قانون مناهضة العنف الأسري: رحلة خذلان المُعنفات والمعنفين في العراق 

بان ليلى

11 أيار 2023

مشروع قانون مناهضة العنف الأسري بشكله الحالي لا يمكن أن يكون رادعاً لعنف مسنود اجتماعياً ودينياً وسلطة عشائرية فوق القانون.. رحلة تعطيل قانون ينقذ المعنفات والمعنفين ويحفظ الأرواح، لكنه يُجابه بمعارضة شديدة وبعدم نقاش واسع...

يسجّل العالم مقتل خمس نساء كل ساعة على يد أحد أفراد العائلة، بحسب الأمم المتحدة. ولا توجد إحصائيات دقيقة تخصّ العنف الجسدي والنفسي الذي تتعرّض له النساء والأطفال وأحياناً حتّى الرجال في العراق، رغم تناقل وسائل لعدّة أحداث يومياً تخص هذه الظاهرة.  

لكن، وحتّى مع ارتفاع أعداد المعنفّات والمعنفين أُسرياً، فإن لا قانون يضمن حماية هؤلاء، بل أحياناً يقف القانون ضدّهم، ويبيح لمعنِّفيهم الاستمرار في إيذائهم جسدياً ونفسياً. 

عنف بأشكال عدّة 

يأخذ العنف في العراق، اجتماعياً وقانونياً، أشكالاً عدّة، وتُفرّغ الأفعال الوحشية من أذاها. يُسمِّي المجتمع فِعل العنف “تأديباً”، أو هو فِعلٌ مؤداه الردع، أو الذهاب أبعد إلى إجبار المُعنَّف على عدم تكرار فعلته أو فكرته -التي هي حقّ له- نتيجة للعنف الذي تلقاه. 

وفّرت منصات التواصل الاجتماعي مجالاً يُمكِنُ للنساء من خلاله طلب المساعدة، أو إقامة حملات للحصول على حقوقهن. وهكذا، بدأت قضايا العُنف تظهر إلى السطح، بعد أن كانت حبيسة جدران المنازل.  

كما باتت هذه المنصات مساحة للمعنفات لنقل معاناتهن، وتحوّل قضايا العنف ضد النساء من خلال التفاعل معها وإدانتها إلى قضية رأي عام بعد أن كانت تعتبر جزءاً من أسرار العائلة الواجب عدم مشاركتها مع الآخرين. ونتيجة هذا الضغط الشعبي، إضافة الى تقدّم الوعي بشكل ملحوظ، ظهر تغيّر في نظر المجتمع إلى العنف المنزلي. 

صار ملاحظاً من التفاعل مع الحملات المناهضة للعنف ضد المرأة، أن مصطلحي “تأديب” أو “تربية” لم يعودا مقبولين مثلما كانا من قبل لوصف فعل العنف الواقع على الأفراد. 

بيد أنه وعلى الرغم من تحوّل قطاع اجتماعي واسع مناهض للعنف، إلا أنه لا أساس قانوني يمكن من خلاله حماية المُعنّفة وتوفير المتطلبّات الأساسية لها للخروج من الصدمات النفسيّة والجسديّة التي تعانيها.  

تقف المعنّفة وحيدة ومخذولة، وأحياناً مُدانة رغم أنها ضحيّة. 

ومع ذلك، يبقى الإيمان بالعنف كفعل تأديبي جزءاً من ثقافة اجتماعية سائدة، ويزيد إباحته قانوناً، من استخدامه. فالقوانين في العراق، ما خلا إقليم كردستان، لا تحمي من يتعرضون العنف للأسري. 

على سبيل المثال، تُبيح المادة 41 من قانون العقوبات العراقي للعام 1969 تأديب الزوج لزوجته، وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم القصر، عرفاً أو قانوناً، بحدود ما هو مقرر شرعاً. 

وتعكس المادة 4091 هذا التماهي بين القانون والثقافة التي تبيح للرجل أن يقتل زوجته أو ابنته أو أن يسبب لها عاهة مستديمة، نتيجة لما يُدعى بالذود عن الشرف. 

يمنح القضاء لمرتكبي هذه الجرائم أحكاماً مُخففَّة مسبقاً. 

“العنف الصامت الذي يمارس ضد النساء والفتيات والأطفال خلف أبواب بيوت الأُسر العراقية يمثل أقسى انتهاكات حقوق الإنسان في العراق”، قال رحيم العكيلي، القاضي ورئيس هيئة النزاهة السابق. 

مجتمع يتحرّك 

واقع الحال، يُحسب للمجتمع المدني العراقي تنبّهه إلى غياب قانون مناهضة العنف الأسري مُبكراً، إذ دفعت بعض المنظمات المهتمة بقضايا العنف ضد المرأة بكتابة ما يسمى مسّودة “قانون مناهضة العنف الأسري”، وهي مبادرة تعود إلى عام 2010. 

ثم قامت رئاسة الجمهورية بالعمل على مسودة للقانون عام 2017 مُهملةً مسودة المنظمات المدنيّة، وشاركت الأخيرة في النقاشات الأولية على مسودة الرئاسة، على أمل أن تمرر. وأرسلته عام 2019 إلى البرلمان. 

منظمات المجتمع المدني، التي داعت طويلاً بإقرار القانون وتطوّعت لكتابته، أبدت ليونة على التغييرات. “كمنظمات لم تكن لدينا مشكلة طالما هناك قانون أفضل من أن نبقى بلا قانون”، حسب الناشطة النسوية هناء حمود. 

في عام 2020 شرعت الحكومة بالعمل على مسودة جديدة من القانون، واستمرت عمليّة كتابتها بعد تشكيل اللجنة الوطنية لقانون مناهضة العنف، واحتوت على ضمانات كثيرة للمعنفات والمعنفين، لأنها تركزت على تأهيل ووقاية وملاحقة مرتكبي الجرم. 

عملت حمود رئيسة لمنظمة النجدة الشعبية، وهي أحد أعضاء اللجنة الوطنية لكتابة قانون مناهضة العنف الأسري. 

“حرصنا على وجود أساسيات حول هذه المسودة وأهمها ملاحقة الجناة وتوفير الملاذ الآمن”. 

تعد هذه المسودة الأقوى لأنها خرجت من جهة متنفذة وبناء على طلب وزارات عدة، مثل العدل والعمل والداخلية. لقد طالبت هذه الوزارات بإقرار القانون لأنها على تماس مع مشاكل العنف الاسري، لكنها بلا غطاء قانوني لتقديم المساعدة. كما أن هناك دوائر يكاد وجودها أن يكون معدوماً، لأنها ترتبط بالأساس بإقرار قانون مناهضة العنف الأسري.  

في وزارة الداخلية، هناك دائرة تُسمّى بـ”حماية الأسرة والطفل”، وجودها وتنظيمها قائم على تشريع القانون. 

“أصبحت هنالك مسودتان من جهتين تنفيذيتين”، تقول حمود، إضافة إلى المسودّة التي وضعتها المنظمات المدنية.  

تنازلت منظمات المجتمع المدني عن مسوّدتها، وفكّرت بدمج مسودّتي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء في مسودة قانون واحد ليُقر في البرلمان. 

بقيت المُسوّدات في كل دورة برلمانية تنتظر القراءة، لكنها لم تحظ باهتمام النوّاب. 

عام 2019 طرحت مسوّدة قانون مناهضة العنف الأسري للنقاش، بيد أن انشغال الحكومة والبرلمان والشارع العراقي بتظاهرات تشرين الأوّل، ركن المسودة مرة أخرى.  

وسرعان ما أعاد حرق ملاك حيدر الزبيدي على يد زوجها في نيسان عام 2020، أعاد الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي إلى ضرورة إقرار قانون الحماية من العنف الأسري. 

الحكومة بدورها سارعت إلى المسودة التي كتبتها وأرسلتها الى البرلمان لقراءته، لكنها جوبهت بمعارضة من الأحزاب الشيعية بذريعة مخالفة بعض بنودها للشرع والعرف الاجتماعي السائد وأهمها: 

  • لأن القانون يلغي حق التأديب كما مبين في المادة 41. 
  • أن تصبح المشاكل العائلية “الخاصة” عامة ممكن أن يتدخل فيها القانون. 
  • كون الدستور العراقي مستمداً من الشريعة، وأن هناك بعض المواد القانونية تتعارض مع الدستور، وبالتالي تتعارض مع الشريعة. 
  • قانون غربي وأجندات خارجية لتدمير الأسر العراقية. 

في كانون الثاني من العام الحالي، جرى الحديث عن إقرار القانون، وعادت الاعتراضات نفسها، ونسي مرّة جديدة. 

لا يبدو مُستغرباً، والحال هذه، أن ترفض هذه الأحزاب (على رأسها حزبا الدعوة والفضيلة) قانوناً يُمكنه الحدّ من العنف الأسري.. لأنها ببساطة تحاول منذ أعوام إقرار قانون يجيز تزويج الفتيات بعمر التاسعة، ويقيِّد المرأة في مسائل الميراث والطلاق وغيرها، كما أنه يهوّن من إجراءات تعدد الزوجات للرجل. 

هل القانون فعلاً يناهض العنف الأسري في العراق؟ 

بالنسبة للساعين إلى إقرار قانون لمناهضة العنف الأسري، كانت مسودتا رئاسة الجمهورية والوزراء بمثابة الأمل لإيقاف موجات تعنيف وقتل النساء والأطفال وبعض الرجال.  

لكن هل تردّع المسّودتان وتحدان من العنف المُتصاعد؟ هل حظيتا بنقاش اجتماعي موسّع؟  

وطالما أن القانون لم يقرّ بعد، فإن فتح الحوار بشأن إقراره ضرورة مُلحة. 

في العراق، تعدّ عملية تعديل قانون أصعب حتّى من إقراره. 

بتعبير رحيم العكيلي، القاضي السابق والداعم للحقوق المدنيّة، فإن مسودتي مشروع قانون مناهضة أو مكافحة العنف الاسري “أقل من الطموح”. 

“ليست بمستوى حجم الظلم الذي يمثله العنف المسلط على النساء والأطفال”. 

المسودتان، وفق العكيلي، لم تتضمنا تجريماً للعنف الأسري كجريمة عامة تشمل عددا كبيرا جداً من الممارسات والأفعال التي تنتهك حقوق النساء والاطفال كبشر، بل اكتفتا بإيراد الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات. 

هذا يعني، إن مسودتي القانون لا تضيفان أيِّ أفعال جديدة مرتبطة بالعنف الأُسري سوى ما جرمه المشرع العراقي في قانون العقوبات لعام 1969.  

تتضمن المسوّدتان أيضاً إشكالاً أساسياً في التعريفات واللجوء إلى المفاهيم الفضفاضة في القانون، والتي تجعل من السهل التلاعب بالمفاهيم والتحايل على القانون لإنقاذ المُّعنِّف. 

فعلى عكس قوانين بلدان المنطقة أو دول العالم التي أخذت تُفصِّل العنف بالأمثلة، كما تفصل حقوق أفراد العائلة رجالاً ونساءً، فإن لا مادة قانونية في المسودتين العراقيتين تناظر العنف كفكرة تأديبية، ولا في ما يخص فكرة الملكية الخاصة التي يؤمن بها بعض الرجال تجاه الأطفال والنساء، كما لا توجد أي مادة أو إشارة إلى الحق العام للمُعنَّف. ولم يتطرق القانون للاعتداء الجنسي الذي يمارس من قبل أحد أفراد العائلة، ولا يأتي على ذكر التلاعب القانوني في ما يخص زواج القاصرات. 

تناسى القانون كذلك واحدة من أكبر مشكلات العنف الأسري العالقة التي تعرف باسم “غسل العار”، والتي يمنح القانون العراقي عقوبات مخففة لمرتكبيها، الأمر الذي يشجع على استشرائها. 

ترك “غسل العار” فتيات كثيرات قتيلات على يد أحد أو مجموعة من رجال العائلة. 

يسجل العراق مقتل أكثر من 150 فتاة وامرأة سنوياً بـ”داعي الشرف”، وما يُعرف بـ”تلال المخطئات” في الناصرية واحدة من الأدلة العينية على الجرائم ضد النساء.  

تترك أجساد النساء بعد قتلهن للذئاب والكلاب السائبة. 

لكن القانون أيضاً، لم تخلُ مسوّدته التي أرسلتها الحكومة من الإيجابيات، فمجرد وجود كلمة “عنف أسري” تعد سابقة في القانون العراقي الذي لا يعترف أو يحاسب على العنف الذي يأتي من الأسرة إلا في حالات استثنائية، أو باستعمال العنف الذي يؤدي إلى العوق أو الموت. 

تقع مسوّدة القانون أيضاً على أحّد الجروح العميقة للنساء، وذلك بعدم وجود دور حكومية لإيواء المُعنَّفات، ومنع المنظمات المدنيّة من إنشاء دور خاصّة. تلزم المسوّدة الجهات التنفيذية بتوفير دور إيواء للمعنفات / المعنفين، وهذه سابقة أخرى أيضاً يمكن حدوثها العراق. مع ذلك تخلو هذه المادة من التفاصيل أو آليات إيواء النساء، أو من يشترك في العمل فيها من مؤسسات صحية وقانونية وبرامج الدعم النفسي.  

القانون للتقويم.. 

واحدة من أدوار القوانين المتقدمة هي تقويم السلوكيات التي تنتهك حقوق الإنسان؛ فالقانون يمكن أن يتحول إلى سلوكٍ بمرور الوقت. والعنف في العالم ما كان ليتراجع  لولا تقويم القوانين للمجتمعات.  

كلما غاب القانون أو ضعف، كلما زاد وضع الفئات المستضعفة سوءاً. 

ومشروع قانون مناهضة العنف الأسري بشكله الحالي، لا يمكن أن يكون رادعاً لعنف مسنود اجتماعياً ودينياً، وسلطة عشائرية فوق القانون.  

وبطبيعة الحال، لا يمكن رفض القانون، ولكن هي دعوة لتعديله وتقويمه بما يتناسب مع حجم “العنف” الآخذ بالتفشّي، ويجب النظر إلى المسودة، بأي حال، من زاوية القضية وليس من زاوية الإنجاز. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يسجّل العالم مقتل خمس نساء كل ساعة على يد أحد أفراد العائلة، بحسب الأمم المتحدة. ولا توجد إحصائيات دقيقة تخصّ العنف الجسدي والنفسي الذي تتعرّض له النساء والأطفال وأحياناً حتّى الرجال في العراق، رغم تناقل وسائل لعدّة أحداث يومياً تخص هذه الظاهرة.  

لكن، وحتّى مع ارتفاع أعداد المعنفّات والمعنفين أُسرياً، فإن لا قانون يضمن حماية هؤلاء، بل أحياناً يقف القانون ضدّهم، ويبيح لمعنِّفيهم الاستمرار في إيذائهم جسدياً ونفسياً. 

عنف بأشكال عدّة 

يأخذ العنف في العراق، اجتماعياً وقانونياً، أشكالاً عدّة، وتُفرّغ الأفعال الوحشية من أذاها. يُسمِّي المجتمع فِعل العنف “تأديباً”، أو هو فِعلٌ مؤداه الردع، أو الذهاب أبعد إلى إجبار المُعنَّف على عدم تكرار فعلته أو فكرته -التي هي حقّ له- نتيجة للعنف الذي تلقاه. 

وفّرت منصات التواصل الاجتماعي مجالاً يُمكِنُ للنساء من خلاله طلب المساعدة، أو إقامة حملات للحصول على حقوقهن. وهكذا، بدأت قضايا العُنف تظهر إلى السطح، بعد أن كانت حبيسة جدران المنازل.  

كما باتت هذه المنصات مساحة للمعنفات لنقل معاناتهن، وتحوّل قضايا العنف ضد النساء من خلال التفاعل معها وإدانتها إلى قضية رأي عام بعد أن كانت تعتبر جزءاً من أسرار العائلة الواجب عدم مشاركتها مع الآخرين. ونتيجة هذا الضغط الشعبي، إضافة الى تقدّم الوعي بشكل ملحوظ، ظهر تغيّر في نظر المجتمع إلى العنف المنزلي. 

صار ملاحظاً من التفاعل مع الحملات المناهضة للعنف ضد المرأة، أن مصطلحي “تأديب” أو “تربية” لم يعودا مقبولين مثلما كانا من قبل لوصف فعل العنف الواقع على الأفراد. 

بيد أنه وعلى الرغم من تحوّل قطاع اجتماعي واسع مناهض للعنف، إلا أنه لا أساس قانوني يمكن من خلاله حماية المُعنّفة وتوفير المتطلبّات الأساسية لها للخروج من الصدمات النفسيّة والجسديّة التي تعانيها.  

تقف المعنّفة وحيدة ومخذولة، وأحياناً مُدانة رغم أنها ضحيّة. 

ومع ذلك، يبقى الإيمان بالعنف كفعل تأديبي جزءاً من ثقافة اجتماعية سائدة، ويزيد إباحته قانوناً، من استخدامه. فالقوانين في العراق، ما خلا إقليم كردستان، لا تحمي من يتعرضون العنف للأسري. 

على سبيل المثال، تُبيح المادة 41 من قانون العقوبات العراقي للعام 1969 تأديب الزوج لزوجته، وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم القصر، عرفاً أو قانوناً، بحدود ما هو مقرر شرعاً. 

وتعكس المادة 4091 هذا التماهي بين القانون والثقافة التي تبيح للرجل أن يقتل زوجته أو ابنته أو أن يسبب لها عاهة مستديمة، نتيجة لما يُدعى بالذود عن الشرف. 

يمنح القضاء لمرتكبي هذه الجرائم أحكاماً مُخففَّة مسبقاً. 

“العنف الصامت الذي يمارس ضد النساء والفتيات والأطفال خلف أبواب بيوت الأُسر العراقية يمثل أقسى انتهاكات حقوق الإنسان في العراق”، قال رحيم العكيلي، القاضي ورئيس هيئة النزاهة السابق. 

مجتمع يتحرّك 

واقع الحال، يُحسب للمجتمع المدني العراقي تنبّهه إلى غياب قانون مناهضة العنف الأسري مُبكراً، إذ دفعت بعض المنظمات المهتمة بقضايا العنف ضد المرأة بكتابة ما يسمى مسّودة “قانون مناهضة العنف الأسري”، وهي مبادرة تعود إلى عام 2010. 

ثم قامت رئاسة الجمهورية بالعمل على مسودة للقانون عام 2017 مُهملةً مسودة المنظمات المدنيّة، وشاركت الأخيرة في النقاشات الأولية على مسودة الرئاسة، على أمل أن تمرر. وأرسلته عام 2019 إلى البرلمان. 

منظمات المجتمع المدني، التي داعت طويلاً بإقرار القانون وتطوّعت لكتابته، أبدت ليونة على التغييرات. “كمنظمات لم تكن لدينا مشكلة طالما هناك قانون أفضل من أن نبقى بلا قانون”، حسب الناشطة النسوية هناء حمود. 

في عام 2020 شرعت الحكومة بالعمل على مسودة جديدة من القانون، واستمرت عمليّة كتابتها بعد تشكيل اللجنة الوطنية لقانون مناهضة العنف، واحتوت على ضمانات كثيرة للمعنفات والمعنفين، لأنها تركزت على تأهيل ووقاية وملاحقة مرتكبي الجرم. 

عملت حمود رئيسة لمنظمة النجدة الشعبية، وهي أحد أعضاء اللجنة الوطنية لكتابة قانون مناهضة العنف الأسري. 

“حرصنا على وجود أساسيات حول هذه المسودة وأهمها ملاحقة الجناة وتوفير الملاذ الآمن”. 

تعد هذه المسودة الأقوى لأنها خرجت من جهة متنفذة وبناء على طلب وزارات عدة، مثل العدل والعمل والداخلية. لقد طالبت هذه الوزارات بإقرار القانون لأنها على تماس مع مشاكل العنف الاسري، لكنها بلا غطاء قانوني لتقديم المساعدة. كما أن هناك دوائر يكاد وجودها أن يكون معدوماً، لأنها ترتبط بالأساس بإقرار قانون مناهضة العنف الأسري.  

في وزارة الداخلية، هناك دائرة تُسمّى بـ”حماية الأسرة والطفل”، وجودها وتنظيمها قائم على تشريع القانون. 

“أصبحت هنالك مسودتان من جهتين تنفيذيتين”، تقول حمود، إضافة إلى المسودّة التي وضعتها المنظمات المدنية.  

تنازلت منظمات المجتمع المدني عن مسوّدتها، وفكّرت بدمج مسودّتي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء في مسودة قانون واحد ليُقر في البرلمان. 

بقيت المُسوّدات في كل دورة برلمانية تنتظر القراءة، لكنها لم تحظ باهتمام النوّاب. 

عام 2019 طرحت مسوّدة قانون مناهضة العنف الأسري للنقاش، بيد أن انشغال الحكومة والبرلمان والشارع العراقي بتظاهرات تشرين الأوّل، ركن المسودة مرة أخرى.  

وسرعان ما أعاد حرق ملاك حيدر الزبيدي على يد زوجها في نيسان عام 2020، أعاد الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي إلى ضرورة إقرار قانون الحماية من العنف الأسري. 

الحكومة بدورها سارعت إلى المسودة التي كتبتها وأرسلتها الى البرلمان لقراءته، لكنها جوبهت بمعارضة من الأحزاب الشيعية بذريعة مخالفة بعض بنودها للشرع والعرف الاجتماعي السائد وأهمها: 

  • لأن القانون يلغي حق التأديب كما مبين في المادة 41. 
  • أن تصبح المشاكل العائلية “الخاصة” عامة ممكن أن يتدخل فيها القانون. 
  • كون الدستور العراقي مستمداً من الشريعة، وأن هناك بعض المواد القانونية تتعارض مع الدستور، وبالتالي تتعارض مع الشريعة. 
  • قانون غربي وأجندات خارجية لتدمير الأسر العراقية. 

في كانون الثاني من العام الحالي، جرى الحديث عن إقرار القانون، وعادت الاعتراضات نفسها، ونسي مرّة جديدة. 

لا يبدو مُستغرباً، والحال هذه، أن ترفض هذه الأحزاب (على رأسها حزبا الدعوة والفضيلة) قانوناً يُمكنه الحدّ من العنف الأسري.. لأنها ببساطة تحاول منذ أعوام إقرار قانون يجيز تزويج الفتيات بعمر التاسعة، ويقيِّد المرأة في مسائل الميراث والطلاق وغيرها، كما أنه يهوّن من إجراءات تعدد الزوجات للرجل. 

هل القانون فعلاً يناهض العنف الأسري في العراق؟ 

بالنسبة للساعين إلى إقرار قانون لمناهضة العنف الأسري، كانت مسودتا رئاسة الجمهورية والوزراء بمثابة الأمل لإيقاف موجات تعنيف وقتل النساء والأطفال وبعض الرجال.  

لكن هل تردّع المسّودتان وتحدان من العنف المُتصاعد؟ هل حظيتا بنقاش اجتماعي موسّع؟  

وطالما أن القانون لم يقرّ بعد، فإن فتح الحوار بشأن إقراره ضرورة مُلحة. 

في العراق، تعدّ عملية تعديل قانون أصعب حتّى من إقراره. 

بتعبير رحيم العكيلي، القاضي السابق والداعم للحقوق المدنيّة، فإن مسودتي مشروع قانون مناهضة أو مكافحة العنف الاسري “أقل من الطموح”. 

“ليست بمستوى حجم الظلم الذي يمثله العنف المسلط على النساء والأطفال”. 

المسودتان، وفق العكيلي، لم تتضمنا تجريماً للعنف الأسري كجريمة عامة تشمل عددا كبيرا جداً من الممارسات والأفعال التي تنتهك حقوق النساء والاطفال كبشر، بل اكتفتا بإيراد الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات. 

هذا يعني، إن مسودتي القانون لا تضيفان أيِّ أفعال جديدة مرتبطة بالعنف الأُسري سوى ما جرمه المشرع العراقي في قانون العقوبات لعام 1969.  

تتضمن المسوّدتان أيضاً إشكالاً أساسياً في التعريفات واللجوء إلى المفاهيم الفضفاضة في القانون، والتي تجعل من السهل التلاعب بالمفاهيم والتحايل على القانون لإنقاذ المُّعنِّف. 

فعلى عكس قوانين بلدان المنطقة أو دول العالم التي أخذت تُفصِّل العنف بالأمثلة، كما تفصل حقوق أفراد العائلة رجالاً ونساءً، فإن لا مادة قانونية في المسودتين العراقيتين تناظر العنف كفكرة تأديبية، ولا في ما يخص فكرة الملكية الخاصة التي يؤمن بها بعض الرجال تجاه الأطفال والنساء، كما لا توجد أي مادة أو إشارة إلى الحق العام للمُعنَّف. ولم يتطرق القانون للاعتداء الجنسي الذي يمارس من قبل أحد أفراد العائلة، ولا يأتي على ذكر التلاعب القانوني في ما يخص زواج القاصرات. 

تناسى القانون كذلك واحدة من أكبر مشكلات العنف الأسري العالقة التي تعرف باسم “غسل العار”، والتي يمنح القانون العراقي عقوبات مخففة لمرتكبيها، الأمر الذي يشجع على استشرائها. 

ترك “غسل العار” فتيات كثيرات قتيلات على يد أحد أو مجموعة من رجال العائلة. 

يسجل العراق مقتل أكثر من 150 فتاة وامرأة سنوياً بـ”داعي الشرف”، وما يُعرف بـ”تلال المخطئات” في الناصرية واحدة من الأدلة العينية على الجرائم ضد النساء.  

تترك أجساد النساء بعد قتلهن للذئاب والكلاب السائبة. 

لكن القانون أيضاً، لم تخلُ مسوّدته التي أرسلتها الحكومة من الإيجابيات، فمجرد وجود كلمة “عنف أسري” تعد سابقة في القانون العراقي الذي لا يعترف أو يحاسب على العنف الذي يأتي من الأسرة إلا في حالات استثنائية، أو باستعمال العنف الذي يؤدي إلى العوق أو الموت. 

تقع مسوّدة القانون أيضاً على أحّد الجروح العميقة للنساء، وذلك بعدم وجود دور حكومية لإيواء المُعنَّفات، ومنع المنظمات المدنيّة من إنشاء دور خاصّة. تلزم المسوّدة الجهات التنفيذية بتوفير دور إيواء للمعنفات / المعنفين، وهذه سابقة أخرى أيضاً يمكن حدوثها العراق. مع ذلك تخلو هذه المادة من التفاصيل أو آليات إيواء النساء، أو من يشترك في العمل فيها من مؤسسات صحية وقانونية وبرامج الدعم النفسي.  

القانون للتقويم.. 

واحدة من أدوار القوانين المتقدمة هي تقويم السلوكيات التي تنتهك حقوق الإنسان؛ فالقانون يمكن أن يتحول إلى سلوكٍ بمرور الوقت. والعنف في العالم ما كان ليتراجع  لولا تقويم القوانين للمجتمعات.  

كلما غاب القانون أو ضعف، كلما زاد وضع الفئات المستضعفة سوءاً. 

ومشروع قانون مناهضة العنف الأسري بشكله الحالي، لا يمكن أن يكون رادعاً لعنف مسنود اجتماعياً ودينياً، وسلطة عشائرية فوق القانون.  

وبطبيعة الحال، لا يمكن رفض القانون، ولكن هي دعوة لتعديله وتقويمه بما يتناسب مع حجم “العنف” الآخذ بالتفشّي، ويجب النظر إلى المسودة، بأي حال، من زاوية القضية وليس من زاوية الإنجاز.