عشرون عاماً على غزو العراق: لنحصي أزمات تعليم الفتيات

بلسم مصطفى

20 آذار 2023

علياء وإخلاص وهديل وضيّ وطفلات في المدارس، كلّ واحدة منهن خاضت وتخوض رحلة طويلة وقاسية من أجل التعلّم. اصطدمن ويصطدمن بمنظومة سلطوية، وبنية تحتية متهالكة، وأعراف اجتماعية قاسية.. ما هو واقع التعليم للفتيات والنساء في العراق بعد عشرين عاماً من الغزو؟

بعد مضي عام واحد على غزو العراق، ألقى جورج دبليو بوش، رئيس الولايات المتحدة الأسبق، خطبة في البيت الأبيض احتفى فيها بنهاية حقبتي طالبان والبعث في أفغانستان والعراق.

ولما كان موعد خطبته قريباً من يوم المرأة العالمي، لم يفت بوش التذكير بالنِعم التي زعم أن الاحتلال أسبغها على فتيات ونساء العراق وأفغانستان: “التحرير له أهمية خاصة بالنسبة لـ25 مليون امرأة وفتاة. بعض هؤلاء الفتيات يذهبن إلى المدرسة لأول مرة. يصعب على الناس في أميركا تخيل ذلك. يذهب الكثير من الفتيات الآن إلى المدرسة”.

أراد بوش تبرير حرب العراق مستخدماً النساء كوسيلة، إذ لم يكن جمعه دولتين مختلفتين عن بعضيهما في خطبة واحدة عن “التحرير” ينم عن عشوائية واختزال في الطرح فحسب، بل عن جهل وتجاهل لتاريخيهما بكل ظروفه وتعقيداته الخاصة والشائكة.

بيد أن التاريخ لم يبدأ بالنسبة للعراقيين في 2003، فجميع مناحي الحياة كانت قد تأثرت جراء عقد كامل من العقوبات الدولية، والحروب الثلاث التي عاشها العراقيون في حقبة نظام البعث.

تدهور التعليم

منذ ثمانينات القرن الماضي، عملت ظروف وعوامل وأطراف على تدهور النظام التعليمي وانحداره التدريجي حتى هذه اللحظة، علماً أنه كان يُعد واحداً من أفضل النظم التعليمية في المنطقة إبان السبعينات بفضل برامج التعليم ومحو الأمية. ووفقاً لتقرير صادر عن اليونيسكو عام 2003، فإنه وعلى الرغم من الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينات، حافظ العراق على مستوى متقدم من التعليم وعلى مستوياتٍ عالية من محو الأمية. إلا أن حرب الخليج الثانية والعقوبات الاقتصادية التي تلتها انتهاءً بالغزو الأميركي عام 2003 وعمليات سلب وتخريب مؤسسات الدولة كان لها الأثر البالغ في تردي المنظومة التعليمية. وعلى الرغم من ذلك، كانت منظمة اليونيسكو متفائلة بإمكانية تغيير واقع التعليم في البلاد نظراً لتاريخه وللقاعدة الفكرية التي يتمتع بها العراق بالإضافة للقيمة الاجتماعية العالية للتعليم آنذاك. 

عام 2004، نشرت وزارة التربية العراقية بالتعاون مع اليونيسف دراسة عن واقع التعليم الابتدائي في العراق بعد الاحتلال، أظهرت أن “نظام التعليم الحالي يحرم الأطفال بصورة كبيرة من الحصول على تعليم لائق”، خصوصاً الفتيات، اللواتي كان التحاقهن أدنى من الصبيان في كل صف دراسي وفي كل محافظة.

ولم يكن العقدان اللاحقان بأفضل حال مثلما سوقت قوى التحالف الدولي، ففي الذكرى العشرين للغزو، تقدر اليونيسف أن نحو 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة، موجودون خارج المدرسة، فتوالي الصراعات والحروب ومن ثم أزمة النزوح الإنسانية في شمالي وغربي العراق بعد الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ساهمت في تقويض المنظومة التعليمية.

وعلى الرغم من تضاؤل نسب التسرب من المدارس الابتدائية في الأعوام الأخيرة، إلا أن نسبة تسرب الفتيات هي الأعلى مقارنة بالأولاد، بحسب وزارة التخطيط. وتزداد تلك النسبة في مرحلة الدراسة الثانوية، كما يشير تقرير البنك الدولي.

بين العائلة والمدرسة

تحدثنا سارة من النجف أن صديقتها المقربة اضطرت إلى ترك المدرسة في الصف الخامس الابتدائي بعد أن أرغمت على الزواج ولم تعد تعرف عنها شيئاً.

في الواقع، كثير منا يعرفون واحدة على الأقل قد تعرّضت لتجربة مماثلة.

تتعرض الكثير من الفتيات إلى الاستغلال والزواج المبكر أمام لامبالاة الدولة العراقية، إذ تقدر منظمة “أنقذوا الأطفال” أن فتاة واحدة من بين 14 تنجب بين سن 15 و19 سنة.

ساهم الفشل في تطبيق قانون إلزامية التعليم، مع ارتفاع معدلات الفقر وصعود المدّ العشائري أمام هشاشة المؤسسات الحكومية وضعف القانون، في خلق بيئة مناسبة لظاهرة ترك المدرسة لغرض الزواج.

أما بالنسبة لغالبية الفتيات اللاتي تمكنَّ من دخول المدرسة وإكمال تعليمهن الابتدائي والثانوي، فإنهن يصطدمن بواقعٍ آخر ربما لا يقل مأساوية لبعضهن عن واقع من تضطر لترك الدراسة. 

انتهاء مشوار تعليم زينب كان وشيكاً بسبب تأخرها في العودة إلى المنزل يومياً، فأسرتها غير مسرورة بذلك في مجتمع البصرة المحافظ، حيث يُنظر بعين الريبة إلى الإناث اللواتي يخرجن من منازلهن ويرجعن في المساء.

وبسبب التأخير، خاضت زينب مشادات عدة مع أسرتها كادت أن تنتهي بحرمانها من التعليم، لكن لحسن حظها استطاعت أن تكمل دراستها بسبب إيمان ذويها بقيمة التعليم وبسبب وضعهم المعيشي الجيد مقارنة بأسر أخرى.

لا ذنب لزينب في التأخير، فهي ضحية سلطة فاسدة نتج عن سرقاتها وإهمالها تقسيم الدوام في المدارس إلى ثلاث وجبات صباحية وظهرية ومسائية، لعدم توفر مبان مدرسية كافية لاستيعاب جميع الطلبة.

يعاني التعليم من تهالك البنية التحتية إذ بالكاد خصصت الميزانية العامة ما يقل عن 6 بالمئة لقطاع التعليم على مدى السنوات الماضية، ووفق تصريح لوزارة التربية العراقية فإن العراق لا يزال بحاجة إلى ثمانية آلاف مدرسة وإلى معالجة ملف المدارس الطينية وكذلك الكرفانية المنتشرة في مناطق ومحافظات عديدة، خصوصاً الريفية منها، مهددةً سلامة وصحة الأطفال في وقت تكتظ فيه صفوف المدارس العراقية بالتلاميذ ما أدى إلى اعتماد نظام الورديات في الكثير منها، على حساب الوقت المخصص للتعليم وجودته. 

هذه الظاهرة باتت عاملاً مساعداً في تسرب بعض الفتيات من المدارس.

وإذا كانت زينب قد حصلت على فرصة إكمال تعليمها، فإن كثيرات غيرها غادرن مقاعد الدراسة مكرهات بفعل تردي الوضع المعيشي لأسرهن الذي تعضده مشاكل النظام التعليمي في العراق، أو العنف المستشري في المدارس.

مدارس عنيفة

يعاني طلبة المدارس، والفتيات خصوصاً، من كل أشكال التعنيف اللفظي والنفسي والجسدي التي باتت وباء يكتسح النظام التعليمي العراقي، في حين تكتفي وزارة التربية بإصدار بيانات الاستنكار والتوجيه من دون محاسبة. 

تتعدّد أشكال العنف الذي تلقاه الفتيات في المدارس.

تُعد ممارسة فرض الحجاب القسري أو العباءة في بعض المحافظات أو حتى التدخل في شكل وطول الزي المدرسي خلافاً لتوجيهات وزارة التربية بهذا الخصوص في العديد من المدارس الحكومية وجهاً من أوجه التعنيف المدرسي، تطال حتى المعلمات أنفسهن. 

تقول هديل ليلى، وهي معلمة ابتدائية في إحدى مدارس بغداد، إنها وغيرها يتعرّضن لتدخلات المديرة وبعض المعلمات. 

وبين الفينة والأخرى تُدار حملات إلكترونية تسلط الضوء على تلك الممارسة وغيرها من أساليب التعنيف وتشارك الكثير من الطالبات وبعض المدرسات كذلك قصصهن تحت هاشتاكات تتحدث عن قمعهن، كهاشتاك الإرهاب التربوي ولا للتحجيب القسري.

تُعد فئة ذوي الحاجات الخاصة الأكثر تضرراً من تلك السلوكيات.

تقول شكر هيام من محافظة البصرة، وهي تعاني من مرض ضمور العضلات، إنها اضطرت أن تنتقل من مدرسة الى أخرى في المرحلة الابتدائية لأنه لم يكن هناك اهتمام بحالتها ولا خطط للتعامل مع وضعها الصحي بشكل عام، بل على العكس كانت تواجه التجريح من قبل بعض المدرسات.

تستطرد علياء محمد، مهندسة كهرباء من محافظة ميسان/العمارة، في وصف واقع التعليم كما خبرته هي وزميلاتها في مدارس مدينتها وتتحدث بألم لا عن التعنيف فقط، بل عن غياب الرصانة العلمية وهشاشة نظام الجودة، وسوء المرافق التعليمية والصحية. 

تتذكر دور ما يُسمى بالمبلغات الرساليات، التابعات للأحزاب أو للحوزة الدينية، وزيارتهن للمدارس لنشر الأفكار الدينية وحث الصغيرات على ارتداء الحجاب. 

ولا تتوقف مظاهر التمييز والعنف عند ما يعرف بمدارس المتميزين والمتميزات، إذ يواجه الطلبة والطالبات وذووهم كذلك تحديات ومشاكل جمة. 

تقول ضيّ مضر أبو غنيم، وهي أم لولد وبنت في مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية في تلك المدارس الحكومية المتميزة، أنها وبالرغم من أن ظروف التعليم الهيكلية وتداعياتها كانت متشابهة بالنسبة لابنها وابنتها من ناحية ضعف البنية التحتية وجودة التعليم وقلة الكوادر التدريسية التي تمتاز بالكفاءة، إلا أنها أحست بفرقٍ في ذلك الواقع عندما التحقت ابنتها بالمدرسة المتوسطة بعد أن اجتازت الاختبار المخصص بتفوق، ولكن للمفارقة، فإنها وزميلاتها، يواجهن تنمراً وتعنيفاً لفظياً من قبل بعض المدرسات، بالإضافة الى الدور السلبي التي تلعبه كلٌ من المرشدة التربوية ومدرسة مادة التربية الإسلامية، في ترسيخ قيم المنظومة الذكورية في أذهان الفتيات. 

وعلى نحوٍ مماثل، تذكر زينب من محافظة البصرة، معاناتها مع التمييز الجندري خصوصاً في مادة التربية الأسرية التي تُدرّس للبنات أسوةً عن الأولاد، وتكرس للتمييز على أساس الجنس ولثقافة العيب المرتبطة بالمرأة مع ترسيخ للأدوار الجندرية التقليدية. تسببت هذه المادة لزينب بإرباك شديد إذ كانت تتنافر مع طموحها ومثابرتها في الدراسة. ليست المدرسات وحدهن من يغرسن تلك المفاهيم، بل حتى المدرسون أيضاً. 

ما زالت سارة الحسيني من محافظة الناصرية تتذكر كلمات أحد مدرسيها الرجال، “إنتن البنات مو ذكيات ولا شاطرات، غبيات!”، هكذا كان يخبرنا، بينما كان “بعض المدرسين يضربوننا، ويتحكمون في زي المدرسة”، تضيف سارة بحسرة.

معلمات ضد التيار

كل هذه الشواهد ماهي إلا أوجه متعددة للفساد المستشري في كل مفاصل ومؤسسات الدولة والذي نجم عنه، من بين عدة أمور أخرى، تدهورالمنظومة التعليمية وتراجع حاد في جودة التعليم في ظل غياب لتأهيل الكوادر التدريسية من ذوي الكفاءة القليلة أصلاً وفقر الخدمات الصحية والمعدات والمختبرات والمكتبات العلمية في المدارس وقدم المناهج وطرائق التدريس التي تعتمد على نظام الحفظ والتلقين مع ضعف نظام الامتحان والإشراف التربوي، الخ. 

ولذلك، فتواجه الكثير من المدرسات الجادات والمثابرات عوائق وتحديات لا تختلف عن تلك التي تواجهها التلميذات. 

تقول هديل ليلى، وهي معلمة من بغداد، أن محاولاتها لاستخدام وسائل تدريسية حديثة في الصف كالموسيقى مثلاً، باءت بالفشل بعد أن جوبهت بالرفض من قبل بعض عوائل التلاميذ المحافظة أو حتى مديرة المدرسة. بل أن بعض المعلمات قد يتعرضن للاعتداء والابتزاز في بعض الأحيان من قبل عائلة أو حتى عشيرة التلميذ، إذا تجرأن على انتقاد بعض السلوكيات الخاطئة، كما حصل مع هديل. 

“واجهت مشكلة كبيرة بعد أن طلبت من أحد الأطفال أن يرتدي معطفاً يحميه من برد الشتاء، ولم يحمني قانون حماية المعلم، فهو مجرد حبر على ورق”، تضيف لي. 

كما قد تتعرض المدرسات لضغوطات لإنجاح بعض التلاميذ رغماً عنهم مما يؤثر سلباً على جودة التعليم المتردية أصلا، تستدرك هديل، بيد أنها تستجمع طاقتها وتذكر بشيء من العزيمة والتفاؤل، “لكنني مع ذلك أحاول أن أصنع فرقاً فكما تعرفين فإن المؤسسات التعليمية مرتبطة بالدينية وتتأثر بها ولذا في مدرستي الابتدائية حيث أعمل، يتوجب على الأطفال قول عبارة “عاش الإسلام” عندما أدخل الصف، ولكنني طلبت منهم أن يستبدلوها بعبارة “عاش العراق”. تظل تلك محاولات صغيرة في مهب رياح منظومة من القوانين والأعراف البالية والمؤسسات الرثة تفتك بنا جميعاً طالبات ومدرسات. إنها حلقة مفرغة، وجذر المشكلة يعود الى عجز المنظومة بأسرها، برأي هديل.

تعزو علياء، والتي كانت قد تعرضت للتعنيف المدرسي في مرحلتي الابتدائية قبل الغزو والمرحلة الثانوية بعده، السبب الأساسي لتمادي عدد من إدارات المدارس أو كوادرها في سلوكياتهم السيئة تجاه الطالبات إلى المادة 41 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 للعام 1969، التي تسمح للوالدين والأهل بتأديب “الأولاد القصر”، وتقول، لن يتغير أي شيء بدون إلغاء أو تعديل هذه المادة وبدون تشريع قانون صارم لحماية الطفل العراقي مع فرض عقوبات على كل تدريسي أو تدريسية تمارس التعنيف ضد الطالبات أو تتجاوز الصلاحيات الممنوحة لها لفرض قناعاتهم الشخصية عليهن.

ورغم كل هذه التحديات، فإن إصرار ووعي علياء وهي تعمل في الميدان وتكتب في الواقع الافتراضي ومثابرة زينب، وشجاعة طفلة ضي وزميلاتها وهن لا يرضين بالسكوت عن السلوكيات السيئة كما أخبرتني والدتها، وإخلاص هديل، يبقي شعاعاً من الضوء وسط كل تلك العتمة. حين يسود ذلك الضياء، سيتحول ما هو استثناء اليوم الى قاعدة غداً.

* أنتجت المادة بإشراف “جمار”، وتنشر النسخة الانجليزية بالتعاون مع “الغارديان

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بعد مضي عام واحد على غزو العراق، ألقى جورج دبليو بوش، رئيس الولايات المتحدة الأسبق، خطبة في البيت الأبيض احتفى فيها بنهاية حقبتي طالبان والبعث في أفغانستان والعراق.

ولما كان موعد خطبته قريباً من يوم المرأة العالمي، لم يفت بوش التذكير بالنِعم التي زعم أن الاحتلال أسبغها على فتيات ونساء العراق وأفغانستان: “التحرير له أهمية خاصة بالنسبة لـ25 مليون امرأة وفتاة. بعض هؤلاء الفتيات يذهبن إلى المدرسة لأول مرة. يصعب على الناس في أميركا تخيل ذلك. يذهب الكثير من الفتيات الآن إلى المدرسة”.

أراد بوش تبرير حرب العراق مستخدماً النساء كوسيلة، إذ لم يكن جمعه دولتين مختلفتين عن بعضيهما في خطبة واحدة عن “التحرير” ينم عن عشوائية واختزال في الطرح فحسب، بل عن جهل وتجاهل لتاريخيهما بكل ظروفه وتعقيداته الخاصة والشائكة.

بيد أن التاريخ لم يبدأ بالنسبة للعراقيين في 2003، فجميع مناحي الحياة كانت قد تأثرت جراء عقد كامل من العقوبات الدولية، والحروب الثلاث التي عاشها العراقيون في حقبة نظام البعث.

تدهور التعليم

منذ ثمانينات القرن الماضي، عملت ظروف وعوامل وأطراف على تدهور النظام التعليمي وانحداره التدريجي حتى هذه اللحظة، علماً أنه كان يُعد واحداً من أفضل النظم التعليمية في المنطقة إبان السبعينات بفضل برامج التعليم ومحو الأمية. ووفقاً لتقرير صادر عن اليونيسكو عام 2003، فإنه وعلى الرغم من الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينات، حافظ العراق على مستوى متقدم من التعليم وعلى مستوياتٍ عالية من محو الأمية. إلا أن حرب الخليج الثانية والعقوبات الاقتصادية التي تلتها انتهاءً بالغزو الأميركي عام 2003 وعمليات سلب وتخريب مؤسسات الدولة كان لها الأثر البالغ في تردي المنظومة التعليمية. وعلى الرغم من ذلك، كانت منظمة اليونيسكو متفائلة بإمكانية تغيير واقع التعليم في البلاد نظراً لتاريخه وللقاعدة الفكرية التي يتمتع بها العراق بالإضافة للقيمة الاجتماعية العالية للتعليم آنذاك. 

عام 2004، نشرت وزارة التربية العراقية بالتعاون مع اليونيسف دراسة عن واقع التعليم الابتدائي في العراق بعد الاحتلال، أظهرت أن “نظام التعليم الحالي يحرم الأطفال بصورة كبيرة من الحصول على تعليم لائق”، خصوصاً الفتيات، اللواتي كان التحاقهن أدنى من الصبيان في كل صف دراسي وفي كل محافظة.

ولم يكن العقدان اللاحقان بأفضل حال مثلما سوقت قوى التحالف الدولي، ففي الذكرى العشرين للغزو، تقدر اليونيسف أن نحو 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة، موجودون خارج المدرسة، فتوالي الصراعات والحروب ومن ثم أزمة النزوح الإنسانية في شمالي وغربي العراق بعد الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ساهمت في تقويض المنظومة التعليمية.

وعلى الرغم من تضاؤل نسب التسرب من المدارس الابتدائية في الأعوام الأخيرة، إلا أن نسبة تسرب الفتيات هي الأعلى مقارنة بالأولاد، بحسب وزارة التخطيط. وتزداد تلك النسبة في مرحلة الدراسة الثانوية، كما يشير تقرير البنك الدولي.

بين العائلة والمدرسة

تحدثنا سارة من النجف أن صديقتها المقربة اضطرت إلى ترك المدرسة في الصف الخامس الابتدائي بعد أن أرغمت على الزواج ولم تعد تعرف عنها شيئاً.

في الواقع، كثير منا يعرفون واحدة على الأقل قد تعرّضت لتجربة مماثلة.

تتعرض الكثير من الفتيات إلى الاستغلال والزواج المبكر أمام لامبالاة الدولة العراقية، إذ تقدر منظمة “أنقذوا الأطفال” أن فتاة واحدة من بين 14 تنجب بين سن 15 و19 سنة.

ساهم الفشل في تطبيق قانون إلزامية التعليم، مع ارتفاع معدلات الفقر وصعود المدّ العشائري أمام هشاشة المؤسسات الحكومية وضعف القانون، في خلق بيئة مناسبة لظاهرة ترك المدرسة لغرض الزواج.

أما بالنسبة لغالبية الفتيات اللاتي تمكنَّ من دخول المدرسة وإكمال تعليمهن الابتدائي والثانوي، فإنهن يصطدمن بواقعٍ آخر ربما لا يقل مأساوية لبعضهن عن واقع من تضطر لترك الدراسة. 

انتهاء مشوار تعليم زينب كان وشيكاً بسبب تأخرها في العودة إلى المنزل يومياً، فأسرتها غير مسرورة بذلك في مجتمع البصرة المحافظ، حيث يُنظر بعين الريبة إلى الإناث اللواتي يخرجن من منازلهن ويرجعن في المساء.

وبسبب التأخير، خاضت زينب مشادات عدة مع أسرتها كادت أن تنتهي بحرمانها من التعليم، لكن لحسن حظها استطاعت أن تكمل دراستها بسبب إيمان ذويها بقيمة التعليم وبسبب وضعهم المعيشي الجيد مقارنة بأسر أخرى.

لا ذنب لزينب في التأخير، فهي ضحية سلطة فاسدة نتج عن سرقاتها وإهمالها تقسيم الدوام في المدارس إلى ثلاث وجبات صباحية وظهرية ومسائية، لعدم توفر مبان مدرسية كافية لاستيعاب جميع الطلبة.

يعاني التعليم من تهالك البنية التحتية إذ بالكاد خصصت الميزانية العامة ما يقل عن 6 بالمئة لقطاع التعليم على مدى السنوات الماضية، ووفق تصريح لوزارة التربية العراقية فإن العراق لا يزال بحاجة إلى ثمانية آلاف مدرسة وإلى معالجة ملف المدارس الطينية وكذلك الكرفانية المنتشرة في مناطق ومحافظات عديدة، خصوصاً الريفية منها، مهددةً سلامة وصحة الأطفال في وقت تكتظ فيه صفوف المدارس العراقية بالتلاميذ ما أدى إلى اعتماد نظام الورديات في الكثير منها، على حساب الوقت المخصص للتعليم وجودته. 

هذه الظاهرة باتت عاملاً مساعداً في تسرب بعض الفتيات من المدارس.

وإذا كانت زينب قد حصلت على فرصة إكمال تعليمها، فإن كثيرات غيرها غادرن مقاعد الدراسة مكرهات بفعل تردي الوضع المعيشي لأسرهن الذي تعضده مشاكل النظام التعليمي في العراق، أو العنف المستشري في المدارس.

مدارس عنيفة

يعاني طلبة المدارس، والفتيات خصوصاً، من كل أشكال التعنيف اللفظي والنفسي والجسدي التي باتت وباء يكتسح النظام التعليمي العراقي، في حين تكتفي وزارة التربية بإصدار بيانات الاستنكار والتوجيه من دون محاسبة. 

تتعدّد أشكال العنف الذي تلقاه الفتيات في المدارس.

تُعد ممارسة فرض الحجاب القسري أو العباءة في بعض المحافظات أو حتى التدخل في شكل وطول الزي المدرسي خلافاً لتوجيهات وزارة التربية بهذا الخصوص في العديد من المدارس الحكومية وجهاً من أوجه التعنيف المدرسي، تطال حتى المعلمات أنفسهن. 

تقول هديل ليلى، وهي معلمة ابتدائية في إحدى مدارس بغداد، إنها وغيرها يتعرّضن لتدخلات المديرة وبعض المعلمات. 

وبين الفينة والأخرى تُدار حملات إلكترونية تسلط الضوء على تلك الممارسة وغيرها من أساليب التعنيف وتشارك الكثير من الطالبات وبعض المدرسات كذلك قصصهن تحت هاشتاكات تتحدث عن قمعهن، كهاشتاك الإرهاب التربوي ولا للتحجيب القسري.

تُعد فئة ذوي الحاجات الخاصة الأكثر تضرراً من تلك السلوكيات.

تقول شكر هيام من محافظة البصرة، وهي تعاني من مرض ضمور العضلات، إنها اضطرت أن تنتقل من مدرسة الى أخرى في المرحلة الابتدائية لأنه لم يكن هناك اهتمام بحالتها ولا خطط للتعامل مع وضعها الصحي بشكل عام، بل على العكس كانت تواجه التجريح من قبل بعض المدرسات.

تستطرد علياء محمد، مهندسة كهرباء من محافظة ميسان/العمارة، في وصف واقع التعليم كما خبرته هي وزميلاتها في مدارس مدينتها وتتحدث بألم لا عن التعنيف فقط، بل عن غياب الرصانة العلمية وهشاشة نظام الجودة، وسوء المرافق التعليمية والصحية. 

تتذكر دور ما يُسمى بالمبلغات الرساليات، التابعات للأحزاب أو للحوزة الدينية، وزيارتهن للمدارس لنشر الأفكار الدينية وحث الصغيرات على ارتداء الحجاب. 

ولا تتوقف مظاهر التمييز والعنف عند ما يعرف بمدارس المتميزين والمتميزات، إذ يواجه الطلبة والطالبات وذووهم كذلك تحديات ومشاكل جمة. 

تقول ضيّ مضر أبو غنيم، وهي أم لولد وبنت في مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية في تلك المدارس الحكومية المتميزة، أنها وبالرغم من أن ظروف التعليم الهيكلية وتداعياتها كانت متشابهة بالنسبة لابنها وابنتها من ناحية ضعف البنية التحتية وجودة التعليم وقلة الكوادر التدريسية التي تمتاز بالكفاءة، إلا أنها أحست بفرقٍ في ذلك الواقع عندما التحقت ابنتها بالمدرسة المتوسطة بعد أن اجتازت الاختبار المخصص بتفوق، ولكن للمفارقة، فإنها وزميلاتها، يواجهن تنمراً وتعنيفاً لفظياً من قبل بعض المدرسات، بالإضافة الى الدور السلبي التي تلعبه كلٌ من المرشدة التربوية ومدرسة مادة التربية الإسلامية، في ترسيخ قيم المنظومة الذكورية في أذهان الفتيات. 

وعلى نحوٍ مماثل، تذكر زينب من محافظة البصرة، معاناتها مع التمييز الجندري خصوصاً في مادة التربية الأسرية التي تُدرّس للبنات أسوةً عن الأولاد، وتكرس للتمييز على أساس الجنس ولثقافة العيب المرتبطة بالمرأة مع ترسيخ للأدوار الجندرية التقليدية. تسببت هذه المادة لزينب بإرباك شديد إذ كانت تتنافر مع طموحها ومثابرتها في الدراسة. ليست المدرسات وحدهن من يغرسن تلك المفاهيم، بل حتى المدرسون أيضاً. 

ما زالت سارة الحسيني من محافظة الناصرية تتذكر كلمات أحد مدرسيها الرجال، “إنتن البنات مو ذكيات ولا شاطرات، غبيات!”، هكذا كان يخبرنا، بينما كان “بعض المدرسين يضربوننا، ويتحكمون في زي المدرسة”، تضيف سارة بحسرة.

معلمات ضد التيار

كل هذه الشواهد ماهي إلا أوجه متعددة للفساد المستشري في كل مفاصل ومؤسسات الدولة والذي نجم عنه، من بين عدة أمور أخرى، تدهورالمنظومة التعليمية وتراجع حاد في جودة التعليم في ظل غياب لتأهيل الكوادر التدريسية من ذوي الكفاءة القليلة أصلاً وفقر الخدمات الصحية والمعدات والمختبرات والمكتبات العلمية في المدارس وقدم المناهج وطرائق التدريس التي تعتمد على نظام الحفظ والتلقين مع ضعف نظام الامتحان والإشراف التربوي، الخ. 

ولذلك، فتواجه الكثير من المدرسات الجادات والمثابرات عوائق وتحديات لا تختلف عن تلك التي تواجهها التلميذات. 

تقول هديل ليلى، وهي معلمة من بغداد، أن محاولاتها لاستخدام وسائل تدريسية حديثة في الصف كالموسيقى مثلاً، باءت بالفشل بعد أن جوبهت بالرفض من قبل بعض عوائل التلاميذ المحافظة أو حتى مديرة المدرسة. بل أن بعض المعلمات قد يتعرضن للاعتداء والابتزاز في بعض الأحيان من قبل عائلة أو حتى عشيرة التلميذ، إذا تجرأن على انتقاد بعض السلوكيات الخاطئة، كما حصل مع هديل. 

“واجهت مشكلة كبيرة بعد أن طلبت من أحد الأطفال أن يرتدي معطفاً يحميه من برد الشتاء، ولم يحمني قانون حماية المعلم، فهو مجرد حبر على ورق”، تضيف لي. 

كما قد تتعرض المدرسات لضغوطات لإنجاح بعض التلاميذ رغماً عنهم مما يؤثر سلباً على جودة التعليم المتردية أصلا، تستدرك هديل، بيد أنها تستجمع طاقتها وتذكر بشيء من العزيمة والتفاؤل، “لكنني مع ذلك أحاول أن أصنع فرقاً فكما تعرفين فإن المؤسسات التعليمية مرتبطة بالدينية وتتأثر بها ولذا في مدرستي الابتدائية حيث أعمل، يتوجب على الأطفال قول عبارة “عاش الإسلام” عندما أدخل الصف، ولكنني طلبت منهم أن يستبدلوها بعبارة “عاش العراق”. تظل تلك محاولات صغيرة في مهب رياح منظومة من القوانين والأعراف البالية والمؤسسات الرثة تفتك بنا جميعاً طالبات ومدرسات. إنها حلقة مفرغة، وجذر المشكلة يعود الى عجز المنظومة بأسرها، برأي هديل.

تعزو علياء، والتي كانت قد تعرضت للتعنيف المدرسي في مرحلتي الابتدائية قبل الغزو والمرحلة الثانوية بعده، السبب الأساسي لتمادي عدد من إدارات المدارس أو كوادرها في سلوكياتهم السيئة تجاه الطالبات إلى المادة 41 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 للعام 1969، التي تسمح للوالدين والأهل بتأديب “الأولاد القصر”، وتقول، لن يتغير أي شيء بدون إلغاء أو تعديل هذه المادة وبدون تشريع قانون صارم لحماية الطفل العراقي مع فرض عقوبات على كل تدريسي أو تدريسية تمارس التعنيف ضد الطالبات أو تتجاوز الصلاحيات الممنوحة لها لفرض قناعاتهم الشخصية عليهن.

ورغم كل هذه التحديات، فإن إصرار ووعي علياء وهي تعمل في الميدان وتكتب في الواقع الافتراضي ومثابرة زينب، وشجاعة طفلة ضي وزميلاتها وهن لا يرضين بالسكوت عن السلوكيات السيئة كما أخبرتني والدتها، وإخلاص هديل، يبقي شعاعاً من الضوء وسط كل تلك العتمة. حين يسود ذلك الضياء، سيتحول ما هو استثناء اليوم الى قاعدة غداً.

* أنتجت المادة بإشراف “جمار”، وتنشر النسخة الانجليزية بالتعاون مع “الغارديان