لماذا رفعت الحكومة أسعار البنزين؟
 عن العجز المالي وضعف حجة الزحامات 

صباح نعوش

05 حزيران 2024

طبّقت الحكومة قرار رفع سعر البنزين بداعي تقليل الزحامات المرورية، لكن معاينة القرار بدقة، ستكشف أن لا علاقة له بالزحامات..

ازدادت أسعار استهلاك البنزين المُحسّن والممتاز في العراق بنسبة عالية جداً، والهدف الرسميّ المعلن معالجة الزحامات المرورية، في حين أن الدافع الرئيس ماليّ غير مجدٍ يرتبط بالعجز الهائل والمزمن في موازنة الدولة وبالكلفة العالية لاستيراد الوقود. 

في 26 آذار 2024 اتخذ مجلس الوزراء قرارات عدة من بينها قراره المتعلق بـ”معالجة الاختناقات المرورية في بغداد”، والذي تنص فقرته السادسة والأخيرة على زيادة سعر لتر البنزين المحسن من 650 إلى 850 ديناراً، وسعر لتر البنزين الممتاز من 1000 إلى 1250 ديناراً، اعتباراً من بداية أيار 2024، على أن يعاد النظر في هذه الزيادة بعد ثلاثة أشهر. 

يتضمن القرار إجراءات عدة ترتبط بإعادة ترتيب ساعات العمل في الدوائر الرسمية، كما أنه يقضي بزيادة رسوم تسجيل السيارات والرسوم الجمركية المفروضة على استيرادها. 

وهنا لابد من إبداء الملاحظات التالية: 

أولاً: زيادة أسعار البنزين تشمل جميع محافظات العراق، إذ لا يعقل أن تختلف الأسعار بحسب المناطق، في حين أن مشكلة المرور تتعلق ببغداد فقط كما هو واضح من عنوان القرار الحكومي، بمعنى أن سكان المحافظات يتحملون عبئاً مالياً يشبه الغرامة بسبب الزحام في بغداد. 

ثانياً: لما كانت الحكومة ترى أن رفع سعر البنزين يعالج الزحام المروري، يصبح من المنطقي أن يشمل جميع الأصناف، إلا أنه اقتصر على البنزين المحسن والممتاز، أما البنزين العادي فلم يزدد سعره البالغ 450 ديناراً للتر، مع العلم أن 82 بالمئة من البنزين المستهلك في العراق من الصنف العادي. 

ثالثاً: نسبة الزيادة في سعر البنزين المحسن تبلغ 30.7 بالمئة والممتاز 25 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة جاءت دفعة واحدة، في حين جرت العادة في البلدان الأخرى على زيادة الأسعار بنسب ضئيلة حتى لا تشكل صدمة للمستهلكين، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر البنزين في الإمارات في نيسان 2024 من 3.03 درهم إلى 3.15 درهم أي بنسبة 3.9 بالمئة. 

رابعاً: لماذا نص القرار على إعادة النظر في الزيادة بعد ثلاثة أشهر من تطبيقه؟ 

بالنظر إلى الاستياء الشعبي الضعيف، فإن زيادة الأسعار مرشحة للاستمرار، ولاسيما إذا قلّت الزحامات المرورية، أما إن لم تقل فلا يُستبعد أن تلجأ الحكومة إلى زيادة أخرى بداعي أن الزحامات ما زالت موجودة، ومما يشجعها على ذلك أن كلفة اللتر ما تزال أعلى من سعر البيع، فاللتر الواحد من البنزين المُحسَّن يكلف الدولة 1400 دينار، بينما يباع بـ850 ديناراً للمستهلك، كما لا يُستبعد خضوع سعر لتر البنزين العادي للزيادة، إذ أنه يكلف 825 ديناراً، بينما يباع بـ450 ديناراً. 

واستناداً إلى ما سبق، لا توجد في جميع الحالات إشارة إلى إمكانية تخفيض الأسعار، بل العكس تماماً، الأمر الذي يؤثر سلباً على حالة المواطنين الذين أتعبتهم الغرامات المرورية والشوارع المتهالكة والأوقات الضائعة والبنزين المهدور. 

خامساً: مقارنةً مع بلدان عربية، يعادل سعر البنزين في العراق تقريباً سعره في السعودية وقطر، لكنه يصل إلى ضعف السعر في الكويت، علماً أن دخل الفرد في دول الخليج أعلى بكثير من دخل الفرد في العراق، أي أن أية زيادة في أسعار البنزين والسلع الأخرى تقود بالضرورة إلى التأثير سلباً على مستوى معيشة العراقي بصورة أكبر من تأثيرها على مستوى معيشة الخليجي. 

سادساً: خلا القرار الحكومي من الإرشادات الفاعلة، فاقتصر على أسعار البنزين وأوقات العمل في الدوائر الرسمية والرسوم المفروضة على استيراد وتسجيل السيارات، ولم يتضمن النصائح الضرورية المعتمدة لدى البلدان التي تعاني من الزحامات المرورية، وهي -إضافة إلى وسائل النقل الجماعي- تشجيع استخدام الدراجات الهوائية والسير على الأقدام. 

دلت التجارب على فاعلية هذه النصائح في معالجة مشاكل المرور، ولها أيضاً فوائد صحية جمة ودور في تقليص انبعاث الغازات الدفيئة، لكن القرار اكتفى بتلك الإجراءات التي تؤثر على معيشة المواطنين. 

تداعيات اقتصادية 

لارتفاع أسعار البنزين تداعيات اقتصادية سلبية تمس معيشة المواطنين من دون أن يفضي إلى معالجة مشكلة المرور، وتزداد درجة هذه السلبية بسبب تفاقم معدلات التضخم والتزايد المستمر في عدد الفقراء، فقد أصبح هؤلاء يمثلون ربع نفوس العراق بحسب تقديرات وزارة التخطيط، وتلك أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية خطيرة. 

ولكن جهات رسمية ترى أن ارتفاع أسعار البنزين لن يمس الفقراء، لأن هؤلاء يستهلكون البنزين العادي، في حين يستهلك الميسورون البنزين الممتاز والمحسن. 

هذا منطق ضعيف من الزاوية الاقتصادية، وله فقط دلالات سياسية تتمثل في محاولة امتصاص السخط الشعبي، وكأن زيادة أسعار البنزين المُحسّن والبنزين الممتاز ترتبط بالعدالة الاجتماعية. 

الحال هذه، فإن ارتفاع أسعار البنزين يعني بالضرورة تصاعد التكلفة، وبالتالي ارتفاع أجور نقل الأشخاص والبضائع، والفقير يتنقل من مكان إلى آخر مثلما يفعل الميسور، كما أنه مثل غيره يستهلك بضائع بعد نقلها من مكان إلى آخر، وعندئذ يصبح تأثير ارتفاع أسعار البنزين على الفقير أشد من تأثيره على الميسور. 

اقرأ أيضاً

بعد عام 2003: المياه والنفط ومستقبل المناخ في العراق

وبالمقابل، لو كانت السياسة المالية حريصة على تحقيق العدالة الاجتماعية، لكان من الأولى زيادة أسعار الضرائب على الدخل بدلاً من زيادة أسعار البنزين. 

لا شك أن ارتفاع أسعار البنزين غير مرحّب به في العراق، لكن النقد الاجتماعي ينصب على السياسة المالية المعتمدة منذ عقود عدة، والمتسمة بصرف الأموال العامة في ميادين غير إنتاجية. 

يدخل ارتفاع أسعار البنزين في هذا الإطار وليس في تحسين الحالة الصحية والتعليمية والاستثمارية أو في تحقيق العدالة الاجتماعية، وهكذا بات من اللازم تحليل العلاقة بين السياسة المالية وعجز موازنة الدولة الناجم عنها، وبين ارتفاع أسعار البنزين. 

البنزين والعجز 

ما هو دور زيادة أسعار البنزين في تغطية العجز المالي في الموازنة البالغ 64 ترليون دينار؟ في الوقع، لا يوجد في القرار الحكومي أي تقدير لأثر هذه الزيادة، ولكن يمكن استخلاصه على النحو التالي: 

يبلغ استهلاك العراق من البنزين بأصنافه كافة 32 مليون لتر يومياً، 18 بالمئة منه بنزين محسن وبنزين ممتاز، ومن المعلوم أن زيادة الأسعار تنحصر بهذين الصنفين، بمعنى أن الاستهلاك السنوي لهذين الصنفين يبلغ مليارين و102 مليون و400 ألف لتر (32 مليون لتر في اليوم × 18% × 365 يوماً)، وبحسب القرار يبلغ متوسط زيادة الأسعار 225 ديناراً للتر الواحد، عندئذ تصبح الزيادة التقريبية 473 مليار دينار في السنة (عدد اللترات المستهلكة سنوياً × 225 ديناراً). 

لا يغطي هذا المبلغ سوى 0.7 بالمئة من العجز المالي، أي ليس لزيادة أسعار البنزين أهمية تمويلية كبيرة، لكنها على أي حال مردود إضافي. 

كما تظهر أهميتها في جانب آخر يرتبط بالسياسة المالية. يجري تمويل القسط الأكبر من العجز المالي عن طريق القروض الداخلية والخارجية، وتتأتى القروض الخارجية من الحكومات الأجنبية والمؤسسات الدولية، ويعتمد منح القروض الخارجية وتتوقف كلفتها على الجهود التي تبذلها الحكومة لمعالجة العجز المالي وعلى موقف صندوق النقد الدولي من السياسة المالية العراقية. 

زيادة أسعار البنزين تعني تقليص الدعم الحكومي الموجّه للاستهلاك، الأمر الذي يشير إلى أن الحكومة تسعى إلى إصلاح المالية العامة وفق رأي صندوق النقد الدولي، لذلك ومنذ 2004 ينظر الصندوق والدول المانحة لجميع زيادات أسعار البنزين في العراق بارتياح. 

لا ذنب لبرميل النفط 

يرى المسؤولون أن زيادة أسعار البنزين جاءت بسبب ارتفاع أسعار الخام في السوق العالمية، لأن العراق يستورد البنزين المحسن والممتاز، لكن ما مدى صحة هذا الربط؟ 

في شباط 2024 -أي قبل قرار مجلس الوزراء بشهر- كان سعر برميل برنت 82.3 دولار، وفي اليوم الذي اتخذ فيه هذا القرار أصبح السعر 85.2 دولار، بمعنى أن الزيادة بلغت 2.9 دولار للبرميل، ولما كان البرميل يحتوي على 159 لتراً، يصبح معدل زيادة السعر 27 ديناراً للتر (2.9 دولار للبرميل ÷ 159 لتراً للبرميل × 1500 دينار للدولار). 

في حين أن زيادة سعر اللتر المقررة فعلاً 200 دينار في البنزين المحسن و250 ديناراً في البنزين الممتاز، ولا شك أن أسعار الخام استمرت بالارتفاع في نيسان، لكنها لا تصل إطلاقاً إلى الزيادة المفروضة بموجب القرار الحكومي. 

كما لا يلجأ العراق بالضرورة إلى رفع أسعار البنزين نتيجة تصاعد أسعار الخام، ففي عام 2022 ارتفع سعر النفط فبلغت كلفة استيراد اللتر 1700 دينار. وفي 2024 انخفض سعره مقارنة بعام 2022، فهبطت كلفة استيراد اللتر إلى 1400 دينار، وعلى الرغم من ذلك لم تقرر زيادة أسعار استهلاك البنزين في 2022 بل في 2024. 

لما كان العراق من كبار الدول المصدرة للنفط فإن أية زيادة في أسعار الخام في السوق العالمية تحقق له نتائج مالية وتجارية إيجابية، بل تمثل هذه الزيادة العامل الأساس للنمو نظراً لاعتماد جميع الأنشطة الاقتصادية على العوائد النفطية، لذلك يفترض أن تتحسن الأحوال المعيشية للمواطنين نتيجة هذه الزيادة، ومن أوجه التحسن زيادة دعم الطاقة، أي انخفاض أسعار البنزين وليس العكس كما يحدث فعلاً. 

من الناحية العملية، تفاقم العجز المالي لأسباب عديدة منها فاتورة استيراد الوقود، ففي 2018 كانت الدولة تدفع 0.9 ترليون دينار لاستيراده، وفي 2023 ارتفع المبلغ إلى 3.8 ترليون دينار، ولم ينجم هذا الارتفاع عن تصاعد أسعار الخام فقط، بل كذلك وبصورة خاصة عن تزايد حجم استيراد البنزين. 

انهيار القناعة 

يحتل العراق المرتبة العالمية الخامسة في حجم الاحتياطي النفطي المؤكد البالغ 145 مليار برميل. إنه من كبار المنتجين (4.3 ملايين برميل يومياً) والمصدرين (3.4 ملايين برميل يومياً)، وبسبب هذه المكانة المرموقة تولدت قناعة لدى العراقيين بعدم حاجتهم لاستيراد المشتقات النفطية كالبنزين. 

ولكن خلال السنوات العشر الماضية، حدثت تطورات أدت إلى انهيار هذه القناعة، فقد ارتفع الطلب على البنزين ارتفاعاً كبيراً بسبب تزايد عدد السيارات وهبوط إنتاج المصافي، وبتفاعل هذين العاملين أصبح العراق يستورد 80 بالمئة من حاجته إلى البنزين المحسن والممتاز، وهكذا ارتفعت النفقات العامة وتصاعد عجز الموازنة. 

توجد في العراق 19 مصفاة، أهمها مصفاة بيجي التي تعرضت للدمار بسبب الحرب ضد داعش وللسرقة بعد هذه الحرب، وكانت طاقتها 310 آلاف ب/ي، أي ثلث الطاقة التكريرية للبلد، وفي الآونة الأخيرة أعيد تأهيلها ولكن بطاقة لا تتعدى 150 ألف ب/ي، أي نصف طاقتها قبل عام 2014. 

في نهاية المطاف انخفض إنتاج البنزين، فاضطر البلد إلى استيراده، خاصة من إيران والإمارات. 

والعراق ليس البلد النفطي الوحيد المستورد للبنزين، ولكن تكمن خصوصياته في أسباب وكيفية وحجم الاستيراد. 

تشتري ليبيا البنزين من شركة إيطالية، ويمثل استيرادها نحو ربع الاستهلاك المحلي، وهي نسبة تعادل تقريباً النسبة في العراق، ولكن جرت العادة على مقايضة الخام الليبي بالبنزين المستورد، ولا يوجد مثل هذا التنظيم في العراق الذي يدفع بالدولار. 

وتستورد الكويت البنزين لأن كلفة إنتاجه فيها أعلى من سعر استيراده، وهذا سبب أساسي أدى إلى غلق مصفاة الشعيبة في 2017 (تقع الشعيبة الكويتية في جنوب العاصمة وتقع الشعيبة العراقية في غرب البصرة)، في حين لا علاقة لاستيراد البنزين في العراق بالتكلفة بل بضعف القدرة على التكرير. 

كما تستورد السعودية البنزين وهي أكبر منتج ومصدر للخام في أوبك، لكن استيراداتها تمثل قسطاً يسيراً من استهلاكها المحلي، كما يجري الاستيراد في فصل الصيف عندما يشتد الطلب على الطاقة للتبريد، في حين يستورد العراق البنزين طيلة أيام السنة. 

لا تلعب أسعار البنزين دوراً رئيساً في الزحام المروري مقارنة بعوامل عديدة معروفة لدى العراقيين، أبرزها الكثافة السكانية العالية في العاصمة التي وصل عدد سكانها إلى تسعة ملايين نسمة، أي ما يعادل عدد سكان العراق عام 1968، وكثرة السيارات البالغ عددها 3.7 ملايين سيارة، في حين لا تستوعب بغداد أكثر من 400 ألف سيارة وفقاً لمديرية المرور العامة، لأن شوارعها لم تتغير منذ 30 سنة مع تردي الصيانة. 

بدلاً من رفع الأسعار، كان من الأفضل تحسين مقدرة المصافي والاهتمام بالنقل العمومي ومعالجة التأثير السلبي للمناسبات الدينية، وكذلك تقليص النفقات العامة غير الإنتاجية وإصلاح النظام الضريبي لمعالجة العجز المالي المزمن. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

ازدادت أسعار استهلاك البنزين المُحسّن والممتاز في العراق بنسبة عالية جداً، والهدف الرسميّ المعلن معالجة الزحامات المرورية، في حين أن الدافع الرئيس ماليّ غير مجدٍ يرتبط بالعجز الهائل والمزمن في موازنة الدولة وبالكلفة العالية لاستيراد الوقود. 

في 26 آذار 2024 اتخذ مجلس الوزراء قرارات عدة من بينها قراره المتعلق بـ”معالجة الاختناقات المرورية في بغداد”، والذي تنص فقرته السادسة والأخيرة على زيادة سعر لتر البنزين المحسن من 650 إلى 850 ديناراً، وسعر لتر البنزين الممتاز من 1000 إلى 1250 ديناراً، اعتباراً من بداية أيار 2024، على أن يعاد النظر في هذه الزيادة بعد ثلاثة أشهر. 

يتضمن القرار إجراءات عدة ترتبط بإعادة ترتيب ساعات العمل في الدوائر الرسمية، كما أنه يقضي بزيادة رسوم تسجيل السيارات والرسوم الجمركية المفروضة على استيرادها. 

وهنا لابد من إبداء الملاحظات التالية: 

أولاً: زيادة أسعار البنزين تشمل جميع محافظات العراق، إذ لا يعقل أن تختلف الأسعار بحسب المناطق، في حين أن مشكلة المرور تتعلق ببغداد فقط كما هو واضح من عنوان القرار الحكومي، بمعنى أن سكان المحافظات يتحملون عبئاً مالياً يشبه الغرامة بسبب الزحام في بغداد. 

ثانياً: لما كانت الحكومة ترى أن رفع سعر البنزين يعالج الزحام المروري، يصبح من المنطقي أن يشمل جميع الأصناف، إلا أنه اقتصر على البنزين المحسن والممتاز، أما البنزين العادي فلم يزدد سعره البالغ 450 ديناراً للتر، مع العلم أن 82 بالمئة من البنزين المستهلك في العراق من الصنف العادي. 

ثالثاً: نسبة الزيادة في سعر البنزين المحسن تبلغ 30.7 بالمئة والممتاز 25 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة جاءت دفعة واحدة، في حين جرت العادة في البلدان الأخرى على زيادة الأسعار بنسب ضئيلة حتى لا تشكل صدمة للمستهلكين، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر البنزين في الإمارات في نيسان 2024 من 3.03 درهم إلى 3.15 درهم أي بنسبة 3.9 بالمئة. 

رابعاً: لماذا نص القرار على إعادة النظر في الزيادة بعد ثلاثة أشهر من تطبيقه؟ 

بالنظر إلى الاستياء الشعبي الضعيف، فإن زيادة الأسعار مرشحة للاستمرار، ولاسيما إذا قلّت الزحامات المرورية، أما إن لم تقل فلا يُستبعد أن تلجأ الحكومة إلى زيادة أخرى بداعي أن الزحامات ما زالت موجودة، ومما يشجعها على ذلك أن كلفة اللتر ما تزال أعلى من سعر البيع، فاللتر الواحد من البنزين المُحسَّن يكلف الدولة 1400 دينار، بينما يباع بـ850 ديناراً للمستهلك، كما لا يُستبعد خضوع سعر لتر البنزين العادي للزيادة، إذ أنه يكلف 825 ديناراً، بينما يباع بـ450 ديناراً. 

واستناداً إلى ما سبق، لا توجد في جميع الحالات إشارة إلى إمكانية تخفيض الأسعار، بل العكس تماماً، الأمر الذي يؤثر سلباً على حالة المواطنين الذين أتعبتهم الغرامات المرورية والشوارع المتهالكة والأوقات الضائعة والبنزين المهدور. 

خامساً: مقارنةً مع بلدان عربية، يعادل سعر البنزين في العراق تقريباً سعره في السعودية وقطر، لكنه يصل إلى ضعف السعر في الكويت، علماً أن دخل الفرد في دول الخليج أعلى بكثير من دخل الفرد في العراق، أي أن أية زيادة في أسعار البنزين والسلع الأخرى تقود بالضرورة إلى التأثير سلباً على مستوى معيشة العراقي بصورة أكبر من تأثيرها على مستوى معيشة الخليجي. 

سادساً: خلا القرار الحكومي من الإرشادات الفاعلة، فاقتصر على أسعار البنزين وأوقات العمل في الدوائر الرسمية والرسوم المفروضة على استيراد وتسجيل السيارات، ولم يتضمن النصائح الضرورية المعتمدة لدى البلدان التي تعاني من الزحامات المرورية، وهي -إضافة إلى وسائل النقل الجماعي- تشجيع استخدام الدراجات الهوائية والسير على الأقدام. 

دلت التجارب على فاعلية هذه النصائح في معالجة مشاكل المرور، ولها أيضاً فوائد صحية جمة ودور في تقليص انبعاث الغازات الدفيئة، لكن القرار اكتفى بتلك الإجراءات التي تؤثر على معيشة المواطنين. 

تداعيات اقتصادية 

لارتفاع أسعار البنزين تداعيات اقتصادية سلبية تمس معيشة المواطنين من دون أن يفضي إلى معالجة مشكلة المرور، وتزداد درجة هذه السلبية بسبب تفاقم معدلات التضخم والتزايد المستمر في عدد الفقراء، فقد أصبح هؤلاء يمثلون ربع نفوس العراق بحسب تقديرات وزارة التخطيط، وتلك أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية خطيرة. 

ولكن جهات رسمية ترى أن ارتفاع أسعار البنزين لن يمس الفقراء، لأن هؤلاء يستهلكون البنزين العادي، في حين يستهلك الميسورون البنزين الممتاز والمحسن. 

هذا منطق ضعيف من الزاوية الاقتصادية، وله فقط دلالات سياسية تتمثل في محاولة امتصاص السخط الشعبي، وكأن زيادة أسعار البنزين المُحسّن والبنزين الممتاز ترتبط بالعدالة الاجتماعية. 

الحال هذه، فإن ارتفاع أسعار البنزين يعني بالضرورة تصاعد التكلفة، وبالتالي ارتفاع أجور نقل الأشخاص والبضائع، والفقير يتنقل من مكان إلى آخر مثلما يفعل الميسور، كما أنه مثل غيره يستهلك بضائع بعد نقلها من مكان إلى آخر، وعندئذ يصبح تأثير ارتفاع أسعار البنزين على الفقير أشد من تأثيره على الميسور. 

اقرأ أيضاً

بعد عام 2003: المياه والنفط ومستقبل المناخ في العراق

وبالمقابل، لو كانت السياسة المالية حريصة على تحقيق العدالة الاجتماعية، لكان من الأولى زيادة أسعار الضرائب على الدخل بدلاً من زيادة أسعار البنزين. 

لا شك أن ارتفاع أسعار البنزين غير مرحّب به في العراق، لكن النقد الاجتماعي ينصب على السياسة المالية المعتمدة منذ عقود عدة، والمتسمة بصرف الأموال العامة في ميادين غير إنتاجية. 

يدخل ارتفاع أسعار البنزين في هذا الإطار وليس في تحسين الحالة الصحية والتعليمية والاستثمارية أو في تحقيق العدالة الاجتماعية، وهكذا بات من اللازم تحليل العلاقة بين السياسة المالية وعجز موازنة الدولة الناجم عنها، وبين ارتفاع أسعار البنزين. 

البنزين والعجز 

ما هو دور زيادة أسعار البنزين في تغطية العجز المالي في الموازنة البالغ 64 ترليون دينار؟ في الوقع، لا يوجد في القرار الحكومي أي تقدير لأثر هذه الزيادة، ولكن يمكن استخلاصه على النحو التالي: 

يبلغ استهلاك العراق من البنزين بأصنافه كافة 32 مليون لتر يومياً، 18 بالمئة منه بنزين محسن وبنزين ممتاز، ومن المعلوم أن زيادة الأسعار تنحصر بهذين الصنفين، بمعنى أن الاستهلاك السنوي لهذين الصنفين يبلغ مليارين و102 مليون و400 ألف لتر (32 مليون لتر في اليوم × 18% × 365 يوماً)، وبحسب القرار يبلغ متوسط زيادة الأسعار 225 ديناراً للتر الواحد، عندئذ تصبح الزيادة التقريبية 473 مليار دينار في السنة (عدد اللترات المستهلكة سنوياً × 225 ديناراً). 

لا يغطي هذا المبلغ سوى 0.7 بالمئة من العجز المالي، أي ليس لزيادة أسعار البنزين أهمية تمويلية كبيرة، لكنها على أي حال مردود إضافي. 

كما تظهر أهميتها في جانب آخر يرتبط بالسياسة المالية. يجري تمويل القسط الأكبر من العجز المالي عن طريق القروض الداخلية والخارجية، وتتأتى القروض الخارجية من الحكومات الأجنبية والمؤسسات الدولية، ويعتمد منح القروض الخارجية وتتوقف كلفتها على الجهود التي تبذلها الحكومة لمعالجة العجز المالي وعلى موقف صندوق النقد الدولي من السياسة المالية العراقية. 

زيادة أسعار البنزين تعني تقليص الدعم الحكومي الموجّه للاستهلاك، الأمر الذي يشير إلى أن الحكومة تسعى إلى إصلاح المالية العامة وفق رأي صندوق النقد الدولي، لذلك ومنذ 2004 ينظر الصندوق والدول المانحة لجميع زيادات أسعار البنزين في العراق بارتياح. 

لا ذنب لبرميل النفط 

يرى المسؤولون أن زيادة أسعار البنزين جاءت بسبب ارتفاع أسعار الخام في السوق العالمية، لأن العراق يستورد البنزين المحسن والممتاز، لكن ما مدى صحة هذا الربط؟ 

في شباط 2024 -أي قبل قرار مجلس الوزراء بشهر- كان سعر برميل برنت 82.3 دولار، وفي اليوم الذي اتخذ فيه هذا القرار أصبح السعر 85.2 دولار، بمعنى أن الزيادة بلغت 2.9 دولار للبرميل، ولما كان البرميل يحتوي على 159 لتراً، يصبح معدل زيادة السعر 27 ديناراً للتر (2.9 دولار للبرميل ÷ 159 لتراً للبرميل × 1500 دينار للدولار). 

في حين أن زيادة سعر اللتر المقررة فعلاً 200 دينار في البنزين المحسن و250 ديناراً في البنزين الممتاز، ولا شك أن أسعار الخام استمرت بالارتفاع في نيسان، لكنها لا تصل إطلاقاً إلى الزيادة المفروضة بموجب القرار الحكومي. 

كما لا يلجأ العراق بالضرورة إلى رفع أسعار البنزين نتيجة تصاعد أسعار الخام، ففي عام 2022 ارتفع سعر النفط فبلغت كلفة استيراد اللتر 1700 دينار. وفي 2024 انخفض سعره مقارنة بعام 2022، فهبطت كلفة استيراد اللتر إلى 1400 دينار، وعلى الرغم من ذلك لم تقرر زيادة أسعار استهلاك البنزين في 2022 بل في 2024. 

لما كان العراق من كبار الدول المصدرة للنفط فإن أية زيادة في أسعار الخام في السوق العالمية تحقق له نتائج مالية وتجارية إيجابية، بل تمثل هذه الزيادة العامل الأساس للنمو نظراً لاعتماد جميع الأنشطة الاقتصادية على العوائد النفطية، لذلك يفترض أن تتحسن الأحوال المعيشية للمواطنين نتيجة هذه الزيادة، ومن أوجه التحسن زيادة دعم الطاقة، أي انخفاض أسعار البنزين وليس العكس كما يحدث فعلاً. 

من الناحية العملية، تفاقم العجز المالي لأسباب عديدة منها فاتورة استيراد الوقود، ففي 2018 كانت الدولة تدفع 0.9 ترليون دينار لاستيراده، وفي 2023 ارتفع المبلغ إلى 3.8 ترليون دينار، ولم ينجم هذا الارتفاع عن تصاعد أسعار الخام فقط، بل كذلك وبصورة خاصة عن تزايد حجم استيراد البنزين. 

انهيار القناعة 

يحتل العراق المرتبة العالمية الخامسة في حجم الاحتياطي النفطي المؤكد البالغ 145 مليار برميل. إنه من كبار المنتجين (4.3 ملايين برميل يومياً) والمصدرين (3.4 ملايين برميل يومياً)، وبسبب هذه المكانة المرموقة تولدت قناعة لدى العراقيين بعدم حاجتهم لاستيراد المشتقات النفطية كالبنزين. 

ولكن خلال السنوات العشر الماضية، حدثت تطورات أدت إلى انهيار هذه القناعة، فقد ارتفع الطلب على البنزين ارتفاعاً كبيراً بسبب تزايد عدد السيارات وهبوط إنتاج المصافي، وبتفاعل هذين العاملين أصبح العراق يستورد 80 بالمئة من حاجته إلى البنزين المحسن والممتاز، وهكذا ارتفعت النفقات العامة وتصاعد عجز الموازنة. 

توجد في العراق 19 مصفاة، أهمها مصفاة بيجي التي تعرضت للدمار بسبب الحرب ضد داعش وللسرقة بعد هذه الحرب، وكانت طاقتها 310 آلاف ب/ي، أي ثلث الطاقة التكريرية للبلد، وفي الآونة الأخيرة أعيد تأهيلها ولكن بطاقة لا تتعدى 150 ألف ب/ي، أي نصف طاقتها قبل عام 2014. 

في نهاية المطاف انخفض إنتاج البنزين، فاضطر البلد إلى استيراده، خاصة من إيران والإمارات. 

والعراق ليس البلد النفطي الوحيد المستورد للبنزين، ولكن تكمن خصوصياته في أسباب وكيفية وحجم الاستيراد. 

تشتري ليبيا البنزين من شركة إيطالية، ويمثل استيرادها نحو ربع الاستهلاك المحلي، وهي نسبة تعادل تقريباً النسبة في العراق، ولكن جرت العادة على مقايضة الخام الليبي بالبنزين المستورد، ولا يوجد مثل هذا التنظيم في العراق الذي يدفع بالدولار. 

وتستورد الكويت البنزين لأن كلفة إنتاجه فيها أعلى من سعر استيراده، وهذا سبب أساسي أدى إلى غلق مصفاة الشعيبة في 2017 (تقع الشعيبة الكويتية في جنوب العاصمة وتقع الشعيبة العراقية في غرب البصرة)، في حين لا علاقة لاستيراد البنزين في العراق بالتكلفة بل بضعف القدرة على التكرير. 

كما تستورد السعودية البنزين وهي أكبر منتج ومصدر للخام في أوبك، لكن استيراداتها تمثل قسطاً يسيراً من استهلاكها المحلي، كما يجري الاستيراد في فصل الصيف عندما يشتد الطلب على الطاقة للتبريد، في حين يستورد العراق البنزين طيلة أيام السنة. 

لا تلعب أسعار البنزين دوراً رئيساً في الزحام المروري مقارنة بعوامل عديدة معروفة لدى العراقيين، أبرزها الكثافة السكانية العالية في العاصمة التي وصل عدد سكانها إلى تسعة ملايين نسمة، أي ما يعادل عدد سكان العراق عام 1968، وكثرة السيارات البالغ عددها 3.7 ملايين سيارة، في حين لا تستوعب بغداد أكثر من 400 ألف سيارة وفقاً لمديرية المرور العامة، لأن شوارعها لم تتغير منذ 30 سنة مع تردي الصيانة. 

بدلاً من رفع الأسعار، كان من الأفضل تحسين مقدرة المصافي والاهتمام بالنقل العمومي ومعالجة التأثير السلبي للمناسبات الدينية، وكذلك تقليص النفقات العامة غير الإنتاجية وإصلاح النظام الضريبي لمعالجة العجز المالي المزمن.