الرافضة له في الماضي والحاضر.
2003: تفتيت الدولة والمواجهة الأولى مع القانون
ما أن مضت أشهر قليلة على سقوط النظام البعثي في 2003 حتى سارع عبد العزيز الحكيم، زعيم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي حينها، إلى اقتراح المرسوم الأول (رقم 137)، والذي بموجبه يُلغى قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 النافذ (اختصاراً – القانون 188) واستبداله بقانون يعتمد كلياً على “الشريعة الإسلامية” بحجة “حرية العقيدة”.
الاقتراح تحول إلى أمر واقع بعد تصويت أغلبية أعضاء مجلس الحكم المؤقت الذي كان يرأسه وقتها.i
كان المرسوم يرمي إلى صياغة مجموعة من “مُدوَّنات القوانين المُعتمِدة على الطّائفة، والتي تتبع أنموذج الأسرة اللّبنانّي”، وفقاً للباحثة زهراء علي في كتابها “النساء والجندر في العراق: بين بناء الأمة والتفتت”. رَمَز المرسوم إلى حقبة الحكم الملكي الخالية من القوانين التي توحّد من القضايا الشخصية للعراقيين.
لم يكن هذا هو القانون الوحيد الذي حاولت القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران أن تغيّر طابعه إبان تسلمها الحكم في 2003، ولكن لم يكتب لها النجاح بفعل ضغوط ضده.
غالبية العراقيين لم يكونوا ربما على دراية بعد، بما كان يجري داخل أروقة مجلس الحكم المؤقت، إذ كانوا منهمكين بالتعامل مع الفوضى التي أعقبت الغزو. إلا أن عدداً من الناشطات العراقيات والمجموعات النسائية المستقلة، وأفراداً من المجتمع المدني عملوا على التصدي بقوة لذلك القرار، رغم دعم عدد من الناشطات الإسلامويات الشيعيات للقانون، بتبرير أحقيتهم في ممارسة حرية المعتقد بعد سنين من الاضطهاد والقمع، كما تصف علي في كتابها. وبعد أن أخذت تعبئتهم المضادة بُعداً دولياً ومع معارضة عدد من الإسلاميين السنة، تمكنوا أخيراً من الضغط على بول بريمر، رئيس سلطة التحالف المؤقتة المسؤولة عن العراق، وإقناعه بالعدول عن التوقيع عليها.
مواجهات متتالية
لم تنته محاولات التخلص من القانون 188 واستبداله بقانون فقهي وطائفي بدعوى “حرية العقيدة” في 2003. إذ تكرّرت المحاولات في الأعوام اللاحقة، تحديداً في 2005 و 2014 و2017.
اعتمدت الأحزاب الإسلاموية المادة 41 من الدستور العراقي الذي وضع عام 2005، والتي تنص على أن “العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم ويُنظّم ذلك بقانون”، اعتمدتها منفذاً لإلغاء القانون 188 واستبداله بقانون مذهبي؛ رغم أنها كانت قد جُمدت وقتها بعد إثارتها الجدل والسخط لتعارضها مع مواد أخرى في الدستور.
ومع ذلك، ما فتئت هذه المادة ومنذ 2005 تشكل مرجعاً للقوى الدينية الشيعية كذريعة لدستورية وشرعية تغيير القانون النافذ. بدا ذلك جلياً في خطاب النائب رائد المالكي، الذي أعاد وبطريقةٍ بدت عشوائية ومفاجئة للوهلة الأولى، المطالبات بـ”تعديل” القانون 188 عن طريق اقتراح صياغة “مدوّنة شرعية” تحتوي على بابين للفقه السني والشيعي، مذكرةً بلائحة قانون عام 1945 التي لم تر النور بسبب المعارضة الداخلية حينذاك من قبل آية الله محسن الحكيم بعد أن أرسل أحد أبنائه “إلى مجلس الأمة لحث النواب على عدم إقرار القانون، فانصاع النواب واضطرت الحكومة إلى إحالته على لجنة مختصة لدراسته وإعادة النظر فيه”، وفقاً لرسالة أبرقها الحكيم إلى حكومة انقلاب البعث في 1963 ليحثها على إلغاء القانون 188. عُدلت المادة الخاصة بتوزيع الإرث مناصفة بين الرجل والمرأة عقب انقلاب شباط 1963، لجعلها مطابقة لـ”الحكم الشرعي”، إلا أن تعديلها لم يثنِ الحكيم والنخبة النجفية عن الاستمرار في معادة القانون. وإذا كانت اللائحة علامة للتقدم بمقاييس ذلك الزمن، لكونها جاءت بعد محاولةٍ سابقة فاشلة في عام 1933 لتوحيد أحوال العراقيين الشخصية في قانون، محيلةً القضايا الشخصية للمحاكم على الرغم من اعتمادها على الفقهين السني والشيعي، فالمدونة المقترحة علامة انتكاس بمقاييس العصر الحالي.
وعلى العكس من المحاولات الماضية، لم يُلغَ المقترح القانون الحالي ظاهرياً، بل سوّق للمدونة الشرعية على أنها إضافة ستُتيح الاختيار أمام المواطن. ولكن مجرد خلق المدونة الشرعية في حال إقرارها “سلطة دينية موازية”، سيسحب سمة “الاختيار” من المجتمع، حيث ستتنافس هذه السلطة الدينية مع سلطة الدولة، وستقوضها حدّ ابتلاعها في المستقبل، على غرار السلطتين العسكرية والأمنية، لكونها ستنتج سلطتين: “واحدة عقائدية أيديولوجية تشتق شرعيتها من العصبية الشيعية (التي قد تكون عابرة للحدود)، وأخرى دولية تعتمد في وجودها على شرعية الدولة الحديثة”، وفق الباحث حارث حسن. وكما في حالة السلطة الأمنية، فإنه في حالة تطبيق هذه السلطة الدينية “الموازية”، ستكون لسلطة الفقهاء اليد العليا في تقرير مصائر المواطنين. وحسب السياسات المرسومة والبيئة التي لا تمنح حق الاختيار للنساء أصلاً، ستُصبح المدونة الشرعية واقع حال يرغمن عليه، إن قرر الرجل ذلك.
يُذكِّر عِداءُ الأحزاب الإسلامية الشيعية للقانون النافذ وإصرارها على تغييره بمواقف مشابهة ناهضت القانون وقت صدوره في القرن الماضي، أبرزها صدر عن المرجعية الدينية ممثلة بالسيد محسن الحكيم.
كان ذلك العداء أحد أهم الأسباب التي أدت الى بروز حركة سياسية شيعية إبان الستينات، وفقاً لعلي في كتابها. زاد من حدته التغييرات التي طرأت على القانون في عهد الحكم البعثي والتي تأرجحت بين الروح القومية والاشتراكية في ظل النمو الاقتصادي والنزعة التشكيكية المحافظة المشوبة بـ”صبغة عشائرية إسلامية” نتيجة للحروب المتتالية وآثار العقوبات الاقتصادية وما تبعها من حملة إيمانية وظفت أيديولوجية دينية تركت بصمتها على عدد من القوانين والممارسات.ii
من هنا فإن الأحزاب والشخصيات الرافضة لقانون 1959 تدعم حجتها في المطالبة بتغييره، بالزعم بأن القانون بات يُمثل إرثاً “بعثياً” وجب التخلص منه، ضمن جملةٍ من حججٍ أخرى غير حقيقية ومضللة، من بينها أن القانون “مدني” ويعارض الشريعة الإسلامية وثوابتها. تحولت هذه الحجج إلى “تشبيهاتٍ” -بلغة جان بودريار – تتداولها على أنها حقائق؛ علماً أن كلا الحجتين غير دقيقتين. فالقانون لم يُسن في زمن البعث، وإن أدخلت عليه تعديلات خلال تلك الحقبة، إلا أنه حافظ على جوهره، كما أن هذه الادعاء يبدو واهياً أمام حزمة القوانين التي سنت خلال حكم البعث وما زالت نافذة لم تغير خلال عشرين عاماً، وعلى رأسها قانون العقوبات رقم 111 للعام 1969!
كما أن المزاعم بأن القانون 188 لا يستمد مواده من الشريعة، فلا أساس له من الصحة، إذ أن القانون يجمع بين الأحكام السنية والشيعية بشكلٍ يُلغي التمايز بين الاثنين ويوفر إطاراً قانونياً موحداً يحتكم إليه العراقيون بالرجوع إلى محاكم وقضاة معينين من قبل الدولة، لا إلى علماء الدين، متجاوزاً بذلك الخطوط الطائفية الإثنية ومعبراً عن صوت النساء العراقيات في وقتها من خلال مشاركتهن في عملية إعداده ودعمه، وفي مقدمتهن نزيهة الدليمي.iii
حكم رجال الدين: ثيوقراطية اللصوص الشمولية
عند التطرق إلى الأحداث التي أعقبت الغزو الأمريكي وحلفائه للعراق وسقوط النظام البعثي وتبعاته، بات من البديهي الحديث عن غياب خطة واضحة لبناء الدولة، حيث أفضت سلسلة من السياسات والقرارات الخاطئة والكارثية، ومن ضمنها حل الجيش العراقي وما أعقبه من تأسيس نظام محاصصاتي طائفي وإثني، إلى خلق دوامةٍ من العنف السياسي والطائفي، سُرعان ما تُرجم الى عنفٍ اجتماعي، اشتدت حدته مع تآكل وضعف المؤسسات التعليمية والصحية والقانونية والأمنية.
إلا أن التطورات الأخيرة في العراق وسياقها المتمحور حول البنى الهيكلية والظروف التي أنتجتها ونمَّتها الحكومات المتعاقبة وجذورها الممتدة إلى العام 2003 تضعنا أمام صورة مختلفة.
إن خطة بناء الدولة لم تكن غائبة بل كانت مُغيّبة لصالح تخطيط ممنهج ومدروس لإنشاء “ثيوقراطية” (حكم ديني) شيعية شمولية بصبغةٍ قبلية، سعت تدريجياً لتقويض سُلطة الدولة عن طريق تأسيس قوة اقتصادية وعسكرية بديلة، استنزفت وعبثت بموارد وقُدرات البلد. ظلت ثيوقراطية اللصوص متسترة خلف عناوين “الديمقراطية الناشئة” البراقة والزائفة المُختزلة في صندوق انتخابات يعمل ضمن قواعد اللعبة بحيث يُعيد إنتاج الوجوه ذاتها بغض النظر عن المُعطيات. في وقت كانت تأسست فيه خلف الكواليس دعائم الثيوقراطية المذهبية المتمثلة برجال الدين ونفوذهم الاقتصادي وهيمنتهم الاجتماعية الصاعدة، هكذا تغلغّل خطابهم إلى المؤسسات التعليمية والإعلامية ولم يعد محصوراً بالمنابر والحلقات الدينية، وأصبح عابرا للمكان والزمان، مستفيدا من وسائل الاتصال والتكنلوجيا الحديثة وما تُقدمه من انتشار سريع وحضور مستمر.
وعليه، ظل شكل الحكم القائم “هجيناً”؛ في الواجهة، هناك “دولة” لها دستور على تناقضاته وفجواته، وصندوق انتخابات على شكليته، ومؤسساتٍ على هشاشتها، دولة تصادق وتوقع على المعاهدات والمواثيق الدولية، خصوصاً تلك المتعلقة بحماية النساء والأطفال (دون أن تلتزم بها أو تُنفذها)، بينما في العمق، تتحرك أذرع السلطة الدينية وتمتد باتجاهاتٍ متعددة لتفرض سطوتها بطرق مختلفة شبه أو غير رسمية، وأولى أهدافها الفتيات والنساء.
الأدلجة الدينية وقمع النساء
ما أن انزلق العراق إلى الفوضى في أعقاب الغزو حتى بدأت النساء والفتيات يدفعنَ الثمن الأكبر. استهدفت المجاميع المسلحة والميليشيات، السُنية والشيعية على حدّ سواء، النساء غير المحجبات، فتعرضنَ للمضايقات وأعمال العنف التي وصلت إلى حد القتل في الأماكن المحافظة الخاضعة لسيطرة تلك الميليشيات.iv ومع انقضاء موجة العنف الأولى، بدأ عهد تغييب النساء وأدلجة صغارهن وتحويلهن إلى مجرد توابع بلا كيانٍ مستقل أو عقلٍ حر. وكان السلاح وما زال هو ثالوث الشرف والعفة والحشمة.
في بادئ الأمر، امتلأت شوارع بغداد خلال سنوات العنف الطائفي، خصوصاً تلك التي تتوسطها الجامعات، بلافتاتٍ تحث وتُشجع على ارتداء الحجاب والزي الشرعي، واصفةً المُلتزمة به بفضائل أو مواصفات أخلاقية حميدة تتعلق بـ”العفة” و”الحشمة” و”الستر”، وبخلافه، فإن المرأة غير الملتزمة بالحجاب أو الزي الديني، هي امرأة غير عفيفة أو محتشمة أو مستورة. فكانت تلك بداية التمييز النسائي، بمعنى تفضيل المرأة على حسب شكلها ومظهرها، وتنميطها الى أنموذج وقالب واحد يُمثل الطُهر والعفاف، فتحولت أجساد النساء الى مجرد نواقل لتلك الرموز والأيديولوجيات، فكلما شذّ مظهر المرأة عن تلك الصورة المتجانسة، استحقت ما يقع عليها من أشكال الإساءات والانتهاكات بدعوى “الضبط” أو “التقويم”.
وتدريجياً، تبلورت مرحلة الأدلجة مع تقويض المنظومة التعليمية الحكومية وخصخصتها فتم تأسيس سُلطة تعليمية دينية موازية من خلال التوسع في إنشاء مدارس وجامعات خاصة تُدار من قبل رجال دين أو ساسة أو رجال أعمال نافذين ومفتقرين لأي مؤهلات علمية وأكاديمية، وهكذا أخذت نوافذ المعارف والعلوم تُغلق شيئاً فشيئاً إلا نافذة واحدة ظلت مفتوحة على مصراعيها، هي نافذة الفقه المسيرة حسب تفسيرات ذكورية لرجال الدين. تضرب المنظومة التعليمية الأهلية والدينية عصفورين بحجرٍ واحد: فهي تؤدلج الفتيات والنساء وتُسيطر عليهن، وفي الوقت ذاته تصنع منهن رأس مال سياسي واجتماعي، فيُصبحن الوجه الشرعي للمؤسسة الدينية، ووكيلاتها في فرض الهيمنة على الحيز العام من خلال محاسبة وقمع النساء المخالفات.
ومع الوقت تنامى التحجيب القسري في الكثير من المدارس والجامعات الحكومية أو الأهلية، وارتبط بسن التكليف، وهو التسعة أعوام، أو ثمانية أعوام قمرية حسب الفقه الجعفري، وصارت تُقام مراسيم احتفالية تُتوج الفتيات في هذا العمر، داخل المدارس وخارجها برعاية جهات دينية وسياسية شتى وأحياناً برعاية أو مباركة المحافظين. وفي المدن المحافظة أو تلك المرتبطة برمزية دينية كالنجف وكربلاء، فإن الحجاب القسري يأخذ بُعداً مختلفاً إذ أنه يشمل العباءة وليس غطاء الرأس وحده، فتكاد تكون جميع النساء محجبات في الأساس في هذه المدن. ومؤخراً، تضمن كتاب مادة التربية الإسلامية ضمن منهج السادس الابتدائي موضوعا مقررا عُنون بِـ”الحياء والحشمة والحجاب في عامها العاشر”. وارتبط بالتحجيب القسري صعود خطاب ديني في جميع المنابر، من بينها حسابات السوشيال ميديا، مخاطباً الأزواج على وجه التحديد كي يقوموا بدورهم في الضبط وفرض السيطرة، منادياً بضرورة تغطية المرأة لجسدها وتجنب التبرج وحتى الخروج إلى الفضاء العام، وحثها على التزام المنزل.
ساهم هذا الخطاب وممارسة فرض الحجاب والعباءة شبه الرسمية في تفاقم ظاهرة التحرش والابتزاز في الفضاءات العامة والخاصة والرقمية، وتُركت النساء وحدهن ليتصّدين لها باللجوء الى الهاتف النقال والتصوير والنشر على مواقع السوشيال ميديا بغية تحقيق مساءلة اجتماعية تُعوّض عن غياب رديفتها القانونية، ولم يسلمنَ في كل الأحوال من اللوم والتعهير والنقد الجارح.
لم تتخذ الأحزاب الحاكمة ولا الوزارات ذات الشأن أية إجراءات تُذكر للتصدي أو الوقوف بجانب المرأة أمام تفاقم التحرّش ضدها، بل على النقيض من ذلك تماماً، فإن السياسات الحكومية كانت ماضية باتجاه قص أجنحة المرأة والطفلة العراقية، حيث رفض البرلمان سنّ قانون يحميها ويحمي جميع الأطفال من آفة العنف الأسري المتزايد، أسوة بإقليم كردستان. كما لم تُعالج أو تغيّر أياً من البنود التمييزية المتضمنة في قانون العقوبات العراقي لعام 1969، فعلى الرغم من أنها صيغت في زمن البعث، إلا أنها تبدو متناسقة مع التوجه الثيوقراطي الشمولي، فتركتها كما هي. وبوجود قوانين متسامحة مع الجرائم التي تُرتكب باسم “الشرف”، تُقتل العراقيات كل يوم من الشمال إلى الجنوب وتُخفف العقوبات عن الجناة، ومن ثم تُوصم الضحايا إلى الأبد وتُمحى أية ذكرى لهن بدفنهن في مقابر بلا اسم ولا أثر، سوى من عنوان جمعي عريض: “تلال المخطئات أو المنفيات”.
كما لم تُبال أيّ من أحزاب السُلطة بالأرقام المُخيفة لما يُعرف بـ”زواج القاصرات”، فيتم تزويج الطفلات قسراً بمباركة رجال الدين خارج المحاكم، وما يصاحب هذه الظاهرة من ارتفاع معدّلات تسرّب الفتيات من المدارس والتعليم. وهذه اللامبالاة لا تبدو بريئة بل مُتعمدة بعد أن هُيأت كل الظروف المناسبة لها من تقويض للمنظومة التعليمية، والفشل في تطبيق قانون إلزامية التعليم، إذ أنه سيخلق أزمة إضافية لمجموع الأزمات التي عجزت الأحزاب عن معالجتها، ومنها قلة المباني المدرسية وافتقار الكثير منها لإجراءات السلامة وانتشار المدارس الطينية، وتفشي الفقر، والبطالة، بالإضافة الى أزمات النزوح في المناطق التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي.
كما لم تهتم الحكومات المتعاقبة بأشكالٍ أخرى من الإتجار بالصغيرات والبالغات، سواءٌ من تضطر منهن وتحت قسوة الظروف القاهرة العمل في الملاهي الليلية أم في الدعارة تحت رعاية الميليشيات، وهي نفسها من ترعى إغراق البلد بالمخدرات مع الأحزاب السياسية التابعة لها، أو من تقع فريسة الزيجات المؤقتة (المتعة) والمتاجرة التي تتم في مكاتب السمسرة الدينية خارج إطار المحاكم.
وبالمقابل، فإن نسبة انخراط المرأة في سوق العمل أقل من 11 بالمئة، وهي النسبة الأدنى بين بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهذا الرقم يفضح أي حديثٍ مضى عن “تمكين المرأة“، الذي لم يكن سوى تكتيك لتحسين صورة العراق دولياً، بعيداً عن واقع المرأة.
تشرين والحقد على النساء
تميّزت حركة تشرين الاحتجاجية بمشاركة مهولة وغير مسبوقة من النساء من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والاقتصادية، فاستعادت النساء بمشاركتهن الفضاء العام، ورغم وجود استثناءاتٍ مهمة، إلا أن مشاركة الكثيرات منهن ظلت محصورة بالأدوار الاجتماعية النمطية. ومع ذلك فقد شكّل وجودهن صدمة للأحزاب الحاكمة ولرجال الدين على حد سواء، فواجهت النساء خطاباً مضاداً يطعن بالسمعة والأخلاق والشرف، التي أحالوها “أسلحة فتاكة” كما الرصاص الذي اغتال عدداً من الناشطات، ومن بينهن رِهام يعقوب، وما زال يُستخدم للتخلص من أي امرأة تتحول لمصدر إزعاج. هي اغتيالات معنوية لإسكاتهن مباشرة أو بدفع وكلاء السلطات الأبوية في العشائر والبيوت إلى معاقبة النساء بالنيابة عنهم.
لم تكن تلك التصفيات المعنوية والجسدية للنشطاء والناشطات لتنتهي مع تشرين، إذ تنامى لدى الأحزاب الحاكمة ورجال الدين هوس السيطرة على المجتمع ككل، وخصوصاً النساء، فتوالت القوانين والسياسات والتشريعات المستهدفة لحرية التعبير طوال السنوات الماضية، بعد أن سيطرت أحزاب الإطار التنسيقي الموالية لإيران على الحكم؛ من أبرزها سياسة “المحتوى الهابط”، ومن ثم الحملة على مفهوم الجندر، التي لم تكن إلا واجهة للانقضاض أكثر على النساء وخنق مشاركتهن في المجالين النشاطي والأكاديمي، ودفعهن الى الابتعاد عن الفضاء العام الواقعي منه والرقمي.
باتت الناشطات تُهاجم ليس من على المنابر فحسب، بل جُيشت جيوش المدونين الالكترونية وقنوات التيلجرام لشيطنتهن والتحريض عليهن. ولم يقتصر التضييق على الناشطات وحدهن وإرغام عدد منهن على كتابة تعهدات خطية، بل شمل النساء كافة، سواء من أردن المشاركة في مارثون البصرة، أو حتى المشي في المواكب الحسينية في أغلب المحافظات!
“إقطع البداية، حتى لا تصل لتلك النهاية!”
ترى العديد من النساء الناشطات والأكاديميات اللاتي قابلتهنّ في دراسةٍ لي عن الحملة على الجندر، أنها أكثر من مجرد رد فعل عنيف (backlash)، بل هي تعزيز لواقع متجذر ينظر إلى المرأة بوصفها “كائناً أدنى وإضافياً وتابعاً في مضامينها”. فتصف رقية من محافظةٍ دينية في وسط العراق، حيث تُهيمن السُلطة الدينية ممثلةً بالعتبات والحوزة على المشهد، هدف الحملة بِـ”قطع البداية التي تتفرع منها صلاحيات كثيرة للمرأة تخرج منها من قوقعة الأدوار الجندرية المنسوبة إليها بالعادات الاجتماعية (المطبخ والإنجاب غيرها)”.
وتُضيف أن “حملة المناهضة ما هي إلا تطبيع لفكرة مكانكِ المطبخ”. فيُراد حصر النساء في مهامٍ محددة ارتبطت نمطياً بالمرأة، وترك كل الوظائف والمجالات الأخرى للرجال. والأنكى، تُردف رقية، أن “لواء حملة المناهضة في العراق تقوده بعض النسوة، مثل البرلمانيات التابعات للساسة الرجال، متخوفات من تمكين النساء الأخريات”. في محافظتها، يتركز حضور النساء في المجال العام ضمن أدوارٍ رقابية أو تفتيشية أو حتى قامعة تمارسها نساء حوزويات أو عاملات ضمن الكوادر النسائية المرتبطة بالعتبات أو في مكاتب الأحزاب لغيرهن من النساء المخالفات، وتتميز الكثير من هؤلاء النساء أو بما يعرف بـ”وكيلات السلطة” بغلاظة وسلاطة اللسان؛ وكالة نسائية ما هي إلا وجه آخر من وجوه الأدلجة.
وبالفعل، ففي الوقت الذي اتخذت الحملة ضد النساء من شهر محرم منبراً لها لما يتميز به من أهمية دينية تستأثر بعواطف الجماهير الشيعية، هاجم الإسلامويون علانيةً عمل المرأة، يدعمهم جمع من المدونين وحسابات المانوسفير العراقية. وما زالت تواجه أي امرأة تحاول التعبير عن رأيها في المساحات الرقمية، الرد الذكوري الأزلي: “عودي للمطبخ!”. ظاهرياً، يبدو هذا الرد مملاً وسخيفاً وسطحياً لا يستوجب أكثر من الإهمال أو السخرية في أقصى الأحوال، إلا أنه، واقعياً، ضمن السياق السلطوي، يهدف إلى الحدّ من دور المرأة وقولبته اجتماعياً وحتى مؤسساتياً بإيكال المهام الإدارية والمكتبية إلى النساء العاملات في وظائف ميدانية كالهندسة مثلاً، وذلك تبعاً لإرادة دينية-سياسية باتجاه اختزال دور المرأة، سواء تلك العاملة خارج البيت أو في داخله، من خلال عدم الاعتراف بحقها في الدخل باعتبار أن العمل في البيت هو بمثابة “خدمة غير مأجورة” أو “الإمتاع الزوجي كشرط للنفقة”، كما ترمز التغييرات المقترحة لقانون الأحوال.
وكما العام الماضي، اتخذت محاولة اقتراح التغيير الممثلة بمسودة من ورقتين، وما تبعها من حملةٍ إعلامية ورقمية يشارك فيها سياسيون ورجال دين ومدونون، وكذلك برلمانيات ممثلات عن أحزابهن الدينية، أو النساء وكيلات السلطة الدينية، من شهر محرم توقيتاً لإثارة هذه القضية مجدداً، حتى تستفيد من الزخم والتأثير العاطفي والنفسي المرتبط بهذه المناسبة الدينية، لتُلهب حماس الجماهير وتدفعهم إلى دعمها وتأييدها.
ورغم أن المسودة لم تذكر تفاصيل ما ستتضمنه المدونة الشرعية من موادٍ قانونية تفصيلية، إلا أن ما جاء فيها يكفي لدق ناقوس الخطر لمستقبلٍ مخيف ينتظر المجتمع العراقي عامةً، والنساء خاصةً، إذ سيحاصرهنّ أكثر بكثير من الحاضر المتأزم والملغوم والمُتلبد.
إن إحالة المسائل الشخصية للفقهين الشيعي والسني للبت بها، وحسب “الرأي الفقهي المشهور”، يضرب بالدستور عرض الحائط، إذ أن ترجيح “الرأي الفقهي المشهور” على حساب “المرجع الذي تتبعه الأغلبية” على سبيل المثال إلا في حالة تعذره، يُعارض مبدأ الحرية الدينية الذي من المفترض أن الدستور قد كفلها للعراقيين. ومن جهةٍ أخرى، فإنه يُلبي عنصراً واحداً فقط من العناصر المذكورة ضمن المادة الدستورية 41 المتعلق بالمذهب، مهملاً العناصر الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة بالمعتقدات والاختيارات، فلا وجود لقانونٍ مدني مثلاً في العراق، وليس هناك إمكانية في خضم الأجواء الحالية للمطالبة بمثل هكذا قانون.
وتُعطي المسودة الأولوية لمذهب الزوج عند نشوب أي خلاف بين الزوجين “بشأن المذهب الذي جرى إبرام عقد الزواج وفقاً لأحكامه”، وبخلافه في حال “اختلف أطراف القضية الواحدة في الأسرة بشأن تحديد مصدر الأحكام الواجب تطبيقها في طلبهم فيُعتمد الرأي الشرعي فيها”، وهنا ستُطرح الكثير من الأسئلة حول مصير الزواجات المختلطة في خضم شقاقاتٍ وخلافاتٍ أسرية متوقعة. سيسمح التغيير “لمن لم يسبق لهم اختيار تطبيق أحكام مذهب معين عند إبرام عقد الزواج، بتقديم طلب الى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق الأحكام الشرعية وفق المذهب الذي يختارونه”، أو بالأحرى الذي يختاره الزوج، وفق ما سبق.
كما وتنص المسودة على إلغاء نص الفقرة (5) من المادة (10) من القانون الحالي، التي تُحاسب على إبرام عقود الزواج خارج المحاكم، ليستبدلها بما يلي: “تصدق محكمة الأحوال الشخصية عقود الزواج التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين، على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين”. وهذا التدخل في تغيير فقرة قانونية كاملة للقانون 188 فيه نسف للقانون نفسه وتفنيد ذريعة ترك الاختيار للعراقيين لتقرير الاعتماد على القانون الحالي أو المدونة، والأدهى من ذلك أنه يترك ثغرة قانونية تسمح لزواج القاصرات حسب ما يرى المذهب المعني.
“كلا، كلا للمتعة”: صرخة نسائية محليّة وتعبئة دولية الصدى
جرى تحشيد أحزاب الإسلام السياسي الشيعي ورعاته من رجال الدين لـ”تعديل” قانون الأحوال الشخصية 1959 بما لا تشتهيه سفنهم. فرغم أنها لجأت لاستراتيجيات الحملة على الجندر نفسها، حيث عمدت إلى التضليل وركنت إلى ثنائية “قانون الأحوال مقابل الإسلام”، كما تذكر مسودة المدونة متحججة بالمادة الثانية من الدستور كسبب موجب للتغيير، فادعت الأحزاب الحق في “الحرية الشخصية”، وربما كانت محقة في الحجة الأخيرة سوى أنها حرية بالوصاية على النساء واستعبادهن، إلا أن حملتها لم تخلُ من تعبئة مضادة مقارنةً بحملة الجندر. فقوبلت المقترحات بتغيير القانون بحركةٍ نسائية اشترك فيها طيف واسع من الناشطات المستقلات أو العاملات ضمن منظماتٍ غير حكومية، والمحاميات، والناشطين والمحامين، وإعلاميات وإعلاميين، ومجموعة من الباحثات والأكاديميات والكاتبات، وما يُعرف بمؤثرات ومؤثري السوشيال ميديا، وبعض رجال الدين، وعلى رأسهم العلامة كمال الحيدري، في ردٍ له على استفتاء حديث، بالإضافة إلى عددٍ من البرلمانيات، في سابقةٍ في المشهد السياسي العراقي؛ إذ طالما كانت البرلمانيات وكيلات أو ممثلات عن أحزابهن، لا عن المرأة العراقية، ومع أنه مازالت الغالبية كذلك، إلا أن وجود استثناءات تبلورت عن تنظيم الصفوف في كتلةٍ واحدة بحد ذاته مهم ومربك لأحزاب حكومة يهيمن عليها الإطار التنسيقي الشيعي.
ركزت التعبئة التي تكثفت في البداية في الحيز الرقمي على زواج القاصرات، وتحديداً على فئة التسعة أعوام، أما سردية التحشيد المضاد فقد وظفت مصطلحات وتسميات أكثر جرأة وتحدياً، أبرزها “اغتصاب الطفلات” و”البيدوفيليا المُشرعنة”. ورغم أن الفئة الأكثر تضرراً من ظاهرة التزويج القسري هي أكبر عمراً بقليل من سن التاسعة، إلا أن التركيز على هذا العمر بوصفه نتيجة متوقعه للتشريعات المستندة على التفسيرات الفقهية ولتبديل الفقرة الخامسة من المادة العاشرة، قلب الطاولة أو كاد على المطالبين بالمدونات الشرعية كأساس للاحتكام “الاختياري” في الأحوال الشخصية، ومنها الزواج. فسرعان ما تردد صدى الحملة في الإعلام العربي والغربي، وحتى حسابات أقصى اليمين في أوروبا والغرب تلقفت الخبر، وصاغته على أنه حقيقة، مما شكل فضيحة للنظام العراقي برمته.
كما تحوّل الحيزان الرقمي والإعلامي إلى مساحةٍ للنقاش وتفكيك المدارس الفقهية المتعددة ودراسة مواقفها من المرأة، مما فتح الباب إلى ظهور نقدٍ ومراجعة دينية تحاول انتزاع التفسير الديني من احتكار مجموعة محددة من الفقهاء الرجال في الوقت الذي تؤكد فيه على تغيُّر الزمان والمكان، وبأن الدين لا يُقدم بالضرورة إجابات أو معالجات مناسبة لكل السياقات.
بموازاة ذلك، نظم المنخرطون والمنخرطات في التحشيد المناهض لتعديلات القانون وقفات احتجاجية في العديد من مدن العراق. فاستعادت النساء الفضاء العام، في مشهدٍ ذكّر السُلطات بتشرين مع اختلاف الأعداد. إلا أن مجرد خروج نسوة متجانسات في الصورة والشكل النمطي، يرتدين الحجاب والعباءة السوداء، في مدينة دينية محافظة كالنجف، أثار حفيظة رجال السُلطة الدينية والعشائرية هناك. فتعرضت مساحة المحتجين والمحتجات إلى الانتهاك بعد أن قاطع وقفتهم رجال السُلطة الدينية والعشائرية واعتدوا عليها، فما كان من النساء المتظاهرات إلا الهُتاف بوجههم بِـ”كلا، كلا للمتعة”، في رسالة واضحة ضد الإسلامويين لفضح المتاجرين من رجال الدين، وبأن العراقيات ينشدن الكرامة لا الإتجار أو الاستعباد باسم الزواج وتحت غطاء القداسة.
لم تجد السُلطة الدينية والسياسية بممثليها ووكلائها من مدونين وإعلاميين سوى الاتهامات الأخلاقية ذاتها لتردّدها في الساحات أو عبر الشاشات، مرددة على سبيل المثال هتاف: “كلا، كلا للنسوية”، وكأن هذه المفردة “سُبة” أو “تهمة” أو “شتيمة”، و”كلا كلا بعثية”، واصمةً هؤلاء النسوة وأياً من المعارضات أو المعارضين للتعديل بـ”بنات وأبناء السفارات”، “بنات الرفيقات”، “الماسونيات”، “العملاء”، “الممثلات الإباحيات”، “والفاسدات” و”الفاسدين”؛ والأخيرة خرجت عن لسان رجل الدين رشيد الحسيني في بثٍ له، مخاطباً المعارضين لتغيير القانون واصفاً إياهم كذلك بـ”اللادينيين”، ومهدداً بشكل صريح بأنه سيكون لهم “كلام آخر” في حال استمروا بالاعتراض. كما انطلقت الدعوات لمنع النساء من النزول إلى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات، مذكرةً بأن الهدف الكامن من تغيير القانون 188 هو في شرعنة الوصاية على النساء وعبوديتهنّ في الأمد البعيد. ومازالت حسابات السوشيال ميديا، خصوصا أكس، والأخير قد بات ماكنة لضخ خطاب الكراهية والعنصرية، تعج بمختلف أنواع السُباب والطعون والاتهامات لكل من تعارض أو يعارض التغيير.
تتردد بشكلٍ خاص تهمة “أبناء وبنات السفارات” لوصم المعترضات والمعترضين على التعديل، وفي مفارقةٍ مضحكة مبكية، نستذكر كيف أن الدستور نفسه كان قد تمت صياغته برعاية حكومة الاحتلال الأمريكي وإشراف ممثلي الولايات المتحدة، فتذكر إحدى الناشطات وعضوات تحالف “نساء الرافدين” اللاتي قابلتهن زهراء علي في كتابها، كيف أخبرتها محامية أمريكية كانت تعمل مع لجنة صياغة الدستور، مستغربةً من رفضها وأخريات للمادة 41 ، قائلةً: “مو المفروض من مصلحة النّساء إنّه يكون لكل مَجمُوعة قانونها الخاصّ؟ “شعرت الناشطة المعنية أن “الأجانب” كانوا منفصلين عن الواقع العراقي ولا يعرفون حقيقة مجتمعه، كما تُوضح علي.
وفي سياق الاتهامات والتحريض، تم اعتقال الناشط السياسي والحقوقي همام قباني المعارض للتعديل المقترح من داخل منزله في مدينة الكوت “على أيدي قوات ما يُسمى بالأمن الوطني”، من دون مذكرة اعتقال سوى التذرع بطبيعة منشوراته على السوشيال ميديا. ولا يُعرف مكان اعتقاله حتى هذه اللحظة.
ورغم الهجمة الأخلاقية واستمرار سياسة الترهيب والتخويف والملاحقة وما سبقها من إصرار ذهب إلى حد المساومة بالنساء والأطفال داخل قبة البرلمان، يبدو أن التحشيد المناهض للمدونة الشرعية ساهم في تغيير مجرى الأمور بعض الشيء. فأصدر الوقف السني وثيقة تمنع التزويج خارج المحاكم. وبرغم توجيهه، ما زالت القضية مثاراً للتنافس السياسي، فدعا أثيل النُجيفي، القيادي السُني في حزب “متحدون”، عبر منصة أكس “علماء الدين السنة وذوي الاختصاص في قوانين الاحوال الشخصية لمناقشة ما يجب على المجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني إدراجه في مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية”، مؤكداً أن ذلك أجدى من الاعتراض لأن “القانون سيمضي”، على حد تعبيره. فهل سيمضي التغيير، أم سيُثني موقف الوقف السُني السياسيين المعنيين من تمريره؟ في كلتا الحالتين، يُرينا التاريخ أن المحاولات قد تتعرقل ولكنها لا تلبث أن تتكرر حين تكون الفرصة مواتية، والصفقات ذات منفعة لكل الأطراف.
المناخ الحالي الذي ما تزال النساء فيه حاضرات رغم إسكاتهن في العراق، لا يسمح بالمطالبة بتعديل قانون الأحوال الشخصية النافذ نحو الأفضل كي يواكب تطورات العصر وبما يضمن حقوقاً عادلة ومنصفة ومساواتية للنساء، لذا فالخيار الوحيد المتاح هو الحفاظ عليه ليظل “شوكة في حلق” الإسلام السياسي الشيعي وخططه الديستاوبوية. فالدفاع عنه الآن، هو دفاع عن الأطفال، الفتيات، النساء، الأسرة، المجتمع، التنوع، الدولة والوطن.
ديستوبيا المستقبل: واقع ظلامي مُتخيّل
يُعبر التخييل النسوي الديستاوبوي في الأدب العالمي عن المخاوف من حاضرٍ بات يُلوح بالتراجع والتقهقر بالنسبة لحقوق المرأة ومكتسباتها، والهواجس من مستقبلٍ متخيل لعالمٍ رجعي، فاسد، وخرب، ليس فيه للمرأة مكانة أو قيمة أو حقوق، كما في رواية “حكاية الأمة” للروائية الكندية مارغريت أتوود، ورواية “قبل أن تنام” للكاتبة الباكستانية بينا شاه، وغيرها الكثير. لا تُمثل الديسوتوبيا المستقبل المتخيل وحده، بل هي تعكس الوضع المتردي في الحاضر أيضاً، والقلق من الرجوع الى نقطةٍ بعيدةٍ في الماضي، فتنصهر فيها بذلك كل هذه الأزمنة الثلاث.
وهذا ما يحصل في العراق.
إذ تستهدف المحاولات المتكررة لقانون الأحوال المستقبل، لتكرس الواقع الحالي بمنحه الشرعية القانونية. وهكذا في الديسوتوبيا العراقية، ستُسحب السُلطة من تحت بساط مؤسسات الدولة وتُوضع بيد رجال الدين والفقهاء. مجتمعياً، سيزداد تطييف المجتمع وتتوسع الفجوة بين السُنة والشيعة وبقية المكونات. وبعد أن تقلصت الزواجات المختلطة بعد أحداث العنف الطائفي في السنوات السابقة، وتحولت من كونها عادية ومستساغة (كما في البيت الذي وُلدت وترعرعت فيه) إلى نادرة ومستهجنة، فلن يكون لها وجود مستقبلاً. ويُغذي هذا التوجه الخطاب الديني، فعلى سبيل المثال، يُفتي رجل الدين والأستاذ في حوزة النجف رشيد الحسيني بعدم جواز زواج الشيعية من السُني “إذا خيف على مذهبها، على الأحوط”. ومع تمزيق فكرة المواطنة ذاتها، سيبدأ عهد عبودية النساء رسمياً، وباستعبادهن، سيسهل استعباد المجتمع ككل، والقضاء على تنوعه.
ستتحول الديستوبيا الى واقعٍ مُعاش.
فإذا كانت النساء مواطنات من الدرجة الثانية كما تتعامل معهنّ القوانين المجحفة والسياسات التميزية اليوم، فسيصبحنّ تابعات-على أفضل تقدير- أو عبيدا تحت رحمة الأوصياء من كهنة الدين ورجال العشيرة والبيت. وسينعكس التمايز الطائفي على حيوات النساء والأطفال، وستكون أوضاعهم الاجتماعية، وأحوالهم الشخصية وحقوقهم (إن وجدت) متباينة على حسب المذهب والمرجع المعني.
لا كرامة للنساء بعد شرعنة المتاجرة بهن وإستغلالهنّ جنسياً عن طريق ربط نفقتهن بشرط الاستمتاع الجنسي، أو حرمانهن من حقوقهن الأخرى كالميراث وحضانة الأطفال إن قرر الزوج التطليق، فإذا كنا نتغنى بالأمومة وعظمتها اليوم بمقولاتنا وأغانينا الشعبية، فلن يصبح لهذا الخطاب أي معنى أو حتى وجود في مستقبلٍ تُحارب فيه الأمومة ويُفصل فيه الأطفال عن أحضان أمهاتهن. ستكون الأمومة محصورة بالزوجة الخانعة الخاضعة الخادمة المُمتِعة لزوجها جنسياً، وإلا فستُحرم ذلك العنوان. ستُفرغ الأمومة من دلالاتها وتكتسب معاني سلبية جديدة، وبدأنا نشهد ملامح هذا التحول اليوم، فشتيمة أمهات الآخرين كوسيلة لتسقيط المقابل باتت مقروءة ومسموعة ومرئية.
في هذه الديسوتوبيا، سيسمح تقنين الزيجات المؤقتة (المتعة أو المسيار) أو تزويج القاصرات بتفشيها وشرعنتها، والأخير سيجعل المجتمع يُطبع مع النظر إلى الطفلات بوصفهن “سلع جنسية” يتاجر بهنّ إن قرر الوصي، الأب أو من ينوب عنه من رجال العائلة، أن الزواج من مصلحتهن. وسيحرمن بذلك من التعليم والعمل، ويتقلص الحضور النسائي في الحياة والمجتمع خارج أسوار البيت.
أما خلف أسواره، فحضورها يعني قبرها حيةً. وقالها مؤخراً بالحرف الواحد أحد الإعلاميين على شاشة التلفاز، “تنكُبر” النساء، على حد تعبيره. فلن تكون المرأة شيئاً أو وعاءً جنسياً وأداة خدمة فحسب، بل سيُصبح تعنيفها وتعنيف أطفالها أمراً مقبولاً أكثر، فلا قانون يُجرم ولا إعلام يُحاسب ولا ضغط مدني باتجاه تجريم العُنف الأسري. ومع الامتهان المقنن لكرامة الزوجات والأمهات، هل من الممكن الحديث حينها عن الأسر الفاضلة المتماسكة أو المجتمعات السوية؟ بل هل ستكون هناك كرامة للرجال؟ ستضيق دائرة الخيارات المتاحة أمام الكثير من الفتيات والنساء وأطفالهن: فإما القبول بالقهر والاضطهاد والسكوت عنه أو الضياع والتشرد بين فكي كماشة الإتجار بالبشر أو البغاء.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
إننا نعيش في عالمٍ تعوم فيه الحقائق وتحل بدلاً عنها مجموعة لا نهائية من التشابيه أو النماذج المصطنعة والنسخ التي لا تُخفي الحقيقة فحسب، بل تُقّدَم على أنها الحقيقة، يكتب جان بودريار المفكر الفرنسي في كتابه “التشبيه والمحاكاة”. وتنطبق نظريته على لغة “الاختيار” التي وظفها النائب رائد المالكي من أجل الترويج لمقترحه بـ”تعديل” قانون الأحوال الشخصية رقم 188 للعام 1959، مطمئناً العراقيين أنهم سيكونون مخيّرين بين تنظيم مسائلهم الشخصية وفق هذا القانون أو من خلال الرجوع إلى الفقه المذهبي الذي ستنص عليه المدوّنة الشرعية المقترحة، بعد أن تُصاغ فقراتها من قبل المجالس الشيعية والسنية في ظرف ستة أشهر بعد إقرار القانون، في خرقٍ لصلاحيات مجلس النواب القانونية.
لغة “الاختيار” هذه تقدم أنموذجاً لتبسيط وتضليل وطمس الكثير من الحقائق التي لا يُمكننا فهمها إلا من خلال تتبع مسار الأحداث منذ 2003 وحتى هذه اللحظة وقراءتها ضمن سياق تاريخي يعود إلى منتصف القرن العشرين حين شُرّع القانون، وردود الأفعال الرافضة له في الماضي والحاضر.
2003: تفتيت الدولة والمواجهة الأولى مع القانون
ما أن مضت أشهر قليلة على سقوط النظام البعثي في 2003 حتى سارع عبد العزيز الحكيم، زعيم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي حينها، إلى اقتراح المرسوم الأول (رقم 137)، والذي بموجبه يُلغى قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 النافذ (اختصاراً – القانون 188) واستبداله بقانون يعتمد كلياً على “الشريعة الإسلامية” بحجة “حرية العقيدة”.
الاقتراح تحول إلى أمر واقع بعد تصويت أغلبية أعضاء مجلس الحكم المؤقت الذي كان يرأسه وقتها.i
كان المرسوم يرمي إلى صياغة مجموعة من “مُدوَّنات القوانين المُعتمِدة على الطّائفة، والتي تتبع أنموذج الأسرة اللّبنانّي”، وفقاً للباحثة زهراء علي في كتابها “النساء والجندر في العراق: بين بناء الأمة والتفتت”. رَمَز المرسوم إلى حقبة الحكم الملكي الخالية من القوانين التي توحّد من القضايا الشخصية للعراقيين.
لم يكن هذا هو القانون الوحيد الذي حاولت القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران أن تغيّر طابعه إبان تسلمها الحكم في 2003، ولكن لم يكتب لها النجاح بفعل ضغوط ضده.
غالبية العراقيين لم يكونوا ربما على دراية بعد، بما كان يجري داخل أروقة مجلس الحكم المؤقت، إذ كانوا منهمكين بالتعامل مع الفوضى التي أعقبت الغزو. إلا أن عدداً من الناشطات العراقيات والمجموعات النسائية المستقلة، وأفراداً من المجتمع المدني عملوا على التصدي بقوة لذلك القرار، رغم دعم عدد من الناشطات الإسلامويات الشيعيات للقانون، بتبرير أحقيتهم في ممارسة حرية المعتقد بعد سنين من الاضطهاد والقمع، كما تصف علي في كتابها. وبعد أن أخذت تعبئتهم المضادة بُعداً دولياً ومع معارضة عدد من الإسلاميين السنة، تمكنوا أخيراً من الضغط على بول بريمر، رئيس سلطة التحالف المؤقتة المسؤولة عن العراق، وإقناعه بالعدول عن التوقيع عليها.
مواجهات متتالية
لم تنته محاولات التخلص من القانون 188 واستبداله بقانون فقهي وطائفي بدعوى “حرية العقيدة” في 2003. إذ تكرّرت المحاولات في الأعوام اللاحقة، تحديداً في 2005 و 2014 و2017.
اعتمدت الأحزاب الإسلاموية المادة 41 من الدستور العراقي الذي وضع عام 2005، والتي تنص على أن “العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم ويُنظّم ذلك بقانون”، اعتمدتها منفذاً لإلغاء القانون 188 واستبداله بقانون مذهبي؛ رغم أنها كانت قد جُمدت وقتها بعد إثارتها الجدل والسخط لتعارضها مع مواد أخرى في الدستور.
ومع ذلك، ما فتئت هذه المادة ومنذ 2005 تشكل مرجعاً للقوى الدينية الشيعية كذريعة لدستورية وشرعية تغيير القانون النافذ. بدا ذلك جلياً في خطاب النائب رائد المالكي، الذي أعاد وبطريقةٍ بدت عشوائية ومفاجئة للوهلة الأولى، المطالبات بـ”تعديل” القانون 188 عن طريق اقتراح صياغة “مدوّنة شرعية” تحتوي على بابين للفقه السني والشيعي، مذكرةً بلائحة قانون عام 1945 التي لم تر النور بسبب المعارضة الداخلية حينذاك من قبل آية الله محسن الحكيم بعد أن أرسل أحد أبنائه “إلى مجلس الأمة لحث النواب على عدم إقرار القانون، فانصاع النواب واضطرت الحكومة إلى إحالته على لجنة مختصة لدراسته وإعادة النظر فيه”، وفقاً لرسالة أبرقها الحكيم إلى حكومة انقلاب البعث في 1963 ليحثها على إلغاء القانون 188. عُدلت المادة الخاصة بتوزيع الإرث مناصفة بين الرجل والمرأة عقب انقلاب شباط 1963، لجعلها مطابقة لـ”الحكم الشرعي”، إلا أن تعديلها لم يثنِ الحكيم والنخبة النجفية عن الاستمرار في معادة القانون. وإذا كانت اللائحة علامة للتقدم بمقاييس ذلك الزمن، لكونها جاءت بعد محاولةٍ سابقة فاشلة في عام 1933 لتوحيد أحوال العراقيين الشخصية في قانون، محيلةً القضايا الشخصية للمحاكم على الرغم من اعتمادها على الفقهين السني والشيعي، فالمدونة المقترحة علامة انتكاس بمقاييس العصر الحالي.
وعلى العكس من المحاولات الماضية، لم يُلغَ المقترح القانون الحالي ظاهرياً، بل سوّق للمدونة الشرعية على أنها إضافة ستُتيح الاختيار أمام المواطن. ولكن مجرد خلق المدونة الشرعية في حال إقرارها “سلطة دينية موازية”، سيسحب سمة “الاختيار” من المجتمع، حيث ستتنافس هذه السلطة الدينية مع سلطة الدولة، وستقوضها حدّ ابتلاعها في المستقبل، على غرار السلطتين العسكرية والأمنية، لكونها ستنتج سلطتين: “واحدة عقائدية أيديولوجية تشتق شرعيتها من العصبية الشيعية (التي قد تكون عابرة للحدود)، وأخرى دولية تعتمد في وجودها على شرعية الدولة الحديثة”، وفق الباحث حارث حسن. وكما في حالة السلطة الأمنية، فإنه في حالة تطبيق هذه السلطة الدينية “الموازية”، ستكون لسلطة الفقهاء اليد العليا في تقرير مصائر المواطنين. وحسب السياسات المرسومة والبيئة التي لا تمنح حق الاختيار للنساء أصلاً، ستُصبح المدونة الشرعية واقع حال يرغمن عليه، إن قرر الرجل ذلك.
يُذكِّر عِداءُ الأحزاب الإسلامية الشيعية للقانون النافذ وإصرارها على تغييره بمواقف مشابهة ناهضت القانون وقت صدوره في القرن الماضي، أبرزها صدر عن المرجعية الدينية ممثلة بالسيد محسن الحكيم.
كان ذلك العداء أحد أهم الأسباب التي أدت الى بروز حركة سياسية شيعية إبان الستينات، وفقاً لعلي في كتابها. زاد من حدته التغييرات التي طرأت على القانون في عهد الحكم البعثي والتي تأرجحت بين الروح القومية والاشتراكية في ظل النمو الاقتصادي والنزعة التشكيكية المحافظة المشوبة بـ”صبغة عشائرية إسلامية” نتيجة للحروب المتتالية وآثار العقوبات الاقتصادية وما تبعها من حملة إيمانية وظفت أيديولوجية دينية تركت بصمتها على عدد من القوانين والممارسات.ii
من هنا فإن الأحزاب والشخصيات الرافضة لقانون 1959 تدعم حجتها في المطالبة بتغييره، بالزعم بأن القانون بات يُمثل إرثاً “بعثياً” وجب التخلص منه، ضمن جملةٍ من حججٍ أخرى غير حقيقية ومضللة، من بينها أن القانون “مدني” ويعارض الشريعة الإسلامية وثوابتها. تحولت هذه الحجج إلى “تشبيهاتٍ” -بلغة جان بودريار – تتداولها على أنها حقائق؛ علماً أن كلا الحجتين غير دقيقتين. فالقانون لم يُسن في زمن البعث، وإن أدخلت عليه تعديلات خلال تلك الحقبة، إلا أنه حافظ على جوهره، كما أن هذه الادعاء يبدو واهياً أمام حزمة القوانين التي سنت خلال حكم البعث وما زالت نافذة لم تغير خلال عشرين عاماً، وعلى رأسها قانون العقوبات رقم 111 للعام 1969!
كما أن المزاعم بأن القانون 188 لا يستمد مواده من الشريعة، فلا أساس له من الصحة، إذ أن القانون يجمع بين الأحكام السنية والشيعية بشكلٍ يُلغي التمايز بين الاثنين ويوفر إطاراً قانونياً موحداً يحتكم إليه العراقيون بالرجوع إلى محاكم وقضاة معينين من قبل الدولة، لا إلى علماء الدين، متجاوزاً بذلك الخطوط الطائفية الإثنية ومعبراً عن صوت النساء العراقيات في وقتها من خلال مشاركتهن في عملية إعداده ودعمه، وفي مقدمتهن نزيهة الدليمي.iii
حكم رجال الدين: ثيوقراطية اللصوص الشمولية
عند التطرق إلى الأحداث التي أعقبت الغزو الأمريكي وحلفائه للعراق وسقوط النظام البعثي وتبعاته، بات من البديهي الحديث عن غياب خطة واضحة لبناء الدولة، حيث أفضت سلسلة من السياسات والقرارات الخاطئة والكارثية، ومن ضمنها حل الجيش العراقي وما أعقبه من تأسيس نظام محاصصاتي طائفي وإثني، إلى خلق دوامةٍ من العنف السياسي والطائفي، سُرعان ما تُرجم الى عنفٍ اجتماعي، اشتدت حدته مع تآكل وضعف المؤسسات التعليمية والصحية والقانونية والأمنية.
إلا أن التطورات الأخيرة في العراق وسياقها المتمحور حول البنى الهيكلية والظروف التي أنتجتها ونمَّتها الحكومات المتعاقبة وجذورها الممتدة إلى العام 2003 تضعنا أمام صورة مختلفة.
إن خطة بناء الدولة لم تكن غائبة بل كانت مُغيّبة لصالح تخطيط ممنهج ومدروس لإنشاء “ثيوقراطية” (حكم ديني) شيعية شمولية بصبغةٍ قبلية، سعت تدريجياً لتقويض سُلطة الدولة عن طريق تأسيس قوة اقتصادية وعسكرية بديلة، استنزفت وعبثت بموارد وقُدرات البلد. ظلت ثيوقراطية اللصوص متسترة خلف عناوين “الديمقراطية الناشئة” البراقة والزائفة المُختزلة في صندوق انتخابات يعمل ضمن قواعد اللعبة بحيث يُعيد إنتاج الوجوه ذاتها بغض النظر عن المُعطيات. في وقت كانت تأسست فيه خلف الكواليس دعائم الثيوقراطية المذهبية المتمثلة برجال الدين ونفوذهم الاقتصادي وهيمنتهم الاجتماعية الصاعدة، هكذا تغلغّل خطابهم إلى المؤسسات التعليمية والإعلامية ولم يعد محصوراً بالمنابر والحلقات الدينية، وأصبح عابرا للمكان والزمان، مستفيدا من وسائل الاتصال والتكنلوجيا الحديثة وما تُقدمه من انتشار سريع وحضور مستمر.
وعليه، ظل شكل الحكم القائم “هجيناً”؛ في الواجهة، هناك “دولة” لها دستور على تناقضاته وفجواته، وصندوق انتخابات على شكليته، ومؤسساتٍ على هشاشتها، دولة تصادق وتوقع على المعاهدات والمواثيق الدولية، خصوصاً تلك المتعلقة بحماية النساء والأطفال (دون أن تلتزم بها أو تُنفذها)، بينما في العمق، تتحرك أذرع السلطة الدينية وتمتد باتجاهاتٍ متعددة لتفرض سطوتها بطرق مختلفة شبه أو غير رسمية، وأولى أهدافها الفتيات والنساء.
الأدلجة الدينية وقمع النساء
ما أن انزلق العراق إلى الفوضى في أعقاب الغزو حتى بدأت النساء والفتيات يدفعنَ الثمن الأكبر. استهدفت المجاميع المسلحة والميليشيات، السُنية والشيعية على حدّ سواء، النساء غير المحجبات، فتعرضنَ للمضايقات وأعمال العنف التي وصلت إلى حد القتل في الأماكن المحافظة الخاضعة لسيطرة تلك الميليشيات.iv ومع انقضاء موجة العنف الأولى، بدأ عهد تغييب النساء وأدلجة صغارهن وتحويلهن إلى مجرد توابع بلا كيانٍ مستقل أو عقلٍ حر. وكان السلاح وما زال هو ثالوث الشرف والعفة والحشمة.
في بادئ الأمر، امتلأت شوارع بغداد خلال سنوات العنف الطائفي، خصوصاً تلك التي تتوسطها الجامعات، بلافتاتٍ تحث وتُشجع على ارتداء الحجاب والزي الشرعي، واصفةً المُلتزمة به بفضائل أو مواصفات أخلاقية حميدة تتعلق بـ”العفة” و”الحشمة” و”الستر”، وبخلافه، فإن المرأة غير الملتزمة بالحجاب أو الزي الديني، هي امرأة غير عفيفة أو محتشمة أو مستورة. فكانت تلك بداية التمييز النسائي، بمعنى تفضيل المرأة على حسب شكلها ومظهرها، وتنميطها الى أنموذج وقالب واحد يُمثل الطُهر والعفاف، فتحولت أجساد النساء الى مجرد نواقل لتلك الرموز والأيديولوجيات، فكلما شذّ مظهر المرأة عن تلك الصورة المتجانسة، استحقت ما يقع عليها من أشكال الإساءات والانتهاكات بدعوى “الضبط” أو “التقويم”.
وتدريجياً، تبلورت مرحلة الأدلجة مع تقويض المنظومة التعليمية الحكومية وخصخصتها فتم تأسيس سُلطة تعليمية دينية موازية من خلال التوسع في إنشاء مدارس وجامعات خاصة تُدار من قبل رجال دين أو ساسة أو رجال أعمال نافذين ومفتقرين لأي مؤهلات علمية وأكاديمية، وهكذا أخذت نوافذ المعارف والعلوم تُغلق شيئاً فشيئاً إلا نافذة واحدة ظلت مفتوحة على مصراعيها، هي نافذة الفقه المسيرة حسب تفسيرات ذكورية لرجال الدين. تضرب المنظومة التعليمية الأهلية والدينية عصفورين بحجرٍ واحد: فهي تؤدلج الفتيات والنساء وتُسيطر عليهن، وفي الوقت ذاته تصنع منهن رأس مال سياسي واجتماعي، فيُصبحن الوجه الشرعي للمؤسسة الدينية، ووكيلاتها في فرض الهيمنة على الحيز العام من خلال محاسبة وقمع النساء المخالفات.
ومع الوقت تنامى التحجيب القسري في الكثير من المدارس والجامعات الحكومية أو الأهلية، وارتبط بسن التكليف، وهو التسعة أعوام، أو ثمانية أعوام قمرية حسب الفقه الجعفري، وصارت تُقام مراسيم احتفالية تُتوج الفتيات في هذا العمر، داخل المدارس وخارجها برعاية جهات دينية وسياسية شتى وأحياناً برعاية أو مباركة المحافظين. وفي المدن المحافظة أو تلك المرتبطة برمزية دينية كالنجف وكربلاء، فإن الحجاب القسري يأخذ بُعداً مختلفاً إذ أنه يشمل العباءة وليس غطاء الرأس وحده، فتكاد تكون جميع النساء محجبات في الأساس في هذه المدن. ومؤخراً، تضمن كتاب مادة التربية الإسلامية ضمن منهج السادس الابتدائي موضوعا مقررا عُنون بِـ”الحياء والحشمة والحجاب في عامها العاشر”. وارتبط بالتحجيب القسري صعود خطاب ديني في جميع المنابر، من بينها حسابات السوشيال ميديا، مخاطباً الأزواج على وجه التحديد كي يقوموا بدورهم في الضبط وفرض السيطرة، منادياً بضرورة تغطية المرأة لجسدها وتجنب التبرج وحتى الخروج إلى الفضاء العام، وحثها على التزام المنزل.
ساهم هذا الخطاب وممارسة فرض الحجاب والعباءة شبه الرسمية في تفاقم ظاهرة التحرش والابتزاز في الفضاءات العامة والخاصة والرقمية، وتُركت النساء وحدهن ليتصّدين لها باللجوء الى الهاتف النقال والتصوير والنشر على مواقع السوشيال ميديا بغية تحقيق مساءلة اجتماعية تُعوّض عن غياب رديفتها القانونية، ولم يسلمنَ في كل الأحوال من اللوم والتعهير والنقد الجارح.
لم تتخذ الأحزاب الحاكمة ولا الوزارات ذات الشأن أية إجراءات تُذكر للتصدي أو الوقوف بجانب المرأة أمام تفاقم التحرّش ضدها، بل على النقيض من ذلك تماماً، فإن السياسات الحكومية كانت ماضية باتجاه قص أجنحة المرأة والطفلة العراقية، حيث رفض البرلمان سنّ قانون يحميها ويحمي جميع الأطفال من آفة العنف الأسري المتزايد، أسوة بإقليم كردستان. كما لم تُعالج أو تغيّر أياً من البنود التمييزية المتضمنة في قانون العقوبات العراقي لعام 1969، فعلى الرغم من أنها صيغت في زمن البعث، إلا أنها تبدو متناسقة مع التوجه الثيوقراطي الشمولي، فتركتها كما هي. وبوجود قوانين متسامحة مع الجرائم التي تُرتكب باسم “الشرف”، تُقتل العراقيات كل يوم من الشمال إلى الجنوب وتُخفف العقوبات عن الجناة، ومن ثم تُوصم الضحايا إلى الأبد وتُمحى أية ذكرى لهن بدفنهن في مقابر بلا اسم ولا أثر، سوى من عنوان جمعي عريض: “تلال المخطئات أو المنفيات”.
كما لم تُبال أيّ من أحزاب السُلطة بالأرقام المُخيفة لما يُعرف بـ”زواج القاصرات”، فيتم تزويج الطفلات قسراً بمباركة رجال الدين خارج المحاكم، وما يصاحب هذه الظاهرة من ارتفاع معدّلات تسرّب الفتيات من المدارس والتعليم. وهذه اللامبالاة لا تبدو بريئة بل مُتعمدة بعد أن هُيأت كل الظروف المناسبة لها من تقويض للمنظومة التعليمية، والفشل في تطبيق قانون إلزامية التعليم، إذ أنه سيخلق أزمة إضافية لمجموع الأزمات التي عجزت الأحزاب عن معالجتها، ومنها قلة المباني المدرسية وافتقار الكثير منها لإجراءات السلامة وانتشار المدارس الطينية، وتفشي الفقر، والبطالة، بالإضافة الى أزمات النزوح في المناطق التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي.
كما لم تهتم الحكومات المتعاقبة بأشكالٍ أخرى من الإتجار بالصغيرات والبالغات، سواءٌ من تضطر منهن وتحت قسوة الظروف القاهرة العمل في الملاهي الليلية أم في الدعارة تحت رعاية الميليشيات، وهي نفسها من ترعى إغراق البلد بالمخدرات مع الأحزاب السياسية التابعة لها، أو من تقع فريسة الزيجات المؤقتة (المتعة) والمتاجرة التي تتم في مكاتب السمسرة الدينية خارج إطار المحاكم.
وبالمقابل، فإن نسبة انخراط المرأة في سوق العمل أقل من 11 بالمئة، وهي النسبة الأدنى بين بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهذا الرقم يفضح أي حديثٍ مضى عن “تمكين المرأة“، الذي لم يكن سوى تكتيك لتحسين صورة العراق دولياً، بعيداً عن واقع المرأة.
تشرين والحقد على النساء
تميّزت حركة تشرين الاحتجاجية بمشاركة مهولة وغير مسبوقة من النساء من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والاقتصادية، فاستعادت النساء بمشاركتهن الفضاء العام، ورغم وجود استثناءاتٍ مهمة، إلا أن مشاركة الكثيرات منهن ظلت محصورة بالأدوار الاجتماعية النمطية. ومع ذلك فقد شكّل وجودهن صدمة للأحزاب الحاكمة ولرجال الدين على حد سواء، فواجهت النساء خطاباً مضاداً يطعن بالسمعة والأخلاق والشرف، التي أحالوها “أسلحة فتاكة” كما الرصاص الذي اغتال عدداً من الناشطات، ومن بينهن رِهام يعقوب، وما زال يُستخدم للتخلص من أي امرأة تتحول لمصدر إزعاج. هي اغتيالات معنوية لإسكاتهن مباشرة أو بدفع وكلاء السلطات الأبوية في العشائر والبيوت إلى معاقبة النساء بالنيابة عنهم.
لم تكن تلك التصفيات المعنوية والجسدية للنشطاء والناشطات لتنتهي مع تشرين، إذ تنامى لدى الأحزاب الحاكمة ورجال الدين هوس السيطرة على المجتمع ككل، وخصوصاً النساء، فتوالت القوانين والسياسات والتشريعات المستهدفة لحرية التعبير طوال السنوات الماضية، بعد أن سيطرت أحزاب الإطار التنسيقي الموالية لإيران على الحكم؛ من أبرزها سياسة “المحتوى الهابط”، ومن ثم الحملة على مفهوم الجندر، التي لم تكن إلا واجهة للانقضاض أكثر على النساء وخنق مشاركتهن في المجالين النشاطي والأكاديمي، ودفعهن الى الابتعاد عن الفضاء العام الواقعي منه والرقمي.
باتت الناشطات تُهاجم ليس من على المنابر فحسب، بل جُيشت جيوش المدونين الالكترونية وقنوات التيلجرام لشيطنتهن والتحريض عليهن. ولم يقتصر التضييق على الناشطات وحدهن وإرغام عدد منهن على كتابة تعهدات خطية، بل شمل النساء كافة، سواء من أردن المشاركة في مارثون البصرة، أو حتى المشي في المواكب الحسينية في أغلب المحافظات!
“إقطع البداية، حتى لا تصل لتلك النهاية!”
ترى العديد من النساء الناشطات والأكاديميات اللاتي قابلتهنّ في دراسةٍ لي عن الحملة على الجندر، أنها أكثر من مجرد رد فعل عنيف (backlash)، بل هي تعزيز لواقع متجذر ينظر إلى المرأة بوصفها “كائناً أدنى وإضافياً وتابعاً في مضامينها”. فتصف رقية من محافظةٍ دينية في وسط العراق، حيث تُهيمن السُلطة الدينية ممثلةً بالعتبات والحوزة على المشهد، هدف الحملة بِـ”قطع البداية التي تتفرع منها صلاحيات كثيرة للمرأة تخرج منها من قوقعة الأدوار الجندرية المنسوبة إليها بالعادات الاجتماعية (المطبخ والإنجاب غيرها)”.
وتُضيف أن “حملة المناهضة ما هي إلا تطبيع لفكرة مكانكِ المطبخ”. فيُراد حصر النساء في مهامٍ محددة ارتبطت نمطياً بالمرأة، وترك كل الوظائف والمجالات الأخرى للرجال. والأنكى، تُردف رقية، أن “لواء حملة المناهضة في العراق تقوده بعض النسوة، مثل البرلمانيات التابعات للساسة الرجال، متخوفات من تمكين النساء الأخريات”. في محافظتها، يتركز حضور النساء في المجال العام ضمن أدوارٍ رقابية أو تفتيشية أو حتى قامعة تمارسها نساء حوزويات أو عاملات ضمن الكوادر النسائية المرتبطة بالعتبات أو في مكاتب الأحزاب لغيرهن من النساء المخالفات، وتتميز الكثير من هؤلاء النساء أو بما يعرف بـ”وكيلات السلطة” بغلاظة وسلاطة اللسان؛ وكالة نسائية ما هي إلا وجه آخر من وجوه الأدلجة.
وبالفعل، ففي الوقت الذي اتخذت الحملة ضد النساء من شهر محرم منبراً لها لما يتميز به من أهمية دينية تستأثر بعواطف الجماهير الشيعية، هاجم الإسلامويون علانيةً عمل المرأة، يدعمهم جمع من المدونين وحسابات المانوسفير العراقية. وما زالت تواجه أي امرأة تحاول التعبير عن رأيها في المساحات الرقمية، الرد الذكوري الأزلي: “عودي للمطبخ!”. ظاهرياً، يبدو هذا الرد مملاً وسخيفاً وسطحياً لا يستوجب أكثر من الإهمال أو السخرية في أقصى الأحوال، إلا أنه، واقعياً، ضمن السياق السلطوي، يهدف إلى الحدّ من دور المرأة وقولبته اجتماعياً وحتى مؤسساتياً بإيكال المهام الإدارية والمكتبية إلى النساء العاملات في وظائف ميدانية كالهندسة مثلاً، وذلك تبعاً لإرادة دينية-سياسية باتجاه اختزال دور المرأة، سواء تلك العاملة خارج البيت أو في داخله، من خلال عدم الاعتراف بحقها في الدخل باعتبار أن العمل في البيت هو بمثابة “خدمة غير مأجورة” أو “الإمتاع الزوجي كشرط للنفقة”، كما ترمز التغييرات المقترحة لقانون الأحوال.
وكما العام الماضي، اتخذت محاولة اقتراح التغيير الممثلة بمسودة من ورقتين، وما تبعها من حملةٍ إعلامية ورقمية يشارك فيها سياسيون ورجال دين ومدونون، وكذلك برلمانيات ممثلات عن أحزابهن الدينية، أو النساء وكيلات السلطة الدينية، من شهر محرم توقيتاً لإثارة هذه القضية مجدداً، حتى تستفيد من الزخم والتأثير العاطفي والنفسي المرتبط بهذه المناسبة الدينية، لتُلهب حماس الجماهير وتدفعهم إلى دعمها وتأييدها.
ورغم أن المسودة لم تذكر تفاصيل ما ستتضمنه المدونة الشرعية من موادٍ قانونية تفصيلية، إلا أن ما جاء فيها يكفي لدق ناقوس الخطر لمستقبلٍ مخيف ينتظر المجتمع العراقي عامةً، والنساء خاصةً، إذ سيحاصرهنّ أكثر بكثير من الحاضر المتأزم والملغوم والمُتلبد.
إن إحالة المسائل الشخصية للفقهين الشيعي والسني للبت بها، وحسب “الرأي الفقهي المشهور”، يضرب بالدستور عرض الحائط، إذ أن ترجيح “الرأي الفقهي المشهور” على حساب “المرجع الذي تتبعه الأغلبية” على سبيل المثال إلا في حالة تعذره، يُعارض مبدأ الحرية الدينية الذي من المفترض أن الدستور قد كفلها للعراقيين. ومن جهةٍ أخرى، فإنه يُلبي عنصراً واحداً فقط من العناصر المذكورة ضمن المادة الدستورية 41 المتعلق بالمذهب، مهملاً العناصر الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة بالمعتقدات والاختيارات، فلا وجود لقانونٍ مدني مثلاً في العراق، وليس هناك إمكانية في خضم الأجواء الحالية للمطالبة بمثل هكذا قانون.
وتُعطي المسودة الأولوية لمذهب الزوج عند نشوب أي خلاف بين الزوجين “بشأن المذهب الذي جرى إبرام عقد الزواج وفقاً لأحكامه”، وبخلافه في حال “اختلف أطراف القضية الواحدة في الأسرة بشأن تحديد مصدر الأحكام الواجب تطبيقها في طلبهم فيُعتمد الرأي الشرعي فيها”، وهنا ستُطرح الكثير من الأسئلة حول مصير الزواجات المختلطة في خضم شقاقاتٍ وخلافاتٍ أسرية متوقعة. سيسمح التغيير “لمن لم يسبق لهم اختيار تطبيق أحكام مذهب معين عند إبرام عقد الزواج، بتقديم طلب الى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق الأحكام الشرعية وفق المذهب الذي يختارونه”، أو بالأحرى الذي يختاره الزوج، وفق ما سبق.
كما وتنص المسودة على إلغاء نص الفقرة (5) من المادة (10) من القانون الحالي، التي تُحاسب على إبرام عقود الزواج خارج المحاكم، ليستبدلها بما يلي: “تصدق محكمة الأحوال الشخصية عقود الزواج التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين، على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين”. وهذا التدخل في تغيير فقرة قانونية كاملة للقانون 188 فيه نسف للقانون نفسه وتفنيد ذريعة ترك الاختيار للعراقيين لتقرير الاعتماد على القانون الحالي أو المدونة، والأدهى من ذلك أنه يترك ثغرة قانونية تسمح لزواج القاصرات حسب ما يرى المذهب المعني.
“كلا، كلا للمتعة”: صرخة نسائية محليّة وتعبئة دولية الصدى
جرى تحشيد أحزاب الإسلام السياسي الشيعي ورعاته من رجال الدين لـ”تعديل” قانون الأحوال الشخصية 1959 بما لا تشتهيه سفنهم. فرغم أنها لجأت لاستراتيجيات الحملة على الجندر نفسها، حيث عمدت إلى التضليل وركنت إلى ثنائية “قانون الأحوال مقابل الإسلام”، كما تذكر مسودة المدونة متحججة بالمادة الثانية من الدستور كسبب موجب للتغيير، فادعت الأحزاب الحق في “الحرية الشخصية”، وربما كانت محقة في الحجة الأخيرة سوى أنها حرية بالوصاية على النساء واستعبادهن، إلا أن حملتها لم تخلُ من تعبئة مضادة مقارنةً بحملة الجندر. فقوبلت المقترحات بتغيير القانون بحركةٍ نسائية اشترك فيها طيف واسع من الناشطات المستقلات أو العاملات ضمن منظماتٍ غير حكومية، والمحاميات، والناشطين والمحامين، وإعلاميات وإعلاميين، ومجموعة من الباحثات والأكاديميات والكاتبات، وما يُعرف بمؤثرات ومؤثري السوشيال ميديا، وبعض رجال الدين، وعلى رأسهم العلامة كمال الحيدري، في ردٍ له على استفتاء حديث، بالإضافة إلى عددٍ من البرلمانيات، في سابقةٍ في المشهد السياسي العراقي؛ إذ طالما كانت البرلمانيات وكيلات أو ممثلات عن أحزابهن، لا عن المرأة العراقية، ومع أنه مازالت الغالبية كذلك، إلا أن وجود استثناءات تبلورت عن تنظيم الصفوف في كتلةٍ واحدة بحد ذاته مهم ومربك لأحزاب حكومة يهيمن عليها الإطار التنسيقي الشيعي.
ركزت التعبئة التي تكثفت في البداية في الحيز الرقمي على زواج القاصرات، وتحديداً على فئة التسعة أعوام، أما سردية التحشيد المضاد فقد وظفت مصطلحات وتسميات أكثر جرأة وتحدياً، أبرزها “اغتصاب الطفلات” و”البيدوفيليا المُشرعنة”. ورغم أن الفئة الأكثر تضرراً من ظاهرة التزويج القسري هي أكبر عمراً بقليل من سن التاسعة، إلا أن التركيز على هذا العمر بوصفه نتيجة متوقعه للتشريعات المستندة على التفسيرات الفقهية ولتبديل الفقرة الخامسة من المادة العاشرة، قلب الطاولة أو كاد على المطالبين بالمدونات الشرعية كأساس للاحتكام “الاختياري” في الأحوال الشخصية، ومنها الزواج. فسرعان ما تردد صدى الحملة في الإعلام العربي والغربي، وحتى حسابات أقصى اليمين في أوروبا والغرب تلقفت الخبر، وصاغته على أنه حقيقة، مما شكل فضيحة للنظام العراقي برمته.
كما تحوّل الحيزان الرقمي والإعلامي إلى مساحةٍ للنقاش وتفكيك المدارس الفقهية المتعددة ودراسة مواقفها من المرأة، مما فتح الباب إلى ظهور نقدٍ ومراجعة دينية تحاول انتزاع التفسير الديني من احتكار مجموعة محددة من الفقهاء الرجال في الوقت الذي تؤكد فيه على تغيُّر الزمان والمكان، وبأن الدين لا يُقدم بالضرورة إجابات أو معالجات مناسبة لكل السياقات.
بموازاة ذلك، نظم المنخرطون والمنخرطات في التحشيد المناهض لتعديلات القانون وقفات احتجاجية في العديد من مدن العراق. فاستعادت النساء الفضاء العام، في مشهدٍ ذكّر السُلطات بتشرين مع اختلاف الأعداد. إلا أن مجرد خروج نسوة متجانسات في الصورة والشكل النمطي، يرتدين الحجاب والعباءة السوداء، في مدينة دينية محافظة كالنجف، أثار حفيظة رجال السُلطة الدينية والعشائرية هناك. فتعرضت مساحة المحتجين والمحتجات إلى الانتهاك بعد أن قاطع وقفتهم رجال السُلطة الدينية والعشائرية واعتدوا عليها، فما كان من النساء المتظاهرات إلا الهُتاف بوجههم بِـ”كلا، كلا للمتعة”، في رسالة واضحة ضد الإسلامويين لفضح المتاجرين من رجال الدين، وبأن العراقيات ينشدن الكرامة لا الإتجار أو الاستعباد باسم الزواج وتحت غطاء القداسة.
لم تجد السُلطة الدينية والسياسية بممثليها ووكلائها من مدونين وإعلاميين سوى الاتهامات الأخلاقية ذاتها لتردّدها في الساحات أو عبر الشاشات، مرددة على سبيل المثال هتاف: “كلا، كلا للنسوية”، وكأن هذه المفردة “سُبة” أو “تهمة” أو “شتيمة”، و”كلا كلا بعثية”، واصمةً هؤلاء النسوة وأياً من المعارضات أو المعارضين للتعديل بـ”بنات وأبناء السفارات”، “بنات الرفيقات”، “الماسونيات”، “العملاء”، “الممثلات الإباحيات”، “والفاسدات” و”الفاسدين”؛ والأخيرة خرجت عن لسان رجل الدين رشيد الحسيني في بثٍ له، مخاطباً المعارضين لتغيير القانون واصفاً إياهم كذلك بـ”اللادينيين”، ومهدداً بشكل صريح بأنه سيكون لهم “كلام آخر” في حال استمروا بالاعتراض. كما انطلقت الدعوات لمنع النساء من النزول إلى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات، مذكرةً بأن الهدف الكامن من تغيير القانون 188 هو في شرعنة الوصاية على النساء وعبوديتهنّ في الأمد البعيد. ومازالت حسابات السوشيال ميديا، خصوصا أكس، والأخير قد بات ماكنة لضخ خطاب الكراهية والعنصرية، تعج بمختلف أنواع السُباب والطعون والاتهامات لكل من تعارض أو يعارض التغيير.
تتردد بشكلٍ خاص تهمة “أبناء وبنات السفارات” لوصم المعترضات والمعترضين على التعديل، وفي مفارقةٍ مضحكة مبكية، نستذكر كيف أن الدستور نفسه كان قد تمت صياغته برعاية حكومة الاحتلال الأمريكي وإشراف ممثلي الولايات المتحدة، فتذكر إحدى الناشطات وعضوات تحالف “نساء الرافدين” اللاتي قابلتهن زهراء علي في كتابها، كيف أخبرتها محامية أمريكية كانت تعمل مع لجنة صياغة الدستور، مستغربةً من رفضها وأخريات للمادة 41 ، قائلةً: “مو المفروض من مصلحة النّساء إنّه يكون لكل مَجمُوعة قانونها الخاصّ؟ “شعرت الناشطة المعنية أن “الأجانب” كانوا منفصلين عن الواقع العراقي ولا يعرفون حقيقة مجتمعه، كما تُوضح علي.
وفي سياق الاتهامات والتحريض، تم اعتقال الناشط السياسي والحقوقي همام قباني المعارض للتعديل المقترح من داخل منزله في مدينة الكوت “على أيدي قوات ما يُسمى بالأمن الوطني”، من دون مذكرة اعتقال سوى التذرع بطبيعة منشوراته على السوشيال ميديا. ولا يُعرف مكان اعتقاله حتى هذه اللحظة.
ورغم الهجمة الأخلاقية واستمرار سياسة الترهيب والتخويف والملاحقة وما سبقها من إصرار ذهب إلى حد المساومة بالنساء والأطفال داخل قبة البرلمان، يبدو أن التحشيد المناهض للمدونة الشرعية ساهم في تغيير مجرى الأمور بعض الشيء. فأصدر الوقف السني وثيقة تمنع التزويج خارج المحاكم. وبرغم توجيهه، ما زالت القضية مثاراً للتنافس السياسي، فدعا أثيل النُجيفي، القيادي السُني في حزب “متحدون”، عبر منصة أكس “علماء الدين السنة وذوي الاختصاص في قوانين الاحوال الشخصية لمناقشة ما يجب على المجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني إدراجه في مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية”، مؤكداً أن ذلك أجدى من الاعتراض لأن “القانون سيمضي”، على حد تعبيره. فهل سيمضي التغيير، أم سيُثني موقف الوقف السُني السياسيين المعنيين من تمريره؟ في كلتا الحالتين، يُرينا التاريخ أن المحاولات قد تتعرقل ولكنها لا تلبث أن تتكرر حين تكون الفرصة مواتية، والصفقات ذات منفعة لكل الأطراف.
المناخ الحالي الذي ما تزال النساء فيه حاضرات رغم إسكاتهن في العراق، لا يسمح بالمطالبة بتعديل قانون الأحوال الشخصية النافذ نحو الأفضل كي يواكب تطورات العصر وبما يضمن حقوقاً عادلة ومنصفة ومساواتية للنساء، لذا فالخيار الوحيد المتاح هو الحفاظ عليه ليظل “شوكة في حلق” الإسلام السياسي الشيعي وخططه الديستاوبوية. فالدفاع عنه الآن، هو دفاع عن الأطفال، الفتيات، النساء، الأسرة، المجتمع، التنوع، الدولة والوطن.
ديستوبيا المستقبل: واقع ظلامي مُتخيّل
يُعبر التخييل النسوي الديستاوبوي في الأدب العالمي عن المخاوف من حاضرٍ بات يُلوح بالتراجع والتقهقر بالنسبة لحقوق المرأة ومكتسباتها، والهواجس من مستقبلٍ متخيل لعالمٍ رجعي، فاسد، وخرب، ليس فيه للمرأة مكانة أو قيمة أو حقوق، كما في رواية “حكاية الأمة” للروائية الكندية مارغريت أتوود، ورواية “قبل أن تنام” للكاتبة الباكستانية بينا شاه، وغيرها الكثير. لا تُمثل الديسوتوبيا المستقبل المتخيل وحده، بل هي تعكس الوضع المتردي في الحاضر أيضاً، والقلق من الرجوع الى نقطةٍ بعيدةٍ في الماضي، فتنصهر فيها بذلك كل هذه الأزمنة الثلاث.
وهذا ما يحصل في العراق.
إذ تستهدف المحاولات المتكررة لقانون الأحوال المستقبل، لتكرس الواقع الحالي بمنحه الشرعية القانونية. وهكذا في الديسوتوبيا العراقية، ستُسحب السُلطة من تحت بساط مؤسسات الدولة وتُوضع بيد رجال الدين والفقهاء. مجتمعياً، سيزداد تطييف المجتمع وتتوسع الفجوة بين السُنة والشيعة وبقية المكونات. وبعد أن تقلصت الزواجات المختلطة بعد أحداث العنف الطائفي في السنوات السابقة، وتحولت من كونها عادية ومستساغة (كما في البيت الذي وُلدت وترعرعت فيه) إلى نادرة ومستهجنة، فلن يكون لها وجود مستقبلاً. ويُغذي هذا التوجه الخطاب الديني، فعلى سبيل المثال، يُفتي رجل الدين والأستاذ في حوزة النجف رشيد الحسيني بعدم جواز زواج الشيعية من السُني “إذا خيف على مذهبها، على الأحوط”. ومع تمزيق فكرة المواطنة ذاتها، سيبدأ عهد عبودية النساء رسمياً، وباستعبادهن، سيسهل استعباد المجتمع ككل، والقضاء على تنوعه.
ستتحول الديستوبيا الى واقعٍ مُعاش.
فإذا كانت النساء مواطنات من الدرجة الثانية كما تتعامل معهنّ القوانين المجحفة والسياسات التميزية اليوم، فسيصبحنّ تابعات-على أفضل تقدير- أو عبيدا تحت رحمة الأوصياء من كهنة الدين ورجال العشيرة والبيت. وسينعكس التمايز الطائفي على حيوات النساء والأطفال، وستكون أوضاعهم الاجتماعية، وأحوالهم الشخصية وحقوقهم (إن وجدت) متباينة على حسب المذهب والمرجع المعني.
لا كرامة للنساء بعد شرعنة المتاجرة بهن وإستغلالهنّ جنسياً عن طريق ربط نفقتهن بشرط الاستمتاع الجنسي، أو حرمانهن من حقوقهن الأخرى كالميراث وحضانة الأطفال إن قرر الزوج التطليق، فإذا كنا نتغنى بالأمومة وعظمتها اليوم بمقولاتنا وأغانينا الشعبية، فلن يصبح لهذا الخطاب أي معنى أو حتى وجود في مستقبلٍ تُحارب فيه الأمومة ويُفصل فيه الأطفال عن أحضان أمهاتهن. ستكون الأمومة محصورة بالزوجة الخانعة الخاضعة الخادمة المُمتِعة لزوجها جنسياً، وإلا فستُحرم ذلك العنوان. ستُفرغ الأمومة من دلالاتها وتكتسب معاني سلبية جديدة، وبدأنا نشهد ملامح هذا التحول اليوم، فشتيمة أمهات الآخرين كوسيلة لتسقيط المقابل باتت مقروءة ومسموعة ومرئية.
في هذه الديسوتوبيا، سيسمح تقنين الزيجات المؤقتة (المتعة أو المسيار) أو تزويج القاصرات بتفشيها وشرعنتها، والأخير سيجعل المجتمع يُطبع مع النظر إلى الطفلات بوصفهن “سلع جنسية” يتاجر بهنّ إن قرر الوصي، الأب أو من ينوب عنه من رجال العائلة، أن الزواج من مصلحتهن. وسيحرمن بذلك من التعليم والعمل، ويتقلص الحضور النسائي في الحياة والمجتمع خارج أسوار البيت.
أما خلف أسواره، فحضورها يعني قبرها حيةً. وقالها مؤخراً بالحرف الواحد أحد الإعلاميين على شاشة التلفاز، “تنكُبر” النساء، على حد تعبيره. فلن تكون المرأة شيئاً أو وعاءً جنسياً وأداة خدمة فحسب، بل سيُصبح تعنيفها وتعنيف أطفالها أمراً مقبولاً أكثر، فلا قانون يُجرم ولا إعلام يُحاسب ولا ضغط مدني باتجاه تجريم العُنف الأسري. ومع الامتهان المقنن لكرامة الزوجات والأمهات، هل من الممكن الحديث حينها عن الأسر الفاضلة المتماسكة أو المجتمعات السوية؟ بل هل ستكون هناك كرامة للرجال؟ ستضيق دائرة الخيارات المتاحة أمام الكثير من الفتيات والنساء وأطفالهن: فإما القبول بالقهر والاضطهاد والسكوت عنه أو الضياع والتشرد بين فكي كماشة الإتجار بالبشر أو البغاء.