"لو كان السادس رجلاً لقتلته".. رحلة مع الناجين من عذابات "البكالوريا" 

إيهاب شغيدل

17 أيلول 2023

نخوض هنا رحلةً مع أفراد خاضوا البكالوريا. جلب لهم الامتحان الرعب والتوبيخ والوصم. فكّر بعضهم، لشدّة الضغط، بالانتحار، وتراجعت حالة بعضهم النفسيّة.. رحلة مع الناجين من عذابات "البكالوريا".

امتحان بطعم اليوريا: 

بعد عام ونصف العام من التحضير للامتحان الأكبر، ارتعب فؤاد (25 عاماً) حين دخل الممرّ المؤدي إلى القاعة. خضع للتفتيش وأبرز هويته.. أبرز القلق والتوتر أيضاً. سيطر عليه رعبٌ رهيبٌ، شعر ببرودة غريبة في جسده، بعد ذلك، أفلتت عضلاته ولم تتمكن من حبس البول، شعر بالحرج، طلب من الأستاذ الذهاب إلى الحمام، وجوبه طلبه بالرفض، وبقي على هذه الحال قرابة ساعتين ونصف، أجاب على كل أسئلة الإسلامية وهو عائم باليوريا. 

إلى هذا الحد قد يصل ضغط امتحان البكالوريا في الدراسة الإعدادية: قلق اجتماعي ونفسي وضغط مادي تعيشه مئات الآلاف من العائلات سنوياً، “كلمات من قبيل (بكالوريا/ سادس/ وزاري) مخيفة ومثيرة للرعب وقاتلة” كما يقول فؤاد، على الرغم من مرور خمس سنوات على اجتيازه المرحلة، إلا أن الكلمات هذه ما تزال تسبب له رعباً نفسياً كلما مرّت صدفة منه، وصل به الأمر أن يتجنّب كل طالب سادس، خوفاً من التأثير على نفسيّته سلباً. 

عندما بكى لوريا 

يشطر العراقيون بشكل ساخر عبارة bachalariatus الواردة من اللغة اللاتينية المتأخرة والتي تطلق على المبتدئ في الفروسية، إلى نصفين “بكى”، “لوريا”. تقول القصة المنسوجة اجتماعياً، إن هناك طالباً اسمه “لوريا” دخل هذا الامتحان ولشدّته وصعوبته بكى، فسمي هذا بهذا الاسم. 

هذه واحدة من الخيالات الشعبية التي تعمق من سطوة الامتحان. 

والبكالوريا هي نظام امتحاني وطني شامل يجرى في وقت محدد، وتكون أسئلته موضوعة من قبل لجان وطنية، ويستخدم هذا النظام في شمال إفريقيا وسوريا ولبنان والعراق وبلدان الأخرى، لتكون هذه المرحلة الحد الفاصل بين التعليم الثانوي والتعليم الجامعي. 

صار هذا الامتحان، بمرور الزمن، يأخذ شكلاً صارماً، متزمتاً وقاسياً. يشكّل تعقيدا بمرور السنوات. 

كانت الأيام الأربعة أواخر أيار1917، قد شهدت تدشين نظام البكالوريا، وحينها، خضع له طلاب السنة الرابعة من التعليم، إذ كان التعليم في العراق ينتهي عند هذه المرحلة. 

يجري العراق اليوم ثلاثة امتحانات وفقاً لهذا النظام، الأول في السادس الابتدائي للعبور من التعليم الابتدائي إلى مرحلة المتوسطة، والثاني للانتقال من الثالث المتوسط إلى المرحلة الإعدادية، وأخيراً النقلة الكبرى إلى الجامعة، والمرحلة الأصعب في الدراسة: السادس الإعدادي، الذي يأخذ حيزاً أكبر من حياة الطالب العراقي.  

” لو كان السادس رجلاً لقتلته”، يحوّر الطلاب جملة منسوبة للإمام علي يدين فيها الفقر. كتبت هذه الجملة على مقاعد وجدران ودفاتر طلاب السادس. 

يبدأ التحضير لهذه المرحلة مبكراً، إذ لم يستمتع الطلبة بعطلتهم الصيفية، فكم لوريا يبكي سنوياً، خاصة بعد أن وصل عدد الممتثلين له أكثر من نصف مليون طالب وطالبة هذا العام؟ 

نخوض هنا رحلة مع أفراد خاضوا البكالوريا. جلب لهم الامتحان الرعب والتوبيخ والوصم. فكّر بعضهم، لشدّة الضغط، بالانتحار، وتراجعت حالة بعضهم النفسية.  

انتهى زمن الكلاوات 

حين دخلت فرح في أول يوم رسمي بمرحلة السادس، صرخت مدرسة اللغة العربية بكلّ الطلاب في صفّها: “انتهى زمن الكلاوات”. تقول فرح (21 عاما)، “هكذا بدأ العام الدراسي، بُثَّ الخوف فينا، وكأن أحد عشر عاماً من الدراسة من مرحلة الأول الابتدائي وحتى الخامس الإعدادي كانت غير سليمة” من ناحية الدراسة. 

بوصفها طالبة سادس، فإن جميع من حول فرح أخذ يعاملها بشكل مختلف. تعتقد فرح بأن السادس مجرد مرحلة، لكن جميع من حولها بث رسائل مغايرة لها. تتلقى تلك الرسائل لتخضع لحقيقة السادس، عبارات من قبيل “كل مصيرج بهذه السنة”، “هذه السنة تحدد حياتج إلى الأبد”، “شكد ما تكدر اتعب بهذي السنة”. 

أحيطت بهذه الجمل والعبارات من كل اتجاه. 

“كيف يمكن لدماغ مراهق عمره 18 عاماً تحمل تلك المسؤولية؟ وصلت لاعتقاد أنني أخوض حرباً، أدافع عن حلم عائلة كبيرة لمدة سنة واحدة فقط”. 

نتيجة لتلك الضغوط بدأت تشعر بالذنب حتى لو تأخرت قليلاً في الحمام بحسب قولها، صنع المجتمع من حولها هالة ضخمة للسادس، قلق وتوتر ومراقبة شديدة لكل ما تفعله، كلما فعلت شيئاً ما، كان يتم تذكيرها بأنها “طالبة سادس”. 

“السادس اختبار ذهني ونفسي ومو اختبار علمي كما يظن الجميع، المدرسة والبيت والشارع والجدران تكولك هيج”. 

حرب المعدلات: ما لم تكن دكتوراً، فأنت فاشل! 

كل ما يريده الطلبة من السادس هو رقم يسمى “المعدل”. وفقه، يتوزع الطلبة على الكليات والمعاهد، ووفقه أيضاً تحدد المهنة أو المسار الذي سيتخذه الطلبة. 

وفقا للمعدل، تشتعل حرب المعدلات والتنافس الشرس بين الطلبة، مما يولد ضغطاً نفسياً هائلاً على عدد كبير منهم. 

وقع ياسر (32 عاما) داخل هذه الحرب، بعد أكثر من عشر سنوات ما يزال يتذكر كل تفاصيل السادس العلمي، كانت عائلته تحلم أن يكون طبيباً بسبب مستواه الدراسي المتفوق. 

“السنة الثانية هي الأزمة الحقيقية، بسبب الحالة النفسية التي وصلتها قبيل وقت الامتحانات، شخَّص الطبيب إصابتي بالتايفوئيد، أخذت دواءه لكن قلقي زاد وزادت صحتي اعتلالاً، بعدها قصدت معالجاً شعبياً علاجه للتايفوئيد كي الرأس بخرقة ملفوفة، في ثلاثة أماكن من رأسي”. 

دخل ياسر القاعة “برأس مكويٍّ”.  

فشل، بحسب عائلته، لأنه لم يدخل كلية الطب، رغم أنه حين أصيب بالتايفوئيد لم يذهب للطبيب، بل للمعالج الشعبي. 

يتحدّث عن حياته الآن وكيف كانت ستكون لو أصبح طبيباً. 

“لو تابعت حياتي كما كان مخططاً لي، 6 سنوات من الدراسة المكثفة والضغط تعقبها سنين من التخصص والتطبيق، ثم افتح عيادة لاستقبال المرضى لأحصد تعب السنين، وهناك سأكون أمام سيناريوهين: إما أن أُكوِّن سُمعة جيدة، وربما توضع الحناء على بابي، أو أكون دكتوراً لا صيت له!” 

ينشط ياسر الآن في مجال السينما ويعد، واحداً من أبزر المخرجين الشباب “الطب حلم أهلي، بس كنت أريد أن أصبح فناناً منذ البداية”. 

يعيش مئات العراقيين اليوم ضحايا لكلمة طبيب أو مهندس، وهي التخصُّصات التي تتطلّب أعلى المعدلات. ويلقى مئات الآلاف من الطلبة ظروفاً قاسية بسبب هذه الكلمات. 

“هل يبدو ذلك جيداً؟ أن يحلم أحدهم بدلاً عنك، اسأل الآباء والمدرسين ممن زرعوا فينا هذا الحلم الذي تتسع الحياة لغيره طبعا”، يقول ياسر. 

آباءُ الطلبة طلبةٌ ونصف  

عدد كبير من العائلات تبدأ بالاستعداد للسادس الإعدادي مبكراً. تنطلق رحلة الامتحان ببداية العطلة الصيفية التي تسبق المرحلة، يدخل الطالب في المعاهد أو مع المدرسين الخصوصيين في صيف ساخن وطويل، وهناك من يتطرّف في ذلك ويبدأ الاستعداد بعد امتحانات نصف السنة للخامس الإعدادي، أي قبل حوالي عام ونصف العام. 

الرحلة مكلفة على المستوى الاقتصادي، تتراوح أسعار تدريس المنهج الدراسي الواحد وبحسب المادة واسم وشهرة المدرس أو المعهد من 500 إلى 3000 دولار تقريباً. 

خاضت وسن، وهي أمٌ لطالبين سابقين، التجربة مرتين. 

“4 سنوات من الضغط الاقتصادي الرهيب عشته، لم تقتنع ابنتي بمعدلها في السنة الأولى، بينما لم يدخل ابني امتحانه في سنته الأولى”، تقول وسن. 

هذه السنوات هي الأكثر صعوبة بالنسبة لها، لما عانته من ظروف نفسية وصحية واقتصادية، فالسادس يحتاج لعدد كبير من المدرسين إضافة لمصاريف المَلَازم (جمع ملزمة؛ ملخصات دراسية للمواد المنهجية) والخطوط وغيرها من التفاصيل. 

“ما بين مليون إلى مليون وربع كلفني كل درس مع ابنتي، أدخلتها لدى مدرسين معروفين، قبل ذلك خضت رحلة معقدة من أجل حجز مقاعد عند أساتذة معينين، إضافة لتكاليف النقل، في فترة كورونا صار التدريس الخصوصي (أون لاين) عن طريق كارت يأتينا عبر شركات التوصيل فيه كود لفتح المحاضرة، سعر الكارت للفصل الواحد بحدود الــ 50 ألف دينار”. 

حسب تخمين وسن، فإن السنة الواحدة في السادس قد تكلف عائلة الطالب حوالي من 12 إلى 15 مليون دينار، وأن تكلفة نجاح أبنائها من السادس قد تجاوزت 50 مليون دينار. 

وبعد ذلك، لو قبل أحدهم في كلية أهلية تكون الكلفة النهائية للطالب “سعر بيت” بحسب ما قالت. 

قاسيةٌ هي المتاعب الاقتصادية التي يتحملها الآباء، مضافاً لها عمليات التدريس والمتابعة والمراقبة والعناية النفسية والصحية وغيرها. 

عندما كان يقترب امتحان أحد ولديها، تقول وسن، “آخذ إجازة من الدوام من بداية عطلتهم حتى آخر يوم امتحان، بهذي الفترة لازم أطبخ أحسن طبخ، وأنظف البيت وأعطره بشكل مستمر، وفي الوقت نفسه آني وأبوهم طلاب وياهم نراجع ونقرأ ونكتب لو تطلب الأمر، رغم اختصاصي أدبي، آني جيدة في الكيمياء بسبب أولادي”. 

كل العراق يعرف شطالعه بالسادس”  

وقت إعلان نتائج السادس الإعدادي الدور الأول لهذا العام انتشر “سكرين شوت” ساخر مصطنع غالباً لحوار بين شقيقتين تمتلك إحداهما ابناً في السادس: 

  • الأولى: ها عيني.. بشري حمودي شطلع؟ 
  • الثانية: والله بواحد بلكي يعوضه بالدور الثاني  
  • الأولى: لا هستوني شفت نتيجته بـأربعة 
  • الثانية: بيج سولة .. إذا تدرين شكو تسألين؟؟ 

تسبّب طريقة وزارة التربيّة في نشر النتائج، ضغوطات. 

يُمكن لأي فرد الاطلاع على نتيجة أي طالب يرغب في معرفة نتيجته. 

يتفق كل من ياسر ووسن وفؤاد على أن هذه الطريقة قد تسبّب إحراجاً اجتماعياً لمن يخفق في الامتحان. 

“سابقا حين كان يخفق أحدنا في الامتحان، نتحاشى الحديث عن الأمر، نحاول أن نخفي النتيجة الحقيقية، لكن الآن ليست فقط بنت خالتي تستطيع رؤية نتيجتي بل كل من لديه نت”، تقول فرح. 

من منا يحب أن يرى الآخرون فشله؟ غالبا لا يفضل الإنسان أن يعلن عن نتائجه إذا كانت متدنّية، لهذا السبب يعتبر ياسر أن “هذه الطريقة هي عملية فضح لا يرغب بها الطلبة بالمجمل، ويفترض إيجاد حلول بديلة”. 

ينتقد تربويون الآليات القديمة في التعليم وتقنياته وطرق إعلان نتائجه. 

“مهم أن يتوافق عمل المؤسسات مع روح العالم الحديث وإيصال المعلومة وفق مبدأ الشفافية”، قال حميد عبد الله حسن، معاون مدير عام تربية الرصافة الثانية، “عرض النتائج للدارسين فيه جوانب إيجابية مهمة يختصر الوقت ويقلل من حجم القلق ويخفف الروتين. لكن الشكل المعلن ممكن أن يكون محبطاً نفسياً وقد يسبب حرجاً وانكساراً لدى الدارس. أظن أن هذا جزء من ضريبة استخدام التقنيات والتواصل الحي”. 

يعتبر غالبية الطلبة أن هذه العملية خرق لبياناتهم، ويفكّرون بإقامة دعوى قضائية لإيقاف طريقة نشر النتائج. 

“بإمكان الطالب إقامة دعوى، لكن مصيرها على الأرجح هو الردّ، لأن القانون لا يمنع ذلك بنص صريح”، يقول حيان الخياط، المحامي.  

السادس.. أقرب طريق إلى الانتحار 

مع اقتراب كل موعد امتحانات، مع كل إعلان لنتائج السادس، تنتشر الأخبار حول انتحار طالب أو طالبة بسبب ضغط البكالوريا، النظام الذي تراجعت عنه غالبية دول العالم. 

علي (18 عاما)، وهو من طلبة هذا العام، فكّر بالانتحار. 

“في اليوم الأول للامتحان وطريقة التفتيش التي خضعنا لها، والضغط جعل هذه الفكرة ليست ببعيدة، بالنهاية لدي طاقة محددة لتحمل كل هذه المتاعب”، وهذا ليس بعيداً عما قاله محمد، “في أول امتحان كنت قد جلبت معي مسماراً لسبب أجهله، ما أن وزعت الدفاتر والأسئلة حتى بدأت بغرز المسمار في علبة الماء، في أي لحظة كنت مستعداً لجرح نفسي لتقليل التوتر والضغط”. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

امتحان بطعم اليوريا: 

بعد عام ونصف العام من التحضير للامتحان الأكبر، ارتعب فؤاد (25 عاماً) حين دخل الممرّ المؤدي إلى القاعة. خضع للتفتيش وأبرز هويته.. أبرز القلق والتوتر أيضاً. سيطر عليه رعبٌ رهيبٌ، شعر ببرودة غريبة في جسده، بعد ذلك، أفلتت عضلاته ولم تتمكن من حبس البول، شعر بالحرج، طلب من الأستاذ الذهاب إلى الحمام، وجوبه طلبه بالرفض، وبقي على هذه الحال قرابة ساعتين ونصف، أجاب على كل أسئلة الإسلامية وهو عائم باليوريا. 

إلى هذا الحد قد يصل ضغط امتحان البكالوريا في الدراسة الإعدادية: قلق اجتماعي ونفسي وضغط مادي تعيشه مئات الآلاف من العائلات سنوياً، “كلمات من قبيل (بكالوريا/ سادس/ وزاري) مخيفة ومثيرة للرعب وقاتلة” كما يقول فؤاد، على الرغم من مرور خمس سنوات على اجتيازه المرحلة، إلا أن الكلمات هذه ما تزال تسبب له رعباً نفسياً كلما مرّت صدفة منه، وصل به الأمر أن يتجنّب كل طالب سادس، خوفاً من التأثير على نفسيّته سلباً. 

عندما بكى لوريا 

يشطر العراقيون بشكل ساخر عبارة bachalariatus الواردة من اللغة اللاتينية المتأخرة والتي تطلق على المبتدئ في الفروسية، إلى نصفين “بكى”، “لوريا”. تقول القصة المنسوجة اجتماعياً، إن هناك طالباً اسمه “لوريا” دخل هذا الامتحان ولشدّته وصعوبته بكى، فسمي هذا بهذا الاسم. 

هذه واحدة من الخيالات الشعبية التي تعمق من سطوة الامتحان. 

والبكالوريا هي نظام امتحاني وطني شامل يجرى في وقت محدد، وتكون أسئلته موضوعة من قبل لجان وطنية، ويستخدم هذا النظام في شمال إفريقيا وسوريا ولبنان والعراق وبلدان الأخرى، لتكون هذه المرحلة الحد الفاصل بين التعليم الثانوي والتعليم الجامعي. 

صار هذا الامتحان، بمرور الزمن، يأخذ شكلاً صارماً، متزمتاً وقاسياً. يشكّل تعقيدا بمرور السنوات. 

كانت الأيام الأربعة أواخر أيار1917، قد شهدت تدشين نظام البكالوريا، وحينها، خضع له طلاب السنة الرابعة من التعليم، إذ كان التعليم في العراق ينتهي عند هذه المرحلة. 

يجري العراق اليوم ثلاثة امتحانات وفقاً لهذا النظام، الأول في السادس الابتدائي للعبور من التعليم الابتدائي إلى مرحلة المتوسطة، والثاني للانتقال من الثالث المتوسط إلى المرحلة الإعدادية، وأخيراً النقلة الكبرى إلى الجامعة، والمرحلة الأصعب في الدراسة: السادس الإعدادي، الذي يأخذ حيزاً أكبر من حياة الطالب العراقي.  

” لو كان السادس رجلاً لقتلته”، يحوّر الطلاب جملة منسوبة للإمام علي يدين فيها الفقر. كتبت هذه الجملة على مقاعد وجدران ودفاتر طلاب السادس. 

يبدأ التحضير لهذه المرحلة مبكراً، إذ لم يستمتع الطلبة بعطلتهم الصيفية، فكم لوريا يبكي سنوياً، خاصة بعد أن وصل عدد الممتثلين له أكثر من نصف مليون طالب وطالبة هذا العام؟ 

نخوض هنا رحلة مع أفراد خاضوا البكالوريا. جلب لهم الامتحان الرعب والتوبيخ والوصم. فكّر بعضهم، لشدّة الضغط، بالانتحار، وتراجعت حالة بعضهم النفسية.  

انتهى زمن الكلاوات 

حين دخلت فرح في أول يوم رسمي بمرحلة السادس، صرخت مدرسة اللغة العربية بكلّ الطلاب في صفّها: “انتهى زمن الكلاوات”. تقول فرح (21 عاما)، “هكذا بدأ العام الدراسي، بُثَّ الخوف فينا، وكأن أحد عشر عاماً من الدراسة من مرحلة الأول الابتدائي وحتى الخامس الإعدادي كانت غير سليمة” من ناحية الدراسة. 

بوصفها طالبة سادس، فإن جميع من حول فرح أخذ يعاملها بشكل مختلف. تعتقد فرح بأن السادس مجرد مرحلة، لكن جميع من حولها بث رسائل مغايرة لها. تتلقى تلك الرسائل لتخضع لحقيقة السادس، عبارات من قبيل “كل مصيرج بهذه السنة”، “هذه السنة تحدد حياتج إلى الأبد”، “شكد ما تكدر اتعب بهذي السنة”. 

أحيطت بهذه الجمل والعبارات من كل اتجاه. 

“كيف يمكن لدماغ مراهق عمره 18 عاماً تحمل تلك المسؤولية؟ وصلت لاعتقاد أنني أخوض حرباً، أدافع عن حلم عائلة كبيرة لمدة سنة واحدة فقط”. 

نتيجة لتلك الضغوط بدأت تشعر بالذنب حتى لو تأخرت قليلاً في الحمام بحسب قولها، صنع المجتمع من حولها هالة ضخمة للسادس، قلق وتوتر ومراقبة شديدة لكل ما تفعله، كلما فعلت شيئاً ما، كان يتم تذكيرها بأنها “طالبة سادس”. 

“السادس اختبار ذهني ونفسي ومو اختبار علمي كما يظن الجميع، المدرسة والبيت والشارع والجدران تكولك هيج”. 

حرب المعدلات: ما لم تكن دكتوراً، فأنت فاشل! 

كل ما يريده الطلبة من السادس هو رقم يسمى “المعدل”. وفقه، يتوزع الطلبة على الكليات والمعاهد، ووفقه أيضاً تحدد المهنة أو المسار الذي سيتخذه الطلبة. 

وفقا للمعدل، تشتعل حرب المعدلات والتنافس الشرس بين الطلبة، مما يولد ضغطاً نفسياً هائلاً على عدد كبير منهم. 

وقع ياسر (32 عاما) داخل هذه الحرب، بعد أكثر من عشر سنوات ما يزال يتذكر كل تفاصيل السادس العلمي، كانت عائلته تحلم أن يكون طبيباً بسبب مستواه الدراسي المتفوق. 

“السنة الثانية هي الأزمة الحقيقية، بسبب الحالة النفسية التي وصلتها قبيل وقت الامتحانات، شخَّص الطبيب إصابتي بالتايفوئيد، أخذت دواءه لكن قلقي زاد وزادت صحتي اعتلالاً، بعدها قصدت معالجاً شعبياً علاجه للتايفوئيد كي الرأس بخرقة ملفوفة، في ثلاثة أماكن من رأسي”. 

دخل ياسر القاعة “برأس مكويٍّ”.  

فشل، بحسب عائلته، لأنه لم يدخل كلية الطب، رغم أنه حين أصيب بالتايفوئيد لم يذهب للطبيب، بل للمعالج الشعبي. 

يتحدّث عن حياته الآن وكيف كانت ستكون لو أصبح طبيباً. 

“لو تابعت حياتي كما كان مخططاً لي، 6 سنوات من الدراسة المكثفة والضغط تعقبها سنين من التخصص والتطبيق، ثم افتح عيادة لاستقبال المرضى لأحصد تعب السنين، وهناك سأكون أمام سيناريوهين: إما أن أُكوِّن سُمعة جيدة، وربما توضع الحناء على بابي، أو أكون دكتوراً لا صيت له!” 

ينشط ياسر الآن في مجال السينما ويعد، واحداً من أبزر المخرجين الشباب “الطب حلم أهلي، بس كنت أريد أن أصبح فناناً منذ البداية”. 

يعيش مئات العراقيين اليوم ضحايا لكلمة طبيب أو مهندس، وهي التخصُّصات التي تتطلّب أعلى المعدلات. ويلقى مئات الآلاف من الطلبة ظروفاً قاسية بسبب هذه الكلمات. 

“هل يبدو ذلك جيداً؟ أن يحلم أحدهم بدلاً عنك، اسأل الآباء والمدرسين ممن زرعوا فينا هذا الحلم الذي تتسع الحياة لغيره طبعا”، يقول ياسر. 

آباءُ الطلبة طلبةٌ ونصف  

عدد كبير من العائلات تبدأ بالاستعداد للسادس الإعدادي مبكراً. تنطلق رحلة الامتحان ببداية العطلة الصيفية التي تسبق المرحلة، يدخل الطالب في المعاهد أو مع المدرسين الخصوصيين في صيف ساخن وطويل، وهناك من يتطرّف في ذلك ويبدأ الاستعداد بعد امتحانات نصف السنة للخامس الإعدادي، أي قبل حوالي عام ونصف العام. 

الرحلة مكلفة على المستوى الاقتصادي، تتراوح أسعار تدريس المنهج الدراسي الواحد وبحسب المادة واسم وشهرة المدرس أو المعهد من 500 إلى 3000 دولار تقريباً. 

خاضت وسن، وهي أمٌ لطالبين سابقين، التجربة مرتين. 

“4 سنوات من الضغط الاقتصادي الرهيب عشته، لم تقتنع ابنتي بمعدلها في السنة الأولى، بينما لم يدخل ابني امتحانه في سنته الأولى”، تقول وسن. 

هذه السنوات هي الأكثر صعوبة بالنسبة لها، لما عانته من ظروف نفسية وصحية واقتصادية، فالسادس يحتاج لعدد كبير من المدرسين إضافة لمصاريف المَلَازم (جمع ملزمة؛ ملخصات دراسية للمواد المنهجية) والخطوط وغيرها من التفاصيل. 

“ما بين مليون إلى مليون وربع كلفني كل درس مع ابنتي، أدخلتها لدى مدرسين معروفين، قبل ذلك خضت رحلة معقدة من أجل حجز مقاعد عند أساتذة معينين، إضافة لتكاليف النقل، في فترة كورونا صار التدريس الخصوصي (أون لاين) عن طريق كارت يأتينا عبر شركات التوصيل فيه كود لفتح المحاضرة، سعر الكارت للفصل الواحد بحدود الــ 50 ألف دينار”. 

حسب تخمين وسن، فإن السنة الواحدة في السادس قد تكلف عائلة الطالب حوالي من 12 إلى 15 مليون دينار، وأن تكلفة نجاح أبنائها من السادس قد تجاوزت 50 مليون دينار. 

وبعد ذلك، لو قبل أحدهم في كلية أهلية تكون الكلفة النهائية للطالب “سعر بيت” بحسب ما قالت. 

قاسيةٌ هي المتاعب الاقتصادية التي يتحملها الآباء، مضافاً لها عمليات التدريس والمتابعة والمراقبة والعناية النفسية والصحية وغيرها. 

عندما كان يقترب امتحان أحد ولديها، تقول وسن، “آخذ إجازة من الدوام من بداية عطلتهم حتى آخر يوم امتحان، بهذي الفترة لازم أطبخ أحسن طبخ، وأنظف البيت وأعطره بشكل مستمر، وفي الوقت نفسه آني وأبوهم طلاب وياهم نراجع ونقرأ ونكتب لو تطلب الأمر، رغم اختصاصي أدبي، آني جيدة في الكيمياء بسبب أولادي”. 

كل العراق يعرف شطالعه بالسادس”  

وقت إعلان نتائج السادس الإعدادي الدور الأول لهذا العام انتشر “سكرين شوت” ساخر مصطنع غالباً لحوار بين شقيقتين تمتلك إحداهما ابناً في السادس: 

  • الأولى: ها عيني.. بشري حمودي شطلع؟ 
  • الثانية: والله بواحد بلكي يعوضه بالدور الثاني  
  • الأولى: لا هستوني شفت نتيجته بـأربعة 
  • الثانية: بيج سولة .. إذا تدرين شكو تسألين؟؟ 

تسبّب طريقة وزارة التربيّة في نشر النتائج، ضغوطات. 

يُمكن لأي فرد الاطلاع على نتيجة أي طالب يرغب في معرفة نتيجته. 

يتفق كل من ياسر ووسن وفؤاد على أن هذه الطريقة قد تسبّب إحراجاً اجتماعياً لمن يخفق في الامتحان. 

“سابقا حين كان يخفق أحدنا في الامتحان، نتحاشى الحديث عن الأمر، نحاول أن نخفي النتيجة الحقيقية، لكن الآن ليست فقط بنت خالتي تستطيع رؤية نتيجتي بل كل من لديه نت”، تقول فرح. 

من منا يحب أن يرى الآخرون فشله؟ غالبا لا يفضل الإنسان أن يعلن عن نتائجه إذا كانت متدنّية، لهذا السبب يعتبر ياسر أن “هذه الطريقة هي عملية فضح لا يرغب بها الطلبة بالمجمل، ويفترض إيجاد حلول بديلة”. 

ينتقد تربويون الآليات القديمة في التعليم وتقنياته وطرق إعلان نتائجه. 

“مهم أن يتوافق عمل المؤسسات مع روح العالم الحديث وإيصال المعلومة وفق مبدأ الشفافية”، قال حميد عبد الله حسن، معاون مدير عام تربية الرصافة الثانية، “عرض النتائج للدارسين فيه جوانب إيجابية مهمة يختصر الوقت ويقلل من حجم القلق ويخفف الروتين. لكن الشكل المعلن ممكن أن يكون محبطاً نفسياً وقد يسبب حرجاً وانكساراً لدى الدارس. أظن أن هذا جزء من ضريبة استخدام التقنيات والتواصل الحي”. 

يعتبر غالبية الطلبة أن هذه العملية خرق لبياناتهم، ويفكّرون بإقامة دعوى قضائية لإيقاف طريقة نشر النتائج. 

“بإمكان الطالب إقامة دعوى، لكن مصيرها على الأرجح هو الردّ، لأن القانون لا يمنع ذلك بنص صريح”، يقول حيان الخياط، المحامي.  

السادس.. أقرب طريق إلى الانتحار 

مع اقتراب كل موعد امتحانات، مع كل إعلان لنتائج السادس، تنتشر الأخبار حول انتحار طالب أو طالبة بسبب ضغط البكالوريا، النظام الذي تراجعت عنه غالبية دول العالم. 

علي (18 عاما)، وهو من طلبة هذا العام، فكّر بالانتحار. 

“في اليوم الأول للامتحان وطريقة التفتيش التي خضعنا لها، والضغط جعل هذه الفكرة ليست ببعيدة، بالنهاية لدي طاقة محددة لتحمل كل هذه المتاعب”، وهذا ليس بعيداً عما قاله محمد، “في أول امتحان كنت قد جلبت معي مسماراً لسبب أجهله، ما أن وزعت الدفاتر والأسئلة حتى بدأت بغرز المسمار في علبة الماء، في أي لحظة كنت مستعداً لجرح نفسي لتقليل التوتر والضغط”.