"العمل اللامُنتهي".. عراقيون في دوّامة ساعات الشغل الطويلة 

زينب المشاط

15 كانون الأول 2023

"ماكو شي اسمه إجازة أو يوم عطلة دائماً يتصلون أو يرسلون على كروب العمل بالوتساب، واما أخلص الشغل بالتلفون أو اضطر افتح لابتوبي وانهي العمل.. حتى بأوقات سفري مع العائلة بالإجازات، حتى من اطلع مع أهلي يكون لابتوبي معي".. كيف يقضي عراقيون 14 ساعة من يومهم في العمل؟

“أشتغل باليوم الواحد 14 لو 15 ساعة، آني عايش بموقع العمل وطالما عايش بموقع العمل فأني لازم اشتغل على طول، حتى لو كانت الساعة 10 بالليل”، يقول حسن الوردي (33 عاماً) عن عمله في شركة عراقية بميناء أم قصر في البصرة تتخصص في تجهيز الشركات الأجنبية بالخدمات اللوجستية من طعام وشراب وغيره. 

إتقان حسن للغة الإنكليزية كونه حائزاً على ماجستير تربية انكليزي أهّله للعمل في هذا النوع من الشركات التي تكون في العادة متعاقدة مع شركات أجنبية. العمال في هذه الشركات، يقول لنا حسن، يغلقون هواتفهم بعد انتهاء ساعات دوامهم، في حين أن العمال المحليين مثل حسن مطالبون بأن يظلوا متأهبين دائماً في حال وردهم اتصال عمل ملزمين بالرد عليه.  

يُطلب من حسن أن يعمل بمعدل 12 ساعة يومياً ودون عقد يوضح مهامه وحقوقه، ومن بينها الضمان الاجتماعي. لكن هذا الوضع ليس استثنائياً لشركته، ففي “كل شركات القطاع الخاص ماكو شي اسمه احترام للوقت ولأن سكني داخل مقر العمل فلازم أكون متوفر 24 ساعة”. 

 معاناة مشابهة تواجهها مريم رشدي (32 عاماً) التي تعمل مديرة مشاريع في إحدى شركات القطاع الخاص المعنية بتجهيز خدمات الانترنت في مؤسسات الدولة، حيث من المفروض أن تعمل 8 ساعات يومياً، و”لكن إذا نحسبها بالحقيقة هي أكثر”، تقول مريم. 

فالشركة تغلق أبوابها عند الخامسة مساءً، “لكني اضطر لأخذ اللابتوب معي إلى أقرب كافيه إذا كان الطريق إلى المنزل مزدحما، حتى أوفر انترنت وأكمل ساعات العمل الاضافية في الكافيه إذا كنت مكلفة بعمل إضافي”.  

العمل لساعات طويلة وفي أيام الإجازات والعطل هو نمط حياة العامل/ـة والموظف/ـة في العراق، بالذات في القطاع الخاص، والذي يؤثر على حياته الاجتماعية وصحته، ذلك لأسباب عدة أهمها الخوف من البطالة والحاجة للعمل في أكثر من مهنة للقيام بسدّ تكاليف الحياة المتضخمة. 

هل تجذر هذا النمط في حياة العراقي حتى تجاوز حقاً عمرا يربو عن القرن بتحديد ساعات العمل وتقنينها؟  

عمل إضافي غير مدفوع الثمن 

“ماكو شي اسمه أجور مقابل ساعات إضافية لكن أحياناً نحصّل مكافآت”، يقول حسن الذي يعتبر أن الشركة التي يعمل بها تدفع بسخاء مقابل ساعات عمله الإضافية، لكن دون سياسة واضحة لأجور الساعات الإضافية.  

تمنح بعض الشركات الموظفين العاملين فيها أجوراً مقابل ساعات العمل الإضافية وفق بنود واضحة في عقود العمل. “لما كنت موظفة عادية كنت أحصّل اجور إضافية على ساعات العمل الإضافية في إحدى الشركات التي كنت أعمل بها سابقاً، وحين ترقيت في تلك الشركة إلى مدير صرت أعمل بشكل إضافي لإنجاح فريق عملي لكن من دون أي أجور اضافية” تؤكد مريم لجمار. 

ما يعني أن ثمة عدم وضوح بالنسبة لتعاطي شركات القطاع الخاص مع ساعات العمل الإضافية، حيث لا يعرف العمال أو الموظفون إذا ما كانوا سيتقاضون أجوراً مقابل الساعات الإضافية ووفقاً لأي شروط أو معايير، فكثيراً ما يكون ذلك منوطاً بالمشغل ونوع الوظيفة. 

بيد أن قانون العمل العراقي رقم 37 لعام 2015 والذي يسري على القطاع الخاص واضح بهذا الشأن. 

فالمادة 59 تلزم المشغل بـ”إعلام العامل عن العناصر المكونة لأجره قبل التعاقد معه وخصوصاً المخصصات وآلية احتساب بدل العمل الإضافي وغيرها من الزيادات أو الاستقطاعات ومدد الدفع وطريقته ومكان ويوم دفعه ويجب إبلاغه بالمعلومات ذاتها كلما طرأ تغيير على عناصر أجره”. 

كما أنه لا يجوز أن تزيد ساعات العمل عن الثماني ساعات في اليوم والـثماني وأربعين ساعة في الأسبوع وفقاً للمادة 67 (1) لقانون العمل، مع مراعاة استثناءات عديدة يفصلها القانون، كما يفرض القانون استراحة أثناء ساعات العمل ما بين نصف الساعة أو ساعة وفقاً للمادة 68 (1). أما إذا تجاوزت ساعات العمل الوقت المحدد قانونياً، فللعامل أجر إضافي. 

بطبيعة الحال يأخذ القانون واقع عالم العمل الذي يتطلب أحياناً أن يعمل العمال لساعات أطول، فإذا كانت هناك حالات استثنائية تفرض ذلك، تذهب منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل إلى الاتفاق على زيادة ساعات العمل اليومية لفترة زمنية، تكون محددة، ولا يزيد متوسط عدد ساعات العمل الأسبوعي على ثمان وأربعين ساعة، وفق الخبير القانوني محمد جمعة، ورئيسة اتحاد النقابات العمالية يسرى الهاشمي. ما يعني أن العمل لساعات إضافية يكون محددا بفترة ما وليس أن يصبح هو نمط العمل.  

يتوجب على المشغل، الحال هذه، أن يدفع مقابل هذه الساعات الإضافية وفق ما ينصّه القانون. 

لكن بعض المشغلين يلتفون حول مواد القانون ويضعون رواتب بقيمة ما، بحيث يكون جزءاً من الراتب هو الراتب الاسمي الأساسي والجزء الآخر مقابل ساعات إضافية، مثلاً يكون الراتب الكلي 500 ألف دينار، بحيث يحسبها المشغل بأن 300 ألف دينار منها هي أجور اسمية و200 ألف هي أجور الساعات الإضافية. على هذا الأساس يطالب المشغلون العمال بالعمل لساعات إضافية، غير محدد عددها، بتبرير أنها مشمولة أصلاً في الراتب! 

“ماكو شي اسمه مخير” 

ثم أن هناك العمل في أيام الإجازات والعطل والذي لا يكون فرضاً ولكنه ليس خياراً في الوقت ذاته. 

“ماكو شي اسمه مخير..” فقط في حالات مثل المرض والظروف الاستثنائية، “لازم تكسب عاطفتهم” ليرفض العامل أن يتولى عملاً خلال إجازة أو عطلة.  

إلى جانب ذلك، يعلم حسن جيداً أنه في حال رفضه، سيجد صاحب العمل بديلاً له بكل سهولة. 

حصل ذلك معه في أحد الاماكن التي عمل بها، إذ عيّن أصحاب العمل عاملاً مصرياً براتب أقل من راتبه، فيما يلتزم بالبقاء في مقر العمل والمبيت به من دون طلب إجازة ولساعات مفتوحة، ما حدا بحسن بترك عمله آنذاك. 

“باليوم الي اعتذر بي عن العمل بإجازتي أو أيام عطلتي الاسبوعية اجي للدوام اشوف الوجوه مقلوبة” تقول مريم إن لا مواد في عقد عملها تجبرها على العمل أيام العطل والإجازات، لكن الوجه الجاهم لمدير العمل يجعلها تعمل في أيام العطلة إذا ما اتصل مديرها بها.  

“ماكو شي اسمه إجازة أو يوم عطلة، دائما يتصلون أو يرسلون على كروب العمل بالوتساب واما أخلص الشغل بتلفون أو اضطر افتح لابتوبي وانهي العمل حتى بأوقات سفري مع العائلة بالإجازات، حتى من اطلع مع اهلي يكون لابتوبي معي”. 

محمد ماجد (26 عاماً) هو الآخر يعمل لمدة لا تقل عن 12 إلى 13 ساعة في اليوم كأسطة كباب في مطعم بالموصل، “تقريبا اطلع الصبح وعائلتي نايمة وارجع وعائلتي نايمة ومرات عائلتي يتعجبون إذا اكعد الصبح اتريك وياهم”. 

بلا عطل أسبوعية يعمل ماجد، وفي حال أراد الحصول على إجازة أو عطلة فيشترط ألا تكون أيام الخميس والجمعة “لأنها ايام لود”، كما يخصم صاحب المطعم أجرة اليوم الذي يأخذه ماجد عطلة له “باليوم الي أخذ اجازة يجيب صاحب المطعم بديل عني وبيومها ما يصرفلي اجر” يعمل ماجد من دون أجور اضافية في حال زادت ساعات عمله “صاحب العمل يزودني 5 آلاف او 10 آلاف دينار على يوميتي بحالة وحدة إذا صار عنده تجهيز طلب خارجي؛ مؤتمر أو حفلة مثلا”. 

بطبيعة الحال هذه الممارسات مناقضة للحق في الراحة الأسبوعية المدفوعة المنصوص عليها في قانون العمل، والتي بموجبها يستحق العامل راحة أسبوعية لا تقل عن أربع وعشرين ساعة متواصلة بأجر، ويكون يوم الجمعة العطلة الأسبوعية ويجوز تبديله بيوم آخر في الاسبوع. كما تنص أن لصاحب العمل بالاتفاق مع العمال تشغيلهم أيام الراحة الأسبوعية والعطل الرسمية على أن يدفع لهم أجورهم وفقا لقواعد العمل الإضافي وأن يمنحهم يوم راحة في الأسبوع التالي، وفقاً للمادة ٧٠ من القانون. 

نحتاج إلى 12 ساعة من العمل اليومي لننهض اقتصادياً 

ليس المشغل وحده من يدفع العامل للعمل لساعات طوال، بل هو ضيق الحال وغلاء المعيشة في العراق، حيث يضطر أغلب العراقيين للعمل بأكثر من مهنة، ما يؤدي إلى زيادة ساعات عملهم لتصل إلى أكثر من 14 ساعة يومياً. 

موسى (اسم مستعار) (٢٧ عاماً) يعمل منذ أربع سنوات بمهنتين. 

ففي الصباح يعمل موسى داعماً فنياً في شركة خدمات الانترنت بمعدل سبع ساعات، بينما يعمل مساءً بمعدل خمس ساعات في مكتب صيانة حاسبات.  

أسوة بكثيرين مثله، يعمل موسى الحاصل على شهادة البكالوريوس من كلية الآداب / قسم التاريخ في غير تخصصه، والذي درسه محباً وشغوفاً به.  

أسوة بآخرين مثله أيضاً، لم يعرف موسى أن عمله لمدة 12 ساعة مخالف لقانون العمل.. “ما عندي معلومة انه لازم اشتغل فقط 8 ساعات وفق القانون”. 

ولكن الخبير الاقتصادي حيدر عصفور يجد أن “العامل الذي يعمل بأكثر من مجال عمل خلال اليوم عامل نشيط، وهي صفة إيجابية، هذا يعني انه مطلوب بسوق العمل وهي حالة صحية”، بل يدعو إلى زيادة ساعات العمل إلى ساعتين إضافيتين يومياً وتقليص أيام العطل الأسبوعية والرسمية. 

الاقتصاد الوطني يتطلب ذلك، يشير عصفور، حيث يقول إن العامل العراقي يحتاج على الأقل 12 ساعة عمل يومياً لمواكبة الدول المتطورة لأنه يعدّ بطيئاً في تأدية عمله. هذا الأمر يجعل كثراً من أصحاب العمل يفضلون العمال الأجانب لأنهم يعملون ساعات طويلة وبأجور مناسبة وسرعة إنتاج أكبر، علاوة على أن العامل العراقي قد يهدد بالعشيرة في حال وقع خلاف بينه وبين صاحب العمل.   

 كما أشار عصفور إلى أن قوانين العمل بحاجة إلى إنصاف أصحاب العمل أيضاً وليس العمال فحسب، وقد يتعرض صاحب العمل أحياناً للإساءة من قبل العامل أو التقصير لهذا يؤكد على ضرورة تثقيف العامل بقوانين العمل، وأن تكون هذه القوانين محايدة بين العامل وصاحب العمل، بحيث تعمل القوانين المنصفة للطرفين على الضغط على العامل لتحسين أدائه. 

ما يراه عصفور أنه ينعكس ايجاباً على الاقتصاد العراقي، يجده موسى ضرورة لابد منها، فهو مسؤول عن أسرة كاملة، ومطالب بدفع تكاليف المعيشة والايجار والعلاج انه مضطر لممارسة عملين خلال اليوم. 

يسلخه كل هذا عن الحياة الاجتماعية التي يتمنى أن يعيشها.. مؤكداً “نادر ما التقي بأصدقائي، حتى التلفون بالعمل الصباحي ما اكدر استخدمه دائما، وعائلتي تفتقدني لأني مشغول وغير متواجد على طول، بس الشخص الي ينتمي للطبقة الوسطى لازم يشتغل شغلتين حتى يدبر العيشة”. 

حتى في الأعياد والمناسبات موسى مطالب بالعمل في اوقات كثيرة، وهذا بحسبه “مرهق جداً” ويأخذ منه “الكثير من الطاقة”. 

حفلة تعارف مع الأهل”! 

للطب والسلامة النفسية وجهة نظر تختلف تماماً عن نظرة الاقتصاد للموضوع، فالعمل بمعدل 40 ساعة ولمدة خمسة أيام بالأسبوع هو الخيار الأمثل ليتمتع الفرد العامل بصحة جسدية ونفسية جيدة، تقول الدكتورة شيماء الكمالي اخصائية طب الأسرة “في كثير من الدول معدل تشغيل العامل بصورة عامة لا تتجاوز 55 ساعة مع يومين استراحة في الأسبوع.. أما في العراق فتصل ساعات العمل باليوم الواحد في بعض المهن إلى 14 ساعة باليوم مثل المهن العسكرية والأمنية والطبية وغيرها”. 

تؤدي زيادة ساعات العمل إلى الإرهاق وقلة النوم وهذا بدوره يعرض الجسد إلى ضعف مناعي عام ويجعله عرضة للكثير من الأمراض، كما أن الدراسات تؤكد أن العاملين لأكثر من عشر ساعات باليوم معرضون للإصابة بأمراض القلب بنسبة 67 بالمئة، فضلاً عن الأمراض النفسية والإدمان على الكحول والمخدرات، تحذر الكمالي. 

ساعات العمل الطويلة هذه عرّضت موسى إلى انهيار صحي بسبب الإرهاق والتسمم لإهماله أكله ولقلة نومه.  

ولا يؤثر الإفراط بالعمل على الصحة فحسب، بل على العمل ذاته أيضاً!  

فالعاملون لأكثر من عشر ساعات باليوم يعانون من مشاكل في الذاكرة والتركيز ما يؤدي الى انخفاض ملحوظ بإنتاجيتهم، تردف الطبيبة. 

كما أن هناك الأثر النفسي على الموظف بفعل ساعات العمل الإضافية واقحام المشغلين العمل في أيام اجازات وعطل العمال. “العمل بهذه الطريقة يؤثر على صحتي النفسية لكن حبي لعملي يضطرني الى تمشية الشغل، ولأن إذا طلبوا مني شغل بعطلتي وما سويته اجي الكاهم زعلانين”، تشير مريم. 

اعتاد حسن الوردي التواصل مع عائلته يومياً بعد العاشرة ليلاً، كما أنه يقوم بتلبية احتياجاتهم خلال فترة إجازته التي تكون لعشرة أيام والتي يقضيها في محل سكنه وعائلته في ميسان بعد كل 20 يوما من العمل المتواصل، حيث يعود ليجد ضغوطاً كبيرة ومتطلبات كثيرة تنتظره في البيت. ومع اضطراره للعمل في فترة إجازته وعطلته أحياناً،  تفقده كل هذه الضغوطات لذة الإجازة ومتعتها، إذ لا يجد “مجالا لممارسة الرياضة أو قراءة الكتب، أحيانا اختطف ساعة من الزمن لقراءة كتاب، أما هواية السفر التي أحبها فقد حذفت تماما من قاموسي”. 

كان حسن يشكو من غربته عن أصدقائه وعن أسرته، حيث كان كلما عاد إلى أهله من عمله، وجد أنه بعيد جداً عن أصدقائه المقربين “أصبحت لديهم أسرار جديدة وصداقات جديدة وحكايات كثيرة أنا بمعزل عنها لأني لست متواصلا معهم بشكل جيد وهذا أثر بي كثيرا”. 

يذكر حسن “ولد صديقي (عامل مثله لساعات طويلة) قال كلما أنزل أسوي حفلة تعارف وية أهلي لأن ينسوني ورا 28 يوم”! 

في نيسان 2023 اضطر حسن لزيارة معالج نفسي على إثر هذا الاغتراب والإرهاق. 

المعالج النفسي وصف بأن حسن يعيش “غربة داخل البلد” وعليه تغيير روتينه اليومي، لكنه يقول “اشتغل من الساعة 7 صباحا الى 7 ليلاً، واستمر أحيانا بشغل إضافي يومي مرات أبقى لـ10 بالليل لأن يكون عندي هواية عمل لازم انهي بعد ساعات عملي الطبيعية لهذا ما اعرف شلون يكون تغيير الروتين الي طلبه مني المعالج النفسي ماكو أي مجال أصلا للتغيير، حتى طبيب الأسنان أهملته لأنه يحتاج إلى مواصلة ومتابعة مستمرة وماعندي مجال لهالشي”. 

كل هذا ليس غريباً، فالعاملون العراقيون يعانون من اضطرابات اجتماعية بسبب طول ساعات العمل، برأي المعالج النفسي هاتف عبد الرزاق، بحيث “يمكن أن تتأثر الأدوار الأسرية للوالدين ومقدم الرعاية والرفيق الاجتماعي والشريك الجنسي بشدة بسبب ساعات العمل غير العادية مما يؤدي إلى التنافر الزوجي والمشاكل مع الأطفال ومع الأهل والأصحاب”. 

وهذا بالضبط ما حصل مع محمد ماجد الذي يجد نفسه قد بات بعيداً جداً عن أسرته بسبب عمله الذي يستمر إلى 12 أو 13 ساعة يومياً.. يقول محمد “اني مقصر جداً ويه عائلتي واكيد مرات هواية تصير مشاكل.. بس المتطلبات هواية، الإيجار والديون ومتطلبات العائلة”. 

محاولات العامل/ة أو الموظف/ة لترميم علاقاتهم الاجتماعية مع الأسرة والأصحاب والمتأثرة بفعل انقطاعهم بسبب العمل، قد تضرهم بدورها لأنها وبحسب عبد الرزاق قد تؤدي إلى تقليل وقت النوم المتاح للعامل، ما يؤدي إلى ضعف هذه العلاقات. 

وتكثر الأمراض التي تصيب العامل بسبب زيادة ساعات العمل، منها اللامبالاة والخمول وفقدان الاهتمام بالعمل، الأعياء وصعوبة التركيز ومشاكل النوم، وتوتر العضلات والصداء والانطواء الاجتماعي والاكتئاب وتقلب المزاج وفقدان الثقة وجرش الأسنان وقضم الأظافر ونوبات الهلع والوسواس القهري. للوقاية من كل هذا ينصح عبد الرزاق بأن على “العامل أن يعرف كيفية تحديد الأولويات.. ما يوفر الوقت للتركيز على المهام مثل العلاقات داخل العمل وخارجه وممارسة التعاطف مع الذات والاستفادة من الوقت المستقطع خارج العمل وتحديد الاولويات للمهم ثم الأهم ممكن أن يحقق نوعاً من التوازن”. 

مصير العامل مرهون بـ500 ألف دينار  

إذا كان قانون العمل واضحاً في الحماية التي يقدمها للعامل من حيث تقنين ساعات العمل وضمان إجازته وأجره، فلماذا باتت ساعات العمل الطوال نمطاً يميز حياة العامل العراقي؟ لماذا لا تُطبق كل هذه المواد التي من شأنها أن تحمي العمال؟  

يحدد قانون العمل العراقي غرامة لا تتجاوز 500 ألف دينار عراقي على صاحب العمل المخالف لبنود قانون العمل. بيد أن هذا المبلغ الزهيد نوعاً ما لا يردع أصحاب العمل في القطاع الخاص، يقول الخبير القانوني محمد جمعة.  

“صاحب العمل هو تاجر، والتاجر أكثر شيء يخاف أن يخسره هو الفلوس، لهذا مبلغ 500 الف دينار لا يؤثر على شركة بشيء بينما لو كانت العقوبة بمبالغ مالية كبيرة لخشي أصحاب العمل من القانون”. 

التهاون في تطبيق قانون العمل يأخذ وجوهاً مختلفة. 

وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مخولة بالإشراف على تطبيق القانون من خلال لجان التفتيش في الوزارات، التي يتوجب أن ترصد المخالفات. ولكنها لا تقوم بذلك إلا إذا قدم العامل شكوى؛ وهي مسألة شائكة بحد ذاتها بسبب قلة معرفة العمال بحقوقهم.  

وفي المرات التي يقوم العامل بتقديم شكوى ترفعها الوزارة الى محكمة العمل، وفي حال تغاضي الوزارة عن ذلك تقوم النقابة برفعها إلى التصنيف المهني النقابي التابع له، وفقاً لرئيس الاتحاد الوطني المركزي لنقابات العمال يسرى الهاشمي. 

يرجح آخرون أن تهاون وزارة العمل بالتفتيش والإشراف على تطبيق القانون قد يعود إلى قلة عدد الكوادر، ولكن الأمر غير واضح، كما أشارت الهاشمي.  

حاولت التواصل مع نجم العقابي المتحدث الرسمي باسم وزارة العمل، الذي أخبرنا أن نرسل له تساؤلاتنا لكن لم نحصل على اي رد بالرغم من اتصالات عديدة، كذلك هو الحال مع أعضاء لجنة العمل في البرلمان الذين لم يُبدوا أي تعاون للحديث عن دور مفتشي الوزارة ومدى فعاليتهم بتطبيق دورهم.  

لكن ما هو مؤكد أن في أماكن عمل معروفة وكبيرة، مثل المولات، فأن أغلب العاملين فيها يقضون ساعات تتجاوز المنصوص عليها بالقانون، ومن بينها القاهرة مول الذي لا يبعد عن وزارة العمل سوى عشر دقائق ولكن لجان التفتيش لا تزوره ولا تحاسب على ساعات تشغيل العاملين هناك، بحسب جمعة. 

لا توجد إحصائية واضحة بعدد مخالفات قانون العمل في ما يخص ساعات العمل بالتحديد، تقول الهاشمي، فعدد الشكاوى التي تصل الاتحاد الوطني المركزي لنقابات العمال متفاوتة، “فقد تصل إلى عشرات الشكاوى في بعض الأيام مقابل لا شيء في أيام أخرى”، لكنها أكدت أن أغلب مواقع العمل المنتظمة التي تشهد مخالفات في ساعات العمل هي المولات والشركات الأمنية. 

وقد تمتلك وزارة العمل إحصائية واضحة لعدد مؤسسات القطاع الخاص المخالفة لقوانين العمل في العراق لكن المتحدث باسم الوزارة لم يجبنا حتى 13 كانون الأول 2023 عن تساؤلاتنا. 

قضى حسن الوردي، أحد عشر عاماً، عاملاً في شركات القطاع الخاص، متنقلاً بين حوالي العشر منها، لم ير خلالها موظفا من مفتشي العمل زار الشركة أو سأل عن الضمان الاجتماعي أو تطبيق قوانين العمل. حسن وغيره من العاملين والعاملات في سوق العمل العراقي وأجيال سبقتهم وقد تأتي تراوح مكانها في طاحونة العمل اللامتناهي دون رقيب أو حسيب.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“أشتغل باليوم الواحد 14 لو 15 ساعة، آني عايش بموقع العمل وطالما عايش بموقع العمل فأني لازم اشتغل على طول، حتى لو كانت الساعة 10 بالليل”، يقول حسن الوردي (33 عاماً) عن عمله في شركة عراقية بميناء أم قصر في البصرة تتخصص في تجهيز الشركات الأجنبية بالخدمات اللوجستية من طعام وشراب وغيره. 

إتقان حسن للغة الإنكليزية كونه حائزاً على ماجستير تربية انكليزي أهّله للعمل في هذا النوع من الشركات التي تكون في العادة متعاقدة مع شركات أجنبية. العمال في هذه الشركات، يقول لنا حسن، يغلقون هواتفهم بعد انتهاء ساعات دوامهم، في حين أن العمال المحليين مثل حسن مطالبون بأن يظلوا متأهبين دائماً في حال وردهم اتصال عمل ملزمين بالرد عليه.  

يُطلب من حسن أن يعمل بمعدل 12 ساعة يومياً ودون عقد يوضح مهامه وحقوقه، ومن بينها الضمان الاجتماعي. لكن هذا الوضع ليس استثنائياً لشركته، ففي “كل شركات القطاع الخاص ماكو شي اسمه احترام للوقت ولأن سكني داخل مقر العمل فلازم أكون متوفر 24 ساعة”. 

 معاناة مشابهة تواجهها مريم رشدي (32 عاماً) التي تعمل مديرة مشاريع في إحدى شركات القطاع الخاص المعنية بتجهيز خدمات الانترنت في مؤسسات الدولة، حيث من المفروض أن تعمل 8 ساعات يومياً، و”لكن إذا نحسبها بالحقيقة هي أكثر”، تقول مريم. 

فالشركة تغلق أبوابها عند الخامسة مساءً، “لكني اضطر لأخذ اللابتوب معي إلى أقرب كافيه إذا كان الطريق إلى المنزل مزدحما، حتى أوفر انترنت وأكمل ساعات العمل الاضافية في الكافيه إذا كنت مكلفة بعمل إضافي”.  

العمل لساعات طويلة وفي أيام الإجازات والعطل هو نمط حياة العامل/ـة والموظف/ـة في العراق، بالذات في القطاع الخاص، والذي يؤثر على حياته الاجتماعية وصحته، ذلك لأسباب عدة أهمها الخوف من البطالة والحاجة للعمل في أكثر من مهنة للقيام بسدّ تكاليف الحياة المتضخمة. 

هل تجذر هذا النمط في حياة العراقي حتى تجاوز حقاً عمرا يربو عن القرن بتحديد ساعات العمل وتقنينها؟  

عمل إضافي غير مدفوع الثمن 

“ماكو شي اسمه أجور مقابل ساعات إضافية لكن أحياناً نحصّل مكافآت”، يقول حسن الذي يعتبر أن الشركة التي يعمل بها تدفع بسخاء مقابل ساعات عمله الإضافية، لكن دون سياسة واضحة لأجور الساعات الإضافية.  

تمنح بعض الشركات الموظفين العاملين فيها أجوراً مقابل ساعات العمل الإضافية وفق بنود واضحة في عقود العمل. “لما كنت موظفة عادية كنت أحصّل اجور إضافية على ساعات العمل الإضافية في إحدى الشركات التي كنت أعمل بها سابقاً، وحين ترقيت في تلك الشركة إلى مدير صرت أعمل بشكل إضافي لإنجاح فريق عملي لكن من دون أي أجور اضافية” تؤكد مريم لجمار. 

ما يعني أن ثمة عدم وضوح بالنسبة لتعاطي شركات القطاع الخاص مع ساعات العمل الإضافية، حيث لا يعرف العمال أو الموظفون إذا ما كانوا سيتقاضون أجوراً مقابل الساعات الإضافية ووفقاً لأي شروط أو معايير، فكثيراً ما يكون ذلك منوطاً بالمشغل ونوع الوظيفة. 

بيد أن قانون العمل العراقي رقم 37 لعام 2015 والذي يسري على القطاع الخاص واضح بهذا الشأن. 

فالمادة 59 تلزم المشغل بـ”إعلام العامل عن العناصر المكونة لأجره قبل التعاقد معه وخصوصاً المخصصات وآلية احتساب بدل العمل الإضافي وغيرها من الزيادات أو الاستقطاعات ومدد الدفع وطريقته ومكان ويوم دفعه ويجب إبلاغه بالمعلومات ذاتها كلما طرأ تغيير على عناصر أجره”. 

كما أنه لا يجوز أن تزيد ساعات العمل عن الثماني ساعات في اليوم والـثماني وأربعين ساعة في الأسبوع وفقاً للمادة 67 (1) لقانون العمل، مع مراعاة استثناءات عديدة يفصلها القانون، كما يفرض القانون استراحة أثناء ساعات العمل ما بين نصف الساعة أو ساعة وفقاً للمادة 68 (1). أما إذا تجاوزت ساعات العمل الوقت المحدد قانونياً، فللعامل أجر إضافي. 

بطبيعة الحال يأخذ القانون واقع عالم العمل الذي يتطلب أحياناً أن يعمل العمال لساعات أطول، فإذا كانت هناك حالات استثنائية تفرض ذلك، تذهب منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل إلى الاتفاق على زيادة ساعات العمل اليومية لفترة زمنية، تكون محددة، ولا يزيد متوسط عدد ساعات العمل الأسبوعي على ثمان وأربعين ساعة، وفق الخبير القانوني محمد جمعة، ورئيسة اتحاد النقابات العمالية يسرى الهاشمي. ما يعني أن العمل لساعات إضافية يكون محددا بفترة ما وليس أن يصبح هو نمط العمل.  

يتوجب على المشغل، الحال هذه، أن يدفع مقابل هذه الساعات الإضافية وفق ما ينصّه القانون. 

لكن بعض المشغلين يلتفون حول مواد القانون ويضعون رواتب بقيمة ما، بحيث يكون جزءاً من الراتب هو الراتب الاسمي الأساسي والجزء الآخر مقابل ساعات إضافية، مثلاً يكون الراتب الكلي 500 ألف دينار، بحيث يحسبها المشغل بأن 300 ألف دينار منها هي أجور اسمية و200 ألف هي أجور الساعات الإضافية. على هذا الأساس يطالب المشغلون العمال بالعمل لساعات إضافية، غير محدد عددها، بتبرير أنها مشمولة أصلاً في الراتب! 

“ماكو شي اسمه مخير” 

ثم أن هناك العمل في أيام الإجازات والعطل والذي لا يكون فرضاً ولكنه ليس خياراً في الوقت ذاته. 

“ماكو شي اسمه مخير..” فقط في حالات مثل المرض والظروف الاستثنائية، “لازم تكسب عاطفتهم” ليرفض العامل أن يتولى عملاً خلال إجازة أو عطلة.  

إلى جانب ذلك، يعلم حسن جيداً أنه في حال رفضه، سيجد صاحب العمل بديلاً له بكل سهولة. 

حصل ذلك معه في أحد الاماكن التي عمل بها، إذ عيّن أصحاب العمل عاملاً مصرياً براتب أقل من راتبه، فيما يلتزم بالبقاء في مقر العمل والمبيت به من دون طلب إجازة ولساعات مفتوحة، ما حدا بحسن بترك عمله آنذاك. 

“باليوم الي اعتذر بي عن العمل بإجازتي أو أيام عطلتي الاسبوعية اجي للدوام اشوف الوجوه مقلوبة” تقول مريم إن لا مواد في عقد عملها تجبرها على العمل أيام العطل والإجازات، لكن الوجه الجاهم لمدير العمل يجعلها تعمل في أيام العطلة إذا ما اتصل مديرها بها.  

“ماكو شي اسمه إجازة أو يوم عطلة، دائما يتصلون أو يرسلون على كروب العمل بالوتساب واما أخلص الشغل بتلفون أو اضطر افتح لابتوبي وانهي العمل حتى بأوقات سفري مع العائلة بالإجازات، حتى من اطلع مع اهلي يكون لابتوبي معي”. 

محمد ماجد (26 عاماً) هو الآخر يعمل لمدة لا تقل عن 12 إلى 13 ساعة في اليوم كأسطة كباب في مطعم بالموصل، “تقريبا اطلع الصبح وعائلتي نايمة وارجع وعائلتي نايمة ومرات عائلتي يتعجبون إذا اكعد الصبح اتريك وياهم”. 

بلا عطل أسبوعية يعمل ماجد، وفي حال أراد الحصول على إجازة أو عطلة فيشترط ألا تكون أيام الخميس والجمعة “لأنها ايام لود”، كما يخصم صاحب المطعم أجرة اليوم الذي يأخذه ماجد عطلة له “باليوم الي أخذ اجازة يجيب صاحب المطعم بديل عني وبيومها ما يصرفلي اجر” يعمل ماجد من دون أجور اضافية في حال زادت ساعات عمله “صاحب العمل يزودني 5 آلاف او 10 آلاف دينار على يوميتي بحالة وحدة إذا صار عنده تجهيز طلب خارجي؛ مؤتمر أو حفلة مثلا”. 

بطبيعة الحال هذه الممارسات مناقضة للحق في الراحة الأسبوعية المدفوعة المنصوص عليها في قانون العمل، والتي بموجبها يستحق العامل راحة أسبوعية لا تقل عن أربع وعشرين ساعة متواصلة بأجر، ويكون يوم الجمعة العطلة الأسبوعية ويجوز تبديله بيوم آخر في الاسبوع. كما تنص أن لصاحب العمل بالاتفاق مع العمال تشغيلهم أيام الراحة الأسبوعية والعطل الرسمية على أن يدفع لهم أجورهم وفقا لقواعد العمل الإضافي وأن يمنحهم يوم راحة في الأسبوع التالي، وفقاً للمادة ٧٠ من القانون. 

نحتاج إلى 12 ساعة من العمل اليومي لننهض اقتصادياً 

ليس المشغل وحده من يدفع العامل للعمل لساعات طوال، بل هو ضيق الحال وغلاء المعيشة في العراق، حيث يضطر أغلب العراقيين للعمل بأكثر من مهنة، ما يؤدي إلى زيادة ساعات عملهم لتصل إلى أكثر من 14 ساعة يومياً. 

موسى (اسم مستعار) (٢٧ عاماً) يعمل منذ أربع سنوات بمهنتين. 

ففي الصباح يعمل موسى داعماً فنياً في شركة خدمات الانترنت بمعدل سبع ساعات، بينما يعمل مساءً بمعدل خمس ساعات في مكتب صيانة حاسبات.  

أسوة بكثيرين مثله، يعمل موسى الحاصل على شهادة البكالوريوس من كلية الآداب / قسم التاريخ في غير تخصصه، والذي درسه محباً وشغوفاً به.  

أسوة بآخرين مثله أيضاً، لم يعرف موسى أن عمله لمدة 12 ساعة مخالف لقانون العمل.. “ما عندي معلومة انه لازم اشتغل فقط 8 ساعات وفق القانون”. 

ولكن الخبير الاقتصادي حيدر عصفور يجد أن “العامل الذي يعمل بأكثر من مجال عمل خلال اليوم عامل نشيط، وهي صفة إيجابية، هذا يعني انه مطلوب بسوق العمل وهي حالة صحية”، بل يدعو إلى زيادة ساعات العمل إلى ساعتين إضافيتين يومياً وتقليص أيام العطل الأسبوعية والرسمية. 

الاقتصاد الوطني يتطلب ذلك، يشير عصفور، حيث يقول إن العامل العراقي يحتاج على الأقل 12 ساعة عمل يومياً لمواكبة الدول المتطورة لأنه يعدّ بطيئاً في تأدية عمله. هذا الأمر يجعل كثراً من أصحاب العمل يفضلون العمال الأجانب لأنهم يعملون ساعات طويلة وبأجور مناسبة وسرعة إنتاج أكبر، علاوة على أن العامل العراقي قد يهدد بالعشيرة في حال وقع خلاف بينه وبين صاحب العمل.   

 كما أشار عصفور إلى أن قوانين العمل بحاجة إلى إنصاف أصحاب العمل أيضاً وليس العمال فحسب، وقد يتعرض صاحب العمل أحياناً للإساءة من قبل العامل أو التقصير لهذا يؤكد على ضرورة تثقيف العامل بقوانين العمل، وأن تكون هذه القوانين محايدة بين العامل وصاحب العمل، بحيث تعمل القوانين المنصفة للطرفين على الضغط على العامل لتحسين أدائه. 

ما يراه عصفور أنه ينعكس ايجاباً على الاقتصاد العراقي، يجده موسى ضرورة لابد منها، فهو مسؤول عن أسرة كاملة، ومطالب بدفع تكاليف المعيشة والايجار والعلاج انه مضطر لممارسة عملين خلال اليوم. 

يسلخه كل هذا عن الحياة الاجتماعية التي يتمنى أن يعيشها.. مؤكداً “نادر ما التقي بأصدقائي، حتى التلفون بالعمل الصباحي ما اكدر استخدمه دائما، وعائلتي تفتقدني لأني مشغول وغير متواجد على طول، بس الشخص الي ينتمي للطبقة الوسطى لازم يشتغل شغلتين حتى يدبر العيشة”. 

حتى في الأعياد والمناسبات موسى مطالب بالعمل في اوقات كثيرة، وهذا بحسبه “مرهق جداً” ويأخذ منه “الكثير من الطاقة”. 

حفلة تعارف مع الأهل”! 

للطب والسلامة النفسية وجهة نظر تختلف تماماً عن نظرة الاقتصاد للموضوع، فالعمل بمعدل 40 ساعة ولمدة خمسة أيام بالأسبوع هو الخيار الأمثل ليتمتع الفرد العامل بصحة جسدية ونفسية جيدة، تقول الدكتورة شيماء الكمالي اخصائية طب الأسرة “في كثير من الدول معدل تشغيل العامل بصورة عامة لا تتجاوز 55 ساعة مع يومين استراحة في الأسبوع.. أما في العراق فتصل ساعات العمل باليوم الواحد في بعض المهن إلى 14 ساعة باليوم مثل المهن العسكرية والأمنية والطبية وغيرها”. 

تؤدي زيادة ساعات العمل إلى الإرهاق وقلة النوم وهذا بدوره يعرض الجسد إلى ضعف مناعي عام ويجعله عرضة للكثير من الأمراض، كما أن الدراسات تؤكد أن العاملين لأكثر من عشر ساعات باليوم معرضون للإصابة بأمراض القلب بنسبة 67 بالمئة، فضلاً عن الأمراض النفسية والإدمان على الكحول والمخدرات، تحذر الكمالي. 

ساعات العمل الطويلة هذه عرّضت موسى إلى انهيار صحي بسبب الإرهاق والتسمم لإهماله أكله ولقلة نومه.  

ولا يؤثر الإفراط بالعمل على الصحة فحسب، بل على العمل ذاته أيضاً!  

فالعاملون لأكثر من عشر ساعات باليوم يعانون من مشاكل في الذاكرة والتركيز ما يؤدي الى انخفاض ملحوظ بإنتاجيتهم، تردف الطبيبة. 

كما أن هناك الأثر النفسي على الموظف بفعل ساعات العمل الإضافية واقحام المشغلين العمل في أيام اجازات وعطل العمال. “العمل بهذه الطريقة يؤثر على صحتي النفسية لكن حبي لعملي يضطرني الى تمشية الشغل، ولأن إذا طلبوا مني شغل بعطلتي وما سويته اجي الكاهم زعلانين”، تشير مريم. 

اعتاد حسن الوردي التواصل مع عائلته يومياً بعد العاشرة ليلاً، كما أنه يقوم بتلبية احتياجاتهم خلال فترة إجازته التي تكون لعشرة أيام والتي يقضيها في محل سكنه وعائلته في ميسان بعد كل 20 يوما من العمل المتواصل، حيث يعود ليجد ضغوطاً كبيرة ومتطلبات كثيرة تنتظره في البيت. ومع اضطراره للعمل في فترة إجازته وعطلته أحياناً،  تفقده كل هذه الضغوطات لذة الإجازة ومتعتها، إذ لا يجد “مجالا لممارسة الرياضة أو قراءة الكتب، أحيانا اختطف ساعة من الزمن لقراءة كتاب، أما هواية السفر التي أحبها فقد حذفت تماما من قاموسي”. 

كان حسن يشكو من غربته عن أصدقائه وعن أسرته، حيث كان كلما عاد إلى أهله من عمله، وجد أنه بعيد جداً عن أصدقائه المقربين “أصبحت لديهم أسرار جديدة وصداقات جديدة وحكايات كثيرة أنا بمعزل عنها لأني لست متواصلا معهم بشكل جيد وهذا أثر بي كثيرا”. 

يذكر حسن “ولد صديقي (عامل مثله لساعات طويلة) قال كلما أنزل أسوي حفلة تعارف وية أهلي لأن ينسوني ورا 28 يوم”! 

في نيسان 2023 اضطر حسن لزيارة معالج نفسي على إثر هذا الاغتراب والإرهاق. 

المعالج النفسي وصف بأن حسن يعيش “غربة داخل البلد” وعليه تغيير روتينه اليومي، لكنه يقول “اشتغل من الساعة 7 صباحا الى 7 ليلاً، واستمر أحيانا بشغل إضافي يومي مرات أبقى لـ10 بالليل لأن يكون عندي هواية عمل لازم انهي بعد ساعات عملي الطبيعية لهذا ما اعرف شلون يكون تغيير الروتين الي طلبه مني المعالج النفسي ماكو أي مجال أصلا للتغيير، حتى طبيب الأسنان أهملته لأنه يحتاج إلى مواصلة ومتابعة مستمرة وماعندي مجال لهالشي”. 

كل هذا ليس غريباً، فالعاملون العراقيون يعانون من اضطرابات اجتماعية بسبب طول ساعات العمل، برأي المعالج النفسي هاتف عبد الرزاق، بحيث “يمكن أن تتأثر الأدوار الأسرية للوالدين ومقدم الرعاية والرفيق الاجتماعي والشريك الجنسي بشدة بسبب ساعات العمل غير العادية مما يؤدي إلى التنافر الزوجي والمشاكل مع الأطفال ومع الأهل والأصحاب”. 

وهذا بالضبط ما حصل مع محمد ماجد الذي يجد نفسه قد بات بعيداً جداً عن أسرته بسبب عمله الذي يستمر إلى 12 أو 13 ساعة يومياً.. يقول محمد “اني مقصر جداً ويه عائلتي واكيد مرات هواية تصير مشاكل.. بس المتطلبات هواية، الإيجار والديون ومتطلبات العائلة”. 

محاولات العامل/ة أو الموظف/ة لترميم علاقاتهم الاجتماعية مع الأسرة والأصحاب والمتأثرة بفعل انقطاعهم بسبب العمل، قد تضرهم بدورها لأنها وبحسب عبد الرزاق قد تؤدي إلى تقليل وقت النوم المتاح للعامل، ما يؤدي إلى ضعف هذه العلاقات. 

وتكثر الأمراض التي تصيب العامل بسبب زيادة ساعات العمل، منها اللامبالاة والخمول وفقدان الاهتمام بالعمل، الأعياء وصعوبة التركيز ومشاكل النوم، وتوتر العضلات والصداء والانطواء الاجتماعي والاكتئاب وتقلب المزاج وفقدان الثقة وجرش الأسنان وقضم الأظافر ونوبات الهلع والوسواس القهري. للوقاية من كل هذا ينصح عبد الرزاق بأن على “العامل أن يعرف كيفية تحديد الأولويات.. ما يوفر الوقت للتركيز على المهام مثل العلاقات داخل العمل وخارجه وممارسة التعاطف مع الذات والاستفادة من الوقت المستقطع خارج العمل وتحديد الاولويات للمهم ثم الأهم ممكن أن يحقق نوعاً من التوازن”. 

مصير العامل مرهون بـ500 ألف دينار  

إذا كان قانون العمل واضحاً في الحماية التي يقدمها للعامل من حيث تقنين ساعات العمل وضمان إجازته وأجره، فلماذا باتت ساعات العمل الطوال نمطاً يميز حياة العامل العراقي؟ لماذا لا تُطبق كل هذه المواد التي من شأنها أن تحمي العمال؟  

يحدد قانون العمل العراقي غرامة لا تتجاوز 500 ألف دينار عراقي على صاحب العمل المخالف لبنود قانون العمل. بيد أن هذا المبلغ الزهيد نوعاً ما لا يردع أصحاب العمل في القطاع الخاص، يقول الخبير القانوني محمد جمعة.  

“صاحب العمل هو تاجر، والتاجر أكثر شيء يخاف أن يخسره هو الفلوس، لهذا مبلغ 500 الف دينار لا يؤثر على شركة بشيء بينما لو كانت العقوبة بمبالغ مالية كبيرة لخشي أصحاب العمل من القانون”. 

التهاون في تطبيق قانون العمل يأخذ وجوهاً مختلفة. 

وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مخولة بالإشراف على تطبيق القانون من خلال لجان التفتيش في الوزارات، التي يتوجب أن ترصد المخالفات. ولكنها لا تقوم بذلك إلا إذا قدم العامل شكوى؛ وهي مسألة شائكة بحد ذاتها بسبب قلة معرفة العمال بحقوقهم.  

وفي المرات التي يقوم العامل بتقديم شكوى ترفعها الوزارة الى محكمة العمل، وفي حال تغاضي الوزارة عن ذلك تقوم النقابة برفعها إلى التصنيف المهني النقابي التابع له، وفقاً لرئيس الاتحاد الوطني المركزي لنقابات العمال يسرى الهاشمي. 

يرجح آخرون أن تهاون وزارة العمل بالتفتيش والإشراف على تطبيق القانون قد يعود إلى قلة عدد الكوادر، ولكن الأمر غير واضح، كما أشارت الهاشمي.  

حاولت التواصل مع نجم العقابي المتحدث الرسمي باسم وزارة العمل، الذي أخبرنا أن نرسل له تساؤلاتنا لكن لم نحصل على اي رد بالرغم من اتصالات عديدة، كذلك هو الحال مع أعضاء لجنة العمل في البرلمان الذين لم يُبدوا أي تعاون للحديث عن دور مفتشي الوزارة ومدى فعاليتهم بتطبيق دورهم.  

لكن ما هو مؤكد أن في أماكن عمل معروفة وكبيرة، مثل المولات، فأن أغلب العاملين فيها يقضون ساعات تتجاوز المنصوص عليها بالقانون، ومن بينها القاهرة مول الذي لا يبعد عن وزارة العمل سوى عشر دقائق ولكن لجان التفتيش لا تزوره ولا تحاسب على ساعات تشغيل العاملين هناك، بحسب جمعة. 

لا توجد إحصائية واضحة بعدد مخالفات قانون العمل في ما يخص ساعات العمل بالتحديد، تقول الهاشمي، فعدد الشكاوى التي تصل الاتحاد الوطني المركزي لنقابات العمال متفاوتة، “فقد تصل إلى عشرات الشكاوى في بعض الأيام مقابل لا شيء في أيام أخرى”، لكنها أكدت أن أغلب مواقع العمل المنتظمة التي تشهد مخالفات في ساعات العمل هي المولات والشركات الأمنية. 

وقد تمتلك وزارة العمل إحصائية واضحة لعدد مؤسسات القطاع الخاص المخالفة لقوانين العمل في العراق لكن المتحدث باسم الوزارة لم يجبنا حتى 13 كانون الأول 2023 عن تساؤلاتنا. 

قضى حسن الوردي، أحد عشر عاماً، عاملاً في شركات القطاع الخاص، متنقلاً بين حوالي العشر منها، لم ير خلالها موظفا من مفتشي العمل زار الشركة أو سأل عن الضمان الاجتماعي أو تطبيق قوانين العمل. حسن وغيره من العاملين والعاملات في سوق العمل العراقي وأجيال سبقتهم وقد تأتي تراوح مكانها في طاحونة العمل اللامتناهي دون رقيب أو حسيب.