"كلهم في البيت… ونحن في العمل": تجارب 5 أشخاص يعملون في العيد 

جُمّار

05 حزيران 2025

خمسة أشخاص من مهن متعددة، يكتبون عن العيد كما عاشوه: المسعفة التي لا تنام من فرط إصابات "الصجم"، الفرّان الذي يُحضّر الكاهي والخبز والكليچة للناس وهم نيام، سائق التاكسي الذي يجمع أجرة فستان العيد لابنته، وعامل التوصيل الذي يخوض سباقاً مع الوقت والزحام ليستمرّ العيد في البيوت، وعاملة ألعاب الأطفال التي تضحك للصغار بينما تتلقى شتائم الكبار..

خمسة أشخاص من مهن متعددة يكتبون عن العيد كما عاشوه، لا كما يُحتفل به في الإعلانات والصور العائلية. 

المُسعفة التي لا تنام من فرط الإصابات، تركض بين غرف الطوارئ وتحمل حقيبة إسعافات في قلب العيد، تحاول إنقاذ العيون من طيش “الصجم” قبل أن تتحوّل البهجة إلى مأساة. 

الفرّان الذي يبدأ ليله قبل الفجر، يُخمّر العجين، ويُسخّن الفرن، ويحضّر الكاهي والخبز والكليچة لأُناسٍ ما زالوا نائمين في أسرّتهم، ليكون صباحهم مليئاً بالرائحة والفرح. 

سائق التاكسي الذي يجوب شوارع السوق وهو يحسب ثمن فستان العيد لابنته، بين أجرة وأخرى، ويؤجل استراحته كي لا يؤجل فرحتها. 

عامل التوصيل الذي يتنقل بين الأزقة والزحام، يواجه رجل المرور، وتقلب مزاج الزبائن، كي تستمرّ الطاولات ممتلئة في بيوت لا يعرفها، لكن يحرص على ألا تتأخر طلباتها. 

وعاملة ألعاب الأطفال التي تحرس ضحكاتهم في مدينة الملاهي، وتُسعفهم إن وقعوا، وتتحمّل عصبية أهاليهم، وتستمد من ضحكاتهم طاقة تكفيها لمواصلة النهار. 

بعد الثانية عشرة من منتصف الليل، في الجانب الآخر من المدينة، بعيداً عن كل أجواء الاحتفال، بصدريتي البيضاء وقفّازاتي الزرقاء، أستعد لإسعاف إصابات الأعياد. ولكوني مسعفة متخصصة بحالات العيون، كان عليَّ، لخمسة أعياد متتالية، أن أُنقذ أعين الأفراد. 

لا أنسى أبداً شكل أي مريض أسعفته. أتذكّر تفاصيل حوادثهم، أشكالهم، والدماء التي غطّتهم. تحفظ ذاكرتي بدقّة كيف أسعفتهم، وبأي طريقة، وما نوع مشاعري والكلمات التي طمأنتهم بها. أستمر في التفكير بهم حتى بعد مغادرتهم ردهة الطوارئ أو سيارة الإسعاف. 

في أول ليلة من العيد، لا يغيب عن ذاكرتي مشهد عين الطفل التي تنزف، دماء، وتورم، وانتفاخ. ليس من مهمتي الآن أن ألومه أو ألوم أهله على السماح له بشراء “الصجم” والمسدسات. 

يداي وقلبي يعتصران على ألم الأطفال والكبار، لكن عليّ أن أتجرّد من الشعور لأُسعفهم وأطمئنهم. 

أهدّئهم قدر ما أستطيع. أسعفهم نفسياً بكلمات مثل، “ماكو شيء، لا تخاف… إصابة بسيطة”، حتى لو كانت العين تكاد تخرج من محجرها، والدماء تجري كصنبور لا يتوقّف. حتى لو تلوثتُ بالدم، وملابسي وأجهزة الفحص امتلأت به، عليّ أن أطمئنه، ليأخذ العلاج الموضعي مفعوله بأقل قدر ممكن من الخوف والقلق. 

أبكي سراً على الأطفال الذين يفقدون بصرهم نتيجة إهمال الأهل للإسعاف السريع، والاكتفاء بـ”مضمد الحي” الذي يفاقم الحالة. 

وفي الأساس، الأهل الذين ينسون مراقبة ما تلهو به أيادي أطفالهم. 

هذه اللحظة، بالنسبة لي، هي جوهر العيد، أن أكون بطلة مع زملائي من الكادر الطبي. 
أُرشدهم بما يجب فعله، وسيثقون بأوامر الإسعاف السريع. أتنفس الصعداء مع كل جرح يتوقف نزفه. 

وسط كل الدماء على الأرض وصرخات الأهالي، عليّ أن أجد الحل، والأهم، أن أطمئن قلوبهم على مريض بين أيدينا. 

حالة بعد حالة، لا تكفّ الدماء عن التدفق طوال الليل وحتى الفجر، كسور، جروح، وعيون. 

في الليلة الرابعة من العيد، أتذكر الرجل الذي دخلت إطلاقة نارية في محجر عينه. 

ذُعر الجميع، كيف لم تنتهِ حياته؟ كيف لم يفقد بصره؟ 

اقرأ أيضاً

أين تذهب ذكرياتنا بعد أن يقطعوا الأشجار؟ 

لم أُطمئنه فقط هو وعائلته، بل حتى زملائي. لحسن حظه، دخلت الرصاصة في المحجر من دون أن تصيب العين. أسعفته بالطريقة المثلى، ثم سلّمته لزميلتي الطبيبة المقيمة، فهي من ستصرف له الدواء، ومن ثم نتناوب على العناية به. 

أن أكون مسعفة، وخاصة في أيام العيد، يعني أنني أحمل حقيبة مليئة بالإسعافات الأولية تحسّباً لأي طارئ: رجل في الـ”كيّا” فقد وعيه. امرأة على جانب الطريق أصابتها نوبة هلع. 
حتى مع ليلة كاملة من الخفارة، يصعد الأدرينالين إلى رأسي ليوقظ جفوني التي تُنازع ساعة نوم، تذكرني هذه اللحظات أن هذا هو مكاني، هذا ما أريد فعله. 

يستعين بي جيراني، وجيران جيراني، لكل أنواع الحروق والجروح التي تصاحب هذه الأيام. وهكذا، في كل عيد…أُنقذ وأسعف العيد. 

يرنّ المنبّه، إنها الحادية عشرة ليلاً ما قبل صباح العيد. يُنازع النعاس جفوني، لكن صوت الأمهات والآباء وهم يطلبون خبز العيد مني يجعلني يقظاً: كيف سيملؤون صينية “الريوك” من دوني ومن دون زملائي؟ 

ترعبني هذه الفكرة، فأقفز من نومي، أرتدي ملابس العمل وأتجوّل في البيت، أقبّل رأس أبي لأنّي أوّل معيديه. إخوتي نائمون، يحلمون بصباح الكاهي. أقبّلهم من بعيد، وأنطلق إلى عملي. 

بعد تنظيف كل زاوية في الفرن، كما كانت تفعل أمي ليلة العيد بلا أجر سوى راحة ونظافة أولادها، أرتّب مكان وضع الحلويات وما ستصنعه أيدينا منه. أبدأ بالعجين وأتركه ليختمر. الشارع هادئ، لكن ستعلو فيه بعد ساعات أصوات زبائني. 

أُدير العجين يميناً ويساراً، أفكّر في وجه من أحب. أنثر شوقي لهم مع حبّات السمسم على وجه الحلويات. أسمع صوت تكبيرات الجوامع والحسينيات تُؤذِن ببدء صباح العيد، وأثناء غسلي لمرفقي من العجين والطحين، أفكّر بأبي الذي يتوضّأ الآن للصلاة، كما آباء وإخوة زملائي في الفرن. 

نتمنى لبعضنا البعض أمنيات العيد، فيما تمسك أيدينا بـ”الشيبك” أو “الخميرة”. ينشغل بعضنا بالتفكير في محبوبته، أو وجه طفله، أو أمه، أو حتى في إحساس النوم تحت الفراش. 

يبدأ نور الشمس بالظهور، فأُشعل النار. أفكّر بعائلتي، ماذا سيلبس أخي الأصغر؟ وأيّ أمنيات سيتمنون لبعضهم في هذا العيد؟ تدمع عيناي من لهيب النار، ومن شوقي للقائهم، ورغبتي في أن أكون وسطهم. وبينما يسخن الفرن، أسرق الثواني وأتّصل بهم. 

تغمرني لهفة اللقاء، فينبّهني صوت النار التي تعلو. أُسابق الوقت لتحضير كل قطعة حلويات بأدق وأمثل شكل، لوضعه على طاولة “الريوك”، ولتضعه النسوة في مجالس “أقربائهن” متفاخرات بحسن ضيافتهن. 

أصابعي تقلي “البورك”، وتقفز للتنور لتُخرج “الخبز”، وللفرن لتُخرج الحلويات. تقضم النار إصبعي، لكن لا وقت للتوقّف… على العيد أن يبدأ. 

يصل أول زبون، يملأ يومنا بالأمنيات والأدعية، فيما أملأ كيسه بما تشتهيه عائلته. رجل كبير، مثل أبي، ويُذكّرني به. أبتسم له وكأني أكلم أبي في بيتنا وهو يوزّع العيادي. 

“بألفين”، “بعشرين عدنا خطّار”، “ربع كيلو من كلشي”… تبدأ الأصوات والطلبات بالازدياد، يعبس بعض الزبائن في طابور الانتظار ويبتسمون عند استلام الكيس. 

يصل طفل وأبوه، “عمو بسرعة!”، يستعجلني. أتذكّر نفسي في السابعة، كنت أريد أن ينتهي طابور الانتظار لأهرع لأمي بـ”كعك” العيد. لو علمتُ بكل ما أقاسيه الآن ليخرج رغيف الخبز، لوقفت في الطابور ليُكمل “عمو أبو الفرن” عمله على مهل، من دون أن تحترق أو تُقطع أصابعه، فلا وقت لديه ليمسح عرق جبينه أو يلتقط أنفاسه من سرعة الحركة. 

تزداد حرارة المخبز، وتشتدّ الشمس. تعلو الأصوات وتمتدّ أيادٍ أكثر. ما زالت عقارب الساعة تقف عند التاسعة صباحاً. 

“بووم!”… رائحة شيء محترق. تخلّى “السبلت” عن العمل، لن يستطيع الاستمرار تحت شمس البصرة التي أعلنت ظهيرة مبكرة. 

تبرع أحدنا بتنظيف وإطفاء “السبلت” كي لا تعلق رائحة الحرق بالكعك الذي سهرنا عليه طوال الليل. تتوزع المهام بيننا بالنظرات، لا وقت للوقوف أو الكلام، والزبائن يستعجلوننا أكثر. 

على العيد أن يستمر، لا وقت للتنفس. يذوب جسدي من حرارة الفرن، يضيق نفسي، وتسرع يدي أكثر فأكثر. 

يصرخ زبون لأننا تأخرنا عشر دقائق. لا طاقة للكلام، والعيد لا يحب الجدال. “الخطار ينتظروني”، يعلّق الزبون، فنملأ كيسه بابتسامات واعتذارات وأمنيات. يعتذر، وتسابقه قدماه إلى سيارته المكيّفة، فيما يخفت صوت أدعيته وأمنياته. 

يخفّ الزحام، وعند الحادية عشرة صباحاً نعيد تنظيف الفرن، فيما يكون كل زبائننا “يتريّكون” وسط عائلاتهم، وربما يتلقّون أو يوزّعون العيادي. نحسب ما كسبناه. إنه موسم الأعياد، رزق أكثر وأكثر، هذه عيديتنا. لكن بلا أصدقاء، ولا لَمّة عائلة. محظوظ من سيلتحق بغداء عائلته قبل أن يغفو من شدة تعبه. 

وكل عيد، سنتمنى لو كنّا في فراشنا، نأكل “كليجة” ونشرب “استكان الجاي” في بيت الأقرباء. لكن من سيملأ صواني الحلوى وخبز العيد… غيرنا؟ 

أمضيتُ الأسبوع بإيصال النسوة إلى السوق، من الصباح وحتى آخر ساعات ما قبل العيد. أكياس من الطلبات تصعد مع الأمهات والآباء، وحوارات عن الفساتين و”الخطار” وخطط العيد، فيما أنا أفكّر بإكمال تكاليف فستان ابنتي، و”الكليجة” التي تريدها “أم الجهال” بالجوز واللقم. 

“كروة” بعد “كروة”، أتخلّى عن استراحة الغداء كي لا نتخلّى عن التباهي بالحلويات والضيافة من مكسّرات وفواكه. 

وأنا أوصل إحدى الأمهات وبناتها الأربع إلى “أبو الذهب” ليخترن قطعة العيد، ترجّلت من سيارتي لأختار فستاناً ثانياً لجُمانة، ودشداشة العيد لزوجتي وأختي. لمحت عيناي فستاناً أزرق في واجهة أحد المحال. سيليق بابنتي. 

ترجّلت من السيارة. “طلبته من الله”.  

بعد حوار صريح مع البائع عن قصر الحال، دفعت نصف سعره كعربون. كانت “كروة يوم كامل”، لكنها تغدو لا شيء أمام فرحة ابنتي، وكلمة “بابا” وسط ضحكتها. 

في اليوم التالي، أُسارع لجمع الركّاب ولمّ المال للفستان، لكن السيارة قرّرت أن تتعطّل… فأصرف كل ما ادّخرته للعيادي، وسفرة العيد، وحشوة “الكليجة”. 

دعواتي وسرعة عجلات السيارة تتسابق لأحصل على الفستان. كان البائع “شريفاً”، واحتفظ به لأجلي. 

أجعل جُمانة ترتديه، تتذمّر من طلبي الذي “سيخرب” مفاجأة ارتدائها الفستان مع ضفائر الشعر. أُخبئ منظرها في عيني، أحتفظ بالمشهد. 

صباح العيد، بعد تقبيل جبين زوجتي وجلب “ريوك” العيد، أدلّع جمانة وأرشيها بوعد عيدية إن لبست وتأنقت قبل أن أخرج للعمل. أنظر إلى عائلتي، طفلة، وزوجة حامل، وأخت صغرى. أُخبئ ضحكاتهن في قلبي وعقلي، ليعود مشهدهن أمام صينية “الكاهي والكيمر”، ويعلو صوت ضحكاتهن، ويغلب على صوت الراكبين في السيارة. 

أوصل الناس إلى بيوت أقاربهم، الخطيب إلى بيت خطيبته، والابن إلى بيت أهله. قد يتشاجرون في السيارة، وقد يضحكون، يتشاركون الأسرار ولا يعتبرونني موجوداً. وأحياناً، يرزقني الله بـ”كروة” يحكي لي قصة حياته وحياة أقربائه، بينما يسرح ذهني إلى مشهد عائلتي ولهفتي للرجوع إليهم… بعيدية أكثر. 

يوقظني المنبّه. “هم رجعنا لطيحان الحظ”، يقول صوت في رأسي. إنه صباح العيد، سترتفع يوميّتي ثلاثة أضعاف، لذا عليّ أن أُسرع لإيصال “جدر الدولمة” أو “سمكة مسكوفة” أو أي شيء تشتهيه أنفس الزبائن في هذا اليوم. 

ولأواجه وحوش النهار، بدءاً من أفكاري الوجودية، ومروراً بشرطي المرور وفِشار الزبائن، وليس انتهاءً بـ”التيم ليدر”، أحشر في فمي نصف لفة و”كلاص جاي”، وأنطلق. 

ولأنني أعيش من الكتابة والتوصيل، تأتي نصوص شعرية عني في رأسي، فيما يلفح الهواء وجهي بأتربته. أركب دراجتي الحديثة، منطلقاً بمحاذاة الريح، لتكون الانطلاقة مدوّية للرأس والقدمين، نحو مطاعم تشبه مأدبة من الجنة، وأخرى كالغرف المحترقة. 

أُحلّق في شوارع شهدت ما شهدت كل يوم؛ شوارع حزينة تحاول أن تلبس العيد كَرِداء يضيق على جسدٍ مثقَل بالذكريات والمحاولات. شوارع تحاول أن تعيش من جديد كل يوم. 

يأتي السؤال في رأسي: ماذا أفعل هنا صباح العيد؟ أريد العودة لتقبيل وجه أمي، ولأُلقي بعض السخرية على أختي، وقليلاً من الشتائم على أطفال الحي وهم يصرخون ويلعبون، لعب الدومنة مع أصدقائي. 

فيما أجلس على مقعد الدراجة، يتحرّك كل شيء من حولي، بسرعة… كالعمر الذي مضى ويمضي. أصل إلى المطعم، أستلم الطلبيات، روائح الطعام تدخل أنفي، وأتخيّل نفسي أنزوي في أحد شوارع الرصافة وألتهم وجبات قد يفوق سعرها يوميّتي التي أقدّم العيد قرباناً لأجلها. 

أطرد الفكرة من رأسي. أضع أسماء الطلبيات ومستلميها وعناوينهم التي تتغيّر كل ساعات، 
“ريزو” لرجل سيقضي العيد وحيداً. “طلبية حلويات فرنسية” لفتيات لا لذّة تُسمح لهن سوى استهلاك السكّريات. “مطبّق روبيان” لامرأة ستحلف أمام أهل زوجها أنها طبخته، وتراهن على مهارة عامل لم يعِش العيد، مثلي، ليطبخ وجبة عائلتها وضيوفها. 

وجبات بأسماء بدأت أحفظها وإن لم أجرّب معظمها، لأشخاص مجهولين لن أتذكّر منهم سوى فضاضة كلماتهم، أو قلّة صبرهم، أو حتى جهلهم باتجاهات الشوارع. أو أسوأهم، من يجعلني أصعد طوابق عدة لإيصال طبقهم. 

أُعيد رؤية الشوارع. فسيحة، واسعة، حرّة، تشبهني. لا قيد لي سوى الريح… ورجل المرور الذي أحتالُ عليه ويحتال عليّ. 

سأنتصر عليه هذا العيد. 

أتذكّر كل الأيام التي أوقفني فيها لأني “عامل دليفري”. عليه أن يفحص هويّتي وأوراق الدراجة. لن يقتنع بي، ولا حتى برائحة الطعام التي تفوح من ورائي. يشكّك في كل شيء، إنها عادته أو حيلته. 

لن أجعله يوقفني ويساومني على “لفة شاورما” بعبارته الشهيرة، “عِشة لاخيّك”، مع غمزة وابتسامة تُريح ربما ضميره، كي لا يشعر بأنها رشوة. 

وفي حال لم أكن أحمل طعاماً، سيطلب “تكة جكاير” أو “ميّ”، فهذه تذكرتي نحو العبور، والعودة مراراً بأمان، بل بتحيةٍ تقديراً لعربون الصداقة الذي دفعته. 

هذا العيد، سأكون “بلاي بوي” يفلت من قبضته. لن يأخذ وجبة زبوني. عليها أن تصل بأمان إلى بطن من طلبها. 

سأستمتع باختيار طرق لا أرى فيها كرشه المليء بالرشاوى، ولا وجهه الذي يتلوّن حسب الموقف. تستيقظ هذه الفكرة معي منذ الصباح، كيف سنخدع رجل القانون يا درّاجتي؟ “شلون ما أنطيه الخمستالاف هذا العيد، بأي طريقة وبأي بكائيّة؟” 

بعد عبوري بسلام، أبدأ بأخذ جرعة موسيقية، لتكون أفيون يومي، و”حيدر العابدي”  سيكون صوته وموسيقاه التشجيع الأمثل لتحمّل مزاجية زبائني. 

أبدأ مع أول زبون لا يعرف أين يقع بيته. وثاني زبونة تُعجّلني بالذهاب والعودة لأن زوجها أو أهلها لا يعرفون بسرّ الطلبية. 

زبائن تالين لا يريدون أن يدفعوا ثمن التوصيل. 

بعد أن أُكمل توصيل كمية طعام تكفي لإشباع كل متسوّلي بغداد، أتّجه إلى فالح أبو العمبة. 
“لفة فلافل على الواكف”، بلا أي لذّة أو أجواء عائلية. وأنا أعضّ اللفة يميناً ويساراً، أشتاق لما تمدّه سفرة أمي الآن، لضحكات عائلتي، وغيبتهم، ونميمتهم التي يكرّرونها كلما اجتمعوا، وقصص يُعاد سردها بنفس الدهشة في كل مرة. 

يسيل الزيت المخلوط بـ”العمبة” على يدي، يذكّرني بطعم وجبة خالية من المشاعر، أُعدّت التهامها بسرعة. رجل مثلي لم يعرف طعم هذا العيد حتى في هذه “اللفة”. 

ومجدّداً ارتشف “كلاص جاي” بدلاً من حبّة بندول تُسكِت الصداع في رأسي. يتحسّن مزاجي، وأُغيّر الأغاني لأخرى تحبّها مسامعي، لا تلك التي تفرضها عليّ أجواء الشوارع. 

فالزبون ليس وحده من يُصرّ على إزعاجي، ولومي على أي خطأ، وشتمي، وإرجاع الطلبيات بدل الإكراميات، على الرغم من أنني مجرّد وسيط بينه وبين المطعم الذي اختاره. 

“التيم ليدر” هو وحش آخر. لا يحبّ أن يراك واقفاً، حتى لو كانت أحزان الدنيا على كتفك. 
عليك أن تمضي بدراجتك، وتدور في شوارع المدينة، بضوضائها وازدحاماتها وقصصها. تشبهني… تحاول أن تعيش، وأن تمضي. 

أُصرّ على شراء ملابس للعيد لأرتديها في العمل. سأحتفل، حتى لو ستتلوّث أو تتمزّق. لن أرتدي هذا العيد زيّ العمل. 

أجمع كل شجاعتي ورغبتي في الشعور بأجواء العيد، أقنع زميلاتي وأقدّم طلبي للإدارة. ينظرون إلينا، نساءً ورجالاً سيقضون العيد في العمل. لا يُسمح بأخذ إجازة، فهذه الأيام موسم رزقنا. ويوافقون. 

في صباح العيد، بعد القبلات والأمنيات وتوزيع العيادي، أكون ممتنّة لأني أجلس على “ريوك العيد” مع عائلتي. 

تقدّم أمي الغداء بوقت أبكر، لأستطيع تناوله أيضاً. أُسابق الساعة ما قبل الثالثة ظهراً، قبل موعد العمل. 

بينما أتحضّر للخروج إلى العمل، يتحضّر أفراد عائلتي للذهاب إلى بيوت الأقرباء أو استقبالهم. أشتاق لجمعة النسوة، وأحاديثهنّ مع “الكليجة” المصنوعة بوصفات عدة، لكنني لن أخذل الأطفال الذين ينتظرونني، وقد جمعوا عياديهم ليركبوا العالم السحري الذي أمتلك مفتاحه، لعبة الترامبولين. 

تتطلّب مهمتي قطع تذاكر للّعبة، ومراقبة الأطفال بداخلها، مع كثير من تحمّل الأهالي وبكاء وطاقة أطفالهم. 

فيما تتذمّر الأمهات من طابور قطع التذاكر، أنظر إلى أطفالهنّ؛ عيون تتّسع لفرط الدهشة والحماس لدخول هذا العالم السحري الذي سيُمكّنهم من القفز بلا توقّف. 

ستكون السماء قريبة إليهم، وستقفز ضحكاتهم أعلى وأعلى. لطالما ظننت أنني من أحمي الأطفال وأشحن طاقتهم، لا فقط تذاكرهم، لكنني كل لحظة أقضيها معهم أكتشف كم يشحنون قلبي ويسحبونني من عالم الكبار إلى عالم أخفّ وأبسط، لا يبحث سوى عن اللذّة والمتعة، والاستمتاع بأبسط تفاصيل هذا الكون، وبفم تملؤه ضحكات الدهشة. 

بعد أن تكتمل دورة القفز، يأتي الأطفال إليّ، يصرخون بفرح، “ست، شكراً على اللعبة!” 
تمسح جملهم هذه فضاضة ما اقترفته أمهاتهم بسبب طول الطابور، أو الشجار بين الأمهات الذي قد يتطوّر لعراك أيدٍ، وقد أُضرب فيه حين أمارس دوري بوقفه. 

تُنسيني لمعة عيون الأطفال جُملاً مؤذية مثل، “إحنا جايين بفلوسنا”، وكلمات أسوأ، أتلقّاها فقط لأنني طلبت رقم هاتف الأم لتعود وتأخذ ابنها أو ابنتها بعد إكمال دورهم في اللعب. أنا فقط حريصة على أطفالهم من الضياع في مدينة ملاهٍ كبيرة. 

أتحمّس لقدوم أطفال من طيف التوحّد. تتعرّى كل طاقتهم الخجولة في هذه اللعبة. 
قد تتوتّر الأم من فرط حركة ابنها، لكنني أطمئنها وأطلب منها أن تتركه ليعيش بهجته. 
ودورة بعد دورة من اللعب، حتى وإن لم تمتلك العائلة ثمن تذكرة لهذه الطفلة أو الطفل، سأدفع من جيبي. سيكون فرحه وحركته هو عيدي. 

مع الأطفال، أنسى أنني امرأة في الحادية والثلاثين من العمر. أعود طفلة معهم. أقفز، أضحك، وألعب. 

لكن قد تُقاطَع بهجتي هذه بإحدى الأمهات المهووسات بتخريب مثل هذه اللحظات، فتصرخ وتشتُم لأن ابنتها بكت دقائق عدة، مثل أيّ طفل يريد الانتباه. ولا تكتفي إلا بالشكوى للإدارة. 

لا مجال للحزن هذا العيد. أعود إلى الأطفال، أقطع تذاكر عالمهم السحري من جديد، وأردّ على “دردمة” الأمهات بابتسامة، ليمضي هذا العيد بكل فرح… واستمتاع. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

خمسة أشخاص من مهن متعددة يكتبون عن العيد كما عاشوه، لا كما يُحتفل به في الإعلانات والصور العائلية. 

المُسعفة التي لا تنام من فرط الإصابات، تركض بين غرف الطوارئ وتحمل حقيبة إسعافات في قلب العيد، تحاول إنقاذ العيون من طيش “الصجم” قبل أن تتحوّل البهجة إلى مأساة. 

الفرّان الذي يبدأ ليله قبل الفجر، يُخمّر العجين، ويُسخّن الفرن، ويحضّر الكاهي والخبز والكليچة لأُناسٍ ما زالوا نائمين في أسرّتهم، ليكون صباحهم مليئاً بالرائحة والفرح. 

سائق التاكسي الذي يجوب شوارع السوق وهو يحسب ثمن فستان العيد لابنته، بين أجرة وأخرى، ويؤجل استراحته كي لا يؤجل فرحتها. 

عامل التوصيل الذي يتنقل بين الأزقة والزحام، يواجه رجل المرور، وتقلب مزاج الزبائن، كي تستمرّ الطاولات ممتلئة في بيوت لا يعرفها، لكن يحرص على ألا تتأخر طلباتها. 

وعاملة ألعاب الأطفال التي تحرس ضحكاتهم في مدينة الملاهي، وتُسعفهم إن وقعوا، وتتحمّل عصبية أهاليهم، وتستمد من ضحكاتهم طاقة تكفيها لمواصلة النهار. 

بعد الثانية عشرة من منتصف الليل، في الجانب الآخر من المدينة، بعيداً عن كل أجواء الاحتفال، بصدريتي البيضاء وقفّازاتي الزرقاء، أستعد لإسعاف إصابات الأعياد. ولكوني مسعفة متخصصة بحالات العيون، كان عليَّ، لخمسة أعياد متتالية، أن أُنقذ أعين الأفراد. 

لا أنسى أبداً شكل أي مريض أسعفته. أتذكّر تفاصيل حوادثهم، أشكالهم، والدماء التي غطّتهم. تحفظ ذاكرتي بدقّة كيف أسعفتهم، وبأي طريقة، وما نوع مشاعري والكلمات التي طمأنتهم بها. أستمر في التفكير بهم حتى بعد مغادرتهم ردهة الطوارئ أو سيارة الإسعاف. 

في أول ليلة من العيد، لا يغيب عن ذاكرتي مشهد عين الطفل التي تنزف، دماء، وتورم، وانتفاخ. ليس من مهمتي الآن أن ألومه أو ألوم أهله على السماح له بشراء “الصجم” والمسدسات. 

يداي وقلبي يعتصران على ألم الأطفال والكبار، لكن عليّ أن أتجرّد من الشعور لأُسعفهم وأطمئنهم. 

أهدّئهم قدر ما أستطيع. أسعفهم نفسياً بكلمات مثل، “ماكو شيء، لا تخاف… إصابة بسيطة”، حتى لو كانت العين تكاد تخرج من محجرها، والدماء تجري كصنبور لا يتوقّف. حتى لو تلوثتُ بالدم، وملابسي وأجهزة الفحص امتلأت به، عليّ أن أطمئنه، ليأخذ العلاج الموضعي مفعوله بأقل قدر ممكن من الخوف والقلق. 

أبكي سراً على الأطفال الذين يفقدون بصرهم نتيجة إهمال الأهل للإسعاف السريع، والاكتفاء بـ”مضمد الحي” الذي يفاقم الحالة. 

وفي الأساس، الأهل الذين ينسون مراقبة ما تلهو به أيادي أطفالهم. 

هذه اللحظة، بالنسبة لي، هي جوهر العيد، أن أكون بطلة مع زملائي من الكادر الطبي. 
أُرشدهم بما يجب فعله، وسيثقون بأوامر الإسعاف السريع. أتنفس الصعداء مع كل جرح يتوقف نزفه. 

وسط كل الدماء على الأرض وصرخات الأهالي، عليّ أن أجد الحل، والأهم، أن أطمئن قلوبهم على مريض بين أيدينا. 

حالة بعد حالة، لا تكفّ الدماء عن التدفق طوال الليل وحتى الفجر، كسور، جروح، وعيون. 

في الليلة الرابعة من العيد، أتذكر الرجل الذي دخلت إطلاقة نارية في محجر عينه. 

ذُعر الجميع، كيف لم تنتهِ حياته؟ كيف لم يفقد بصره؟ 

اقرأ أيضاً

أين تذهب ذكرياتنا بعد أن يقطعوا الأشجار؟ 

لم أُطمئنه فقط هو وعائلته، بل حتى زملائي. لحسن حظه، دخلت الرصاصة في المحجر من دون أن تصيب العين. أسعفته بالطريقة المثلى، ثم سلّمته لزميلتي الطبيبة المقيمة، فهي من ستصرف له الدواء، ومن ثم نتناوب على العناية به. 

أن أكون مسعفة، وخاصة في أيام العيد، يعني أنني أحمل حقيبة مليئة بالإسعافات الأولية تحسّباً لأي طارئ: رجل في الـ”كيّا” فقد وعيه. امرأة على جانب الطريق أصابتها نوبة هلع. 
حتى مع ليلة كاملة من الخفارة، يصعد الأدرينالين إلى رأسي ليوقظ جفوني التي تُنازع ساعة نوم، تذكرني هذه اللحظات أن هذا هو مكاني، هذا ما أريد فعله. 

يستعين بي جيراني، وجيران جيراني، لكل أنواع الحروق والجروح التي تصاحب هذه الأيام. وهكذا، في كل عيد…أُنقذ وأسعف العيد. 

يرنّ المنبّه، إنها الحادية عشرة ليلاً ما قبل صباح العيد. يُنازع النعاس جفوني، لكن صوت الأمهات والآباء وهم يطلبون خبز العيد مني يجعلني يقظاً: كيف سيملؤون صينية “الريوك” من دوني ومن دون زملائي؟ 

ترعبني هذه الفكرة، فأقفز من نومي، أرتدي ملابس العمل وأتجوّل في البيت، أقبّل رأس أبي لأنّي أوّل معيديه. إخوتي نائمون، يحلمون بصباح الكاهي. أقبّلهم من بعيد، وأنطلق إلى عملي. 

بعد تنظيف كل زاوية في الفرن، كما كانت تفعل أمي ليلة العيد بلا أجر سوى راحة ونظافة أولادها، أرتّب مكان وضع الحلويات وما ستصنعه أيدينا منه. أبدأ بالعجين وأتركه ليختمر. الشارع هادئ، لكن ستعلو فيه بعد ساعات أصوات زبائني. 

أُدير العجين يميناً ويساراً، أفكّر في وجه من أحب. أنثر شوقي لهم مع حبّات السمسم على وجه الحلويات. أسمع صوت تكبيرات الجوامع والحسينيات تُؤذِن ببدء صباح العيد، وأثناء غسلي لمرفقي من العجين والطحين، أفكّر بأبي الذي يتوضّأ الآن للصلاة، كما آباء وإخوة زملائي في الفرن. 

نتمنى لبعضنا البعض أمنيات العيد، فيما تمسك أيدينا بـ”الشيبك” أو “الخميرة”. ينشغل بعضنا بالتفكير في محبوبته، أو وجه طفله، أو أمه، أو حتى في إحساس النوم تحت الفراش. 

يبدأ نور الشمس بالظهور، فأُشعل النار. أفكّر بعائلتي، ماذا سيلبس أخي الأصغر؟ وأيّ أمنيات سيتمنون لبعضهم في هذا العيد؟ تدمع عيناي من لهيب النار، ومن شوقي للقائهم، ورغبتي في أن أكون وسطهم. وبينما يسخن الفرن، أسرق الثواني وأتّصل بهم. 

تغمرني لهفة اللقاء، فينبّهني صوت النار التي تعلو. أُسابق الوقت لتحضير كل قطعة حلويات بأدق وأمثل شكل، لوضعه على طاولة “الريوك”، ولتضعه النسوة في مجالس “أقربائهن” متفاخرات بحسن ضيافتهن. 

أصابعي تقلي “البورك”، وتقفز للتنور لتُخرج “الخبز”، وللفرن لتُخرج الحلويات. تقضم النار إصبعي، لكن لا وقت للتوقّف… على العيد أن يبدأ. 

يصل أول زبون، يملأ يومنا بالأمنيات والأدعية، فيما أملأ كيسه بما تشتهيه عائلته. رجل كبير، مثل أبي، ويُذكّرني به. أبتسم له وكأني أكلم أبي في بيتنا وهو يوزّع العيادي. 

“بألفين”، “بعشرين عدنا خطّار”، “ربع كيلو من كلشي”… تبدأ الأصوات والطلبات بالازدياد، يعبس بعض الزبائن في طابور الانتظار ويبتسمون عند استلام الكيس. 

يصل طفل وأبوه، “عمو بسرعة!”، يستعجلني. أتذكّر نفسي في السابعة، كنت أريد أن ينتهي طابور الانتظار لأهرع لأمي بـ”كعك” العيد. لو علمتُ بكل ما أقاسيه الآن ليخرج رغيف الخبز، لوقفت في الطابور ليُكمل “عمو أبو الفرن” عمله على مهل، من دون أن تحترق أو تُقطع أصابعه، فلا وقت لديه ليمسح عرق جبينه أو يلتقط أنفاسه من سرعة الحركة. 

تزداد حرارة المخبز، وتشتدّ الشمس. تعلو الأصوات وتمتدّ أيادٍ أكثر. ما زالت عقارب الساعة تقف عند التاسعة صباحاً. 

“بووم!”… رائحة شيء محترق. تخلّى “السبلت” عن العمل، لن يستطيع الاستمرار تحت شمس البصرة التي أعلنت ظهيرة مبكرة. 

تبرع أحدنا بتنظيف وإطفاء “السبلت” كي لا تعلق رائحة الحرق بالكعك الذي سهرنا عليه طوال الليل. تتوزع المهام بيننا بالنظرات، لا وقت للوقوف أو الكلام، والزبائن يستعجلوننا أكثر. 

على العيد أن يستمر، لا وقت للتنفس. يذوب جسدي من حرارة الفرن، يضيق نفسي، وتسرع يدي أكثر فأكثر. 

يصرخ زبون لأننا تأخرنا عشر دقائق. لا طاقة للكلام، والعيد لا يحب الجدال. “الخطار ينتظروني”، يعلّق الزبون، فنملأ كيسه بابتسامات واعتذارات وأمنيات. يعتذر، وتسابقه قدماه إلى سيارته المكيّفة، فيما يخفت صوت أدعيته وأمنياته. 

يخفّ الزحام، وعند الحادية عشرة صباحاً نعيد تنظيف الفرن، فيما يكون كل زبائننا “يتريّكون” وسط عائلاتهم، وربما يتلقّون أو يوزّعون العيادي. نحسب ما كسبناه. إنه موسم الأعياد، رزق أكثر وأكثر، هذه عيديتنا. لكن بلا أصدقاء، ولا لَمّة عائلة. محظوظ من سيلتحق بغداء عائلته قبل أن يغفو من شدة تعبه. 

وكل عيد، سنتمنى لو كنّا في فراشنا، نأكل “كليجة” ونشرب “استكان الجاي” في بيت الأقرباء. لكن من سيملأ صواني الحلوى وخبز العيد… غيرنا؟ 

أمضيتُ الأسبوع بإيصال النسوة إلى السوق، من الصباح وحتى آخر ساعات ما قبل العيد. أكياس من الطلبات تصعد مع الأمهات والآباء، وحوارات عن الفساتين و”الخطار” وخطط العيد، فيما أنا أفكّر بإكمال تكاليف فستان ابنتي، و”الكليجة” التي تريدها “أم الجهال” بالجوز واللقم. 

“كروة” بعد “كروة”، أتخلّى عن استراحة الغداء كي لا نتخلّى عن التباهي بالحلويات والضيافة من مكسّرات وفواكه. 

وأنا أوصل إحدى الأمهات وبناتها الأربع إلى “أبو الذهب” ليخترن قطعة العيد، ترجّلت من سيارتي لأختار فستاناً ثانياً لجُمانة، ودشداشة العيد لزوجتي وأختي. لمحت عيناي فستاناً أزرق في واجهة أحد المحال. سيليق بابنتي. 

ترجّلت من السيارة. “طلبته من الله”.  

بعد حوار صريح مع البائع عن قصر الحال، دفعت نصف سعره كعربون. كانت “كروة يوم كامل”، لكنها تغدو لا شيء أمام فرحة ابنتي، وكلمة “بابا” وسط ضحكتها. 

في اليوم التالي، أُسارع لجمع الركّاب ولمّ المال للفستان، لكن السيارة قرّرت أن تتعطّل… فأصرف كل ما ادّخرته للعيادي، وسفرة العيد، وحشوة “الكليجة”. 

دعواتي وسرعة عجلات السيارة تتسابق لأحصل على الفستان. كان البائع “شريفاً”، واحتفظ به لأجلي. 

أجعل جُمانة ترتديه، تتذمّر من طلبي الذي “سيخرب” مفاجأة ارتدائها الفستان مع ضفائر الشعر. أُخبئ منظرها في عيني، أحتفظ بالمشهد. 

صباح العيد، بعد تقبيل جبين زوجتي وجلب “ريوك” العيد، أدلّع جمانة وأرشيها بوعد عيدية إن لبست وتأنقت قبل أن أخرج للعمل. أنظر إلى عائلتي، طفلة، وزوجة حامل، وأخت صغرى. أُخبئ ضحكاتهن في قلبي وعقلي، ليعود مشهدهن أمام صينية “الكاهي والكيمر”، ويعلو صوت ضحكاتهن، ويغلب على صوت الراكبين في السيارة. 

أوصل الناس إلى بيوت أقاربهم، الخطيب إلى بيت خطيبته، والابن إلى بيت أهله. قد يتشاجرون في السيارة، وقد يضحكون، يتشاركون الأسرار ولا يعتبرونني موجوداً. وأحياناً، يرزقني الله بـ”كروة” يحكي لي قصة حياته وحياة أقربائه، بينما يسرح ذهني إلى مشهد عائلتي ولهفتي للرجوع إليهم… بعيدية أكثر. 

يوقظني المنبّه. “هم رجعنا لطيحان الحظ”، يقول صوت في رأسي. إنه صباح العيد، سترتفع يوميّتي ثلاثة أضعاف، لذا عليّ أن أُسرع لإيصال “جدر الدولمة” أو “سمكة مسكوفة” أو أي شيء تشتهيه أنفس الزبائن في هذا اليوم. 

ولأواجه وحوش النهار، بدءاً من أفكاري الوجودية، ومروراً بشرطي المرور وفِشار الزبائن، وليس انتهاءً بـ”التيم ليدر”، أحشر في فمي نصف لفة و”كلاص جاي”، وأنطلق. 

ولأنني أعيش من الكتابة والتوصيل، تأتي نصوص شعرية عني في رأسي، فيما يلفح الهواء وجهي بأتربته. أركب دراجتي الحديثة، منطلقاً بمحاذاة الريح، لتكون الانطلاقة مدوّية للرأس والقدمين، نحو مطاعم تشبه مأدبة من الجنة، وأخرى كالغرف المحترقة. 

أُحلّق في شوارع شهدت ما شهدت كل يوم؛ شوارع حزينة تحاول أن تلبس العيد كَرِداء يضيق على جسدٍ مثقَل بالذكريات والمحاولات. شوارع تحاول أن تعيش من جديد كل يوم. 

يأتي السؤال في رأسي: ماذا أفعل هنا صباح العيد؟ أريد العودة لتقبيل وجه أمي، ولأُلقي بعض السخرية على أختي، وقليلاً من الشتائم على أطفال الحي وهم يصرخون ويلعبون، لعب الدومنة مع أصدقائي. 

فيما أجلس على مقعد الدراجة، يتحرّك كل شيء من حولي، بسرعة… كالعمر الذي مضى ويمضي. أصل إلى المطعم، أستلم الطلبيات، روائح الطعام تدخل أنفي، وأتخيّل نفسي أنزوي في أحد شوارع الرصافة وألتهم وجبات قد يفوق سعرها يوميّتي التي أقدّم العيد قرباناً لأجلها. 

أطرد الفكرة من رأسي. أضع أسماء الطلبيات ومستلميها وعناوينهم التي تتغيّر كل ساعات، 
“ريزو” لرجل سيقضي العيد وحيداً. “طلبية حلويات فرنسية” لفتيات لا لذّة تُسمح لهن سوى استهلاك السكّريات. “مطبّق روبيان” لامرأة ستحلف أمام أهل زوجها أنها طبخته، وتراهن على مهارة عامل لم يعِش العيد، مثلي، ليطبخ وجبة عائلتها وضيوفها. 

وجبات بأسماء بدأت أحفظها وإن لم أجرّب معظمها، لأشخاص مجهولين لن أتذكّر منهم سوى فضاضة كلماتهم، أو قلّة صبرهم، أو حتى جهلهم باتجاهات الشوارع. أو أسوأهم، من يجعلني أصعد طوابق عدة لإيصال طبقهم. 

أُعيد رؤية الشوارع. فسيحة، واسعة، حرّة، تشبهني. لا قيد لي سوى الريح… ورجل المرور الذي أحتالُ عليه ويحتال عليّ. 

سأنتصر عليه هذا العيد. 

أتذكّر كل الأيام التي أوقفني فيها لأني “عامل دليفري”. عليه أن يفحص هويّتي وأوراق الدراجة. لن يقتنع بي، ولا حتى برائحة الطعام التي تفوح من ورائي. يشكّك في كل شيء، إنها عادته أو حيلته. 

لن أجعله يوقفني ويساومني على “لفة شاورما” بعبارته الشهيرة، “عِشة لاخيّك”، مع غمزة وابتسامة تُريح ربما ضميره، كي لا يشعر بأنها رشوة. 

وفي حال لم أكن أحمل طعاماً، سيطلب “تكة جكاير” أو “ميّ”، فهذه تذكرتي نحو العبور، والعودة مراراً بأمان، بل بتحيةٍ تقديراً لعربون الصداقة الذي دفعته. 

هذا العيد، سأكون “بلاي بوي” يفلت من قبضته. لن يأخذ وجبة زبوني. عليها أن تصل بأمان إلى بطن من طلبها. 

سأستمتع باختيار طرق لا أرى فيها كرشه المليء بالرشاوى، ولا وجهه الذي يتلوّن حسب الموقف. تستيقظ هذه الفكرة معي منذ الصباح، كيف سنخدع رجل القانون يا درّاجتي؟ “شلون ما أنطيه الخمستالاف هذا العيد، بأي طريقة وبأي بكائيّة؟” 

بعد عبوري بسلام، أبدأ بأخذ جرعة موسيقية، لتكون أفيون يومي، و”حيدر العابدي”  سيكون صوته وموسيقاه التشجيع الأمثل لتحمّل مزاجية زبائني. 

أبدأ مع أول زبون لا يعرف أين يقع بيته. وثاني زبونة تُعجّلني بالذهاب والعودة لأن زوجها أو أهلها لا يعرفون بسرّ الطلبية. 

زبائن تالين لا يريدون أن يدفعوا ثمن التوصيل. 

بعد أن أُكمل توصيل كمية طعام تكفي لإشباع كل متسوّلي بغداد، أتّجه إلى فالح أبو العمبة. 
“لفة فلافل على الواكف”، بلا أي لذّة أو أجواء عائلية. وأنا أعضّ اللفة يميناً ويساراً، أشتاق لما تمدّه سفرة أمي الآن، لضحكات عائلتي، وغيبتهم، ونميمتهم التي يكرّرونها كلما اجتمعوا، وقصص يُعاد سردها بنفس الدهشة في كل مرة. 

يسيل الزيت المخلوط بـ”العمبة” على يدي، يذكّرني بطعم وجبة خالية من المشاعر، أُعدّت التهامها بسرعة. رجل مثلي لم يعرف طعم هذا العيد حتى في هذه “اللفة”. 

ومجدّداً ارتشف “كلاص جاي” بدلاً من حبّة بندول تُسكِت الصداع في رأسي. يتحسّن مزاجي، وأُغيّر الأغاني لأخرى تحبّها مسامعي، لا تلك التي تفرضها عليّ أجواء الشوارع. 

فالزبون ليس وحده من يُصرّ على إزعاجي، ولومي على أي خطأ، وشتمي، وإرجاع الطلبيات بدل الإكراميات، على الرغم من أنني مجرّد وسيط بينه وبين المطعم الذي اختاره. 

“التيم ليدر” هو وحش آخر. لا يحبّ أن يراك واقفاً، حتى لو كانت أحزان الدنيا على كتفك. 
عليك أن تمضي بدراجتك، وتدور في شوارع المدينة، بضوضائها وازدحاماتها وقصصها. تشبهني… تحاول أن تعيش، وأن تمضي. 

أُصرّ على شراء ملابس للعيد لأرتديها في العمل. سأحتفل، حتى لو ستتلوّث أو تتمزّق. لن أرتدي هذا العيد زيّ العمل. 

أجمع كل شجاعتي ورغبتي في الشعور بأجواء العيد، أقنع زميلاتي وأقدّم طلبي للإدارة. ينظرون إلينا، نساءً ورجالاً سيقضون العيد في العمل. لا يُسمح بأخذ إجازة، فهذه الأيام موسم رزقنا. ويوافقون. 

في صباح العيد، بعد القبلات والأمنيات وتوزيع العيادي، أكون ممتنّة لأني أجلس على “ريوك العيد” مع عائلتي. 

تقدّم أمي الغداء بوقت أبكر، لأستطيع تناوله أيضاً. أُسابق الساعة ما قبل الثالثة ظهراً، قبل موعد العمل. 

بينما أتحضّر للخروج إلى العمل، يتحضّر أفراد عائلتي للذهاب إلى بيوت الأقرباء أو استقبالهم. أشتاق لجمعة النسوة، وأحاديثهنّ مع “الكليجة” المصنوعة بوصفات عدة، لكنني لن أخذل الأطفال الذين ينتظرونني، وقد جمعوا عياديهم ليركبوا العالم السحري الذي أمتلك مفتاحه، لعبة الترامبولين. 

تتطلّب مهمتي قطع تذاكر للّعبة، ومراقبة الأطفال بداخلها، مع كثير من تحمّل الأهالي وبكاء وطاقة أطفالهم. 

فيما تتذمّر الأمهات من طابور قطع التذاكر، أنظر إلى أطفالهنّ؛ عيون تتّسع لفرط الدهشة والحماس لدخول هذا العالم السحري الذي سيُمكّنهم من القفز بلا توقّف. 

ستكون السماء قريبة إليهم، وستقفز ضحكاتهم أعلى وأعلى. لطالما ظننت أنني من أحمي الأطفال وأشحن طاقتهم، لا فقط تذاكرهم، لكنني كل لحظة أقضيها معهم أكتشف كم يشحنون قلبي ويسحبونني من عالم الكبار إلى عالم أخفّ وأبسط، لا يبحث سوى عن اللذّة والمتعة، والاستمتاع بأبسط تفاصيل هذا الكون، وبفم تملؤه ضحكات الدهشة. 

بعد أن تكتمل دورة القفز، يأتي الأطفال إليّ، يصرخون بفرح، “ست، شكراً على اللعبة!” 
تمسح جملهم هذه فضاضة ما اقترفته أمهاتهم بسبب طول الطابور، أو الشجار بين الأمهات الذي قد يتطوّر لعراك أيدٍ، وقد أُضرب فيه حين أمارس دوري بوقفه. 

تُنسيني لمعة عيون الأطفال جُملاً مؤذية مثل، “إحنا جايين بفلوسنا”، وكلمات أسوأ، أتلقّاها فقط لأنني طلبت رقم هاتف الأم لتعود وتأخذ ابنها أو ابنتها بعد إكمال دورهم في اللعب. أنا فقط حريصة على أطفالهم من الضياع في مدينة ملاهٍ كبيرة. 

أتحمّس لقدوم أطفال من طيف التوحّد. تتعرّى كل طاقتهم الخجولة في هذه اللعبة. 
قد تتوتّر الأم من فرط حركة ابنها، لكنني أطمئنها وأطلب منها أن تتركه ليعيش بهجته. 
ودورة بعد دورة من اللعب، حتى وإن لم تمتلك العائلة ثمن تذكرة لهذه الطفلة أو الطفل، سأدفع من جيبي. سيكون فرحه وحركته هو عيدي. 

مع الأطفال، أنسى أنني امرأة في الحادية والثلاثين من العمر. أعود طفلة معهم. أقفز، أضحك، وألعب. 

لكن قد تُقاطَع بهجتي هذه بإحدى الأمهات المهووسات بتخريب مثل هذه اللحظات، فتصرخ وتشتُم لأن ابنتها بكت دقائق عدة، مثل أيّ طفل يريد الانتباه. ولا تكتفي إلا بالشكوى للإدارة. 

لا مجال للحزن هذا العيد. أعود إلى الأطفال، أقطع تذاكر عالمهم السحري من جديد، وأردّ على “دردمة” الأمهات بابتسامة، ليمضي هذا العيد بكل فرح… واستمتاع.