"أنتِ نازكة".. ماذا سألوكم في مقابلة العمل؟
07 أيلول 2024
ماذا إذا كان السؤال في مقابلة العمل "ناوي تضعف؟" أو "ممكن رقمج؟"، لماذا يواجه الباحثون الجدد عن العمل معضلة إيجاد مقابلة عمل جادة ومحترمة ومهتمة بمهاراتهم لا حياتهم الشخصية؟ عن مقابلات العمل في العراق؟
حين تذهب لمقابلة العمل الأولى، تحاول أن تتدرب على الأسئلة التي تعتقد أنها قادمة لا محالة، مثل: “لماذا قدمت على هذه الوظيفة؟ أين ترى ذاتك بعد خمسة أعوام؟ ما هو طموحك؟”، ولكن ماذا إذا كان السؤال “ناوي تضعف؟ متزوج؟ ممكن رقمج؟”.
يواجه الباحثون الجدد عن العمل اليوم معضلة إيجاد مقابلة عمل جادة ومحترمة ومهتمة بمهاراتهم لا حياتهم الشخصية. إذ يشكو كثر من اصطدامهم بجبل من الأسئلة غير المهنية، والشخصية والتي لا تمت بصلة للوظيفة.
شروط العمل البلاستيكية
“رادوا اكص شعري والبس عدسات، وأنا مقدمة كمساعدة طبيب أسنان”، تقول طيبة من بغداد. أما علياء (اسم مستعار) من بغداد فتقول “سألوني ليش ما تضعفين؟ تصيرين كلش حلوة. والشغل إداري، حتى مو مبيعات، جنت أرفض هيج شغل فوراً.. “.
تكاد لا تتذكر علياء أي مقابلة عمل تقدمت لها لم تتمحور حول وزنها أو جسدها.
تنتشر عبارة “موظفة أو موظف حسن المظهر” في إعلانات التوظيف خلال السنوات الأخيرة. تعتمد العديد من الأعمال داخل القطاع الخاص -شركات، عيادات تجميل أو أسنان، صالونات نسائية، مولات ومحلات الملابس، والمطاعم- على موظفة “حسنة المظهر” في مقدمة الشركة، والتي غالباً ما تتولى مهام ردهة الاستقبال والانتظار أو السكرتارية.
ما فتئت شروط حسن المظهر تكثر، وتُطالب بقص الشعر وإتباع أسلوب ملابس معين، أو حتى تُفضل وزناً مُعيناً، مما يضع ضغطاً نفسياً واقتصادياً لا يُحتمل على المتقدمين لمثل هذه الوظائف. تحاول معايير الجمال الجديدة الخاصة بالقطاع الخاص في العراق خلق نمط واضح وثابت للمظهر الـ”حسن” والمطلوب من الموظفين الجدد. كما لا تُستبعد احتمالية طلب صاحب أو صاحبة العمل تجديد المظهر حسب الرائج والمرغوب، مما يحول الموظفين إلى أداة استعراض لا أكثر.
يبرّر مؤمل (اسم مستعار)، وهو مدير قسم التصميم في جريدة ببغداد، أن المظهر مهم جداً وخصوصا في الوظائف التي تتطلب التعاطي المباشر مع الزبائن، لكون المظهر يمثل واجهة المؤسسة التي يعمل فيها الموظف، ولا يمثل الموظف نفسه.
بينما يجمع كثر، من باعة إلى مستهلكين، بأن “المظهر الحسن” مهم في العمل، إلا أن من يحدد معايير الجمال ووفق ماذا تحدد هذه يبقى مفتوحاً لتأويلات اجتماعية كثير منها مدعاة للتنمر والإقصاء والتمييز ضد كل من لا يتوافق معها على حساب الكفاءات.
عبارات مثل “انت نازكة” (والتي تعني أنتِ ناعمة أو رقيقة) باتت متداولة ومعتمدة عند ملاءمة متقدمة المعيار المطلوب “للمظهر الحسن”، حتى في أعمال تطوعية! حيث ارتأى مدير الفريق في عمل تطوعي كنت قد تقدمت له، بأن مكاني سيكون في “الاستقبال” لأني “حبابة وحلوة ونازكة” والكثير من الصفات التي جعلتني أشعر بالسُخف.
ولا تقتصر هذه المطالب على النساء فحسب، بل أيضاً على المتقدمين من الذكور.
“شعري طويل، سألوني إذا أكدر أتعامل وي العميل بهيج مظهر، ورغم كلتلهم أي، طلبوا أحلقه مقابل أتوظف..” يقول مصطفى، وهو كاتب محتوى عراقي.
“اليوم تبقى ورا الدوام؟” الوجه الآخر للاستنزاف
“من سألت عن مدة دوامي كالوا دوامي ثمن ساعات، بس لازم أبقى اونلاين 24 ساعة، حتى لو المدير خابرني ساعة وحدة بالليل لازم أشتغل”، يردف مصطفى.
عبارة “مطلوب موظف قادر على تحمل ضغط العمل” باتت شائعة في إعلانات التوظيف، والتي تعني بالنسبة للمتقدمين والمتقدمات للعمل بأن “ضغط العمل” هذا لا يعني إلا استنزافاً دون مقابل مادي أو حتى معنوي.
من الشائع الآن -وخاصة في القطاع الخاص- أن تبقى بعد ساعات عملك المتفق عليها وتؤدي أعمالاً إضافية دون مقابل صريح لأنك موافق/ة “ضمنياً” على “ضغط العمل” ولديك القدرة على تحمل “أيام الزخم”. لا يوضح أحد ما معنى “ضغط العمل” أثناء توظيفك، إلا أن العبارة ستُترجم في ما بعد لصيغ عدة، إذ أنك ستكون مطالبا/ـة بالعمل بمهام خارج المسمى الوظيفي لكِ –وقد تكون متدربا/ـة بلا راتب حتى-، أو تأخر الراتب، أو أن تتحمل تأخير زملائِك للعمل المشترك واضطراِرك للقيام بالمشروع بأكمله، أو أن تعمل متحملاً الحالة المزاجية الصعبة لمديرك، دون أن تملك الحق بالتذمر، لأنك تعمل تحت الضغط.
أما إذا أشار متقدم أو متقدمة للعمل لأهمية الصحة النفسية في العمل، فإن ذلك كفيل لرفضهم من قبل المشغلين. هذه كانت تجربة آمنة من البصرة في مقابلة العمل لوظيفة مساعدة طبيب.. “كلت لدكتور الأسنان أنا يهمني سلامي واستقراري النفسي، رفضني فوراً”.
تُعتبر الصحة النفسية أو إيجاد بيئة عمل غير سامة، مظهراً من مظاهر الترف والدلال الشائع عند الجيل الجديد بالنسبة للجيل القديم الذي يمثل أصحاب العمل حالياً. في مقابلة أجراها جمار مع الدكتورة شيماء الكمالي أخصائية طبّ الأسرة، تقول إن ساعات العمل في العراق في بعض المهن تصل إلى 14 ساعة باليوم مثل المهن العسكرية والأمنية والطبية وغيرها.
تحذر الكمالي من أن زيادة ساعات العمل تؤدي إلى الإرهاق وقلة النوم مما يعمل على إضعاف الجهاز المناعي ويجعله عرضة للأمراض.
ما بين محاولات إيجاد العمل وتفادي الاحتراق الوظيفي (Occupational burnout) –وهو من أنواع الضغط المرتبطة بالعمل، يؤدي إلى الشعور بالإنهاك الجسدي والنفسي-، يمضي الباحثون الكثير من الوقت في التخبط والتجارب التي غالباً ما تكون غير نافعة، إلا أنها مُحفزة للاستمرار في البحث عن بيئة عمل غير سامة.
الزواج والعمل
فيما يزداد الضغط الاجتماعي على المرأة لتتزوج وتنجب من جهة ومن جهة أخرى أن تعمل وتتطور في سوق العمل، تتوسع دائرة المشغلين الذين يشترطون على المتقدمات لوظائف معينة ألا يكن متزوجات، لاعتقادهم أن النساء إذا لم يكن مرتبطات بعائلة أو أطفال يتمتعن بمرونة أكثر في حال زيادة المهام أو تغيير أوقات العمل.
تحد هذه الشروط من فرص الأمهات أو المتزوجات في إيجاد عمل مناسب وبالتالي تساهم في بطالتهن، خاصّة وأن نسبة الأمهات العاملات أصلاً منخفضة بسبب ضعف الخدمات التي تُقدم لهن مثل دور رعاية الأطفال ووسائل النقل المناسبة. إذ تصل نسبة البطالة عند النساء إلى 28.2، ما يعني وجود نحو 13 مليون امرأة قادرة على العمل، لكن عدد المنخرطات في سوق العمل نحو مليون فقط!
وعلى الرغم من تبرير أصحاب العمل لغايتهم من عزوبية المرأة، إلا أن أيّاً منهم يطالب بشابة عزباء، وهذا قد يبدو مثيراً للشكوك وذا غايات لا تناسب النساء، مما يُبعد حتى الشابة العزباء عنه.
على النقيض، يُطالب الرجال أحياناً بأن يكونوا متزوجين لقبولهم في أعمال معينة، خاصة إذا ما كانت أعمالاً تتضمن تعاملاً مباشراً مع النساء، كنوع من “ضمان استقامة” المتقدم. أما إذا كان الرجل متقدماً لأعمال تتضمن التنقل داخل المحافظة الواحدة أو أنحاء العراق فأنه يُطالب بالعزوبية، للسبب نفسه، أي عدم التزامه بعائلة والتفرغ التام.
بالطبع، توجد مؤسسات تتبع منهجاً مختلفاً ولا تهمها الحالة الاجتماعية للمتقدم. يقول مروان، وهو مدير مجموعة صاج الريف “ما يهمني المتقدم رجل أو امرأة، متزوج أو أعزب، المهم عندهم أخلاق وطموح..”.
ويضيف “عدنا نسبة جيدة من النساء بالكول سنتر، والمطابخ الخلفية، وقسم إدارة التصنيع، والكاشير، ممكن بمجال الخدمة يكون عددهم أقل بس موجودات”.
تجارة التدريب في العراق
إذا تجاوز الباحث كل الصعوبات والمطالب التي سبق ذكرها، فإنه يُجابه بمطالب رب العمل بأن يمتلك خبرة تتجاوز العام في مجال العمل نفسه، مما يزيد من صعوبة إيجاد عمل مناسب.
تخرّج في العراق عام 2019 – 2020 أكثر من 176 ألف طالب من الجامعات الحكومية والأهلية والتقنية، والمعاهد التقنية، والدراسات العليا، حسب الجهاز المركزي للإحصاء. ومع تزايد أعداد الخريجين الجدد والباحثين عن العمل، تتزايد مطالبات أصحاب العمل بوجود الخبرة الكافية لدى المتقدمين للعمل، حيث باتوا لا يلتفتون للمؤهل الدراسي كثيراً، وبالكاد يُذكر في المقابلات وحتى إعلانات العمل، مثلما يؤكد مصطفى “يمكن بس مقابلتين سألوني عن شهادتي الجامعية واهتموا بيها اصلاً”.
عليه فكثر من الخريجين والخريجات باتوا يتساءلون: من أين نأتي بالخبرة إذن؟
وقد باتت بعض أماكن العمل تشترط حتى على المتقدمين للتدريب أن يكون لديهم خبرة، ومع ذلك يضطر كثر إلى الانخراط في تدريبات غير مدفوعة من أجل استيفاء شرط الخبرة الذي سيؤهلهم لاحقاً للتقدم للعمل في وظيفة.
بيد أن فرص التدريب باتت سوقاً يستغل من خلاله المشغلون المتدربين لأداء مهام دون مقابل ودون فرص للتعلم، بحجة عدم تأكد صاحب العمل من مهارات المُتقدم وقدرته على أداء العمل جيداً.
يرى مصطفى موفق، وهو مدير شركة دريم ميديا أن “من الممكن أن يكون التدريب مفيداً، لكن يجب أن يكون المتدرب حذراً من البرامج التي تستغل الباحثين عن العمل”.
تقول سارة علي، وهي فاحصة بصر من بغداد “رحت على أساس أتدرب، تالي اشتغلت كلشي وحدي وزيادة، وما علموني ولا سر من أسرار المهنة”. يواجه الباحثون حالات من الاستغلال تحت اسم التدريب دون مقابل، والتي قد تتكرر لتصبح سلسلة من استغلال الباحثين عن العمل لمدة شهر ثم استبدالهم بآخر، وهكذا يمضي صاحب العمل أطول فترة ممكنة من استغلال “المتدربين” دون دفع دينار واحد.
في بعض الأحيان، قد يستغلون المتدرب مادياً أيضاً. سامر (اسم مستعار) مثلاً، تعرض لتجربة شائعة، وهي المفاوضات حول راتبه. أخبرته شركة التوظيف إنه من الممكن توظيفه، في حالة واحدة: “كالوا إذا أتوظف فلازم نص راتبي إلهم، إذا آخذ مليون لازم ياخذون 500 مني..”
أما سارة دفعت 250 ألف دينار عراقي لصاحب العمل وهو فاحص بصر وصاحب عيادة، لكي يدربها، مع وعود واهية بتوظيفها معه أو مع إحدى العيادات التي يعرفها.
لم تتعلم سارة مهارات المهنة، إذ لم تتعلم الفحص المباشر، ولم تتواصل مع المرضى بنفسها أو تفحصهم، إذ اكتفى الفاحص بإلقاء المعلومات عليها، وإعطائها فرصة للمراقبة فقط. في يومها الأخير، سمح لها برؤية جميع الأجهزة التي يعمل عليها الفاحص، والتي كان من المفترض أن يدربها على استخدامهم خلال وقت التدريب.
وتضيف سارة: “تدربت عنده شهرين، ودفعت فلوسهم، بالأخير كلي ما يحتاج يوظف أحد وما يعرف عيادة ممكن توظفني، بس يعرف محل ملابس نسائية محتاج موظفة.”
في بداية بحثي عن العمل، تعرضت أنا لذلك أيضاً. أمضيت ما يقارب السبعة أشهر “أتدرب” دون أن يُدربني أحد فعلاً، أديتُ أعمالي بكفاءة، دون تدريب أو إرشاد، ومن ثم أخبرتني المسؤولة المالية “بعدنا ما متأكدين منج لأنج جديدة وبدون خبرة، ما نكدر نصرفلج راتب”، لِذا تركت الشركة في يوم ميلادي، كمكافأة وراتب مني وإلي.
يجهل الكثير من العاملين، والمتدربين، والباحثين عن العمل عن حقوقهم القانونية. من المفترض أن تكون هناك قوانين صريحة في ما يخص التدريب في العراق، يخضع لها التدريب لضمان حق المدرب والمتدرب سواء.
من الممكن أن يتعرض المتدرب/ة إلى حادث أثناء التدريب دون أن يحصل على تعويض أو تغطية مادية للتكاليف الصحية. على الرغم من أن المادة 27 من قانون العمل سنة 2015 تشير إلى أهمية ضمان حقوق المتدرب في حالة إصابته أثناء العمل.
يبدو البحث عن العمل حالياً مثل خوض مقلب اجتماعي مُصور، إذ لا تتوقع الأسئلة المطروحة، ولا تعلم أن كنت مناسباً لمواصفات الجمال -كما لو أنها مسابقة ملك جمال الدولة-، ولستَ متأكداً إن كانت شهادتك الجامعية ومهاراتك العملية هي من سوف تؤهلك للعمل أم وزنك المثالي.
قد يختلف القطاع الخاص عن العام، لكن هذا لا يعني أنه أصبح أفضل، أو أنه لا تشوبه شائبة. لا تزال مقابلات العمل مُحيرة وغير مُتوقعة على الأغلب. وفي ظل غياب القوانين الصريحة لمقابلات العمل والتدريب، فأن الباحثين الجدد يدخلون دوامة من الصدمات والمطالب التي لا تمت للعمل بصلة، ناهيك عن الاستغلال الذي نادراً ما ينجو منه المستجدون.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
حين تذهب لمقابلة العمل الأولى، تحاول أن تتدرب على الأسئلة التي تعتقد أنها قادمة لا محالة، مثل: “لماذا قدمت على هذه الوظيفة؟ أين ترى ذاتك بعد خمسة أعوام؟ ما هو طموحك؟”، ولكن ماذا إذا كان السؤال “ناوي تضعف؟ متزوج؟ ممكن رقمج؟”.
يواجه الباحثون الجدد عن العمل اليوم معضلة إيجاد مقابلة عمل جادة ومحترمة ومهتمة بمهاراتهم لا حياتهم الشخصية. إذ يشكو كثر من اصطدامهم بجبل من الأسئلة غير المهنية، والشخصية والتي لا تمت بصلة للوظيفة.
شروط العمل البلاستيكية
“رادوا اكص شعري والبس عدسات، وأنا مقدمة كمساعدة طبيب أسنان”، تقول طيبة من بغداد. أما علياء (اسم مستعار) من بغداد فتقول “سألوني ليش ما تضعفين؟ تصيرين كلش حلوة. والشغل إداري، حتى مو مبيعات، جنت أرفض هيج شغل فوراً.. “.
تكاد لا تتذكر علياء أي مقابلة عمل تقدمت لها لم تتمحور حول وزنها أو جسدها.
تنتشر عبارة “موظفة أو موظف حسن المظهر” في إعلانات التوظيف خلال السنوات الأخيرة. تعتمد العديد من الأعمال داخل القطاع الخاص -شركات، عيادات تجميل أو أسنان، صالونات نسائية، مولات ومحلات الملابس، والمطاعم- على موظفة “حسنة المظهر” في مقدمة الشركة، والتي غالباً ما تتولى مهام ردهة الاستقبال والانتظار أو السكرتارية.
ما فتئت شروط حسن المظهر تكثر، وتُطالب بقص الشعر وإتباع أسلوب ملابس معين، أو حتى تُفضل وزناً مُعيناً، مما يضع ضغطاً نفسياً واقتصادياً لا يُحتمل على المتقدمين لمثل هذه الوظائف. تحاول معايير الجمال الجديدة الخاصة بالقطاع الخاص في العراق خلق نمط واضح وثابت للمظهر الـ”حسن” والمطلوب من الموظفين الجدد. كما لا تُستبعد احتمالية طلب صاحب أو صاحبة العمل تجديد المظهر حسب الرائج والمرغوب، مما يحول الموظفين إلى أداة استعراض لا أكثر.
يبرّر مؤمل (اسم مستعار)، وهو مدير قسم التصميم في جريدة ببغداد، أن المظهر مهم جداً وخصوصا في الوظائف التي تتطلب التعاطي المباشر مع الزبائن، لكون المظهر يمثل واجهة المؤسسة التي يعمل فيها الموظف، ولا يمثل الموظف نفسه.
بينما يجمع كثر، من باعة إلى مستهلكين، بأن “المظهر الحسن” مهم في العمل، إلا أن من يحدد معايير الجمال ووفق ماذا تحدد هذه يبقى مفتوحاً لتأويلات اجتماعية كثير منها مدعاة للتنمر والإقصاء والتمييز ضد كل من لا يتوافق معها على حساب الكفاءات.
عبارات مثل “انت نازكة” (والتي تعني أنتِ ناعمة أو رقيقة) باتت متداولة ومعتمدة عند ملاءمة متقدمة المعيار المطلوب “للمظهر الحسن”، حتى في أعمال تطوعية! حيث ارتأى مدير الفريق في عمل تطوعي كنت قد تقدمت له، بأن مكاني سيكون في “الاستقبال” لأني “حبابة وحلوة ونازكة” والكثير من الصفات التي جعلتني أشعر بالسُخف.
ولا تقتصر هذه المطالب على النساء فحسب، بل أيضاً على المتقدمين من الذكور.
“شعري طويل، سألوني إذا أكدر أتعامل وي العميل بهيج مظهر، ورغم كلتلهم أي، طلبوا أحلقه مقابل أتوظف..” يقول مصطفى، وهو كاتب محتوى عراقي.
“اليوم تبقى ورا الدوام؟” الوجه الآخر للاستنزاف
“من سألت عن مدة دوامي كالوا دوامي ثمن ساعات، بس لازم أبقى اونلاين 24 ساعة، حتى لو المدير خابرني ساعة وحدة بالليل لازم أشتغل”، يردف مصطفى.
عبارة “مطلوب موظف قادر على تحمل ضغط العمل” باتت شائعة في إعلانات التوظيف، والتي تعني بالنسبة للمتقدمين والمتقدمات للعمل بأن “ضغط العمل” هذا لا يعني إلا استنزافاً دون مقابل مادي أو حتى معنوي.
من الشائع الآن -وخاصة في القطاع الخاص- أن تبقى بعد ساعات عملك المتفق عليها وتؤدي أعمالاً إضافية دون مقابل صريح لأنك موافق/ة “ضمنياً” على “ضغط العمل” ولديك القدرة على تحمل “أيام الزخم”. لا يوضح أحد ما معنى “ضغط العمل” أثناء توظيفك، إلا أن العبارة ستُترجم في ما بعد لصيغ عدة، إذ أنك ستكون مطالبا/ـة بالعمل بمهام خارج المسمى الوظيفي لكِ –وقد تكون متدربا/ـة بلا راتب حتى-، أو تأخر الراتب، أو أن تتحمل تأخير زملائِك للعمل المشترك واضطراِرك للقيام بالمشروع بأكمله، أو أن تعمل متحملاً الحالة المزاجية الصعبة لمديرك، دون أن تملك الحق بالتذمر، لأنك تعمل تحت الضغط.
أما إذا أشار متقدم أو متقدمة للعمل لأهمية الصحة النفسية في العمل، فإن ذلك كفيل لرفضهم من قبل المشغلين. هذه كانت تجربة آمنة من البصرة في مقابلة العمل لوظيفة مساعدة طبيب.. “كلت لدكتور الأسنان أنا يهمني سلامي واستقراري النفسي، رفضني فوراً”.
تُعتبر الصحة النفسية أو إيجاد بيئة عمل غير سامة، مظهراً من مظاهر الترف والدلال الشائع عند الجيل الجديد بالنسبة للجيل القديم الذي يمثل أصحاب العمل حالياً. في مقابلة أجراها جمار مع الدكتورة شيماء الكمالي أخصائية طبّ الأسرة، تقول إن ساعات العمل في العراق في بعض المهن تصل إلى 14 ساعة باليوم مثل المهن العسكرية والأمنية والطبية وغيرها.
تحذر الكمالي من أن زيادة ساعات العمل تؤدي إلى الإرهاق وقلة النوم مما يعمل على إضعاف الجهاز المناعي ويجعله عرضة للأمراض.
ما بين محاولات إيجاد العمل وتفادي الاحتراق الوظيفي (Occupational burnout) –وهو من أنواع الضغط المرتبطة بالعمل، يؤدي إلى الشعور بالإنهاك الجسدي والنفسي-، يمضي الباحثون الكثير من الوقت في التخبط والتجارب التي غالباً ما تكون غير نافعة، إلا أنها مُحفزة للاستمرار في البحث عن بيئة عمل غير سامة.
الزواج والعمل
فيما يزداد الضغط الاجتماعي على المرأة لتتزوج وتنجب من جهة ومن جهة أخرى أن تعمل وتتطور في سوق العمل، تتوسع دائرة المشغلين الذين يشترطون على المتقدمات لوظائف معينة ألا يكن متزوجات، لاعتقادهم أن النساء إذا لم يكن مرتبطات بعائلة أو أطفال يتمتعن بمرونة أكثر في حال زيادة المهام أو تغيير أوقات العمل.
تحد هذه الشروط من فرص الأمهات أو المتزوجات في إيجاد عمل مناسب وبالتالي تساهم في بطالتهن، خاصّة وأن نسبة الأمهات العاملات أصلاً منخفضة بسبب ضعف الخدمات التي تُقدم لهن مثل دور رعاية الأطفال ووسائل النقل المناسبة. إذ تصل نسبة البطالة عند النساء إلى 28.2، ما يعني وجود نحو 13 مليون امرأة قادرة على العمل، لكن عدد المنخرطات في سوق العمل نحو مليون فقط!
وعلى الرغم من تبرير أصحاب العمل لغايتهم من عزوبية المرأة، إلا أن أيّاً منهم يطالب بشابة عزباء، وهذا قد يبدو مثيراً للشكوك وذا غايات لا تناسب النساء، مما يُبعد حتى الشابة العزباء عنه.
على النقيض، يُطالب الرجال أحياناً بأن يكونوا متزوجين لقبولهم في أعمال معينة، خاصة إذا ما كانت أعمالاً تتضمن تعاملاً مباشراً مع النساء، كنوع من “ضمان استقامة” المتقدم. أما إذا كان الرجل متقدماً لأعمال تتضمن التنقل داخل المحافظة الواحدة أو أنحاء العراق فأنه يُطالب بالعزوبية، للسبب نفسه، أي عدم التزامه بعائلة والتفرغ التام.
بالطبع، توجد مؤسسات تتبع منهجاً مختلفاً ولا تهمها الحالة الاجتماعية للمتقدم. يقول مروان، وهو مدير مجموعة صاج الريف “ما يهمني المتقدم رجل أو امرأة، متزوج أو أعزب، المهم عندهم أخلاق وطموح..”.
ويضيف “عدنا نسبة جيدة من النساء بالكول سنتر، والمطابخ الخلفية، وقسم إدارة التصنيع، والكاشير، ممكن بمجال الخدمة يكون عددهم أقل بس موجودات”.
تجارة التدريب في العراق
إذا تجاوز الباحث كل الصعوبات والمطالب التي سبق ذكرها، فإنه يُجابه بمطالب رب العمل بأن يمتلك خبرة تتجاوز العام في مجال العمل نفسه، مما يزيد من صعوبة إيجاد عمل مناسب.
تخرّج في العراق عام 2019 – 2020 أكثر من 176 ألف طالب من الجامعات الحكومية والأهلية والتقنية، والمعاهد التقنية، والدراسات العليا، حسب الجهاز المركزي للإحصاء. ومع تزايد أعداد الخريجين الجدد والباحثين عن العمل، تتزايد مطالبات أصحاب العمل بوجود الخبرة الكافية لدى المتقدمين للعمل، حيث باتوا لا يلتفتون للمؤهل الدراسي كثيراً، وبالكاد يُذكر في المقابلات وحتى إعلانات العمل، مثلما يؤكد مصطفى “يمكن بس مقابلتين سألوني عن شهادتي الجامعية واهتموا بيها اصلاً”.
عليه فكثر من الخريجين والخريجات باتوا يتساءلون: من أين نأتي بالخبرة إذن؟
وقد باتت بعض أماكن العمل تشترط حتى على المتقدمين للتدريب أن يكون لديهم خبرة، ومع ذلك يضطر كثر إلى الانخراط في تدريبات غير مدفوعة من أجل استيفاء شرط الخبرة الذي سيؤهلهم لاحقاً للتقدم للعمل في وظيفة.
بيد أن فرص التدريب باتت سوقاً يستغل من خلاله المشغلون المتدربين لأداء مهام دون مقابل ودون فرص للتعلم، بحجة عدم تأكد صاحب العمل من مهارات المُتقدم وقدرته على أداء العمل جيداً.
يرى مصطفى موفق، وهو مدير شركة دريم ميديا أن “من الممكن أن يكون التدريب مفيداً، لكن يجب أن يكون المتدرب حذراً من البرامج التي تستغل الباحثين عن العمل”.
تقول سارة علي، وهي فاحصة بصر من بغداد “رحت على أساس أتدرب، تالي اشتغلت كلشي وحدي وزيادة، وما علموني ولا سر من أسرار المهنة”. يواجه الباحثون حالات من الاستغلال تحت اسم التدريب دون مقابل، والتي قد تتكرر لتصبح سلسلة من استغلال الباحثين عن العمل لمدة شهر ثم استبدالهم بآخر، وهكذا يمضي صاحب العمل أطول فترة ممكنة من استغلال “المتدربين” دون دفع دينار واحد.
في بعض الأحيان، قد يستغلون المتدرب مادياً أيضاً. سامر (اسم مستعار) مثلاً، تعرض لتجربة شائعة، وهي المفاوضات حول راتبه. أخبرته شركة التوظيف إنه من الممكن توظيفه، في حالة واحدة: “كالوا إذا أتوظف فلازم نص راتبي إلهم، إذا آخذ مليون لازم ياخذون 500 مني..”
أما سارة دفعت 250 ألف دينار عراقي لصاحب العمل وهو فاحص بصر وصاحب عيادة، لكي يدربها، مع وعود واهية بتوظيفها معه أو مع إحدى العيادات التي يعرفها.
لم تتعلم سارة مهارات المهنة، إذ لم تتعلم الفحص المباشر، ولم تتواصل مع المرضى بنفسها أو تفحصهم، إذ اكتفى الفاحص بإلقاء المعلومات عليها، وإعطائها فرصة للمراقبة فقط. في يومها الأخير، سمح لها برؤية جميع الأجهزة التي يعمل عليها الفاحص، والتي كان من المفترض أن يدربها على استخدامهم خلال وقت التدريب.
وتضيف سارة: “تدربت عنده شهرين، ودفعت فلوسهم، بالأخير كلي ما يحتاج يوظف أحد وما يعرف عيادة ممكن توظفني، بس يعرف محل ملابس نسائية محتاج موظفة.”
في بداية بحثي عن العمل، تعرضت أنا لذلك أيضاً. أمضيت ما يقارب السبعة أشهر “أتدرب” دون أن يُدربني أحد فعلاً، أديتُ أعمالي بكفاءة، دون تدريب أو إرشاد، ومن ثم أخبرتني المسؤولة المالية “بعدنا ما متأكدين منج لأنج جديدة وبدون خبرة، ما نكدر نصرفلج راتب”، لِذا تركت الشركة في يوم ميلادي، كمكافأة وراتب مني وإلي.
يجهل الكثير من العاملين، والمتدربين، والباحثين عن العمل عن حقوقهم القانونية. من المفترض أن تكون هناك قوانين صريحة في ما يخص التدريب في العراق، يخضع لها التدريب لضمان حق المدرب والمتدرب سواء.
من الممكن أن يتعرض المتدرب/ة إلى حادث أثناء التدريب دون أن يحصل على تعويض أو تغطية مادية للتكاليف الصحية. على الرغم من أن المادة 27 من قانون العمل سنة 2015 تشير إلى أهمية ضمان حقوق المتدرب في حالة إصابته أثناء العمل.
يبدو البحث عن العمل حالياً مثل خوض مقلب اجتماعي مُصور، إذ لا تتوقع الأسئلة المطروحة، ولا تعلم أن كنت مناسباً لمواصفات الجمال -كما لو أنها مسابقة ملك جمال الدولة-، ولستَ متأكداً إن كانت شهادتك الجامعية ومهاراتك العملية هي من سوف تؤهلك للعمل أم وزنك المثالي.
قد يختلف القطاع الخاص عن العام، لكن هذا لا يعني أنه أصبح أفضل، أو أنه لا تشوبه شائبة. لا تزال مقابلات العمل مُحيرة وغير مُتوقعة على الأغلب. وفي ظل غياب القوانين الصريحة لمقابلات العمل والتدريب، فأن الباحثين الجدد يدخلون دوامة من الصدمات والمطالب التي لا تمت للعمل بصلة، ناهيك عن الاستغلال الذي نادراً ما ينجو منه المستجدون.