"الهجرات المُرّة".. عذابات مسيحيين تهجروا في بغداد مرتين
17 تشرين الأول 2023
"هنا فقط، وجدت الاستقرار والسلام. قبل ذلك عشت حياتي هارباً داخل وطني من مكان لآخر"، يقول رجل ضاق مرارة التهجير، ويضطر إلى عيشه من جديد مع عشراتٍ آخرين.. كيف ينجو المرء من ثلاث هجرات قاسية؟ عن عذابات مسيحيين تهجروا في بغداد مرتين.
بعد قسط قليل من النوم، يتعيّن على ليث زورا تهيئة مستلزمات عربة بيع الحمص المسلوق المعروف بـ”اللبلبي”، عقب إنهائه فترة العمل الصباحي في عربة لبيع الفلافل.
يوشك الرجل على مغادرة عقده الخامس، ومع ذلك فإنه مضطر إلى الاتكال على ما بقي من طاقة امتصت السنوات الجزء الأكبر منها، ليتمكن من دفع إيجار منزله وإعالة أسرته.
زورا مسيحي كان يقطن مخيم مريم العذراء في منطقة زيونة شرقي بغداد، لكنه فقد منزله المعدني الصغير (الكرفان) بعدما مُنح المخيم لـ”مستثمر” يعتزم بناء “مجمع ترفيهي” على أرضه.
ولاقت عشرات الأسر مصير زورا وأسرته.
ساحة مفرغة تماماً، ولافتة كُتب عليها “برعاية هيئة استثمار بغداد يتم تنفيذ مشروع مجمع ترفيهي حاصل على إجازة استثمارية” هو وضع المخيم حالياً.
ولأن “المستثمر” حاصل على هذه الإجازة، أُجيز له تشريد أكثر من 100 أسرة مسيحية كانت تعيش في المخيم المجاور لمقر الحزب الآشوري.
مقر الحزب هُدم هو الآخر وتحوّل إلى مرآب سيارات، أما المساحة التي وضعت فيها الكرفانات فقد تحولت إلى ساحات فارغة بعد رفعها جميعاً.
صار منظر المخيم موحشاً جداً بعد أن كان في عام 2021 -وعلى الرغم من أنه مخيم- نظيفاً جداً تفوح منه رائحة القهوة التي يشتهر المسيحيون بإعدادها.
وعندما زرته مرة أخرى في كانون الأول 2022، بعد أن أُفرغ من ساكنيه عنوة، إذ لم يتبق فيه سوى 15 أسرة مسيحية تجهل مصيرها، كانت الكرفانات ما تزال في أماكنها لكنها خالية.

ويستجمع فؤاد يعقوب (61 عاماً) ذكرياته في كرفان لا تتجاوز مساحته 20 متراً مربعاً.
جاء فؤاد مع أسرته إلى المجمّع بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الموصل عام 2014، إذ نزحوا من بلدة برطلة شرق الموصل وسكنوا هذا المخيم.
“هنا فقط وجدت الاستقرار والسلام. قبل ذلك عشت حياتي هارباً داخل وطني من مكانٍ لآخر”، يقول لـ”جمّار”.
فؤاد يعيش الآن هروبه الثالث بعد أن خاض هذه التجربة مرتين في الماضي بطرق غير متشابهة.
رسالة تضم رصاصة
عام 2004 وصلت فؤاد رصاصة ملفوفة بورقة كتب عليها “أخرج من دارنا أفضل من أن نحولها إلى قبر لك”.
لم يعِ فؤاد ما يحصل حتى جاء مسلحون وأخبروه أن منزله الذي ورثه هو وإخوته الستة عن أبيهم في منطقة الزعفرانية جنوب شرق بغداد، كان ملكاً لأسرة عراقية واستولى عليه النظام السابق في ثمانينيات القرن الماضي وعرضه في مزاد ليشتريه والد فؤاد آنذاك.
تكرّرت التهديدات حتى جاء مدعي ملكية المنزل بقرار من المحكمة لفؤاد وإخوته يأمرهم بإخلاء المنزل مقابل تعويض من وزارة المالية العراقية بمبلغ يصل إلى 290 مليون دينار.
لم يحصل فؤاد إلا على ثلثي المبلغ فقط، مع وعود مستمرة من الوزارة بتسديد المتبقي له مع موازنة كل عام، ليغادر في عام 2006 إلى بلدة برطلة ويعيش هناك هو وأسرته، ثم ليخرج منها هرباً من رصاص “داعش”.
رصاصة بهيأة قرار رسمي
في عام 2014 سعت الحركة الديمقراطية الآشورية إلى نقل المسيحيين الهاربين لأربيل إلى بغداد وحمايتهم من سطوة “داعش”.
وأرسلت الحركة طائرة بموافقة من مجلس الوزراء برئاسة نوري المالكي آنذاك، إلى أربيل لتقل المسيحيين المشردين.
نُقلت أكثر من 40 أسرة مسيحية إلى مقر الحزب الذي تم استئجاره عام 2011 من دائرة عقارات الدولة وفقاً لقرار مجلس الوزراء رقم 371 لعام 2011 الخاص باستئجار عقارات الدولة للأحزاب والذي ينص على “أن يسمح مجلس النواب لكل حزب باستئجار مساحة من الأرض تابعة لعقارات الدولة لإقامة مقره عليها”، بحسب يونادم كنا الأمين العام للحزب الديمقراطي الآشوري.
تحولت هذه الأرض إلى مخيم بعد أحداث الموصل عام 2014 وسيطرة “داعش” وتهجير المسيحيين من هناك ونزوحهم.
“ذهبنا إلى أربيل لإقناع المسيحيين المشردين من منازلهم باللجوء إلى مخيمات الدولة ومن ضمنها مخيم الحزب الآشوري، وبالفعل استطعنا نقل قرابة 47 أسرة مسيحية”، قال كنا لـ”جمّار”.


وفي نهاية 2014 وبداية 2015 أُنجر بناء 148 كرفاناً للأسر التي وصل عددها إلى قرابة 100 أسرة، لتسمى الأرض التابعة للحزب بعد بناء الكرفانات “مخيم مريم العذراء”.
كان الحزب قد موّل بناء 48 كرفاناً، أما البقية فجاء تمويلها من جهات متبرعة متعددة.
وعلى الرغم من بساطة هذه الكرفانات التي تبلغ مساحة الواحد منها 18 متراً مربعاً وتتألف من غرفتين فقط، استطاع سكانها تقسيمها وفق ما يناسب أسلوب معيشتهم.
عام 2021 خرج هذا المكان عن صفة “مخيم” بعد أن أغلقت وزارة الهجرة والمهجرين 146 مخيماً للنازحين من أصل 174 بين عامي 2017 و2021، أي منذ طرد “داعش” وانتهاء عمليات تحرير المناطق التي سيطر عليها التنظيم.
وكان مخيم مريم العذراء من المخيمات المشمولة بالإغلاق.
لكن المسيحيين النازحين رفضوا مغادرة مخيّمهم على الرغم من أن وزارة الهجرة والمهجرين بدأت تتحدث عن فقدانه سمة التخييم وأن من يعيشون فيه ما عادوا نازحين.
منذ عام 2017 بدأت وزارة الهجرة والمهجرين بغلق مخيمات النازحين، وإعادة كثيرين منهم إلى ديارهم مع منحهم مبلغ مليون ونصف مليون دينار (نحو ألف دولار)، كما ذكر علي عباس جهانكير المتحدث باسم الوزارة.
“في عام 2021 تم إغلاق جميع المخيمات وبالتالي لم يعد موقع مريم العذراء مخيماً، فضلاً عن أنه مجموعة كرافانات وليس خيماً”، قال جهانكير لـ”جمّار”.
ويذهب المتحدث باسم وزارة الهجرة إلى أن أغلب المسيحيين في هذا المخيم لم يكونوا من نازحي الموصل، وهم بالأساس مسيحيون كانوا يعيشون في بغداد وتعرضوا للتهديد في مناطقهم ما دفعهم للجوء إلى هذا المخيم، وهذا أيضاً بحسبه “يفقدهم صفة النازحين”.
في تشرين الأول 2022 تعرضت 120 أسرة تسكن المخيم إلى تهديد من أجل إخلاء المكان قسراً، لكن هذه المرة بورقة موجهة من هيئة استثمار بغداد تفيد بأن الأرض ستتحول إلى مجمع ترفيهي، لتكون هذه رصاصة أخرى تلاحق فؤاد وأسرته.


فوق السلطات
لم يتبق في المخيم سوى 15 أسرة تجهل مصيرها بضمنها أسرة فؤاد.
خرجت بقيّة الأسر بعد دفع المستثمر الذي جاء بقرار هيئة الاستثمار مبلغ مليون دينار لكل أسرة، وهو مبلغ زهيد لا يكفي سوى سداد إيجار منزل متوسط أو بسيط في منطقة رديئة الخدمات أو عشوائية لمدة شهرين.
“أبلغنا المستثمر بأنه يدفع هذا المبلغ من أمواله”، قال فؤاد.
في زياراتي المتكررة إلى فؤاد في كانون الأول 2022 وبعدها في نهاية كانون الثاني 2023 وشباط 2023، كان القلق والحيرة يسيطران عليه.
لا يملك الرجل مالاً كافياً للخروج من المخيم، ما اضطره إلى طلب المساعدة من أقربائه المقيمين خارج العراق لعلهم يجمعون أموالاً له تمكنه من شراء منزل بسيط.
وتجهل 14 أسرة أخرى مصيرها، فتعويض المستثمر بمبلغ مليون دينار لكل أسرة (نحو 800 دولار) لن يمنحهم فرصة العيش في مكان ثابت ومستقر وآمن، خاصة وأن أغلب هذه الأسر تعمل بمهن بسيطة قد توفر لها مبلغاً شهرياً لا يتجاوز 500 ألف دينار، بينما تبلغ قيمة إيجار منزل بسيط أو شقة بسيطة في بغداد قرابة 600 ألف دينار عراقي.
ويداهم الوقت فؤاد ومن معه وكذلك القلق من تهديد المستثمر الذي يقول لهم إنه “فوق السلطات”.
وبينما بقي فؤاد في المخيم ينتظر وقتاً وظرفاً أفضل للمغادرة، اختار زورا قبض المليون دينار والخروج منه سريعاً مع أسرته تجنباً لأي قلاقل قد يثيرها المستثمر معهم.
وكان زورا بمثابة مختار المخيم.
كان الناس هناك يحبونه ويحترمونه لكبر سنه ووقاره وعدم تأخره عن مساعدة الجميع كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

لكنه اليوم يعمل ليلاً ونهاراً من أجل تأمين إيجار منزل استأجره في منطقة بغداد الجديدة جنوب شرقي بغداد بمبلغ 700 ألف دينار (نحو 500 دولار) وتكاليف المعيشة اليومية.
“سبق أن استأجرنا منزلاً بكلفة أقل ولكن عندما هطلت الأمطار في الشتاء غمرتنا المياه بسبب تهالك سقوفه” قال زورا لـ”جمّار”.
وفشلت جميع محاولات الكتل السياسية الممثلة للمكون المسيحي لحمل المستثمر أو هيئة الاستثمار على العدول عن هذا القرار.
ويتحدث كنا بغضب حول ما حصل بقوله إن “هذا المستثمر يقال إنه تابع لحركة كتائب حزب الله، ولهذا فهو حقاً فوق السلطات كما قال أمام الجميع، والدليل على ذلك حين حاولنا كحركة مسيحية شراء الأرض ودفع المال للدولة لامتلاكها جوبهنا بالرفض، بينما مُنح المستثمر موافقة كاملة للاستحواذ على الأرض وإنشاء مشروعه فوقها”.
لا أحد يدري
لدى سؤال وزارة التخطيط عن هذا المشروع جاءت الإجابة بأنها لا تملك إحصائية بعدد المشاريع المنفذة في العراق منذ عام 2003 حتى الآن، عازية السبب إلى أن أعدادها تصل إلى “مئات الآلاف” على مستوى الوزارات والمحافظات.
“ولكن ما نستطيع تأكيده هو وجود 7005 مشاريع قيد التنفيذ حالياً، بعضها يواجه معوقات وبعضها الآخر جار العمل فيه”، قال عبد الزهرة الهنداوي المتحدث باسم وزارة التخطيط لـ”جمّار”.
وتفيد حنان جاسم، عضو إعلام هيئة الاستثمار، بأن الهيئة غير معنية سوى بالمشاريع الاستثمارية التي تتجاوز قيمتها المالية 200 مليون دينار فما فوق.
“ولا نملك أرقاماً واضحة عن عدد هذه المشاريع”.
ولم يجب مثنى الغانمي، المتحدث باسم هيئة الاستثمار، على اتصالات ورسائل عدة بعثها “جمّار” إليه للتعليق على الموضوع.
اختلفت الأقاويل بشأن هوية المستثمر، لكن كنا أفاد بأنه مالك مركز تسوق “دريم سيتي” في زيونة.
وحاولت جهات سياسية مسيحية وممثلو الكنائس، بينهم البطريرك الكلداني لويس رافائيل ساكو، حل الأزمة ولكن من دون جدوى.
“مكتب الحركة الآشورية تم إخلاؤه هو الآخر وانتقلنا إلى مبنى جديد في منطقة أخرى وتم هدم المكتب السابق بالكامل”، قال كنا.
والمكتب السابق مرآب سيارات حالياً.

إلى المدرسة
في تشرين الأول 2022 وبعد زيارته المخيم، أعلن البطريرك ساكو عن إيجاد حل من شأنه إيواء المسيحيين المهجرين من المخيم، وتضمن الحل وقتها إعادة تأهيل وافتتاح أبنية المدرسة الكلدانية للعائلات غير القادرة على ترك المخيم لأسباب مالية.
“بعد زيارتنا المخيم واطلاعنا على أوراق المستثمر وجدنا أنها رسمية صادرة عن هيئة الاستثمار، ولذلك عجزنا عن عدم تنفيذ ما يريده المستثمر، فقررنا تهيئة المدرسة الكلدانية للأسر المسيحية غير القادرة على استئجار منزل”، قال الأب مارتن هرمز داود مدير شؤون المواطنين المسيحيين في الأوقاف لـ”جمّار”.
وبحسب داود انتهى الأمر. أُفرغ المخيم من ساكنيه. بعضهم استأجر وبعضهم اشترى سكناً.
“ومن لم يتمكن من الاستئجار أو الشراء نقلناه إلى المدرسة الكلدانية بعد تأهيلها وتنظيف صفوفها لإسكان الأسر المسيحية فيها” أضاف الأب، لكنه لم يتطرق إلى أعداد المنقولين إلى المدرسة.
ولم تكن هذه الهجرة الأولى التي يعيشها المسيحيون في العراق، والذين بلغ عددهم في ثمانينيات القرن الماضي قرابة مليون ونصف مليون مسيحي، بحسب كريم النوري وكيل وزير الهجرة والمهجرين.
أما في الوقت الحالي فقد انخفض العدد إلى نحو 350 ألف مسيحي في عموم العراق.
ولم يعد إلى الديار سوى 65 بالمئة من المسيحيين النازحين داخل البلاد، كما يفيد جهانكير، غير أنه لا يملك رقماً عن أعداد المسيحيين النازحين أو المهاجرين من العراق.
نهاية المخيم
في نهاية المطاف، استسلم فؤاد للأمر الواقع، فغادر مخيم مريم العذراء وهو وأسرته وبقية الأسر الـ14 بعد إزالة الكرفانات في نهاية آذار 2023.
وابتسم الحظ قليلاً لفؤاد بعد العناء الطويل، فجمع له إخوته وأقرباؤه المقيمون خارج العراق مبلغاً مالياً اشترى به منزلاً بسيطاً يسكنه حالياً مع أسرته في منطقة بغداد الجديدة.
أما زورا فلم يحصل سوى على مليون دينار من المستثمر ومليون ونصف مليون دينار من وزارة الهجرة والمهجرين، وهو مبلغ لا يكفي حتى لشراء متر واحد في بعض مناطق بغداد.
وبينما يعمل أكثر من 12 ساعة يومياً لتوفير مبلغ الإيجار والاحتياجات الأساسية، تبحث بلقيس (55 عاماً) زوجة أخيه المقيم معه عن عمل لتساعد زوجها وحماها، فيما تعمل ابنتها في أحد المقاهي بوظيفة تقديم المشروبات للزبائن.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
بعد قسط قليل من النوم، يتعيّن على ليث زورا تهيئة مستلزمات عربة بيع الحمص المسلوق المعروف بـ”اللبلبي”، عقب إنهائه فترة العمل الصباحي في عربة لبيع الفلافل.
يوشك الرجل على مغادرة عقده الخامس، ومع ذلك فإنه مضطر إلى الاتكال على ما بقي من طاقة امتصت السنوات الجزء الأكبر منها، ليتمكن من دفع إيجار منزله وإعالة أسرته.
زورا مسيحي كان يقطن مخيم مريم العذراء في منطقة زيونة شرقي بغداد، لكنه فقد منزله المعدني الصغير (الكرفان) بعدما مُنح المخيم لـ”مستثمر” يعتزم بناء “مجمع ترفيهي” على أرضه.
ولاقت عشرات الأسر مصير زورا وأسرته.
ساحة مفرغة تماماً، ولافتة كُتب عليها “برعاية هيئة استثمار بغداد يتم تنفيذ مشروع مجمع ترفيهي حاصل على إجازة استثمارية” هو وضع المخيم حالياً.
ولأن “المستثمر” حاصل على هذه الإجازة، أُجيز له تشريد أكثر من 100 أسرة مسيحية كانت تعيش في المخيم المجاور لمقر الحزب الآشوري.
مقر الحزب هُدم هو الآخر وتحوّل إلى مرآب سيارات، أما المساحة التي وضعت فيها الكرفانات فقد تحولت إلى ساحات فارغة بعد رفعها جميعاً.
صار منظر المخيم موحشاً جداً بعد أن كان في عام 2021 -وعلى الرغم من أنه مخيم- نظيفاً جداً تفوح منه رائحة القهوة التي يشتهر المسيحيون بإعدادها.
وعندما زرته مرة أخرى في كانون الأول 2022، بعد أن أُفرغ من ساكنيه عنوة، إذ لم يتبق فيه سوى 15 أسرة مسيحية تجهل مصيرها، كانت الكرفانات ما تزال في أماكنها لكنها خالية.

ويستجمع فؤاد يعقوب (61 عاماً) ذكرياته في كرفان لا تتجاوز مساحته 20 متراً مربعاً.
جاء فؤاد مع أسرته إلى المجمّع بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الموصل عام 2014، إذ نزحوا من بلدة برطلة شرق الموصل وسكنوا هذا المخيم.
“هنا فقط وجدت الاستقرار والسلام. قبل ذلك عشت حياتي هارباً داخل وطني من مكانٍ لآخر”، يقول لـ”جمّار”.
فؤاد يعيش الآن هروبه الثالث بعد أن خاض هذه التجربة مرتين في الماضي بطرق غير متشابهة.
رسالة تضم رصاصة
عام 2004 وصلت فؤاد رصاصة ملفوفة بورقة كتب عليها “أخرج من دارنا أفضل من أن نحولها إلى قبر لك”.
لم يعِ فؤاد ما يحصل حتى جاء مسلحون وأخبروه أن منزله الذي ورثه هو وإخوته الستة عن أبيهم في منطقة الزعفرانية جنوب شرق بغداد، كان ملكاً لأسرة عراقية واستولى عليه النظام السابق في ثمانينيات القرن الماضي وعرضه في مزاد ليشتريه والد فؤاد آنذاك.
تكرّرت التهديدات حتى جاء مدعي ملكية المنزل بقرار من المحكمة لفؤاد وإخوته يأمرهم بإخلاء المنزل مقابل تعويض من وزارة المالية العراقية بمبلغ يصل إلى 290 مليون دينار.
لم يحصل فؤاد إلا على ثلثي المبلغ فقط، مع وعود مستمرة من الوزارة بتسديد المتبقي له مع موازنة كل عام، ليغادر في عام 2006 إلى بلدة برطلة ويعيش هناك هو وأسرته، ثم ليخرج منها هرباً من رصاص “داعش”.
رصاصة بهيأة قرار رسمي
في عام 2014 سعت الحركة الديمقراطية الآشورية إلى نقل المسيحيين الهاربين لأربيل إلى بغداد وحمايتهم من سطوة “داعش”.
وأرسلت الحركة طائرة بموافقة من مجلس الوزراء برئاسة نوري المالكي آنذاك، إلى أربيل لتقل المسيحيين المشردين.
نُقلت أكثر من 40 أسرة مسيحية إلى مقر الحزب الذي تم استئجاره عام 2011 من دائرة عقارات الدولة وفقاً لقرار مجلس الوزراء رقم 371 لعام 2011 الخاص باستئجار عقارات الدولة للأحزاب والذي ينص على “أن يسمح مجلس النواب لكل حزب باستئجار مساحة من الأرض تابعة لعقارات الدولة لإقامة مقره عليها”، بحسب يونادم كنا الأمين العام للحزب الديمقراطي الآشوري.
تحولت هذه الأرض إلى مخيم بعد أحداث الموصل عام 2014 وسيطرة “داعش” وتهجير المسيحيين من هناك ونزوحهم.
“ذهبنا إلى أربيل لإقناع المسيحيين المشردين من منازلهم باللجوء إلى مخيمات الدولة ومن ضمنها مخيم الحزب الآشوري، وبالفعل استطعنا نقل قرابة 47 أسرة مسيحية”، قال كنا لـ”جمّار”.


وفي نهاية 2014 وبداية 2015 أُنجر بناء 148 كرفاناً للأسر التي وصل عددها إلى قرابة 100 أسرة، لتسمى الأرض التابعة للحزب بعد بناء الكرفانات “مخيم مريم العذراء”.
كان الحزب قد موّل بناء 48 كرفاناً، أما البقية فجاء تمويلها من جهات متبرعة متعددة.
وعلى الرغم من بساطة هذه الكرفانات التي تبلغ مساحة الواحد منها 18 متراً مربعاً وتتألف من غرفتين فقط، استطاع سكانها تقسيمها وفق ما يناسب أسلوب معيشتهم.
عام 2021 خرج هذا المكان عن صفة “مخيم” بعد أن أغلقت وزارة الهجرة والمهجرين 146 مخيماً للنازحين من أصل 174 بين عامي 2017 و2021، أي منذ طرد “داعش” وانتهاء عمليات تحرير المناطق التي سيطر عليها التنظيم.
وكان مخيم مريم العذراء من المخيمات المشمولة بالإغلاق.
لكن المسيحيين النازحين رفضوا مغادرة مخيّمهم على الرغم من أن وزارة الهجرة والمهجرين بدأت تتحدث عن فقدانه سمة التخييم وأن من يعيشون فيه ما عادوا نازحين.
منذ عام 2017 بدأت وزارة الهجرة والمهجرين بغلق مخيمات النازحين، وإعادة كثيرين منهم إلى ديارهم مع منحهم مبلغ مليون ونصف مليون دينار (نحو ألف دولار)، كما ذكر علي عباس جهانكير المتحدث باسم الوزارة.
“في عام 2021 تم إغلاق جميع المخيمات وبالتالي لم يعد موقع مريم العذراء مخيماً، فضلاً عن أنه مجموعة كرافانات وليس خيماً”، قال جهانكير لـ”جمّار”.
ويذهب المتحدث باسم وزارة الهجرة إلى أن أغلب المسيحيين في هذا المخيم لم يكونوا من نازحي الموصل، وهم بالأساس مسيحيون كانوا يعيشون في بغداد وتعرضوا للتهديد في مناطقهم ما دفعهم للجوء إلى هذا المخيم، وهذا أيضاً بحسبه “يفقدهم صفة النازحين”.
في تشرين الأول 2022 تعرضت 120 أسرة تسكن المخيم إلى تهديد من أجل إخلاء المكان قسراً، لكن هذه المرة بورقة موجهة من هيئة استثمار بغداد تفيد بأن الأرض ستتحول إلى مجمع ترفيهي، لتكون هذه رصاصة أخرى تلاحق فؤاد وأسرته.


فوق السلطات
لم يتبق في المخيم سوى 15 أسرة تجهل مصيرها بضمنها أسرة فؤاد.
خرجت بقيّة الأسر بعد دفع المستثمر الذي جاء بقرار هيئة الاستثمار مبلغ مليون دينار لكل أسرة، وهو مبلغ زهيد لا يكفي سوى سداد إيجار منزل متوسط أو بسيط في منطقة رديئة الخدمات أو عشوائية لمدة شهرين.
“أبلغنا المستثمر بأنه يدفع هذا المبلغ من أمواله”، قال فؤاد.
في زياراتي المتكررة إلى فؤاد في كانون الأول 2022 وبعدها في نهاية كانون الثاني 2023 وشباط 2023، كان القلق والحيرة يسيطران عليه.
لا يملك الرجل مالاً كافياً للخروج من المخيم، ما اضطره إلى طلب المساعدة من أقربائه المقيمين خارج العراق لعلهم يجمعون أموالاً له تمكنه من شراء منزل بسيط.
وتجهل 14 أسرة أخرى مصيرها، فتعويض المستثمر بمبلغ مليون دينار لكل أسرة (نحو 800 دولار) لن يمنحهم فرصة العيش في مكان ثابت ومستقر وآمن، خاصة وأن أغلب هذه الأسر تعمل بمهن بسيطة قد توفر لها مبلغاً شهرياً لا يتجاوز 500 ألف دينار، بينما تبلغ قيمة إيجار منزل بسيط أو شقة بسيطة في بغداد قرابة 600 ألف دينار عراقي.
ويداهم الوقت فؤاد ومن معه وكذلك القلق من تهديد المستثمر الذي يقول لهم إنه “فوق السلطات”.
وبينما بقي فؤاد في المخيم ينتظر وقتاً وظرفاً أفضل للمغادرة، اختار زورا قبض المليون دينار والخروج منه سريعاً مع أسرته تجنباً لأي قلاقل قد يثيرها المستثمر معهم.
وكان زورا بمثابة مختار المخيم.
كان الناس هناك يحبونه ويحترمونه لكبر سنه ووقاره وعدم تأخره عن مساعدة الجميع كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

لكنه اليوم يعمل ليلاً ونهاراً من أجل تأمين إيجار منزل استأجره في منطقة بغداد الجديدة جنوب شرقي بغداد بمبلغ 700 ألف دينار (نحو 500 دولار) وتكاليف المعيشة اليومية.
“سبق أن استأجرنا منزلاً بكلفة أقل ولكن عندما هطلت الأمطار في الشتاء غمرتنا المياه بسبب تهالك سقوفه” قال زورا لـ”جمّار”.
وفشلت جميع محاولات الكتل السياسية الممثلة للمكون المسيحي لحمل المستثمر أو هيئة الاستثمار على العدول عن هذا القرار.
ويتحدث كنا بغضب حول ما حصل بقوله إن “هذا المستثمر يقال إنه تابع لحركة كتائب حزب الله، ولهذا فهو حقاً فوق السلطات كما قال أمام الجميع، والدليل على ذلك حين حاولنا كحركة مسيحية شراء الأرض ودفع المال للدولة لامتلاكها جوبهنا بالرفض، بينما مُنح المستثمر موافقة كاملة للاستحواذ على الأرض وإنشاء مشروعه فوقها”.
لا أحد يدري
لدى سؤال وزارة التخطيط عن هذا المشروع جاءت الإجابة بأنها لا تملك إحصائية بعدد المشاريع المنفذة في العراق منذ عام 2003 حتى الآن، عازية السبب إلى أن أعدادها تصل إلى “مئات الآلاف” على مستوى الوزارات والمحافظات.
“ولكن ما نستطيع تأكيده هو وجود 7005 مشاريع قيد التنفيذ حالياً، بعضها يواجه معوقات وبعضها الآخر جار العمل فيه”، قال عبد الزهرة الهنداوي المتحدث باسم وزارة التخطيط لـ”جمّار”.
وتفيد حنان جاسم، عضو إعلام هيئة الاستثمار، بأن الهيئة غير معنية سوى بالمشاريع الاستثمارية التي تتجاوز قيمتها المالية 200 مليون دينار فما فوق.
“ولا نملك أرقاماً واضحة عن عدد هذه المشاريع”.
ولم يجب مثنى الغانمي، المتحدث باسم هيئة الاستثمار، على اتصالات ورسائل عدة بعثها “جمّار” إليه للتعليق على الموضوع.
اختلفت الأقاويل بشأن هوية المستثمر، لكن كنا أفاد بأنه مالك مركز تسوق “دريم سيتي” في زيونة.
وحاولت جهات سياسية مسيحية وممثلو الكنائس، بينهم البطريرك الكلداني لويس رافائيل ساكو، حل الأزمة ولكن من دون جدوى.
“مكتب الحركة الآشورية تم إخلاؤه هو الآخر وانتقلنا إلى مبنى جديد في منطقة أخرى وتم هدم المكتب السابق بالكامل”، قال كنا.
والمكتب السابق مرآب سيارات حالياً.

إلى المدرسة
في تشرين الأول 2022 وبعد زيارته المخيم، أعلن البطريرك ساكو عن إيجاد حل من شأنه إيواء المسيحيين المهجرين من المخيم، وتضمن الحل وقتها إعادة تأهيل وافتتاح أبنية المدرسة الكلدانية للعائلات غير القادرة على ترك المخيم لأسباب مالية.
“بعد زيارتنا المخيم واطلاعنا على أوراق المستثمر وجدنا أنها رسمية صادرة عن هيئة الاستثمار، ولذلك عجزنا عن عدم تنفيذ ما يريده المستثمر، فقررنا تهيئة المدرسة الكلدانية للأسر المسيحية غير القادرة على استئجار منزل”، قال الأب مارتن هرمز داود مدير شؤون المواطنين المسيحيين في الأوقاف لـ”جمّار”.
وبحسب داود انتهى الأمر. أُفرغ المخيم من ساكنيه. بعضهم استأجر وبعضهم اشترى سكناً.
“ومن لم يتمكن من الاستئجار أو الشراء نقلناه إلى المدرسة الكلدانية بعد تأهيلها وتنظيف صفوفها لإسكان الأسر المسيحية فيها” أضاف الأب، لكنه لم يتطرق إلى أعداد المنقولين إلى المدرسة.
ولم تكن هذه الهجرة الأولى التي يعيشها المسيحيون في العراق، والذين بلغ عددهم في ثمانينيات القرن الماضي قرابة مليون ونصف مليون مسيحي، بحسب كريم النوري وكيل وزير الهجرة والمهجرين.
أما في الوقت الحالي فقد انخفض العدد إلى نحو 350 ألف مسيحي في عموم العراق.
ولم يعد إلى الديار سوى 65 بالمئة من المسيحيين النازحين داخل البلاد، كما يفيد جهانكير، غير أنه لا يملك رقماً عن أعداد المسيحيين النازحين أو المهاجرين من العراق.
نهاية المخيم
في نهاية المطاف، استسلم فؤاد للأمر الواقع، فغادر مخيم مريم العذراء وهو وأسرته وبقية الأسر الـ14 بعد إزالة الكرفانات في نهاية آذار 2023.
وابتسم الحظ قليلاً لفؤاد بعد العناء الطويل، فجمع له إخوته وأقرباؤه المقيمون خارج العراق مبلغاً مالياً اشترى به منزلاً بسيطاً يسكنه حالياً مع أسرته في منطقة بغداد الجديدة.
أما زورا فلم يحصل سوى على مليون دينار من المستثمر ومليون ونصف مليون دينار من وزارة الهجرة والمهجرين، وهو مبلغ لا يكفي حتى لشراء متر واحد في بعض مناطق بغداد.
وبينما يعمل أكثر من 12 ساعة يومياً لتوفير مبلغ الإيجار والاحتياجات الأساسية، تبحث بلقيس (55 عاماً) زوجة أخيه المقيم معه عن عمل لتساعد زوجها وحماها، فيما تعمل ابنتها في أحد المقاهي بوظيفة تقديم المشروبات للزبائن.