كيف فضح مقتل "لوسي" و"لونا" تردّي المؤسسة الأكاديمية العراقية؟ 

بلسم مصطفى

18 نيسان 2023

"لوسي ولونا كانتا كلبتين أليفتين تعيشان منذ سنوات في حرم الجامعة، وهما ملقحتان وغير مؤذيتين"، يجمع الطالبات والطلبة الذين تحدثتُ إليهم.. لكن لماذا قُتلتا؟ وكيف كشف مقتلهما عن تحرّش وخراب في الأكاديميات؟

شكّلتِ الحيوانات الأليفة سنوات طفولتي ومُراهقتي. 

ترعرعتُ في بغداد سنوات الحصار والحروب المتقطّعة، وكانت الحيوانات الأليفة تحيك تفاصيل شخصيتي. دفعتني أوّل قطة للتفكير بالاسم، لماذا نُسمّي القطط؟ وكيف نختار أسماءها. 

الاسم له رمزية عميقة تتعلق بالانتماء والترابط والألفة والحميمية، وحالما أطلق المرء على حيوانٍ ما اسماً، بدأت رابطة تتشكّل، وعلاقة تتركّب.   

هل يُمنح الكلب الضال اسماً؟  

سمّى طلبة كليّة البيطرة في جامعة بغداد الكلبتين الضالتين اللتين اعتنوا بهما “لوسي” و”لونا”. نشروا صورتهما على مواقع التواصل الاجتماعي، وفجأة وجدوهما مقتولتين.  

نهاية آذار الماضي، احتجّ الطلاب على مقتل الكلبتين ورمي جثتيهما بالقرب من بناية الجامعة، بحجة أنهما من “الكلاب السائبة”، بحسب ما نشر بعض الطلبة على مواقع التواصل الاجتماعي. 

يمكن للمرء الشعور بالحزن المُتدفق في الصور والفيديوهات التي نشروها على صفحاتهم وحساباتهم الخاصة على “السوشيال ميديا”، وفي القصص التي سردها بعضهم لي أثناء إجراء مُقابلات معهم. 

تحدثوا طويلاً عن الكلبتين، والأوقات التي قضوها معهما، وهم يقدمون الرعاية والاهتمام والعناية لهما. وكون الطلبة كانوا يدرسون الطب البيطري، فإن علاقتهم بالحيوانات خاصة ومليئة بالعناية والمعرفة. 

بالنسبة لهم، كانت لوسي ولونا كلبتين أليفتين لا يمكنهما الإضرار بالآخرين، وهذا ما فسر غضبهم واحتجاجهم ومطالبهم المشروعة في الكشف عن مقتلهما. 

“نحن أول من يفُترض بنا أن نرحم ونرفق بالحيوان، فكيف يمكن أن نسكت عن قتله في حرم الجامعة؟! لو أنهم فقط أخبرونا أنهم متضايقون من وجود لوسي ولونا لأي سبب، لكنا تكفلنا بهما وأخرجناهما من الجامعة أو تبنيناهما”، أخبرتني إحدى الطالبات بحسرة. 

“لوسي ولونا كانتا حيوانين أليفين يعيشان منذ سنوات في حرم الجامعة، وهما ملقحتان وغير مؤذيتين”، يجمع الطالبات والطلبة الذين تحدثتُ إليهم.  

كلاب سائبة.. ولكن 

قُتلتِ الكلبتان لأنهما من “الكلاب السائبة” المنتشرة بكثرة في جميع أنحاء البلاد، وهذه الفئة الضالة من الحيوانات، صارت تحظى ببعض الكراهية، لأنها شكّلت وتشكّل خطراً صحياً وبيئياً، وتهدد سلامة الأفراد، ولاسيما الأطفال.  

وليس هذه ظاهرة جديدة على العراق، إذ أقرّت سلطات البعث قانون مكافحة الكلاب السائبة رقم (48) في عام 1986، ونصت المادة الرابعة منه على مكافحة الكلاب السائبة في الطرقات العامة وخارج المنازل وفي المدن والقصبات والأرياف، وباستعمال القنص أو أية طريقة أخرى. 

ووضع القانون الحق لوزير الزراعة بإصدار تعليمات تخص “مكافحة” الكلاب السائبة. وفي المادة السادسة من القانون، وُلِّيت “الجهات المختصة” بجمع “الكلاب الهالكة” والتي “تهلك بالمكافحة وحرقها في أماكن بعيدة تخصص لهذا الغرض”.  

كالعادة، يتخلّف العراق عن العالم بخطوات، إذ تلجأ السلطات إلى قتل الكلاب الضالة، كأحد أسرع الحلول، ولكنه أيضاً أسهلها وأكثرها وحشية. 

فهناك طرق أخرى كثيرة لمكافحة تلك الظاهرة تتبناها دول مختلفة في العالم وتتطلب تضافر الجهود والتنسيق مع منظمات الرفق بالحيوان لتوفير برامج تعقيم الكلاب، وإيجاد ملاجئ لها، وإطلاق حملات توعية بهذا الخصوص، وغيرها من الحلول والطرق الناجعة في السيطرة على تلك الظاهرة.  

لكن في بلدٍ كالعراق مزقته النزاعات وتوالت على حكمه أنظمة لا تبالي بحقوق الإنسان في المقام الأول، بل إنها تديم أنظمتها على انتهاكها وعلى العسكرة والفوضى والفساد، فمن غير المتوقع أن تلتفت مثل هكذا أنظمة الى حقوق الحيوان أو تعترف بها حتى.  

وحتّى بالنسبة لأفراد في المجتمع، فإن القتل الكلاب خيار أسرع وأضمن من التفكير بمعالجات أكثر إنسانية تأخذ زمناً أطول وخططاً أكثر تعقيدا وتتطلب جهوداً وأموالاً، في وقتٍ تتعرض حياتهم للخطر على نحوٍ يومي. 

وقد تكون مطالبات الرفق بهذه الحيوانات للبعض ترفاً وبطراً، لكن، وبالمقابل، فإن هناك بالفعل حملات يقودها ناشطون من مختلف أنحاء البلاد بين فترة وأخرى لاستنكار قتل “الكلاب السائبة” والدعوة إلى إيجاد بدائل مختلفة غير القتل للسيطرة عليها.   

في حرم الجامعة! 

طلبة كلية الطب البيطري هم من هؤلاء الناشطين الذين يدعون إلى الرفق بالحيوان ويثقفون للتعامل الرحيم مع الحيوانات الضالة، لكن المكان الذي يدرسون فيه خالف كل ما يعتقدون به. 

يأتي احتجاج الطلبة ورغبتهم في الكشف عن المتسبب بقتل لوسي ولونا ضمن هذا السياق، أي حول الأسباب الموجبة لما حصل، وفيما إذا كانت عمادة الكلية على علم مسبق به، أو إذا ما كانت موافقة عليه، مع تأكيد استنكارهم لقتل الكلاب عموماً، سواءً كانت أليفة أم ضالة. 

وإثر الوقفة الاحتجاجية، اجتمعت العمادة بالطلبة، كما تبين في مقاطع مصورة وثقت لوقائع من الاجتماع وانتشرت على مواقع التواصل، مؤكدة أنها لا تعلم من أطلق الرصاص على الحيوانين أو سمح بدخولهما الى حرم الجامعة.  

وحين حاول الطلبة التعبير عن عدم ثقتهم بأمن الكلية، وبأنهم المسؤول الأول عن حماية المبنى ومنع دخول مسلحين إليه، فجرت طالبات قضية أخرى تتعلق بتعرّض الطالبات للتحرش على يد “أمنية الجامعة” للدلالة على انعدام الشعور بالأمان وبأن القضيتين لا تنفصلان عن بعضيهما البعض. 

وضع تحدي الطالبات العمادة في موقفٍ محرج ومأزقٍ حاولت تداركه من خلال حثهن الى الحديث إلى العميد بشكلٍ خاص، إلا أن تصوير الفيديو ونشره على مواقع السوشيال ميديا سلط الضوء على القضية إعلامياً لتتحرك وزارة التعليم العالي لفتح لجنة تحقيقية استدعت فيها إحدى الطالبات اللاتي واجهن العمادة في الاجتماع، ولكن الطالبة أُبلغت بأن شهادتها غير كافية، وأن الوزارة بحاجة إلى شهاداتٍ أخرى. 

سرعان ما تواصلت الطالبة مع طالبات أخريات قدمن إفاداتهن حول تعرضهن المتكرر لكل أنواع التحرش “اللفظي والجسدي”، كما ذكرت الطالبة المعنية لي.  

وبحسب الطالبات اللاتي حاورتهن، لم يُتخذ لغاية لحظة نشر المقال أي إجراء بحق المتحرش، بل أن الحارس الأمني موضع الاتهام شوهد في اليوم التالي عند باب الجامعة، وهو يرمق الطالبات بنظرة ساخرة. 

لم تر الطالبات الحارس المعني في الأيام اللاحقة، إلا أن هناك خشية من أن تنتهي القصة بنقله الى مكانٍ آخر فيه نساء. 

وشكوى الطالبات من التحرّش في الكليّة ليس جديداً، إذ سبق لبعضهن أن كسرن حاجز الصمت قبل ثلاثة أشهر، وتقدمن بشكوى رسمية الى مكتب شؤون الطلبة، ولكنهن لم يلقين آذاناً صاغية. 

وصفونا بـالساقطاتو”الساقطين” 

قتل الكلبتين وقضية التحرش مع التسليط الإعلامي وتداول كتب رسمية تُفيد بأن العمادة كانت من أمر بقتل الكلبتين لغرض “مكافحة الكلاب السائبة”، كل هذا، دفع العمادة إلى اتخاذ إجراءاتٍ قمعية بحق الطلبة المحتجين تمثلت بدعوتهم لحضور جلسة “انضباطية” تعرضوا خلالها للشتم والتقريع والتهديد بالرسوب. 

“وصفونا بأننا مجموعة من الساقطين والساقطات… وقالوا: طالما نحن هنا فما رح تشوفون نجاح”، يُخبرني أحد الطلبة ممن استدعوا الى “اللجنة الانضباطية”.  

روى طلبة آخرون، بأن أحد المسؤولين في العمادة تحدث إلى طلاب مرحلتهم متوعداً ومهدداً بالتعامل معهم عن طريق “الضوابط”، وبأنهم على علم بالمنشورات التي نشرها الطلبة على صفحاتهم الشخصية وبأنهم محتفظون “بسكرين شوت” عنها كوثائق إدانة لما وصفه بأنه تهجماً شخصياً على المسؤولين في العمادة. 

سخر المسؤول الجامعي أيضاً من الطلبة، وسمّاهم بـ”أبطال لوسي”، وبأنهم يزايدون بإنسانيتهم. 

وذكر طلاب عدّة أن المسؤول اعترف في النهاية -بشكلٍ ساخر- بأنهم من قتل الكلبتين، ولم يخلُ حديثه كذلك من بعدٍ جندري واضح حين أبدى استغرابه من تصرف “البنات”: “المصيبة بالبنات”، هذا ما قاله مذكراً إياهم بأنهم -أي الطلبة- لم يحترموا العمادة التي تعاملهم على أساسٍ “أبوي”. 

التخويف المصحوب بإجراءاتٍ تعسفية شملت منع الطلبة من استخدام هواتف ذكية بكاميرات، وتهديدات لفظية بالفصل حتى يرضخ الطلبة ويبادروا بالاعتذار -وهذا ما اضطر إلى فعله أغلبهم-، بالإضافة إلى التضييق عليهم من خلال الترصد والرقابة، “شاهدنا أحدهم يصورنا أكثر من مرة”، أكدت لي مجموعة من الطالبات، في إشارة إلى أحد مرافقي العميد. 

كان المسؤول أعلاه محقاً في أمرٍ واحد: وهو صفة “أبوي”. 

فالواقع العراقي السياسي والاجتماعي تحكمه سلطة أبوية مهيمنة بأذرع عسكرية وميليشياوية. فالفوضى والترهيب في التعامل نتيجة حتمية لهذا الواقع.  

“انتهى الأمر عن طريق تكميم الأفواه”، تُلخص إحدى الطالبات بألم، وتضيف بأن بعض الطلبة قاموا بإخراج الجراء الذين قُتلت والدتهم “لونا” إلى مكانٍ آمن حين أبلغتهم إدارة الكلية أنها لن تسمح بوجود كلاب في حرمها بعد الآن. 

تضعنا الأحداث الأخيرة في كلية الطب البيطري أمام واحد من تناقضات عراق ما بعد 2003: فنحن أمام فئة من الطلبة تنتمي إلى جيلٍ شاب يحاول صناعة التغيير بتحليه بالشجاعة والإنسانية والرحمة، وبمعرفته بأخلاقيات المهنة التي سيمارسها مستقبلاً رغم تغييبها مؤسساتياً، وهو امتداد للروح الاحتجاجية على الظلم، لكنه يصطدم بسلطة ترفض التغيير وتحاربه بكل الوسائل، بدل أن تفتخر بهؤلاء الطلبة وتدعمهم وتشد على أيديهم. 

تعلّق الطلبة بالكلبتين واستنكارهم لقتلهما ومحاولاتهم الكشف عن الجاني رغم كل القمع الذي تعرضوا له، يزيد من إدراكي أن علاقة الإنسان بالحيوان ليست من طرفٍ واحد، ففي الوقت الذي يعطف فيه الإنسان على الحيوان ويُحسن إليه، يتعلم منه دروساً مدى الحياة أولها حس المسؤولية والإنسانية، والمقدرة على رؤية الحياة والناس بمنظارٍ مختلف أكثر تقبلاً وتفهماً وتسامحاً، وهكذا تُبنى المجتمعات.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شكّلتِ الحيوانات الأليفة سنوات طفولتي ومُراهقتي. 

ترعرعتُ في بغداد سنوات الحصار والحروب المتقطّعة، وكانت الحيوانات الأليفة تحيك تفاصيل شخصيتي. دفعتني أوّل قطة للتفكير بالاسم، لماذا نُسمّي القطط؟ وكيف نختار أسماءها. 

الاسم له رمزية عميقة تتعلق بالانتماء والترابط والألفة والحميمية، وحالما أطلق المرء على حيوانٍ ما اسماً، بدأت رابطة تتشكّل، وعلاقة تتركّب.   

هل يُمنح الكلب الضال اسماً؟  

سمّى طلبة كليّة البيطرة في جامعة بغداد الكلبتين الضالتين اللتين اعتنوا بهما “لوسي” و”لونا”. نشروا صورتهما على مواقع التواصل الاجتماعي، وفجأة وجدوهما مقتولتين.  

نهاية آذار الماضي، احتجّ الطلاب على مقتل الكلبتين ورمي جثتيهما بالقرب من بناية الجامعة، بحجة أنهما من “الكلاب السائبة”، بحسب ما نشر بعض الطلبة على مواقع التواصل الاجتماعي. 

يمكن للمرء الشعور بالحزن المُتدفق في الصور والفيديوهات التي نشروها على صفحاتهم وحساباتهم الخاصة على “السوشيال ميديا”، وفي القصص التي سردها بعضهم لي أثناء إجراء مُقابلات معهم. 

تحدثوا طويلاً عن الكلبتين، والأوقات التي قضوها معهما، وهم يقدمون الرعاية والاهتمام والعناية لهما. وكون الطلبة كانوا يدرسون الطب البيطري، فإن علاقتهم بالحيوانات خاصة ومليئة بالعناية والمعرفة. 

بالنسبة لهم، كانت لوسي ولونا كلبتين أليفتين لا يمكنهما الإضرار بالآخرين، وهذا ما فسر غضبهم واحتجاجهم ومطالبهم المشروعة في الكشف عن مقتلهما. 

“نحن أول من يفُترض بنا أن نرحم ونرفق بالحيوان، فكيف يمكن أن نسكت عن قتله في حرم الجامعة؟! لو أنهم فقط أخبرونا أنهم متضايقون من وجود لوسي ولونا لأي سبب، لكنا تكفلنا بهما وأخرجناهما من الجامعة أو تبنيناهما”، أخبرتني إحدى الطالبات بحسرة. 

“لوسي ولونا كانتا حيوانين أليفين يعيشان منذ سنوات في حرم الجامعة، وهما ملقحتان وغير مؤذيتين”، يجمع الطالبات والطلبة الذين تحدثتُ إليهم.  

كلاب سائبة.. ولكن 

قُتلتِ الكلبتان لأنهما من “الكلاب السائبة” المنتشرة بكثرة في جميع أنحاء البلاد، وهذه الفئة الضالة من الحيوانات، صارت تحظى ببعض الكراهية، لأنها شكّلت وتشكّل خطراً صحياً وبيئياً، وتهدد سلامة الأفراد، ولاسيما الأطفال.  

وليس هذه ظاهرة جديدة على العراق، إذ أقرّت سلطات البعث قانون مكافحة الكلاب السائبة رقم (48) في عام 1986، ونصت المادة الرابعة منه على مكافحة الكلاب السائبة في الطرقات العامة وخارج المنازل وفي المدن والقصبات والأرياف، وباستعمال القنص أو أية طريقة أخرى. 

ووضع القانون الحق لوزير الزراعة بإصدار تعليمات تخص “مكافحة” الكلاب السائبة. وفي المادة السادسة من القانون، وُلِّيت “الجهات المختصة” بجمع “الكلاب الهالكة” والتي “تهلك بالمكافحة وحرقها في أماكن بعيدة تخصص لهذا الغرض”.  

كالعادة، يتخلّف العراق عن العالم بخطوات، إذ تلجأ السلطات إلى قتل الكلاب الضالة، كأحد أسرع الحلول، ولكنه أيضاً أسهلها وأكثرها وحشية. 

فهناك طرق أخرى كثيرة لمكافحة تلك الظاهرة تتبناها دول مختلفة في العالم وتتطلب تضافر الجهود والتنسيق مع منظمات الرفق بالحيوان لتوفير برامج تعقيم الكلاب، وإيجاد ملاجئ لها، وإطلاق حملات توعية بهذا الخصوص، وغيرها من الحلول والطرق الناجعة في السيطرة على تلك الظاهرة.  

لكن في بلدٍ كالعراق مزقته النزاعات وتوالت على حكمه أنظمة لا تبالي بحقوق الإنسان في المقام الأول، بل إنها تديم أنظمتها على انتهاكها وعلى العسكرة والفوضى والفساد، فمن غير المتوقع أن تلتفت مثل هكذا أنظمة الى حقوق الحيوان أو تعترف بها حتى.  

وحتّى بالنسبة لأفراد في المجتمع، فإن القتل الكلاب خيار أسرع وأضمن من التفكير بمعالجات أكثر إنسانية تأخذ زمناً أطول وخططاً أكثر تعقيدا وتتطلب جهوداً وأموالاً، في وقتٍ تتعرض حياتهم للخطر على نحوٍ يومي. 

وقد تكون مطالبات الرفق بهذه الحيوانات للبعض ترفاً وبطراً، لكن، وبالمقابل، فإن هناك بالفعل حملات يقودها ناشطون من مختلف أنحاء البلاد بين فترة وأخرى لاستنكار قتل “الكلاب السائبة” والدعوة إلى إيجاد بدائل مختلفة غير القتل للسيطرة عليها.   

في حرم الجامعة! 

طلبة كلية الطب البيطري هم من هؤلاء الناشطين الذين يدعون إلى الرفق بالحيوان ويثقفون للتعامل الرحيم مع الحيوانات الضالة، لكن المكان الذي يدرسون فيه خالف كل ما يعتقدون به. 

يأتي احتجاج الطلبة ورغبتهم في الكشف عن المتسبب بقتل لوسي ولونا ضمن هذا السياق، أي حول الأسباب الموجبة لما حصل، وفيما إذا كانت عمادة الكلية على علم مسبق به، أو إذا ما كانت موافقة عليه، مع تأكيد استنكارهم لقتل الكلاب عموماً، سواءً كانت أليفة أم ضالة. 

وإثر الوقفة الاحتجاجية، اجتمعت العمادة بالطلبة، كما تبين في مقاطع مصورة وثقت لوقائع من الاجتماع وانتشرت على مواقع التواصل، مؤكدة أنها لا تعلم من أطلق الرصاص على الحيوانين أو سمح بدخولهما الى حرم الجامعة.  

وحين حاول الطلبة التعبير عن عدم ثقتهم بأمن الكلية، وبأنهم المسؤول الأول عن حماية المبنى ومنع دخول مسلحين إليه، فجرت طالبات قضية أخرى تتعلق بتعرّض الطالبات للتحرش على يد “أمنية الجامعة” للدلالة على انعدام الشعور بالأمان وبأن القضيتين لا تنفصلان عن بعضيهما البعض. 

وضع تحدي الطالبات العمادة في موقفٍ محرج ومأزقٍ حاولت تداركه من خلال حثهن الى الحديث إلى العميد بشكلٍ خاص، إلا أن تصوير الفيديو ونشره على مواقع السوشيال ميديا سلط الضوء على القضية إعلامياً لتتحرك وزارة التعليم العالي لفتح لجنة تحقيقية استدعت فيها إحدى الطالبات اللاتي واجهن العمادة في الاجتماع، ولكن الطالبة أُبلغت بأن شهادتها غير كافية، وأن الوزارة بحاجة إلى شهاداتٍ أخرى. 

سرعان ما تواصلت الطالبة مع طالبات أخريات قدمن إفاداتهن حول تعرضهن المتكرر لكل أنواع التحرش “اللفظي والجسدي”، كما ذكرت الطالبة المعنية لي.  

وبحسب الطالبات اللاتي حاورتهن، لم يُتخذ لغاية لحظة نشر المقال أي إجراء بحق المتحرش، بل أن الحارس الأمني موضع الاتهام شوهد في اليوم التالي عند باب الجامعة، وهو يرمق الطالبات بنظرة ساخرة. 

لم تر الطالبات الحارس المعني في الأيام اللاحقة، إلا أن هناك خشية من أن تنتهي القصة بنقله الى مكانٍ آخر فيه نساء. 

وشكوى الطالبات من التحرّش في الكليّة ليس جديداً، إذ سبق لبعضهن أن كسرن حاجز الصمت قبل ثلاثة أشهر، وتقدمن بشكوى رسمية الى مكتب شؤون الطلبة، ولكنهن لم يلقين آذاناً صاغية. 

وصفونا بـالساقطاتو”الساقطين” 

قتل الكلبتين وقضية التحرش مع التسليط الإعلامي وتداول كتب رسمية تُفيد بأن العمادة كانت من أمر بقتل الكلبتين لغرض “مكافحة الكلاب السائبة”، كل هذا، دفع العمادة إلى اتخاذ إجراءاتٍ قمعية بحق الطلبة المحتجين تمثلت بدعوتهم لحضور جلسة “انضباطية” تعرضوا خلالها للشتم والتقريع والتهديد بالرسوب. 

“وصفونا بأننا مجموعة من الساقطين والساقطات… وقالوا: طالما نحن هنا فما رح تشوفون نجاح”، يُخبرني أحد الطلبة ممن استدعوا الى “اللجنة الانضباطية”.  

روى طلبة آخرون، بأن أحد المسؤولين في العمادة تحدث إلى طلاب مرحلتهم متوعداً ومهدداً بالتعامل معهم عن طريق “الضوابط”، وبأنهم على علم بالمنشورات التي نشرها الطلبة على صفحاتهم الشخصية وبأنهم محتفظون “بسكرين شوت” عنها كوثائق إدانة لما وصفه بأنه تهجماً شخصياً على المسؤولين في العمادة. 

سخر المسؤول الجامعي أيضاً من الطلبة، وسمّاهم بـ”أبطال لوسي”، وبأنهم يزايدون بإنسانيتهم. 

وذكر طلاب عدّة أن المسؤول اعترف في النهاية -بشكلٍ ساخر- بأنهم من قتل الكلبتين، ولم يخلُ حديثه كذلك من بعدٍ جندري واضح حين أبدى استغرابه من تصرف “البنات”: “المصيبة بالبنات”، هذا ما قاله مذكراً إياهم بأنهم -أي الطلبة- لم يحترموا العمادة التي تعاملهم على أساسٍ “أبوي”. 

التخويف المصحوب بإجراءاتٍ تعسفية شملت منع الطلبة من استخدام هواتف ذكية بكاميرات، وتهديدات لفظية بالفصل حتى يرضخ الطلبة ويبادروا بالاعتذار -وهذا ما اضطر إلى فعله أغلبهم-، بالإضافة إلى التضييق عليهم من خلال الترصد والرقابة، “شاهدنا أحدهم يصورنا أكثر من مرة”، أكدت لي مجموعة من الطالبات، في إشارة إلى أحد مرافقي العميد. 

كان المسؤول أعلاه محقاً في أمرٍ واحد: وهو صفة “أبوي”. 

فالواقع العراقي السياسي والاجتماعي تحكمه سلطة أبوية مهيمنة بأذرع عسكرية وميليشياوية. فالفوضى والترهيب في التعامل نتيجة حتمية لهذا الواقع.  

“انتهى الأمر عن طريق تكميم الأفواه”، تُلخص إحدى الطالبات بألم، وتضيف بأن بعض الطلبة قاموا بإخراج الجراء الذين قُتلت والدتهم “لونا” إلى مكانٍ آمن حين أبلغتهم إدارة الكلية أنها لن تسمح بوجود كلاب في حرمها بعد الآن. 

تضعنا الأحداث الأخيرة في كلية الطب البيطري أمام واحد من تناقضات عراق ما بعد 2003: فنحن أمام فئة من الطلبة تنتمي إلى جيلٍ شاب يحاول صناعة التغيير بتحليه بالشجاعة والإنسانية والرحمة، وبمعرفته بأخلاقيات المهنة التي سيمارسها مستقبلاً رغم تغييبها مؤسساتياً، وهو امتداد للروح الاحتجاجية على الظلم، لكنه يصطدم بسلطة ترفض التغيير وتحاربه بكل الوسائل، بدل أن تفتخر بهؤلاء الطلبة وتدعمهم وتشد على أيديهم. 

تعلّق الطلبة بالكلبتين واستنكارهم لقتلهما ومحاولاتهم الكشف عن الجاني رغم كل القمع الذي تعرضوا له، يزيد من إدراكي أن علاقة الإنسان بالحيوان ليست من طرفٍ واحد، ففي الوقت الذي يعطف فيه الإنسان على الحيوان ويُحسن إليه، يتعلم منه دروساً مدى الحياة أولها حس المسؤولية والإنسانية، والمقدرة على رؤية الحياة والناس بمنظارٍ مختلف أكثر تقبلاً وتفهماً وتسامحاً، وهكذا تُبنى المجتمعات.