متحف تشرين.. مشروع توثيق انتفاضة انتهى بـ"لافتة متهرّئة"

شهد موسى

01 تشرين الأول 2022

يتحجج شقيق مصطفى الكاظمي ومستشاره بـ"دعوى قضائية" حالت دون تحويل المطعم التركي إلى "متحف تشرين"، بينما ينفي القضاء ذلك، وترد المؤسسات البقية بجملة واحدة: "لا نعرف"..

بناية مهجورة يعلو السخام جدرانها. بوابتها مغلقة، ومن فتحات نوافذها العارية في جوانبها الثلاث يتبيّن للمار بمحاذاتها جنود يجلسون خلف متاريس عشوائية.

هذا هو “المطعم التركي” في قلب بغداد، تطل واجهته على ساحة التحرير وخلفه تقع المنطقة الخضراء المحصنة، وينتصب بطوابقه العالية على رقبة جسر الجمهورية من جهة الرصافة.

المكان كئيب ويبعث في النفس شعوراً بالخوف حال الاقتراب منه ليلاً، فلم تعد الضجة والأغاني الحماسية تنطلق منه، ولا أضواء الليزر الخضراء تهبط أعمدة حادة من نوافذه على المحتجين وقوات مكافحة الشغب.

مركز الاحتجاج

طوال أشهر بدأت في تشرين الأول 2019، واستمرت حتى منتصف العام الذي تلاه، كانت البناية المعروفة بـ”المطعم التركي” رمزاً لاحتجاجات شعبية عمّت مدن وسط وجنوب العراق، وكان يتدلى منها علم عراقي كبير وشعارات تعبر عن تطلعات وأحلام جيل جديد نشأ بعد 2003 بلا مستقبل واضح نتيجة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وتنازعات النفوذ الخارجي.

البناية ذات الـ14 طابقاً بُنيت عام 1983، والتي سمّاها العراقيون على اسم مطعم تركي كان يحتلّ الطابق الأخير ذات التصميم البانورامي، ملأت جدرانه كذلك بصور السياسيين المرفوضين الذين وضعت على وجوههم علامة (X).

لكن للبناية الشاهقة كان ثمة بعد استراتيجي، إلى جانب الرمزية التي أتاحتها من هذه الشعارات والصور، إذ استخدمها المحتجون كمأوى وبرج مراقبة لاستطلاع تقدم القوات الأمنية باتجاه ساحة التحرير.

وعندما نزلوا لاحقاً من “جبل أحد”، الاسم الذي أطلقوه على البناية تشبيهاً لها بجبل أحد في المعركة الإسلامية حتّى لا تلتف عليهم القوات الأمنية، لم يكونوا مقتنعين بالنهاية.

فلقد قتل أكثر من 800 متظاهر وأُصيب ما يزيد عن 25 ألفاً منهم، فضلاً عن هجرة المئات خوفاً من الملاحقة، بينما لم تتحقق لهؤلاء الشبّان الغاضبين أهدافٌ تُذكر غير استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحكومته، وتعديل قانون الانتخابات. 

وعندما تولى رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي تشكيل حكومة مؤقتة مهمتها الرئيسة إجراء انتخابات مبكرة، راح يطلق الوعود لهم بينما كانوا يغادرون الساحات.

إضافة إلى تعهده بملاحقة ومحاسبة قتلة المتظاهرين والناشطين البارزين، الذين اصطلحت السلطات عليهم -أي القتلة- وقتها “الطرف الثالث” دون تحديد هوياتهم، وجّه الكاظمي في 12 تشرين الثاني بتحويل “المطعم التركي” إلى “متحف تشرين”.

“تظاهرات تشرين درس لنا جميعاً.. حقوقكم لن تضيع”، قال مخاطباً المحتجين الغاضبين، وقد حسِبته أطراف سياسية عليهم.

سرعان ما وضع مكتب الكاظمي لافتة على المبنى كُتب عليها “متحف تشرين”، كما كُتبت جُملة “بدعم ورعاية السيد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي”.

بحسب اللافتة، فإن “مكتب رئيس الوزراء” هو من يشرف على أعمال المتحف، ووضع اسم “الاستشاري المهندس المعماري سامان كمال” على الإعلان أيضاً. 

يعرف سامان أسعد كمال بصداقته وقُربه من الفنان العراقي إسماعيل فتّاح الترك، وأدت علاقتهما إلى أن يعملا على واحد من أهم معالم بغداد: نصب الشهيد.

لكن على العكس من حماسة كمال في الحديث عن مراحل إنجاز نصب الشهيد، فإن حديثه عن متحف تشرين يخلو من الحماسة: “المشروع متوقف”، قال.

وأضاف “أنا صممته، لكن لم ينفذ لأسباب لا علاقة لي بها”.

ومثل المهندس كمال، “لا تعرف” عدّة مؤسسات حكومية عن مصير المتحف، فقد حُصر الحديث بشأنه بمكتب رئيس الوزراء.

يؤكد أحمد العلياوي، المتحدث باسم وزارة الثقافة، أنه لم يردهم أي إيعاز بتحويل “المطعم التركي” إلى متحف.

ويقول أن رئيس الوزراء “كلّف في وقتها لجنة لدراسة هذا الموضوع وتم تحديد كادر من المهندسين والمعماريين”.

كانت لدى وزارة الثقافة فكرة لجعل البناية متحفاً فنياً عاماً يخصص أحد طوابقها “لذكرى تظاهرات تشرين”، لكن هذا لم يتحقق أيضاً، بحسب العلياوي.

“مجلس الوزراء ورئيسه مصطفى الكاظمي هم الجهة المتبنية لمشروع المتحف وليست لدى وزارة الثقافة أي تفاصيل حوله وما حل به”.

أما أمانة بغداد، فقد اكتفت بالقول أن المشروع لم يحظ بمصادقة مجلس الوزراء بعد، ولم يدل المتحدث باسمها بأي تفاصيل.

في 23 آب 2021، قال صباح مشتت، شقيق مصطفى الكاظمي ومستشاره لوسائل إعلام عراقية إن مشكلة قانونية أعاقت تحويل “المطعم التركي إلى متحف”.

وذكر أن شخصاً رفع دعوى قضائية مدعياً امتلاكه إجازة استثمارية سابقة من أمانة بغداد لأنها مالكة المبنى، وبالتالي “لا يمكن المباشرة بتحويله لمتحف دون حسم مشكلة الملكية”.

غير أن مصدراً مسؤولاً في مجلس القضاء الأعلى نفى ذلك في حديث لـ”جمار”.

وقال، وهو يتخلّى عن لهجة دبلوماسية معروفة في السلك القضائي، “لا المكان حكومياً وليس هناك استثمار ولا متحف ولا شيئاً من هذا. هو متروك ومهمل والطقس القاسي أتلف اللوحة (التي وضعها مكتب رئيس الوزراء)”.

مركز السلطة

بدءاً من عام 2011، حيث شهدّ العراق احتجاجات ضخمة، تحوّلت البناية الخرسانية الشاهقة والمهجورة منذ احتلال بغداد في نيسان عام ٢٠٠٣ إلى مركز عمليات لقمع الاحتجاجات في ساحة التحرير.

لقد وقف سياسيون وقادة أمنيون على شرفاتها وهم يحملون أجهزة اتصال لنقل الموقف إلى مراكز السلطة، ونُصبت كاميرات مراقبة على زواياها، الأمر الذي سهّل قمع وفض أي تجمّع غاضب.

لهذا السبب، تعتقد الكثير من القوى السياسية الناشئة التي أفرزتها الاحتجاجات، أن هذه الجهات التي تتعامل مع المجتمع الغاضب بالقبضة الأمنية لن تقبل بتحويل المبنى إلى متحف.

وحزب “البيت الوطني” واحد من هذه الحركات.

“مطالب الانتفاضة السياسية والعامة لم تتحقق ومن المبكر الحديث عن إنشاء متحف يخلّد تشرين لأن تشرين لم تنته”، قال لنا ياسر عدنان نائب الأمين العام لـ”البيت الوطني”.

ويعتقد عدنان أن فكرة المتحف تمثل “نية لدى الحكومة بإيصال صورة توحي بانتهاء احتجاجات تشرين وأنها أصبحت من الماضي”.

ليست “المشكلة” كما يرى في رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي “الذي لم يكن مرشح المحتجين، والقول إن حكومته هي نتاج التظاهرات مغلوط جداً”، فحسب.

بل إن “هناك جهات سياسية نافذة ستحاول تحريف التاريخ لأنه يعريهم ويذكّر ببشاعة وإجرام السلطة السياسية التي حكمت العراق آنذاك، وهذه الجهات ما تزال في هذه السلطة ومن المؤكد أنها ستعارض هكذا مشاريع (أي متحف تشرين) وتحاول تزييف وتشويه تاريخ الانتفاضة”.

كما أن “عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة والحالية بالجوانب الثقافية للإرث العراقي وانعدام وجود أبنية ومؤسسات وصروح ومتاحف تليق بتاريخ العراق الذي هو من أقدم الحضارات على الارض”، يؤكد مآل إنشاء متحف لاحتجاجات تشرين.

بالنسبة له، فإن “تنفيذ مطالب (تلك) الاحتجاجات والعمل على الإصلاحات التشريعية والقانونية وجميع القطاعات الحكومية والمجتمعية” أولى من إنشاء المتحف.

“لا تحتاج تشرين إليه لتخلَّد فالكثير من المؤرخين والكتّاب والمؤلفين كتبوا عنها والذاكرة العراقية ليست مثقوبة أو سمكية لتنسى ما حصل”.

وإن كان لا بد من تحويل بناية “المطعم التركي” إلى متحف “فيجب إشراك المحتجين الحقيقيين والحركات الاحتجاجية والمؤسسات والأحزاب الناشئة المنبثقة عن التظاهرات لوضع هيكلية المتحف حتى لا يؤول أو يحرّف مسار احتجاجات تشرين وتاريخها وأهدافها”.

بينما يقول النائب سجاد سالم إن “فترة ما بعد (احتجاجات تشرين) هي فترة نضال سياسي من أجل تحقيق قيم الثورة”.

 يقدم نقيب الفنانين جبار جودي مقترحاً بشأن بناية “المطعم التركي”.

“إذا أعيد المبنى إلى حاله الأول، عمارة لإيقاف السيارات ومطعم في الطابق الأخير فسيكون معلماً من معالم بغداد”.

لا تعجب الفكرة من أساسها نقيب الفنانين جبار جودي.

“ماذا ستضع الحكومة داخل المتحف ليخلّد انتفاضة تشرين؟ دماء الشهداء أم قنابل الدخان؟ ماذا سيضعون فيه؟”، يتساءل.

ويقول جودي إن “ثورة تشرين خلدتها السوشيال ميديا والإعلام المرئي أكثر مما قد يضمه المتحف ولا نرى جدوى فيه أبداً”.

“امتصاص الغضب”

فاز سجاد سالم بمقعد في البرلمان خلال الانتخابات التي أجريت في تشرين الأول 2021.

مثل جُلّ ناخبيه، شارك سالم في تظاهرات تشرين في محافظة واسط، وصار نائباً مستقلاً عن محافظته.

وهو لا يرى الحكومة غير جادة في تحويل “المطعم التركي” إلى متحف لذكرى الاحتجاجات فحسب، بل يتهمها بـ”إطلاق الفكرة فقط لامتصاص الغضب الجماهيري بعدما كانت هناك مطالب بتخليد الثورة”.

ويصف سالم فكرة المتحف بالجيدة “ليكون شاهداً على انتفاضة جماهيرية كبيرة ويذكر الأجيال القادمة بقيمها وجراحها والمعاناة والقمع وكل الأحداث المأساوية التي رافقتها”.

لدى حركة “امتداد” أيضاً رأي مُشابه.

انبثقت هذه الحركة السياسية من الاحتجاجات وفازت بـ9 مقاعد نيابية في الانتخابات اللاحقة.

ويقول المتحدث باسمها رسول السراي لـ”جمار” إن الحركة اطّلعت على مشروع تحويل “المطعم التركي” إلى متحف يوّثق احتجاجات تشرين.

ينظر السراي إلى المشروع كـ”وسيلة لامتصاص غضب المتظاهرين في حينها”، قبل أن يضيف “لم تتخذ الحكومة أي خطوة لتنفيذها لغاية الآن”، ومع ذلك يؤيد فكرته.

ويعده “بذرة حرية للأجيال القادمة لكي تطلع (من خلال المتحف المفترض) على تجارب التجرد من تبعات التضليل الفكري والعقائدي والفئوي والمكوناتي”.

 فالبناية، كما يقول “تشكّل مع ساحة التحرير مزاراً روحياً للمواطنين بكل أفكارهم وأيدلوجياتهم وفيه من السكينة ما يقبض على أوداج المارة بما يحمله من ذكريات ولادة وطن بذل له الأحرار مئات الأضاحي البشرية كي يزدهر ويكبر حراً”.

بيد أنه متخوف ويعتقد أن فكرة المتحف تهدد مصير أي احتجاجات في المستقبل القريب.

“تحويل المطعم التركي إلى متحف سيضمن للحكومات القادمة بوابة مؤمنة للمنطقة الخضراء. فالحكومة تضع يدها عليه ومفتاحه بخزانتها وهذا قد يمنع أي ثائر قادم للاحتماء به والتجمع حوله وكذلك سيؤمن (المتحف في حال إنشائه) المدخل الرئيس للمنطقة الحكومية وبهذا سيكون رمزاً مقننا ومؤمناً لأي حكومة لاحقة”.

في الواقع، نبرة المهندس الاستشاري سامان أسعد كمال تشي بأن بناية المطعم التركي ستظلّ مهجورة، قال وهو يقتضب في حديثه، “لا جديد في المشروع (المتحف).. المشروع متوقف”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بناية مهجورة يعلو السخام جدرانها. بوابتها مغلقة، ومن فتحات نوافذها العارية في جوانبها الثلاث يتبيّن للمار بمحاذاتها جنود يجلسون خلف متاريس عشوائية.

هذا هو “المطعم التركي” في قلب بغداد، تطل واجهته على ساحة التحرير وخلفه تقع المنطقة الخضراء المحصنة، وينتصب بطوابقه العالية على رقبة جسر الجمهورية من جهة الرصافة.

المكان كئيب ويبعث في النفس شعوراً بالخوف حال الاقتراب منه ليلاً، فلم تعد الضجة والأغاني الحماسية تنطلق منه، ولا أضواء الليزر الخضراء تهبط أعمدة حادة من نوافذه على المحتجين وقوات مكافحة الشغب.

مركز الاحتجاج

طوال أشهر بدأت في تشرين الأول 2019، واستمرت حتى منتصف العام الذي تلاه، كانت البناية المعروفة بـ”المطعم التركي” رمزاً لاحتجاجات شعبية عمّت مدن وسط وجنوب العراق، وكان يتدلى منها علم عراقي كبير وشعارات تعبر عن تطلعات وأحلام جيل جديد نشأ بعد 2003 بلا مستقبل واضح نتيجة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وتنازعات النفوذ الخارجي.

البناية ذات الـ14 طابقاً بُنيت عام 1983، والتي سمّاها العراقيون على اسم مطعم تركي كان يحتلّ الطابق الأخير ذات التصميم البانورامي، ملأت جدرانه كذلك بصور السياسيين المرفوضين الذين وضعت على وجوههم علامة (X).

لكن للبناية الشاهقة كان ثمة بعد استراتيجي، إلى جانب الرمزية التي أتاحتها من هذه الشعارات والصور، إذ استخدمها المحتجون كمأوى وبرج مراقبة لاستطلاع تقدم القوات الأمنية باتجاه ساحة التحرير.

وعندما نزلوا لاحقاً من “جبل أحد”، الاسم الذي أطلقوه على البناية تشبيهاً لها بجبل أحد في المعركة الإسلامية حتّى لا تلتف عليهم القوات الأمنية، لم يكونوا مقتنعين بالنهاية.

فلقد قتل أكثر من 800 متظاهر وأُصيب ما يزيد عن 25 ألفاً منهم، فضلاً عن هجرة المئات خوفاً من الملاحقة، بينما لم تتحقق لهؤلاء الشبّان الغاضبين أهدافٌ تُذكر غير استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحكومته، وتعديل قانون الانتخابات. 

وعندما تولى رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي تشكيل حكومة مؤقتة مهمتها الرئيسة إجراء انتخابات مبكرة، راح يطلق الوعود لهم بينما كانوا يغادرون الساحات.

إضافة إلى تعهده بملاحقة ومحاسبة قتلة المتظاهرين والناشطين البارزين، الذين اصطلحت السلطات عليهم -أي القتلة- وقتها “الطرف الثالث” دون تحديد هوياتهم، وجّه الكاظمي في 12 تشرين الثاني بتحويل “المطعم التركي” إلى “متحف تشرين”.

“تظاهرات تشرين درس لنا جميعاً.. حقوقكم لن تضيع”، قال مخاطباً المحتجين الغاضبين، وقد حسِبته أطراف سياسية عليهم.

سرعان ما وضع مكتب الكاظمي لافتة على المبنى كُتب عليها “متحف تشرين”، كما كُتبت جُملة “بدعم ورعاية السيد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي”.

بحسب اللافتة، فإن “مكتب رئيس الوزراء” هو من يشرف على أعمال المتحف، ووضع اسم “الاستشاري المهندس المعماري سامان كمال” على الإعلان أيضاً. 

يعرف سامان أسعد كمال بصداقته وقُربه من الفنان العراقي إسماعيل فتّاح الترك، وأدت علاقتهما إلى أن يعملا على واحد من أهم معالم بغداد: نصب الشهيد.

لكن على العكس من حماسة كمال في الحديث عن مراحل إنجاز نصب الشهيد، فإن حديثه عن متحف تشرين يخلو من الحماسة: “المشروع متوقف”، قال.

وأضاف “أنا صممته، لكن لم ينفذ لأسباب لا علاقة لي بها”.

ومثل المهندس كمال، “لا تعرف” عدّة مؤسسات حكومية عن مصير المتحف، فقد حُصر الحديث بشأنه بمكتب رئيس الوزراء.

يؤكد أحمد العلياوي، المتحدث باسم وزارة الثقافة، أنه لم يردهم أي إيعاز بتحويل “المطعم التركي” إلى متحف.

ويقول أن رئيس الوزراء “كلّف في وقتها لجنة لدراسة هذا الموضوع وتم تحديد كادر من المهندسين والمعماريين”.

كانت لدى وزارة الثقافة فكرة لجعل البناية متحفاً فنياً عاماً يخصص أحد طوابقها “لذكرى تظاهرات تشرين”، لكن هذا لم يتحقق أيضاً، بحسب العلياوي.

“مجلس الوزراء ورئيسه مصطفى الكاظمي هم الجهة المتبنية لمشروع المتحف وليست لدى وزارة الثقافة أي تفاصيل حوله وما حل به”.

أما أمانة بغداد، فقد اكتفت بالقول أن المشروع لم يحظ بمصادقة مجلس الوزراء بعد، ولم يدل المتحدث باسمها بأي تفاصيل.

في 23 آب 2021، قال صباح مشتت، شقيق مصطفى الكاظمي ومستشاره لوسائل إعلام عراقية إن مشكلة قانونية أعاقت تحويل “المطعم التركي إلى متحف”.

وذكر أن شخصاً رفع دعوى قضائية مدعياً امتلاكه إجازة استثمارية سابقة من أمانة بغداد لأنها مالكة المبنى، وبالتالي “لا يمكن المباشرة بتحويله لمتحف دون حسم مشكلة الملكية”.

غير أن مصدراً مسؤولاً في مجلس القضاء الأعلى نفى ذلك في حديث لـ”جمار”.

وقال، وهو يتخلّى عن لهجة دبلوماسية معروفة في السلك القضائي، “لا المكان حكومياً وليس هناك استثمار ولا متحف ولا شيئاً من هذا. هو متروك ومهمل والطقس القاسي أتلف اللوحة (التي وضعها مكتب رئيس الوزراء)”.

مركز السلطة

بدءاً من عام 2011، حيث شهدّ العراق احتجاجات ضخمة، تحوّلت البناية الخرسانية الشاهقة والمهجورة منذ احتلال بغداد في نيسان عام ٢٠٠٣ إلى مركز عمليات لقمع الاحتجاجات في ساحة التحرير.

لقد وقف سياسيون وقادة أمنيون على شرفاتها وهم يحملون أجهزة اتصال لنقل الموقف إلى مراكز السلطة، ونُصبت كاميرات مراقبة على زواياها، الأمر الذي سهّل قمع وفض أي تجمّع غاضب.

لهذا السبب، تعتقد الكثير من القوى السياسية الناشئة التي أفرزتها الاحتجاجات، أن هذه الجهات التي تتعامل مع المجتمع الغاضب بالقبضة الأمنية لن تقبل بتحويل المبنى إلى متحف.

وحزب “البيت الوطني” واحد من هذه الحركات.

“مطالب الانتفاضة السياسية والعامة لم تتحقق ومن المبكر الحديث عن إنشاء متحف يخلّد تشرين لأن تشرين لم تنته”، قال لنا ياسر عدنان نائب الأمين العام لـ”البيت الوطني”.

ويعتقد عدنان أن فكرة المتحف تمثل “نية لدى الحكومة بإيصال صورة توحي بانتهاء احتجاجات تشرين وأنها أصبحت من الماضي”.

ليست “المشكلة” كما يرى في رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي “الذي لم يكن مرشح المحتجين، والقول إن حكومته هي نتاج التظاهرات مغلوط جداً”، فحسب.

بل إن “هناك جهات سياسية نافذة ستحاول تحريف التاريخ لأنه يعريهم ويذكّر ببشاعة وإجرام السلطة السياسية التي حكمت العراق آنذاك، وهذه الجهات ما تزال في هذه السلطة ومن المؤكد أنها ستعارض هكذا مشاريع (أي متحف تشرين) وتحاول تزييف وتشويه تاريخ الانتفاضة”.

كما أن “عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة والحالية بالجوانب الثقافية للإرث العراقي وانعدام وجود أبنية ومؤسسات وصروح ومتاحف تليق بتاريخ العراق الذي هو من أقدم الحضارات على الارض”، يؤكد مآل إنشاء متحف لاحتجاجات تشرين.

بالنسبة له، فإن “تنفيذ مطالب (تلك) الاحتجاجات والعمل على الإصلاحات التشريعية والقانونية وجميع القطاعات الحكومية والمجتمعية” أولى من إنشاء المتحف.

“لا تحتاج تشرين إليه لتخلَّد فالكثير من المؤرخين والكتّاب والمؤلفين كتبوا عنها والذاكرة العراقية ليست مثقوبة أو سمكية لتنسى ما حصل”.

وإن كان لا بد من تحويل بناية “المطعم التركي” إلى متحف “فيجب إشراك المحتجين الحقيقيين والحركات الاحتجاجية والمؤسسات والأحزاب الناشئة المنبثقة عن التظاهرات لوضع هيكلية المتحف حتى لا يؤول أو يحرّف مسار احتجاجات تشرين وتاريخها وأهدافها”.

بينما يقول النائب سجاد سالم إن “فترة ما بعد (احتجاجات تشرين) هي فترة نضال سياسي من أجل تحقيق قيم الثورة”.

 يقدم نقيب الفنانين جبار جودي مقترحاً بشأن بناية “المطعم التركي”.

“إذا أعيد المبنى إلى حاله الأول، عمارة لإيقاف السيارات ومطعم في الطابق الأخير فسيكون معلماً من معالم بغداد”.

لا تعجب الفكرة من أساسها نقيب الفنانين جبار جودي.

“ماذا ستضع الحكومة داخل المتحف ليخلّد انتفاضة تشرين؟ دماء الشهداء أم قنابل الدخان؟ ماذا سيضعون فيه؟”، يتساءل.

ويقول جودي إن “ثورة تشرين خلدتها السوشيال ميديا والإعلام المرئي أكثر مما قد يضمه المتحف ولا نرى جدوى فيه أبداً”.

“امتصاص الغضب”

فاز سجاد سالم بمقعد في البرلمان خلال الانتخابات التي أجريت في تشرين الأول 2021.

مثل جُلّ ناخبيه، شارك سالم في تظاهرات تشرين في محافظة واسط، وصار نائباً مستقلاً عن محافظته.

وهو لا يرى الحكومة غير جادة في تحويل “المطعم التركي” إلى متحف لذكرى الاحتجاجات فحسب، بل يتهمها بـ”إطلاق الفكرة فقط لامتصاص الغضب الجماهيري بعدما كانت هناك مطالب بتخليد الثورة”.

ويصف سالم فكرة المتحف بالجيدة “ليكون شاهداً على انتفاضة جماهيرية كبيرة ويذكر الأجيال القادمة بقيمها وجراحها والمعاناة والقمع وكل الأحداث المأساوية التي رافقتها”.

لدى حركة “امتداد” أيضاً رأي مُشابه.

انبثقت هذه الحركة السياسية من الاحتجاجات وفازت بـ9 مقاعد نيابية في الانتخابات اللاحقة.

ويقول المتحدث باسمها رسول السراي لـ”جمار” إن الحركة اطّلعت على مشروع تحويل “المطعم التركي” إلى متحف يوّثق احتجاجات تشرين.

ينظر السراي إلى المشروع كـ”وسيلة لامتصاص غضب المتظاهرين في حينها”، قبل أن يضيف “لم تتخذ الحكومة أي خطوة لتنفيذها لغاية الآن”، ومع ذلك يؤيد فكرته.

ويعده “بذرة حرية للأجيال القادمة لكي تطلع (من خلال المتحف المفترض) على تجارب التجرد من تبعات التضليل الفكري والعقائدي والفئوي والمكوناتي”.

 فالبناية، كما يقول “تشكّل مع ساحة التحرير مزاراً روحياً للمواطنين بكل أفكارهم وأيدلوجياتهم وفيه من السكينة ما يقبض على أوداج المارة بما يحمله من ذكريات ولادة وطن بذل له الأحرار مئات الأضاحي البشرية كي يزدهر ويكبر حراً”.

بيد أنه متخوف ويعتقد أن فكرة المتحف تهدد مصير أي احتجاجات في المستقبل القريب.

“تحويل المطعم التركي إلى متحف سيضمن للحكومات القادمة بوابة مؤمنة للمنطقة الخضراء. فالحكومة تضع يدها عليه ومفتاحه بخزانتها وهذا قد يمنع أي ثائر قادم للاحتماء به والتجمع حوله وكذلك سيؤمن (المتحف في حال إنشائه) المدخل الرئيس للمنطقة الحكومية وبهذا سيكون رمزاً مقننا ومؤمناً لأي حكومة لاحقة”.

في الواقع، نبرة المهندس الاستشاري سامان أسعد كمال تشي بأن بناية المطعم التركي ستظلّ مهجورة، قال وهو يقتضب في حديثه، “لا جديد في المشروع (المتحف).. المشروع متوقف”.