"الحمّام العراقي".. من آدم وصدام حسين إلى حائط اليوريا 

إيهاب شغيدل

18 تشرين الثاني 2023

يفرض الحمَّام قصته، في الحياة والسياسة والموروث والسينما، يفرض على المدن حضوره وغيابه أيضاً. وراء كل حمّام قصة، ويجب عدم التفريق بين المرحاض والحمّام وخلطهما عند الحديث كونهما قد اختلطا في الواقع بمكان واحد.. "الحمّام العراقي".. من آدم وصدام حسين إلى حائط اليوريا.

تعالج شمس العراق صيفاً بالمياه، أثناء ما تغطس الشمس على رؤوس المارة، تغطس الأجساد في الماء مثلما تفعل الأسماك. صيفاً نتحول إلى كائنات تسبح فحسب، “بالصيف انزنجر من كد ما أسبح”، فمن غير الممكن المحافظة على رائحة جسدك ورونقه لو أجبرت على المشي لمدة 5 دقائق، ذلك هو الوقت المثالي للانزعاج من نفسك. 

يفكر الإنسان بنظافته، بنية المدينة تسهم في ذلك، ليس هذا فقط، لو كنت دقيقاً، بعض الأحيان يتطلب الأمر مسح حذائي في بغداد من 5 إلى 7 مرات في اليوم، بغداد مدينة الغبار، صفراء بالمعنى اللوني وليس المجازي، يعرف كل من زار المدن الخضراء، أن بغداد نوع جيد من الكركم لو كان العالم مطبخاً. 

نستنشق الغبار، وحين يحول الصيف المدينة إلى مدفأة، لا توجد المرافق التي تجعل يومك لائقاً، في بغداد لم تتوفر مرافق عامة تتناسب وعدد السكان وحجم حركة الناس، غالباً تتوفر الحمامات العمومية في المناطق التجارية أو قلب العاصمة فقط: الباب الشرقي، شارع السعدون، كراج النهضة. 

على امتداد مدينة الصدر ليس هناك حمّام عمومي غير “حمّام المدينة” الذي يشبه حمّام حجي مهدي في الكرادة، غالباً لا توجد في المدن السكنية وعلى وشوارعها العامة خدمات من النوع هذا. 

صيف المدينة يجعلنا مائعين، للاستعارة، “العرق بالصيف أكثر من مي دجلة”، هل يمكن للمدن أن تدفع تجاه القذارة؟ نعم يحصل ذلك أحياناً. 

اشتهرت بغداد العصر العباسي ببناء الحمامات، وقدر عددها بنحو 10 آلاف حمام، وتشير بعض المصادر إلى أن العدد قد وصل إلى 30 ألف حمام. صدّرت الحمامات لحضارات كانت تعتبر الاغتسال في الماء خطيئة، والعدد الآن يكاد يقترب من العشرين فحسب!  

تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن الدولة التي فيها أعلى كثافة للحمامات العامة هي أيسلندا: 56 مرحاضاً لكل 100 ألف نسمة. ويكفيلد هي المدينة البريطانية التي يوجد بها أكبر عدد من الحمامات 35 حماماً لكل 100 ألف نسمة ولكل 100 كيلومتر مربع 130 حماماً. 

في وقت ما كانت الحكاية معاكسة، يقول ساندرو ماراي في كتابه “اعترافات بورجوازي”: إن “الأوربيين كانوا يعتبرون أن الاستحمام كفر”. 

الحمام من آدم وصدام حسين إلى التطهير 

يفرض الحمام قصته، في الحياة والسياسة والموروث والسينما، يفرض على المدن حضوره وغيابه أيضاً. وراء كل حمام قصة، ويجب عدم التفريق بين المرحاض والحمّام وخلطهما عند الحديث كونهما قد اختلطا في الواقع بمكان واحد. 

يفتتح لؤي حمزة عباس كتابه “المراحيض” بعبارة صادمة وغير قابلة للاحتواء والتوقع، “منذ أن استل جبرائيل وسطيه من است آدم”، ويحيل بذلك لإشارة وردت في قصص الأنبياء للسيد نعمة الله الجزائري التي توضح ما يمكن اعتبارها أزمة وجودية حيرت آدم، فحين أكمل طعامه، كانت طبيعته البشرية ناقصة، ودورته الحياتية لم تكتمل بعد، سأل جبرائيل، الذي وجد له الحل، يقول الجزائري “وقال إن آدم لما هبط من الجنة وأكل من الطعام وجد في بطنه ثقلا فشكا إلى جبرائيل فقال يا آدم تنح، فنحاه فأحدث وخرج منه الثفل”، وهكذا اكتملت الدورة الحيوية للإنسان، وما صار يخرج يحتاج مكانا خاصا، المرحاض، أو الحمام كما في تسميته الأوسع. 

اغتيل هنري الثالث وهو يتغوّط، بينما تحتوي بعض حمامات صدام حسين على حنفيات من ذهب، وليست من قبيل الصدفة أن تصمم شركة” MBDA “صواريخ ” STORM SHADOW “قبل عقدين من الزمن لضرب صدام حسين في حمامه، ووفقا لأحد المشاركين في تطوير الصاروخ، فهو يسمح للمخططين العسكريين بالاستفادة من المعلومات الاستخباراتية المحتملة لضرب أهداف دقيقة، مثل كلمة أن “الديكتاتور العراقي حسين كان في حمام عميق داخل أحد قصوره”، وهذا الصاروخ حقق نسبة نجاح 100 بالمئة في إصابة هدفه المقصود حين دخل حيز الاستخدام في الحرب الأوكرانية الروسية. 

الحمام إذن مرتبط بالسياسة، لذلك رفع متظاهرو تشرين شعاراً لا يمكن نسيانه “ضراط لحد يضرط نريد وطناً”. 

الحمام الأول 

كان منزل قديم ومتهالك وسط مدينة الثورة ببغداد، أجبرنا على ترميمه مراتٍ لا تحصى، في المرة الأخيرة قبل الهدم النهائي، بني في الباحة الخارجية حمام، بعد انهيار الحمام القديم، في اليوم التالي، قبل الذهاب للمدرسة، كنت أول من استخدم الحمام المريح والجديد ذاك، وبقيت لفترة طويلة، أشعر بنوع من الرضا، أنني أول من استخدم هذا الحمام، الحمام الذي انهار أمام عضلات هادمي البيوت في عام 2004 وأصبح شيئاً من الذكرى. حتى الآن أتذكر لون الأرضية البرتقالي، والجدران البيضاء وحنفية الماء البرونزية، في ذلك الحمام فكرت للمرة الأولى أن الأمر لا يقتصر على التبوّل والتغوّط، ثمة مهام أخرى للحمام: كالتفكير مثلاً في كرة القدم أو التخطيط لفخ سيقع فيه أحد أطفال الحي لاحقاً، لقد اكتشفت أن ثمة مكاناً للتفكير غير الليل والفراش. 

يتداول الناس قصصاً غريبة ومسلية عن الحمامات، قصص تبدو للوهلة الأولى أقرب للخيال منها للواقع، كقصة حمام الباب الشرقي التي سمعتها ذات مرة ولا أعرف فيما إذا كانت دعابة شعبية أو حقيقة: 

دخل أحدهم إلى حمام عمومي في الباب الشرقي وسط بغداد، وعادة يوجه الإنسان نظره إلى الأمام عند استخدام الحمام، وجد على الباب قبالته مكتوب “انظر إلى اليمين”، فنظر ووجد على يمينه جملة “انظر إلى اليسار“، وجه نظره إلى اليسار، وجد عبارة بخط كبير، “انظر الخلف”، فوجد جملة في الخلف “انظر للأعلى”، رفع رأسه محاولا إيجاد نهاية للقصة فوجد عبارة كبيرة مكتوبة على السقف “بول لا تبقى تتلفت“. 

يستثمر الحمام أيضاً في النكات الشعبية وفي سياق الحديث اليومي؛ وعادة يستخدم للحط من قدر الأشياء أو الناس أو للتقليل من الشأن، كجملة “روح بول ونام” التي توجه لمن يقول تصوراً، أو فكرة خاطئة، أو خيالية، أو ما شابه ذلك، ولا يقتصر الأمر على هذه، لكن مكونات الحمام أيضاً تستخدم كشتيمة “ابن الخراء”، “خراء بأهلك”، لا ينتهي توليف تلك الجملة طالما المرء غاضب، يمكنه استخدام كل شيء في الحمام في لحظة التعصب. 

تقسم الحمامات الناس بشكل طبقي، هناك حمام ملكي وحمام للمدير وحمام للرئيس، مع هذا يستمر الماء صديقاً للجسد، في الوقت نفسه ضغط جسدك من أجل حاجة التبوّل، وعليك التعرض للحرج ومسك بطنك كما فعل آدم. 

حمام الجامع 

في روايته “خضر قد والعصر الزيتوني” أخرج الروائي نصيف فلك أحد الأفعال المرتبطة بالحمام: “الضرطة” لكتابة قصة الأسى العراقي في الحرب العراقية الإيرانية، أثناء ما كان يستريح أحد عمال المشفى تأتي إليه عربة محملة بجنود قتلى عراقيين، لكنه وقت فرز وتنظيم الجثث، يسمع “ضرطة” وهذا فعل حيوي لا يصدر إلا من كائن حي، فيبقى يفتش بين الجثث إلى أن يجد جندي حي لكنه مغطى بالدم، يجري له اللازم، ويمسح الدم من على جسده ويضعه في السرير، ثم يطلق جملته التي لا يمكن نسيانها “يالعظمة الحياة حين يكون الدليل الوحيد على وجودك هو الضرطة”، فهذا الفعل الحيوي كان دليلاً على وجود إنسان حي. 

حكاية أصدقائي من الحمام تبدو مغايرة، أيام الدراسة الإعدادية، قرر مجموعة منهم الذهاب إلى بيت دعارة، وبعد أسبوع من محاولة تنظيم العملية، جاء اليوم المنشود، جاء أحدهم بسيارة والده، وحشرهم من أجل الذهاب إلى بيت المتعة، في الطريق سألهم الأكثر خبرة، “هل استمنيتم؟”، أحيط الجميع بشيء من الصمت والغرابة، فما الداعي للاستمناء ما دمنا سنذهب للمضاجعة، قال الخبير: ستكون متعتكم قليلة، ما هي إلا ثوان ويقذف أحدكم، يفترض أن تفعلوا ذلك حتى “تأخذون” هناك وقتاً أكثر من أجل القذف. 

اقرأ أيضاً

“الماء يعني كل شيء”.. هجرة سكّان وحيوانات الأهوار من الفراديس إلى المُدن

ما الحل؟ صاح أحدهم، لنجد طريقة، بالمصادفة كانت السيارة أثناء ذلك قد وصلت أحد الجوامع الشاخصة وسط المدينة، بنوع من الحياء والخفة اقترح أحدهم، “ننزل نضرب جلق بحمام الجامع”، وقبل أن يفكر أحدهم في العقاب والثواب توزّع وفد “الجلاقة” على الحمامات وخرجوا مسرعين إلى السيارة التي ذهبت بهم إلى بيت السيدة هبة أم بغداد الجديدة. 

حمّام الإبداع 

للحمام أسماء متعددة ولا يمكن حصرها، العمليات التي تجري داخل الحمام أيضا لها أسماء لا حصر لها: السكارى مثلا يسمون التبول “زي الناس” البعض يسمي عملية التبول شعبياً وبشكل رمزي “بب بي”، يطلق على الحمام في المدارس غرفة الرطوبة أو بيت الرطوبة، البغداديون يطلقون تسمية الخلاء، قبل أن تدمج الخلاء مع الحمام ليصبح اسمهما معا حمام، بعض الناس تسميه بيت التفكير وآخرون يسمونه بيت الراحة، ومرة سمعت أحد الأصدقاء في الوسط الثقافي يطلق على الحمام تسمية نادرة وغير متوقعة فهو يسمّيه “غار الفلاسفة”، في دلالة على أن الحمام ينزل فيه وحي الإبداع كما يفسر، ويورد أحد الأصدقاء حكاية طريفة عن كيف يرى الشاعر العراقي عقيل علي أسلوب الكتابة، فعقيل يعتقد أن للحمام دوراً فيها، فالذي يسبح بالدوش يكتب بطريقة تختلف عمن يسبح بالبانيو ويختلف هؤلاء بطريقة الكتابة عمن يسبح بـ”الطشت والطاسة”. الكتابة مقرونة بأسلوب حياة المرء. 

يشير العديد من الأصدقاء من حولنا -خصوصا ممن يشتغلون في حقل الإبداع كالأدب والفن والكتابة- إلى أن بعض الأفكار غير المتوقعة والمتوهجة تأتي في الحمام، مقابل ذلك لا يمكن للإنسان أن يفعل أي شيء بشكل مريح عندما يلح عليه جسده ويطلب الذهاب لقضاء الحاجة في الحمام، فكمْ كنا نحرج عندما كنا صغارا وكان الجسد لا يساعد على إخفاء الحقيقة، لقد كبرنا وصرنا نعرف كيف نتهرب من ضغط الجسد وإلحاحه، صرنا أكثر قدرة على إخفاء حاجاتنا، وأكثر مهارة بالتعامل مع رغبتنا الأصلية، رغبة الذهاب إلى الحمام. 

لأسباب ليست مجهولة يتبول سكارى الشارع الذي يربط ساحة كهرمانة بساحة الأندلس على جدار كراج السيارات، أطلقنا للسخرية مرة على الحائط اسم “حائط اليوريا”. 

وحائط اليوريا ذاك، يدعو لبناء حمامات في المدينة، من أجل المحافظة على درجة من الحياة وسط درجات حرارة تقترب من 50 درجة مئوية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تعالج شمس العراق صيفاً بالمياه، أثناء ما تغطس الشمس على رؤوس المارة، تغطس الأجساد في الماء مثلما تفعل الأسماك. صيفاً نتحول إلى كائنات تسبح فحسب، “بالصيف انزنجر من كد ما أسبح”، فمن غير الممكن المحافظة على رائحة جسدك ورونقه لو أجبرت على المشي لمدة 5 دقائق، ذلك هو الوقت المثالي للانزعاج من نفسك. 

يفكر الإنسان بنظافته، بنية المدينة تسهم في ذلك، ليس هذا فقط، لو كنت دقيقاً، بعض الأحيان يتطلب الأمر مسح حذائي في بغداد من 5 إلى 7 مرات في اليوم، بغداد مدينة الغبار، صفراء بالمعنى اللوني وليس المجازي، يعرف كل من زار المدن الخضراء، أن بغداد نوع جيد من الكركم لو كان العالم مطبخاً. 

نستنشق الغبار، وحين يحول الصيف المدينة إلى مدفأة، لا توجد المرافق التي تجعل يومك لائقاً، في بغداد لم تتوفر مرافق عامة تتناسب وعدد السكان وحجم حركة الناس، غالباً تتوفر الحمامات العمومية في المناطق التجارية أو قلب العاصمة فقط: الباب الشرقي، شارع السعدون، كراج النهضة. 

على امتداد مدينة الصدر ليس هناك حمّام عمومي غير “حمّام المدينة” الذي يشبه حمّام حجي مهدي في الكرادة، غالباً لا توجد في المدن السكنية وعلى وشوارعها العامة خدمات من النوع هذا. 

صيف المدينة يجعلنا مائعين، للاستعارة، “العرق بالصيف أكثر من مي دجلة”، هل يمكن للمدن أن تدفع تجاه القذارة؟ نعم يحصل ذلك أحياناً. 

اشتهرت بغداد العصر العباسي ببناء الحمامات، وقدر عددها بنحو 10 آلاف حمام، وتشير بعض المصادر إلى أن العدد قد وصل إلى 30 ألف حمام. صدّرت الحمامات لحضارات كانت تعتبر الاغتسال في الماء خطيئة، والعدد الآن يكاد يقترب من العشرين فحسب!  

تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن الدولة التي فيها أعلى كثافة للحمامات العامة هي أيسلندا: 56 مرحاضاً لكل 100 ألف نسمة. ويكفيلد هي المدينة البريطانية التي يوجد بها أكبر عدد من الحمامات 35 حماماً لكل 100 ألف نسمة ولكل 100 كيلومتر مربع 130 حماماً. 

في وقت ما كانت الحكاية معاكسة، يقول ساندرو ماراي في كتابه “اعترافات بورجوازي”: إن “الأوربيين كانوا يعتبرون أن الاستحمام كفر”. 

الحمام من آدم وصدام حسين إلى التطهير 

يفرض الحمام قصته، في الحياة والسياسة والموروث والسينما، يفرض على المدن حضوره وغيابه أيضاً. وراء كل حمام قصة، ويجب عدم التفريق بين المرحاض والحمّام وخلطهما عند الحديث كونهما قد اختلطا في الواقع بمكان واحد. 

يفتتح لؤي حمزة عباس كتابه “المراحيض” بعبارة صادمة وغير قابلة للاحتواء والتوقع، “منذ أن استل جبرائيل وسطيه من است آدم”، ويحيل بذلك لإشارة وردت في قصص الأنبياء للسيد نعمة الله الجزائري التي توضح ما يمكن اعتبارها أزمة وجودية حيرت آدم، فحين أكمل طعامه، كانت طبيعته البشرية ناقصة، ودورته الحياتية لم تكتمل بعد، سأل جبرائيل، الذي وجد له الحل، يقول الجزائري “وقال إن آدم لما هبط من الجنة وأكل من الطعام وجد في بطنه ثقلا فشكا إلى جبرائيل فقال يا آدم تنح، فنحاه فأحدث وخرج منه الثفل”، وهكذا اكتملت الدورة الحيوية للإنسان، وما صار يخرج يحتاج مكانا خاصا، المرحاض، أو الحمام كما في تسميته الأوسع. 

اغتيل هنري الثالث وهو يتغوّط، بينما تحتوي بعض حمامات صدام حسين على حنفيات من ذهب، وليست من قبيل الصدفة أن تصمم شركة” MBDA “صواريخ ” STORM SHADOW “قبل عقدين من الزمن لضرب صدام حسين في حمامه، ووفقا لأحد المشاركين في تطوير الصاروخ، فهو يسمح للمخططين العسكريين بالاستفادة من المعلومات الاستخباراتية المحتملة لضرب أهداف دقيقة، مثل كلمة أن “الديكتاتور العراقي حسين كان في حمام عميق داخل أحد قصوره”، وهذا الصاروخ حقق نسبة نجاح 100 بالمئة في إصابة هدفه المقصود حين دخل حيز الاستخدام في الحرب الأوكرانية الروسية. 

الحمام إذن مرتبط بالسياسة، لذلك رفع متظاهرو تشرين شعاراً لا يمكن نسيانه “ضراط لحد يضرط نريد وطناً”. 

الحمام الأول 

كان منزل قديم ومتهالك وسط مدينة الثورة ببغداد، أجبرنا على ترميمه مراتٍ لا تحصى، في المرة الأخيرة قبل الهدم النهائي، بني في الباحة الخارجية حمام، بعد انهيار الحمام القديم، في اليوم التالي، قبل الذهاب للمدرسة، كنت أول من استخدم الحمام المريح والجديد ذاك، وبقيت لفترة طويلة، أشعر بنوع من الرضا، أنني أول من استخدم هذا الحمام، الحمام الذي انهار أمام عضلات هادمي البيوت في عام 2004 وأصبح شيئاً من الذكرى. حتى الآن أتذكر لون الأرضية البرتقالي، والجدران البيضاء وحنفية الماء البرونزية، في ذلك الحمام فكرت للمرة الأولى أن الأمر لا يقتصر على التبوّل والتغوّط، ثمة مهام أخرى للحمام: كالتفكير مثلاً في كرة القدم أو التخطيط لفخ سيقع فيه أحد أطفال الحي لاحقاً، لقد اكتشفت أن ثمة مكاناً للتفكير غير الليل والفراش. 

يتداول الناس قصصاً غريبة ومسلية عن الحمامات، قصص تبدو للوهلة الأولى أقرب للخيال منها للواقع، كقصة حمام الباب الشرقي التي سمعتها ذات مرة ولا أعرف فيما إذا كانت دعابة شعبية أو حقيقة: 

دخل أحدهم إلى حمام عمومي في الباب الشرقي وسط بغداد، وعادة يوجه الإنسان نظره إلى الأمام عند استخدام الحمام، وجد على الباب قبالته مكتوب “انظر إلى اليمين”، فنظر ووجد على يمينه جملة “انظر إلى اليسار“، وجه نظره إلى اليسار، وجد عبارة بخط كبير، “انظر الخلف”، فوجد جملة في الخلف “انظر للأعلى”، رفع رأسه محاولا إيجاد نهاية للقصة فوجد عبارة كبيرة مكتوبة على السقف “بول لا تبقى تتلفت“. 

يستثمر الحمام أيضاً في النكات الشعبية وفي سياق الحديث اليومي؛ وعادة يستخدم للحط من قدر الأشياء أو الناس أو للتقليل من الشأن، كجملة “روح بول ونام” التي توجه لمن يقول تصوراً، أو فكرة خاطئة، أو خيالية، أو ما شابه ذلك، ولا يقتصر الأمر على هذه، لكن مكونات الحمام أيضاً تستخدم كشتيمة “ابن الخراء”، “خراء بأهلك”، لا ينتهي توليف تلك الجملة طالما المرء غاضب، يمكنه استخدام كل شيء في الحمام في لحظة التعصب. 

تقسم الحمامات الناس بشكل طبقي، هناك حمام ملكي وحمام للمدير وحمام للرئيس، مع هذا يستمر الماء صديقاً للجسد، في الوقت نفسه ضغط جسدك من أجل حاجة التبوّل، وعليك التعرض للحرج ومسك بطنك كما فعل آدم. 

حمام الجامع 

في روايته “خضر قد والعصر الزيتوني” أخرج الروائي نصيف فلك أحد الأفعال المرتبطة بالحمام: “الضرطة” لكتابة قصة الأسى العراقي في الحرب العراقية الإيرانية، أثناء ما كان يستريح أحد عمال المشفى تأتي إليه عربة محملة بجنود قتلى عراقيين، لكنه وقت فرز وتنظيم الجثث، يسمع “ضرطة” وهذا فعل حيوي لا يصدر إلا من كائن حي، فيبقى يفتش بين الجثث إلى أن يجد جندي حي لكنه مغطى بالدم، يجري له اللازم، ويمسح الدم من على جسده ويضعه في السرير، ثم يطلق جملته التي لا يمكن نسيانها “يالعظمة الحياة حين يكون الدليل الوحيد على وجودك هو الضرطة”، فهذا الفعل الحيوي كان دليلاً على وجود إنسان حي. 

حكاية أصدقائي من الحمام تبدو مغايرة، أيام الدراسة الإعدادية، قرر مجموعة منهم الذهاب إلى بيت دعارة، وبعد أسبوع من محاولة تنظيم العملية، جاء اليوم المنشود، جاء أحدهم بسيارة والده، وحشرهم من أجل الذهاب إلى بيت المتعة، في الطريق سألهم الأكثر خبرة، “هل استمنيتم؟”، أحيط الجميع بشيء من الصمت والغرابة، فما الداعي للاستمناء ما دمنا سنذهب للمضاجعة، قال الخبير: ستكون متعتكم قليلة، ما هي إلا ثوان ويقذف أحدكم، يفترض أن تفعلوا ذلك حتى “تأخذون” هناك وقتاً أكثر من أجل القذف. 

اقرأ أيضاً

“الماء يعني كل شيء”.. هجرة سكّان وحيوانات الأهوار من الفراديس إلى المُدن

ما الحل؟ صاح أحدهم، لنجد طريقة، بالمصادفة كانت السيارة أثناء ذلك قد وصلت أحد الجوامع الشاخصة وسط المدينة، بنوع من الحياء والخفة اقترح أحدهم، “ننزل نضرب جلق بحمام الجامع”، وقبل أن يفكر أحدهم في العقاب والثواب توزّع وفد “الجلاقة” على الحمامات وخرجوا مسرعين إلى السيارة التي ذهبت بهم إلى بيت السيدة هبة أم بغداد الجديدة. 

حمّام الإبداع 

للحمام أسماء متعددة ولا يمكن حصرها، العمليات التي تجري داخل الحمام أيضا لها أسماء لا حصر لها: السكارى مثلا يسمون التبول “زي الناس” البعض يسمي عملية التبول شعبياً وبشكل رمزي “بب بي”، يطلق على الحمام في المدارس غرفة الرطوبة أو بيت الرطوبة، البغداديون يطلقون تسمية الخلاء، قبل أن تدمج الخلاء مع الحمام ليصبح اسمهما معا حمام، بعض الناس تسميه بيت التفكير وآخرون يسمونه بيت الراحة، ومرة سمعت أحد الأصدقاء في الوسط الثقافي يطلق على الحمام تسمية نادرة وغير متوقعة فهو يسمّيه “غار الفلاسفة”، في دلالة على أن الحمام ينزل فيه وحي الإبداع كما يفسر، ويورد أحد الأصدقاء حكاية طريفة عن كيف يرى الشاعر العراقي عقيل علي أسلوب الكتابة، فعقيل يعتقد أن للحمام دوراً فيها، فالذي يسبح بالدوش يكتب بطريقة تختلف عمن يسبح بالبانيو ويختلف هؤلاء بطريقة الكتابة عمن يسبح بـ”الطشت والطاسة”. الكتابة مقرونة بأسلوب حياة المرء. 

يشير العديد من الأصدقاء من حولنا -خصوصا ممن يشتغلون في حقل الإبداع كالأدب والفن والكتابة- إلى أن بعض الأفكار غير المتوقعة والمتوهجة تأتي في الحمام، مقابل ذلك لا يمكن للإنسان أن يفعل أي شيء بشكل مريح عندما يلح عليه جسده ويطلب الذهاب لقضاء الحاجة في الحمام، فكمْ كنا نحرج عندما كنا صغارا وكان الجسد لا يساعد على إخفاء الحقيقة، لقد كبرنا وصرنا نعرف كيف نتهرب من ضغط الجسد وإلحاحه، صرنا أكثر قدرة على إخفاء حاجاتنا، وأكثر مهارة بالتعامل مع رغبتنا الأصلية، رغبة الذهاب إلى الحمام. 

لأسباب ليست مجهولة يتبول سكارى الشارع الذي يربط ساحة كهرمانة بساحة الأندلس على جدار كراج السيارات، أطلقنا للسخرية مرة على الحائط اسم “حائط اليوريا”. 

وحائط اليوريا ذاك، يدعو لبناء حمامات في المدينة، من أجل المحافظة على درجة من الحياة وسط درجات حرارة تقترب من 50 درجة مئوية.