دليل النجاة من نسيب الحجي 

حسن شهد

04 كانون الثاني 2024

وجود الكمّ الكبير من "نسايب الحجي" في مواقع مهمّة من دوائر الدولة أو في القطاع الخاص، يكشف لنا عن جيشٍ من المعتلّين الذين يمارسون اعتلالهم على المجتمع.. لكن ما هي آثارهم؟

ماذا يفعل العراقي بعد أن يرفضه حضن الدولة الواسع؟ سيلجأ إلى حضن القطاع الخاص. لكن لو فكرت بمن يتحكّم في القطاع الخاص؟ من هو موظف HR هناك؟ سننتهي إلى جواب أن المالك بالضرورة هو نفسه الـHR، ودائماً ما يترك وظائف الإدارة لأقاربه، وللأسف هذه المعادلة تقدم لنا مديرين غير مهنيين وسايكوباثيين على الأغلب، حيث يصل الرجل على رأس الهرم الوظيفي، والذي سيكون بعيداً عن تخصصه، ليجد نفسه يرأس فريقاً لمهنة لا يملك أي خبرة فيها، ولا يعرف بتقنيّاتها، مع فريق من الموظفين الحرفيين يملكون خبرات في التخصص الذين يشغلونه. 

لذا، يجد المدير نفسه غير قادر على فهم الطريقة التي يسير فيها العمل، فيستعيّن بسلطته في فرض الأوامر والإساءة للموظفين، ليثبت لنفسه أنه أعلى من هؤلاء الموظفين “الصغار”. 

وأحياناً يضطر إلى الوقوف بوجه أيّ إجراء إداري لا يفقه فيه، مثلاً، عملت مع مدير لا يعرف كيف يستعمل الحاسوب اللوحي، واضطر إلى إتلافه، وترك العمل “بالسستم” والعودة إلى تنظيم معاملاتنا المحاسبية بالورقة والقلم، كان “السستم” بالنسبة إليه يمثل سلطة أعلى من سلطته، ويهدّد قيمته الوجودية في تلك البيئة. 

وسرعان ما يتحوّل هذا المدير، من وظيفته الحقيقية كـ”حلال” للمشاكل التي يواجهها الموظفون، إلى صانع لها ومفاقم منها. 

كل شيء بيده  

هذا هو عالم القطاع الخاص، إذ لا حماية للموظف والعامل، وأغلب الأشغال والمهن غير مسجلة في الدولة، ولا يملك الموظفون أيّ أوراق في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية؛ ولذلك يقع الموظف العراقي رهينة “نسيب الحجي”، الذي دائماً ما يكون المرشح الأول لإدارة الشركة، بالإضافة إلى أن العامل أو الموظف يدرك تماماً خطورة أن يتنازل عن موقعه في العمل، مع ارتفاع نسبة الفقر والبطالة داخل العراق. 

في محاولتي لفهم كيف يتصرف “نسباء الحجي” ومعرفة كيف يمكننا تفادي الاشتباك معهم، حاولت أن أحيط بأغلب الأبحاث التي أجريت حول تصرف السايكوباثيين في العمل، وسأعتمد على نحو تام على ملاحظات روبرت سوتون، أستاذ زائر في علم الإدارة بجامعة ستانفورد، وهي ملاحظات يمكن أن تكون دليلاً للتعامل مع نسيب الحجي: 

  1. حاول أن تغري الأحمق بأن يبتعد عنك قليلاً لينشغل بعمل آخر.1 
  1. حاول أن تبتعد عنهم، اختر مكاناً يصعب فيه أن يتواصل الأحمق معك بالعين، مثل الجلوس إلى الجانب الآخر من الطاولة أو في الغرفة الثانية. 
  1. المراوغة والتملص، حاول تجنب مواجهتهم أو إذا كانت هناك فرصة للمغادرة مبكراً فافعلها. 
  1. أسلوب إبطاء الإيقاع. حاول أن تتأخر في الرد على رسائل الأحمق، واجعل لقاءك به نادراً. 
  1. جرب أن تكون مملاً، أو أن يكون كلامك قليلاً وغير واضح، وتصرف ببلادة وفتور. 
  1. استعن بمدير ثانوي أو موظف آخر ليكون بينك وبينه. 
  1. الذهاب إلى الكواليس للحصول على بعض الراحة المؤقتة والتعافي من كلامه المسموم. 

النطاق الأوسع لنسيب الحجي 

في الغالب يشعر الأحمق أو نسيب الحجي بالغيرة ممن يعمل معهم لفقدانه القدرة على تعلم المهارات، لذلك يحاول أن يلغي الفارق بينه وباقي الموظفين بالتسلط عليهم وإصدار الأوامر، ويرغب بالكثير من التملق، لإثبات ذاته. 

لذا، فإن أحد أكبر العوائق أمام تأسيس مكان عمل رائع هو وجود مدراء حمقى؛ فسلوكهم يشكل بيئة عمل عدائية؛ تؤدي إلى تقليل شعور الموظفين بالانتماء والولاء، ومن ثم انخفاض إنتاجيتهم2.  

 لا تخلو وزارات الدولة والدوائر الحكومية طبعا من نموذج نسيب الحجي أو نسيب الحزب، وهذا بالذات يعتقد أنه مدير على كل العراقيين. 

حدثني خضر العبيدي، وهو محامٍ، أنه أثناء مراجعته لهيئة التقاعد لتخليص معاملة راتب تقاعدي لأحد الجنود المستحقين، طلب منه موظف في دائرة التقاعد العسكرية أن ينتظر من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً فقط ليضع توقيعه على المعاملة، مع أن الموظف لم يكن لديه مراجعون آخرون. 

كان خضر يجلس بمكان يتيح له مراقبة الموظف، والتأكد من أنه غير مشغول بعمل آخر، لذا حاول التحدث معه عند الساعة العاشرة ليردّ عليه نسيب الحجي “قلت لك الساعة الواحدة”. بينما دائرة التقاعد التي تبدو كصندوق كبير مغلف، يُحتجز فيه المتقاعدون لساعات طويلة، ويعد المكان بؤرة لانتقال الامراض، وذلك بسبب ضيق المساحة الموجودة بالنسبة لكمية المراجعين هناك. 

وبعد أن شعر المحامي بالإرهاق والتعب، حيث أنه قد قدم من محافظة الديوانية وللمرة العاشرة خلال شهرين ليتمم إجراءات المعاملة، عاود الكرة في الساعة الواحدة إلا ربع، ورد عليه الموظف بالجواب نفسه. وعندما جاءت الواحدة ابتسم ابتسامة عريضة، وقال للمحامي أنه قد وقع المعاملة منذ الساعة الثامنة، وجعله ينتظر كلّ هذا الوقت. 

افعال نسيب الحجي يمكن أن تدفع المواطن إلى أن يشعر بانفصال تام عن هويته الوطنية، وربما يدعوه لأن يشعر أنه مهان في بلده، ويفكر حرفيا بالانتقام منه، لأنه لم يحمِ كرامته واسمه. 

وجود هذا الكمّ الكبير من “نسايب الحجي” في مواقع مهمة من دوائر الدولة أو في إدارة القطاع الخاص، يكشف لنا عن جيش من المعتلين الذين يمارسون اعتلالهم على المجتمع. 

نسيب في كل معاملة 


تحول العراق إلى ميدان لـ”أنساب الحجي”، ففي كل معاملة للدولة تجد صف المواطنين الطويل في انتظار إنجاز معاملاتهم، بينما موظف الدولة أو عقيد المرور والعسكري الذي يعمل في مركز المعلومات يوقف هذا الطابور الطويل، لينجز معاملات أشخاص آخرين، من أنساب حجاج متباينين، نسيب رجل دين أو نسيب ضابط صديق له، وربما نسيب مديره المباشر، بينما تترك الناس تحت سقائف “الجينكو” تنتظر في طابور لا يتحرك. 

هناك الكثير من العاملين، ربما سيدفعهم ضغط هؤلاء المعتلين للانتحار أو التصرف برعونة ورد العداء بطريقة قاسية أيضاً، إذ يتمادى هؤلاء ليحولوا اليوم العادي إلى ساعات من الديستوبيا المكثفة. 

يعمل سامي محمد في مؤسسة إعلامية، يديرها مدير تنفيذي يبني علاقة سامة وغريبة بعض الشيء مع موظفيه، إذ يفضل موظفين على آخرين ليس على أساس مستواهم المعرفي أو التزامهم في العمل، بل على قدرتهم بالتناغم مع مزاجه المتقلب. 

عليك إذا أردت أن تستمر في عملك أن تلتزم القواعد الذهبية الآتية، أن تأكل بالقرب منه كل يوم، والأفضل أن تجتمع على طاولته، وعلى أن تأكل مما يحب هو أن يأكله، صدر دجاج مشوي دون إضافات، لو أنه لاحظ أنك طلبت أكلاً آخر غير الذي يحبه هو، سيكون عليك أن تتحمل عقابا حادا، وربما إذا تكرر الأمر سيصل بك الأمر إلى الطرد. 

“نسيب الحجي” هذا، يربي مخلصين له، يغريهم بمكافآت متعدّدة، يعملون بشكل سري في التنصت على أحاديث الموظفين وتسجيل تلك الأحاديث وإرسالها له. لدى هذا الرجل قائمة طويلة من أسماء موظفين تم رفضهم بقرار منه، ويفتخر بهذه القائمة كأنها إنجازه الوحيد في هذه الدنيا، فطالما تحدث أن الموظف فلان قد تم طرده بقرار منه، وحتى أن مدير المؤسسة لم يراجع قرار الطرد ذلك، واعتمد كل الاعتماد عليه في اتخاذه. 

الرجل الذي يطالب الناس بالولاء القسري، إلى حد أن يطالبهم بالولاء لنوع غدائه، هذا منبوذ اجتماعيا خارج دائرة العمل، ولا يحظى بأي رفقة.  

الحياة الخاصة للرجل، يحوّل ضغطها على الموظفين ليعملوا ساعات إضافية خارج أوقات عملهم. 

حتى الجواريب! 

الجوارب التي يحبّها صادق علي، سبّبت له مشكلة دامت شهراً، فمديره في محل بيع المواد الغذائية في الشورجة، طلب منه أن يرتدي جوارب طويلة وبلون يختلف عن لون اليوم الذي يسبقه، وقد أجبره على ذلك لمدة شهر، عقابا لما فعله صادق، والذي لم يجرم بشيء سوى أنه ارتدى جوارب قصيرة، والتي تمثل عند مديره، “رمز للمياعة وقلة الأدب”، وقد هدده بالطرد إذا لم ينفذ أوامره. 

أسس محمد صباح شركة للإعلان والتسويق، بعد أن عمل موظفاً في السابق، ومن خلال مراقبته لبيئة العمل في القطاع الخاص في العراق، تحدّث عن جانب المدير والإدارة. “يمكن أن يكون تأثير المدير الطارئ، الذي يعتمد على المحسوبية والعلاقات الشخصية قوياً على إنتاجية الشركة”. 

وفق صباح، قد يتجلى ذلك في تفضيل المدير للأفراد الذين لديهم صلة قرابة به، أو تعارف معه على حساب الكفاءة. مثلاً، قد تتم ترقية شخص غير كفء لمنصب مهم، بسبب هذه العلاقة، وهذا الأمر يحدث على نحو جلي في بلدنا، تحديدا كون عقلية المحسوبية والثقة في القريب كما يعتقدون هي الأهم، وليس الجدارة والإمكانيات والاجتهاد الذي يخدم به الموظف الشركة. 

جمع محمد صباح، من خلال خبرته، بعض النصائح للتعامل مع المدراء “ذوي المحسوبية”: 

 
أولاً: الابتعاد عن التعامل الشخصي: حاول التركيز على الأمور المهنية وتقديم العمل الجيد بدلاً من التورط في مشكلات شخصية. 

 
ثانياً: توثيق التواصل، احتفظ بسجل للرسائل والاجتماعات معه، لتجنب تحريف الحقائق في ما بعد. 

 
ثالثاً: التعاون مع الزملاء، بناء علاقات جيدة مع زملائك يمكن أن يقوي دعمك، ويحد من تأثير المدير السايكوباثي. 

 
رابعاً: الاحتفاظ بالهدوء، تجنب الرد بعاطفة على سلوك المدير والتعامل بحكمة واحترام. 

الإحاطة بالحمقى 

في عام 2011، نشر وليم جيبسون، مؤلف الخيال العلمي الشهير، تغريدة عبر موقع تويتر انتشرت كالنار في الهشيم، وهي “قبل أن تعتقد أنك مريض بالاكتئاب، أو تقلل من احترامك لذاتك، تأكد أولاً أنك لست محاطا بالحمقى”. 

لذا، يجب الحذر أيضاً، من أن التعامل مع الحمقى يكون معديا، وربما ستنتهي إلى أن تكون أحمق جديدا، فقد أثبتت دراسة أجريت عام 2012 كيف يمكن لهذه السمة البغيضة من أن تنتقل من شخص إلى آخر؛ فكبار القادة المتعسفين يختارون أمثالهم، ويكونون فرقاً من المتعسفين، وهؤلاء بدورهم يتسببون في حدوث صراعات مدمرة في فريق العمل، ما يؤدي بدوره إلى قتل روح الإبداع والانتماء للعمل3

وفي سوق العمل العراقي بالتحديد، تجري عملية لتفريغ شحنات العنف التي تعرضت لها ثلاثة أجيال: جيل شارك في حرب إيران وحرب الكويت، وجيل شهد الحرب الطائفية والحرب مع “داعش”، وجيل ذاق العنف في ثورة تشرين. كلّ هذه الأجيال الثلاث تتواجه اليوم في ميدان العمل، دون محكم أو حامٍ لحقوق ومصالح تلك الأجيال. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

ماذا يفعل العراقي بعد أن يرفضه حضن الدولة الواسع؟ سيلجأ إلى حضن القطاع الخاص. لكن لو فكرت بمن يتحكّم في القطاع الخاص؟ من هو موظف HR هناك؟ سننتهي إلى جواب أن المالك بالضرورة هو نفسه الـHR، ودائماً ما يترك وظائف الإدارة لأقاربه، وللأسف هذه المعادلة تقدم لنا مديرين غير مهنيين وسايكوباثيين على الأغلب، حيث يصل الرجل على رأس الهرم الوظيفي، والذي سيكون بعيداً عن تخصصه، ليجد نفسه يرأس فريقاً لمهنة لا يملك أي خبرة فيها، ولا يعرف بتقنيّاتها، مع فريق من الموظفين الحرفيين يملكون خبرات في التخصص الذين يشغلونه. 

لذا، يجد المدير نفسه غير قادر على فهم الطريقة التي يسير فيها العمل، فيستعيّن بسلطته في فرض الأوامر والإساءة للموظفين، ليثبت لنفسه أنه أعلى من هؤلاء الموظفين “الصغار”. 

وأحياناً يضطر إلى الوقوف بوجه أيّ إجراء إداري لا يفقه فيه، مثلاً، عملت مع مدير لا يعرف كيف يستعمل الحاسوب اللوحي، واضطر إلى إتلافه، وترك العمل “بالسستم” والعودة إلى تنظيم معاملاتنا المحاسبية بالورقة والقلم، كان “السستم” بالنسبة إليه يمثل سلطة أعلى من سلطته، ويهدّد قيمته الوجودية في تلك البيئة. 

وسرعان ما يتحوّل هذا المدير، من وظيفته الحقيقية كـ”حلال” للمشاكل التي يواجهها الموظفون، إلى صانع لها ومفاقم منها. 

كل شيء بيده  

هذا هو عالم القطاع الخاص، إذ لا حماية للموظف والعامل، وأغلب الأشغال والمهن غير مسجلة في الدولة، ولا يملك الموظفون أيّ أوراق في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية؛ ولذلك يقع الموظف العراقي رهينة “نسيب الحجي”، الذي دائماً ما يكون المرشح الأول لإدارة الشركة، بالإضافة إلى أن العامل أو الموظف يدرك تماماً خطورة أن يتنازل عن موقعه في العمل، مع ارتفاع نسبة الفقر والبطالة داخل العراق. 

في محاولتي لفهم كيف يتصرف “نسباء الحجي” ومعرفة كيف يمكننا تفادي الاشتباك معهم، حاولت أن أحيط بأغلب الأبحاث التي أجريت حول تصرف السايكوباثيين في العمل، وسأعتمد على نحو تام على ملاحظات روبرت سوتون، أستاذ زائر في علم الإدارة بجامعة ستانفورد، وهي ملاحظات يمكن أن تكون دليلاً للتعامل مع نسيب الحجي: 

  1. حاول أن تغري الأحمق بأن يبتعد عنك قليلاً لينشغل بعمل آخر.1 
  1. حاول أن تبتعد عنهم، اختر مكاناً يصعب فيه أن يتواصل الأحمق معك بالعين، مثل الجلوس إلى الجانب الآخر من الطاولة أو في الغرفة الثانية. 
  1. المراوغة والتملص، حاول تجنب مواجهتهم أو إذا كانت هناك فرصة للمغادرة مبكراً فافعلها. 
  1. أسلوب إبطاء الإيقاع. حاول أن تتأخر في الرد على رسائل الأحمق، واجعل لقاءك به نادراً. 
  1. جرب أن تكون مملاً، أو أن يكون كلامك قليلاً وغير واضح، وتصرف ببلادة وفتور. 
  1. استعن بمدير ثانوي أو موظف آخر ليكون بينك وبينه. 
  1. الذهاب إلى الكواليس للحصول على بعض الراحة المؤقتة والتعافي من كلامه المسموم. 

النطاق الأوسع لنسيب الحجي 

في الغالب يشعر الأحمق أو نسيب الحجي بالغيرة ممن يعمل معهم لفقدانه القدرة على تعلم المهارات، لذلك يحاول أن يلغي الفارق بينه وباقي الموظفين بالتسلط عليهم وإصدار الأوامر، ويرغب بالكثير من التملق، لإثبات ذاته. 

لذا، فإن أحد أكبر العوائق أمام تأسيس مكان عمل رائع هو وجود مدراء حمقى؛ فسلوكهم يشكل بيئة عمل عدائية؛ تؤدي إلى تقليل شعور الموظفين بالانتماء والولاء، ومن ثم انخفاض إنتاجيتهم2.  

 لا تخلو وزارات الدولة والدوائر الحكومية طبعا من نموذج نسيب الحجي أو نسيب الحزب، وهذا بالذات يعتقد أنه مدير على كل العراقيين. 

حدثني خضر العبيدي، وهو محامٍ، أنه أثناء مراجعته لهيئة التقاعد لتخليص معاملة راتب تقاعدي لأحد الجنود المستحقين، طلب منه موظف في دائرة التقاعد العسكرية أن ينتظر من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً فقط ليضع توقيعه على المعاملة، مع أن الموظف لم يكن لديه مراجعون آخرون. 

كان خضر يجلس بمكان يتيح له مراقبة الموظف، والتأكد من أنه غير مشغول بعمل آخر، لذا حاول التحدث معه عند الساعة العاشرة ليردّ عليه نسيب الحجي “قلت لك الساعة الواحدة”. بينما دائرة التقاعد التي تبدو كصندوق كبير مغلف، يُحتجز فيه المتقاعدون لساعات طويلة، ويعد المكان بؤرة لانتقال الامراض، وذلك بسبب ضيق المساحة الموجودة بالنسبة لكمية المراجعين هناك. 

وبعد أن شعر المحامي بالإرهاق والتعب، حيث أنه قد قدم من محافظة الديوانية وللمرة العاشرة خلال شهرين ليتمم إجراءات المعاملة، عاود الكرة في الساعة الواحدة إلا ربع، ورد عليه الموظف بالجواب نفسه. وعندما جاءت الواحدة ابتسم ابتسامة عريضة، وقال للمحامي أنه قد وقع المعاملة منذ الساعة الثامنة، وجعله ينتظر كلّ هذا الوقت. 

افعال نسيب الحجي يمكن أن تدفع المواطن إلى أن يشعر بانفصال تام عن هويته الوطنية، وربما يدعوه لأن يشعر أنه مهان في بلده، ويفكر حرفيا بالانتقام منه، لأنه لم يحمِ كرامته واسمه. 

وجود هذا الكمّ الكبير من “نسايب الحجي” في مواقع مهمة من دوائر الدولة أو في إدارة القطاع الخاص، يكشف لنا عن جيش من المعتلين الذين يمارسون اعتلالهم على المجتمع. 

نسيب في كل معاملة 


تحول العراق إلى ميدان لـ”أنساب الحجي”، ففي كل معاملة للدولة تجد صف المواطنين الطويل في انتظار إنجاز معاملاتهم، بينما موظف الدولة أو عقيد المرور والعسكري الذي يعمل في مركز المعلومات يوقف هذا الطابور الطويل، لينجز معاملات أشخاص آخرين، من أنساب حجاج متباينين، نسيب رجل دين أو نسيب ضابط صديق له، وربما نسيب مديره المباشر، بينما تترك الناس تحت سقائف “الجينكو” تنتظر في طابور لا يتحرك. 

هناك الكثير من العاملين، ربما سيدفعهم ضغط هؤلاء المعتلين للانتحار أو التصرف برعونة ورد العداء بطريقة قاسية أيضاً، إذ يتمادى هؤلاء ليحولوا اليوم العادي إلى ساعات من الديستوبيا المكثفة. 

يعمل سامي محمد في مؤسسة إعلامية، يديرها مدير تنفيذي يبني علاقة سامة وغريبة بعض الشيء مع موظفيه، إذ يفضل موظفين على آخرين ليس على أساس مستواهم المعرفي أو التزامهم في العمل، بل على قدرتهم بالتناغم مع مزاجه المتقلب. 

عليك إذا أردت أن تستمر في عملك أن تلتزم القواعد الذهبية الآتية، أن تأكل بالقرب منه كل يوم، والأفضل أن تجتمع على طاولته، وعلى أن تأكل مما يحب هو أن يأكله، صدر دجاج مشوي دون إضافات، لو أنه لاحظ أنك طلبت أكلاً آخر غير الذي يحبه هو، سيكون عليك أن تتحمل عقابا حادا، وربما إذا تكرر الأمر سيصل بك الأمر إلى الطرد. 

“نسيب الحجي” هذا، يربي مخلصين له، يغريهم بمكافآت متعدّدة، يعملون بشكل سري في التنصت على أحاديث الموظفين وتسجيل تلك الأحاديث وإرسالها له. لدى هذا الرجل قائمة طويلة من أسماء موظفين تم رفضهم بقرار منه، ويفتخر بهذه القائمة كأنها إنجازه الوحيد في هذه الدنيا، فطالما تحدث أن الموظف فلان قد تم طرده بقرار منه، وحتى أن مدير المؤسسة لم يراجع قرار الطرد ذلك، واعتمد كل الاعتماد عليه في اتخاذه. 

الرجل الذي يطالب الناس بالولاء القسري، إلى حد أن يطالبهم بالولاء لنوع غدائه، هذا منبوذ اجتماعيا خارج دائرة العمل، ولا يحظى بأي رفقة.  

الحياة الخاصة للرجل، يحوّل ضغطها على الموظفين ليعملوا ساعات إضافية خارج أوقات عملهم. 

حتى الجواريب! 

الجوارب التي يحبّها صادق علي، سبّبت له مشكلة دامت شهراً، فمديره في محل بيع المواد الغذائية في الشورجة، طلب منه أن يرتدي جوارب طويلة وبلون يختلف عن لون اليوم الذي يسبقه، وقد أجبره على ذلك لمدة شهر، عقابا لما فعله صادق، والذي لم يجرم بشيء سوى أنه ارتدى جوارب قصيرة، والتي تمثل عند مديره، “رمز للمياعة وقلة الأدب”، وقد هدده بالطرد إذا لم ينفذ أوامره. 

أسس محمد صباح شركة للإعلان والتسويق، بعد أن عمل موظفاً في السابق، ومن خلال مراقبته لبيئة العمل في القطاع الخاص في العراق، تحدّث عن جانب المدير والإدارة. “يمكن أن يكون تأثير المدير الطارئ، الذي يعتمد على المحسوبية والعلاقات الشخصية قوياً على إنتاجية الشركة”. 

وفق صباح، قد يتجلى ذلك في تفضيل المدير للأفراد الذين لديهم صلة قرابة به، أو تعارف معه على حساب الكفاءة. مثلاً، قد تتم ترقية شخص غير كفء لمنصب مهم، بسبب هذه العلاقة، وهذا الأمر يحدث على نحو جلي في بلدنا، تحديدا كون عقلية المحسوبية والثقة في القريب كما يعتقدون هي الأهم، وليس الجدارة والإمكانيات والاجتهاد الذي يخدم به الموظف الشركة. 

جمع محمد صباح، من خلال خبرته، بعض النصائح للتعامل مع المدراء “ذوي المحسوبية”: 

 
أولاً: الابتعاد عن التعامل الشخصي: حاول التركيز على الأمور المهنية وتقديم العمل الجيد بدلاً من التورط في مشكلات شخصية. 

 
ثانياً: توثيق التواصل، احتفظ بسجل للرسائل والاجتماعات معه، لتجنب تحريف الحقائق في ما بعد. 

 
ثالثاً: التعاون مع الزملاء، بناء علاقات جيدة مع زملائك يمكن أن يقوي دعمك، ويحد من تأثير المدير السايكوباثي. 

 
رابعاً: الاحتفاظ بالهدوء، تجنب الرد بعاطفة على سلوك المدير والتعامل بحكمة واحترام. 

الإحاطة بالحمقى 

في عام 2011، نشر وليم جيبسون، مؤلف الخيال العلمي الشهير، تغريدة عبر موقع تويتر انتشرت كالنار في الهشيم، وهي “قبل أن تعتقد أنك مريض بالاكتئاب، أو تقلل من احترامك لذاتك، تأكد أولاً أنك لست محاطا بالحمقى”. 

لذا، يجب الحذر أيضاً، من أن التعامل مع الحمقى يكون معديا، وربما ستنتهي إلى أن تكون أحمق جديدا، فقد أثبتت دراسة أجريت عام 2012 كيف يمكن لهذه السمة البغيضة من أن تنتقل من شخص إلى آخر؛ فكبار القادة المتعسفين يختارون أمثالهم، ويكونون فرقاً من المتعسفين، وهؤلاء بدورهم يتسببون في حدوث صراعات مدمرة في فريق العمل، ما يؤدي بدوره إلى قتل روح الإبداع والانتماء للعمل3

وفي سوق العمل العراقي بالتحديد، تجري عملية لتفريغ شحنات العنف التي تعرضت لها ثلاثة أجيال: جيل شارك في حرب إيران وحرب الكويت، وجيل شهد الحرب الطائفية والحرب مع “داعش”، وجيل ذاق العنف في ثورة تشرين. كلّ هذه الأجيال الثلاث تتواجه اليوم في ميدان العمل، دون محكم أو حامٍ لحقوق ومصالح تلك الأجيال.