"تغليف من الرأس إلى القدم".. الرقباء والرقيبات في "بيت العيال"
10 آب 2023
تجبر البنات في بيت العيال على ارتداء ملابس لا يجدنها مريحة، فمثلاً، يُمنعن من ملابس "ربع" و"نصف الكم" أو ثوب طوله "ثلاثة أرباع" أو البيجاما، ويفرض عليهن ارتداء أثواب طويلة وعريضة سميكة وتحتها بطانة أو قطعة داخلية طويلة (آتك) وبدي بأكمام.. إذاً، كيف تعيش النساء تحت أعين رقباء ورقيبات في درجات حرارة خانقة؟
“أويلي يصير الصيف علينا جهنم آني والبنات، نلبس بهلحجاب والدشاديش الثخينة والأتكات. وما راضين علينا. العمة تصيح منا وتخوزر (استرن ارواحجن)، ورجلي والحموين منا يصيحون”.
تشرح أم زهراء (37 سنة، معلمة من ميسان)، معاناتها بالسكن في “بيت العيال”)1(وهو نوع السكن الشائع في العراق، حيث تسكن العوائل الممتدة في بيوت تتراوح مساحتها بين 50م2 إلى250م2، وأحياناً تتكون من طابقين أو أكثر.
تعيش النساء عادة في بيوت العيال في غرف صغيرة مع أطفالهن في الطابق العلوي، فتصبح تلك الغرف كالأفران عند انقطاع الكهرباء، أو تذبذبها، فلا تعمل أجهزة التكييف ولا المبردات.
هرباً من الحر، ينزلن إلى الطابق الأرضي، الذي يكون عادةً أقلّ حرارة من الطوابق العلوية. ولكن، لمغادرة غرفهن إلى المساحة المشتركة مع “العيال”، يتوجّب عليهن الالتزام بالحجاب الكامل الذي يشعرهن بالتقييد، فلا يحصلن على راحة ولا استرخاء ولا التمتع، ولو بنسمة برودة صغيرة، خوفاً من أن يراهن رجال البيت بدونه.
مو بس حجاب.. معاصم وجواريب وستريجات
تشكو أم زهراء الحر اللاهب والضيق وهي ترتدي الحجاب الكامل(2)، “إنّظف ونكنس ونغسل ونوكف بالمطبخ.. ننطبخ وية الطبخ.. نستوي بالصيف. لازم ولا شعرة تطلع منا ولا شوية من رجلينا وادينا. مادام إحنه بره غرفنا نكون احنا مكمطين حتى لا يشوفونا الزلم بالبيت”.
تعيش أم زهراء مع سلفاتها الثلاثة. ويفرض شرعاً عليهن وبناتهن الالتزام بملابس سميكة وطويلة وحجاب. فالفتيات اللاتي ولدن ويعشن في بيوت العيال، إذ ما بلغن عمر تسع سنوات وجب عليهن الالتزام به، إذ يغطونهن بالحجاب الكامل من أقاربهن (غير المحارم) الساكنات معهم.
وجنات (23 سنة، طالبة صيدلة) إحدى أولئك الفتيات اللاتي، “لبست الحجاب بعمر 10 سنوات مو بس بره البيت، حتى بالبيت وأمي اشترتلي ملابس عريضة وطويلة وصاية. ألبسهن من اطلع وهم بالبيت كدام ولد عمامي. ما جان عندي غرفة. جنت لو أكعد بغرفة امي وابوي لو افتر بالبيت. حجابي جان لازك براسي، حتى أنام بيه، وأنزعه بس من اسبح، وبالصيف اموت حر و راسي يعرق وشعري يعطن وبسببه شعري صار خفيف مهلس”.
نادراً ما تحصل الفتاة وحدها أو مع أخواتها على غرفة خاصة في بيت الأسرة. فكيف حال اللاتي يعشن في “بيت العيال”. يضيق الوقت والمكان بالفتيات وينهكن، وبالكاد يجدن مكاناً ليجلسن أو يسترخين أو يدرسن فيه.
وتحكي سجى (25 عاماً، من البصرة) التي لم يمر على زواجها عدة أشهر كيف تعيش في بيت العيال، فهي تسكن غرفة في الطابق العلوي بمساحة 16م2. لا تستطيع البقاء في غرفتها أغلب الوقت لأن “عيالها” يطلبون منها الخروج باستمرار من أجل خدمتهم، وعليه ترتدي سجى الحجاب الكامل وتقول إنها عندما تستعجل بالنزول أو تملّ من كثرة تغيير الملابس من مريحة إلى ملابس مستورة خانقة، فعلى السرعة ترتدي فوق ملابسها الطبيعية إسدال الصلاة أو صاية(3) بل حتى عندما تذهب للحمام تلتزم بتلك الأغطية.
فتقول “مو بس حجاب، حتى معاصم وجواريب وستريجات نلبسهن تحت الدشاديش لما ننظف ونغسل البيت والفراش بالطرمة، حتى ما يشوفون حموينا واولادهم ادينا ورجلينا لأن حرام”.
بنات وأمهات وجدات وسلفات.. مراقبات ورقيبات
تشعر سجى وسلفاتها بالضيق الشديد والحرارة بسبب تلك الألبسة والأغطية التي تسبب الاختناق والحكة واحياناً الطفح الجلدي. ولكن الأزواج وأمهم وأولادهم يراقبون التزامهن، وإذا ما تهاونَّ أو خالفن يحذرونهن ويعاقبونهن بالصياح والتهديد والضرب.
ليس الرجال فقط، من يراقبون لباسهن في البيت، بل السلفات يفعلن ذلك فيما بينهن، إذ أنهن يخشين أن ينظر أزواجهن إلى زوجات إخوتهم. كذلك يشعرن بأنه إذا ما قصّرت إحداهن في الالتزام باللباس المفترض، فقد يكون لديها نية لإغراء أحد أزواجهن (حماها). لذلك ينهرنها أو يلجأن إلى زوجها من أجل أن يؤدبها لضمان عدم تكرار إهمالها أو تقصيرها في الحجاب الكامل. وهو ما حصل مع سجى التي قالت ساخرة “سلفاتي يغارن على ازواجهن ويدققن بحجابي ولبسي المستور بالبيت أكثر من المفتشات بالزيارة”.
أغلب الأسر العراقية الآن تفرض الحجاب الكامل على النساء أمام كل الأقارب من غير المحارم.
لم يكن الأمر هكذا قبل 20 عاماً على الأقل، وربما كان موجوداً ولكن غير شائع. فقد تغيّر الحال بعد الأسلمة الثانية(4) بعد عام 2003، إذ صارت التوجيهات والضوابط حول النساء تنشر من المنابر في الحوزات والجوامع والحسينيات النسائية والرجالية، وفي الأعوام الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
أتذكر أني حضرت ليلة الحجة (ليلة العاشر) من محرم عام 2014، كانت الملاية تقدم للنساء محاضرة عن الحجاب الكامل وتحذرهن من إثم الانكشاف حتى على الولد الصغير، حتى أمام ابن العم والخال والأحماء والأصهار وبقية الأقارب، وعلى إثره وجب علينا أيضاً ارتداء الجوارب السوداء أمامهم، ومن ترتدي جوارب شفافة “لحمية” سوف تؤذي الإمام المهدي لأن سهما سيخترق قلبه. “سوف تؤذين أمام زمانك!!”. قالت “تحملي تلبسيهن بالصيف حتى لو بشهر آب اللهاب، لأن راح يكون أجرك أكبر”.
يحرض رجال الدين و المراجع على تقييد ملابس النساء في البيوت بهدف الستر والتحجب. ويشكل هذا على أغلبهن ضغطا نفسيا وجسديا، فوصفت أم زهراء حالتها “بالابتلاء” لان ليس لها في ذلك حيلة، فهي تشعر مع سلفاتها بالخوف من التقصير في أداء فريضة ارتداء الحجاب الكامل حتى لو كان دون قصد منهن لأن أغلب هؤلاء النساء المعذبات مؤمنات، وأيضاً الخوف من عقاب الأزواج وغضب “العمة” (والدة الزوج)، فتقول: “نتحمل نار الدنيا، الحجاب والثخين(5) ويه العيال بالصيف، ولا نار الآخرة”.
أن تعاليم الدين وتحريض رجاله وتعامل العوائل تنبهنا إلى أمر مهم يرتبط بتعامل المجتمع مع حالات العنف الجنسي ضد النساء. فمن الشائع حينما تتعرض النساء للمضايقة والتحرش في الأماكن العامة، يُلقى اللوم دوما عليهن، “بسبب ملابسهن”.
لكن وجدت أن الأمر ذاته يحصل مع النساء اللاتي يتعرضن إلى العنف الجنسي في البيت، خصوصاً بعد أن كُشف الستار عن حالات اغتصاب وتحرش المحارم والأقارب.
وفي النظام الأبوي العائلي، يعتبر شائعاً اعتبار المرأة مصدرا للإغواء ومسببا للفساد. فتلام الزوجة حينما يتحرش بها حماها أو ابنه. وتلام الفتاة حينما يتحرش بها أحد رجال العائلة (أخوها، أبوها، جدها، خالها، أو عمها، وأولادهما) لكونها لم تلتزم بلباس مستور أو حجاب كامل في البيت لهذا فهي تعد خاطئة وقد أغرتهم. ويتعدّى الأمر إلى لومهن وانتقادهن على طريقة جلوسهن وحركاتهن التي ربما فتنتهم.
الاستقلالية ليست بالحسبان!
كل ما تحلم به أم زهراء هو أن يخرج بها زوجها من بيت أهله إلى بيت مستقل لتستريح وترتدي ما يلائم حر الصيف دون أن تغطي جميع جسدها. لكن زوجها لا يرغب بالخروج رغم أن باستطاعته إيجار أو شراء بيت يناسبهم.
من الشائع في العراق أن يتزوج الرجال ويسكنون مع زوجاتهم في بيوت أهلهم. أبرز الأسباب لذلك هو الوضع المادي الذي يمنعهم من شراء أو تأجير منازل منفصلة، فيقضون السنوات معهم وتختلف مدة السكن حسب الرجال وأهاليهم.
ولكن هناك أيضاً العادة العائلية والعشائرية التي تفرض على الأبناء وزوجاتهم البقاء في بيوت أهاليهم مع زوجاتهم.
فغالباً لا يجد أولئك الرجال مشكلة لأنهم يرون أن طبيعة السكن الاستغلالية تلك، ستخفف عليهم تحمل المسؤولية الكاملة وتجنبهم رهاب الاستقلال الذين يكونون غير مستعدين له بسبب التنشئة الأبوية المهيمنة التي تركز على التبعية العائلية، دون حساب لكون زوجاتهم يفقدن استقلاليتهن وراحتهن في بيوت العيال.
“ما يرضى يطلع، ما يفارك أهله، بعده ما مفطوم من حليب امه”، تحاول أم زهراء تفسير السبب وراء امتناع زوجها عن الاستقلال في بيت خاص.
هل يرتحن في بيوت أسرهن؟
استطاعت جنات أن تتحرر من تغطية شعرها في بيت العيال بعد عشر سنوات بعد أن اشترى والدها بيتاً لهم. والمحزن في الأمر هو أنها لم تحصل حتى الآن ولو على غرفة مشتركة مع أخواتها الأصغر.
بيد أن تقييداً من نوع آخر يفرض على الفتيات اللاتي يسكن في بيت أسرهن (وليس في بيوت العيال)، حيث يفرض تقييد على نوع الملابس البيتية، فتجبر البنات على ارتداء ملابس لا يجدنها مريحة في الصيف من أجل أن يكن مستورات. مثلاً، يمنعن من ملابس “ربع” و”نصف الكم” أو ثوب طوله “ثلاثة أرباع” أو البيجاما، ويفرض عليهن ارتداء أثواب طويلة وعريضة سميكة وتحتها بطانة أو قطعة داخلية طويلة (آتك) وبدي بأكمام.
“ما اكدر البس اللي بنفسي بالبيت، لان أبوي وإخواني يشوفوني، لان عيب. هيج أمي تكولي من اول ما بلغت. وابوي نفس أمي من يشوفني لابسه شي مو على مرامه يكولي نزعي ملابس الساقطات، وضربني كم مرة”، قالت شهد (16 عاماً)، وهي طالبة ثانوية.
أخذ إخوة شهد يحاسبونها كما والدها ويغضبون ويتجرؤون على ضربها حينما يرونها بملابس بيتية غير مقبولة عليهم. وتكمل شهد: “سمعت أمي وابوي يحجون عليه يكولون تستاهل هي متعمدة هيج تلبس الظاهر تسوي إغراءات”.
قدرتهن على العقارب
كان ولا يزال شائعاً النوم فوق السطح نظراً لعدم توفر الكهرباء وبسبب الوضع المادي السيئ لتلك الأسر والعوائل. لكن في السنوات الاخيرة مع ارتفاع السعار الإسلامي بعزل وتحجيب النساء أصبحت هذه العادة لا تشمل النساء في بيوت العيال إلا لو توفر شرط العزل. وهو أن يقسم السطح إلى أسر تعزلهم عن بعض حواجز من الملاءات المعلقة على الحبال والمثبتة من الأسفل بالطابوق. وبخلاف ذلك يجدر بالسلفات وبناتهن البالغات النوم داخل البيت. ويكون الوضع صعباً عليهن، خصوصاً إذ كانت البيوت غير ذات تهوية أو كانت قديمة أو من البلوك وأجزاء من الصفيح، حيث تخرج عليهن الحشرات والعقارب في داخل البيت. فعليهن قتل العقرب ومن ثم حرقه في مكانه حتى تشم رائحته بقية العقارب المختبئة فتخاف الخروج(6).
إلى أين إذن تذهب النساء في الصيف؟
*جميع الأسماء في النصّ مستعارة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
“أويلي يصير الصيف علينا جهنم آني والبنات، نلبس بهلحجاب والدشاديش الثخينة والأتكات. وما راضين علينا. العمة تصيح منا وتخوزر (استرن ارواحجن)، ورجلي والحموين منا يصيحون”.
تشرح أم زهراء (37 سنة، معلمة من ميسان)، معاناتها بالسكن في “بيت العيال”)1(وهو نوع السكن الشائع في العراق، حيث تسكن العوائل الممتدة في بيوت تتراوح مساحتها بين 50م2 إلى250م2، وأحياناً تتكون من طابقين أو أكثر.
تعيش النساء عادة في بيوت العيال في غرف صغيرة مع أطفالهن في الطابق العلوي، فتصبح تلك الغرف كالأفران عند انقطاع الكهرباء، أو تذبذبها، فلا تعمل أجهزة التكييف ولا المبردات.
هرباً من الحر، ينزلن إلى الطابق الأرضي، الذي يكون عادةً أقلّ حرارة من الطوابق العلوية. ولكن، لمغادرة غرفهن إلى المساحة المشتركة مع “العيال”، يتوجّب عليهن الالتزام بالحجاب الكامل الذي يشعرهن بالتقييد، فلا يحصلن على راحة ولا استرخاء ولا التمتع، ولو بنسمة برودة صغيرة، خوفاً من أن يراهن رجال البيت بدونه.
مو بس حجاب.. معاصم وجواريب وستريجات
تشكو أم زهراء الحر اللاهب والضيق وهي ترتدي الحجاب الكامل(2)، “إنّظف ونكنس ونغسل ونوكف بالمطبخ.. ننطبخ وية الطبخ.. نستوي بالصيف. لازم ولا شعرة تطلع منا ولا شوية من رجلينا وادينا. مادام إحنه بره غرفنا نكون احنا مكمطين حتى لا يشوفونا الزلم بالبيت”.
تعيش أم زهراء مع سلفاتها الثلاثة. ويفرض شرعاً عليهن وبناتهن الالتزام بملابس سميكة وطويلة وحجاب. فالفتيات اللاتي ولدن ويعشن في بيوت العيال، إذ ما بلغن عمر تسع سنوات وجب عليهن الالتزام به، إذ يغطونهن بالحجاب الكامل من أقاربهن (غير المحارم) الساكنات معهم.
وجنات (23 سنة، طالبة صيدلة) إحدى أولئك الفتيات اللاتي، “لبست الحجاب بعمر 10 سنوات مو بس بره البيت، حتى بالبيت وأمي اشترتلي ملابس عريضة وطويلة وصاية. ألبسهن من اطلع وهم بالبيت كدام ولد عمامي. ما جان عندي غرفة. جنت لو أكعد بغرفة امي وابوي لو افتر بالبيت. حجابي جان لازك براسي، حتى أنام بيه، وأنزعه بس من اسبح، وبالصيف اموت حر و راسي يعرق وشعري يعطن وبسببه شعري صار خفيف مهلس”.
نادراً ما تحصل الفتاة وحدها أو مع أخواتها على غرفة خاصة في بيت الأسرة. فكيف حال اللاتي يعشن في “بيت العيال”. يضيق الوقت والمكان بالفتيات وينهكن، وبالكاد يجدن مكاناً ليجلسن أو يسترخين أو يدرسن فيه.
وتحكي سجى (25 عاماً، من البصرة) التي لم يمر على زواجها عدة أشهر كيف تعيش في بيت العيال، فهي تسكن غرفة في الطابق العلوي بمساحة 16م2. لا تستطيع البقاء في غرفتها أغلب الوقت لأن “عيالها” يطلبون منها الخروج باستمرار من أجل خدمتهم، وعليه ترتدي سجى الحجاب الكامل وتقول إنها عندما تستعجل بالنزول أو تملّ من كثرة تغيير الملابس من مريحة إلى ملابس مستورة خانقة، فعلى السرعة ترتدي فوق ملابسها الطبيعية إسدال الصلاة أو صاية(3) بل حتى عندما تذهب للحمام تلتزم بتلك الأغطية.
فتقول “مو بس حجاب، حتى معاصم وجواريب وستريجات نلبسهن تحت الدشاديش لما ننظف ونغسل البيت والفراش بالطرمة، حتى ما يشوفون حموينا واولادهم ادينا ورجلينا لأن حرام”.
بنات وأمهات وجدات وسلفات.. مراقبات ورقيبات
تشعر سجى وسلفاتها بالضيق الشديد والحرارة بسبب تلك الألبسة والأغطية التي تسبب الاختناق والحكة واحياناً الطفح الجلدي. ولكن الأزواج وأمهم وأولادهم يراقبون التزامهن، وإذا ما تهاونَّ أو خالفن يحذرونهن ويعاقبونهن بالصياح والتهديد والضرب.
ليس الرجال فقط، من يراقبون لباسهن في البيت، بل السلفات يفعلن ذلك فيما بينهن، إذ أنهن يخشين أن ينظر أزواجهن إلى زوجات إخوتهم. كذلك يشعرن بأنه إذا ما قصّرت إحداهن في الالتزام باللباس المفترض، فقد يكون لديها نية لإغراء أحد أزواجهن (حماها). لذلك ينهرنها أو يلجأن إلى زوجها من أجل أن يؤدبها لضمان عدم تكرار إهمالها أو تقصيرها في الحجاب الكامل. وهو ما حصل مع سجى التي قالت ساخرة “سلفاتي يغارن على ازواجهن ويدققن بحجابي ولبسي المستور بالبيت أكثر من المفتشات بالزيارة”.
أغلب الأسر العراقية الآن تفرض الحجاب الكامل على النساء أمام كل الأقارب من غير المحارم.
لم يكن الأمر هكذا قبل 20 عاماً على الأقل، وربما كان موجوداً ولكن غير شائع. فقد تغيّر الحال بعد الأسلمة الثانية(4) بعد عام 2003، إذ صارت التوجيهات والضوابط حول النساء تنشر من المنابر في الحوزات والجوامع والحسينيات النسائية والرجالية، وفي الأعوام الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
أتذكر أني حضرت ليلة الحجة (ليلة العاشر) من محرم عام 2014، كانت الملاية تقدم للنساء محاضرة عن الحجاب الكامل وتحذرهن من إثم الانكشاف حتى على الولد الصغير، حتى أمام ابن العم والخال والأحماء والأصهار وبقية الأقارب، وعلى إثره وجب علينا أيضاً ارتداء الجوارب السوداء أمامهم، ومن ترتدي جوارب شفافة “لحمية” سوف تؤذي الإمام المهدي لأن سهما سيخترق قلبه. “سوف تؤذين أمام زمانك!!”. قالت “تحملي تلبسيهن بالصيف حتى لو بشهر آب اللهاب، لأن راح يكون أجرك أكبر”.
يحرض رجال الدين و المراجع على تقييد ملابس النساء في البيوت بهدف الستر والتحجب. ويشكل هذا على أغلبهن ضغطا نفسيا وجسديا، فوصفت أم زهراء حالتها “بالابتلاء” لان ليس لها في ذلك حيلة، فهي تشعر مع سلفاتها بالخوف من التقصير في أداء فريضة ارتداء الحجاب الكامل حتى لو كان دون قصد منهن لأن أغلب هؤلاء النساء المعذبات مؤمنات، وأيضاً الخوف من عقاب الأزواج وغضب “العمة” (والدة الزوج)، فتقول: “نتحمل نار الدنيا، الحجاب والثخين(5) ويه العيال بالصيف، ولا نار الآخرة”.
أن تعاليم الدين وتحريض رجاله وتعامل العوائل تنبهنا إلى أمر مهم يرتبط بتعامل المجتمع مع حالات العنف الجنسي ضد النساء. فمن الشائع حينما تتعرض النساء للمضايقة والتحرش في الأماكن العامة، يُلقى اللوم دوما عليهن، “بسبب ملابسهن”.
لكن وجدت أن الأمر ذاته يحصل مع النساء اللاتي يتعرضن إلى العنف الجنسي في البيت، خصوصاً بعد أن كُشف الستار عن حالات اغتصاب وتحرش المحارم والأقارب.
وفي النظام الأبوي العائلي، يعتبر شائعاً اعتبار المرأة مصدرا للإغواء ومسببا للفساد. فتلام الزوجة حينما يتحرش بها حماها أو ابنه. وتلام الفتاة حينما يتحرش بها أحد رجال العائلة (أخوها، أبوها، جدها، خالها، أو عمها، وأولادهما) لكونها لم تلتزم بلباس مستور أو حجاب كامل في البيت لهذا فهي تعد خاطئة وقد أغرتهم. ويتعدّى الأمر إلى لومهن وانتقادهن على طريقة جلوسهن وحركاتهن التي ربما فتنتهم.
الاستقلالية ليست بالحسبان!
كل ما تحلم به أم زهراء هو أن يخرج بها زوجها من بيت أهله إلى بيت مستقل لتستريح وترتدي ما يلائم حر الصيف دون أن تغطي جميع جسدها. لكن زوجها لا يرغب بالخروج رغم أن باستطاعته إيجار أو شراء بيت يناسبهم.
من الشائع في العراق أن يتزوج الرجال ويسكنون مع زوجاتهم في بيوت أهلهم. أبرز الأسباب لذلك هو الوضع المادي الذي يمنعهم من شراء أو تأجير منازل منفصلة، فيقضون السنوات معهم وتختلف مدة السكن حسب الرجال وأهاليهم.
ولكن هناك أيضاً العادة العائلية والعشائرية التي تفرض على الأبناء وزوجاتهم البقاء في بيوت أهاليهم مع زوجاتهم.
فغالباً لا يجد أولئك الرجال مشكلة لأنهم يرون أن طبيعة السكن الاستغلالية تلك، ستخفف عليهم تحمل المسؤولية الكاملة وتجنبهم رهاب الاستقلال الذين يكونون غير مستعدين له بسبب التنشئة الأبوية المهيمنة التي تركز على التبعية العائلية، دون حساب لكون زوجاتهم يفقدن استقلاليتهن وراحتهن في بيوت العيال.
“ما يرضى يطلع، ما يفارك أهله، بعده ما مفطوم من حليب امه”، تحاول أم زهراء تفسير السبب وراء امتناع زوجها عن الاستقلال في بيت خاص.
هل يرتحن في بيوت أسرهن؟
استطاعت جنات أن تتحرر من تغطية شعرها في بيت العيال بعد عشر سنوات بعد أن اشترى والدها بيتاً لهم. والمحزن في الأمر هو أنها لم تحصل حتى الآن ولو على غرفة مشتركة مع أخواتها الأصغر.
بيد أن تقييداً من نوع آخر يفرض على الفتيات اللاتي يسكن في بيت أسرهن (وليس في بيوت العيال)، حيث يفرض تقييد على نوع الملابس البيتية، فتجبر البنات على ارتداء ملابس لا يجدنها مريحة في الصيف من أجل أن يكن مستورات. مثلاً، يمنعن من ملابس “ربع” و”نصف الكم” أو ثوب طوله “ثلاثة أرباع” أو البيجاما، ويفرض عليهن ارتداء أثواب طويلة وعريضة سميكة وتحتها بطانة أو قطعة داخلية طويلة (آتك) وبدي بأكمام.
“ما اكدر البس اللي بنفسي بالبيت، لان أبوي وإخواني يشوفوني، لان عيب. هيج أمي تكولي من اول ما بلغت. وابوي نفس أمي من يشوفني لابسه شي مو على مرامه يكولي نزعي ملابس الساقطات، وضربني كم مرة”، قالت شهد (16 عاماً)، وهي طالبة ثانوية.
أخذ إخوة شهد يحاسبونها كما والدها ويغضبون ويتجرؤون على ضربها حينما يرونها بملابس بيتية غير مقبولة عليهم. وتكمل شهد: “سمعت أمي وابوي يحجون عليه يكولون تستاهل هي متعمدة هيج تلبس الظاهر تسوي إغراءات”.
قدرتهن على العقارب
كان ولا يزال شائعاً النوم فوق السطح نظراً لعدم توفر الكهرباء وبسبب الوضع المادي السيئ لتلك الأسر والعوائل. لكن في السنوات الاخيرة مع ارتفاع السعار الإسلامي بعزل وتحجيب النساء أصبحت هذه العادة لا تشمل النساء في بيوت العيال إلا لو توفر شرط العزل. وهو أن يقسم السطح إلى أسر تعزلهم عن بعض حواجز من الملاءات المعلقة على الحبال والمثبتة من الأسفل بالطابوق. وبخلاف ذلك يجدر بالسلفات وبناتهن البالغات النوم داخل البيت. ويكون الوضع صعباً عليهن، خصوصاً إذ كانت البيوت غير ذات تهوية أو كانت قديمة أو من البلوك وأجزاء من الصفيح، حيث تخرج عليهن الحشرات والعقارب في داخل البيت. فعليهن قتل العقرب ومن ثم حرقه في مكانه حتى تشم رائحته بقية العقارب المختبئة فتخاف الخروج(6).
إلى أين إذن تذهب النساء في الصيف؟
*جميع الأسماء في النصّ مستعارة.