"أسواق يحكمها السلاح": الدنانير تتحرك تحت ظلال البنادق

علي حازم

21 آذار 2023

تحت البنادق تتحرك الأموال في هذه البلاد، تحت بنادق لا أمان فيها، لذا خزن البعض أمواله في البنوك أو استقر خارج الخوف. يرى البعض أن العراق بيئة غير صالحة للعمل، بيئة يمكن أن تُسرق فيها بكل سهولة ويسر، ويمكن أن تعود إلى الصفر متى ما يشاء أحدهم... كيف تُدار التجارة في العراق تحت تهديد السلاح؟

يمتلك فاضل سلسلة من متاجر السوبر ماركت في بغداد، وعندما جاءه شخص في أحد الأيام وعرّفه بنفسه وبأنه يمثل الجماعة “الفلانية”، وقال له “أحنا هم أخوتك دير بالك علينا”، أدرك أنه يتعرض للابتزاز في هذه الأثناء.

عرف فاضل هذه الجماعة على الفور (رفض الإشارة إلى اسمها)، فهي واحدة من الفصائل المسلحة الكثيرة في العراق، وعرف أيضاً أنه سيخسر كل شيء ويتعرض للأذى ربما إذا لم يمنحها ما تريد، فقرر استقطاع جزء من أرباحه الشهرية لصالحها.

وهذه ليست القصة كاملة.

أعين تراقب

تحت البنادق تتحرك دنانير في هذه البلاد، تحت بنادق لا أمان فيها، لذا خزّن البعض أمواله في البنوك أو استقر خارج الخوف. يرى البعض أن العراق بيئة غير صالحة للعمل، بيئة يمكن أن يُسرق فيها بكل سهولة ويسر، ويمكن أن يعود إلى الصفر متى ما شاء أحدهم!

تماس كهربائيّ، تهديد ملتو وآخر مباشر، حرق بضائع وتعطيل وصول المنتج إلى التاجر، تغيير أسماء محال، وبسطات تدفع شهرياً، رعب من رسائل مجهولة، وهجرة خارج البلاد، مضايقات لفظية في أفضل الأحوال، هذا هو نصيب الكثيرين من العاملين في التجارة داخل العراق.

جماعات مرتبطة بجهات حزبية وسياسية هي من تفعل ذلك، بشكل علني مرة، وعبر جماعات مرتبطة بها مرة أخرى، أسواق تحترق وفي ظروف غامضة، سلاح يرفع على رؤوس التجار الذين لا يلبون الطموح، والتحقيقات دائماً ما تنتهي إلى النسيان، أحداث تجري يومياً يُقرُّ بها في السر، ولا أحد يجرؤ على التحدث عنها في العلن.

التقينا أكثر من ٢٢ تاجراً، منهم من كبار التجار، ومنهم من الفئة المتوسطة، حكى لنا بعضهم، وامتنع البعض الآخر بشكل قاطع، كان يربطهم جميعاً الخوف من إفشاء السر، سر أسمائهم الحقيقية، فهم “معروفون ويمكن الوصول إليهم بسهولة”، التقينا بشبان طموحين وخبراء لنعرف منهم قوة ونفوذ الجماعات التي تسيطر على حركة الأموال في العراق، دخلنا محملين ببعض الشكوك، وخرجنا بالصدمة.

العملية تبدأ من الميناء و”المخلّص” وصولاً إلى المحل والمخزن، وحتى الزبائن. يشتغل التجار فوق حقل من الألغام والمخاوف والوعود. عمل تحت أعين الجماعات والميليشيات والعصابات التي لا يقف في وجهها قانون، ولأن العراق بيئة استهلاكية وبات يستورد كل شيء، كيف يحمي التجار حركة أموالهم؟ كيف يواجه التجار هذا الواقع؟ وهل ثمة قانون يمكن أن يزيح لثاماً عن الجماعات المتخصصة في نقل الأموال من جيوب التجار إلى اقتصاديات الأحزاب؟

البداية من التخليص

يرى العديد من التجار والمستوردين أنهم وأموالهم مرتبطون بمزاج المخلّص، تراهم مستعدين لتقدم أي شيء له.

والمخلّص في العادة هو وسيط بين التاجر وبين الجمارك العامة، يسهّل عملية دخول البضائع ويقدم المستندات الخاصة، وينشغل بالأمور القانونية لتسهيل المهمة، لكن في العراق قد يكون المخلّص موظفاً في الجمارك العامة، أو وظيفته مخلص لكنه مرتبط بعلاقات وثيقة مع الجمارك ويأخذ نصيبه من التجار مقابل بعض الرشى التي يقدمها للجمارك، خصوصاً في البضائع منتهية الصلاحية أو غير المطابقة للمواصفات.

المخلّص يقدم ويؤخر عملية دخول البضائع وهو المتحكم الفعلي بالسوق، فهو الذي يقرر متى تصل البضائع، ومتى تخرج من الميناء، ومتى يأتي دورها للدخول إلى حيز الاستهلاك، لكن خشية كل التجار تكمن في تاريخ النفاذ، فبعض المنتجات لا تتحمل كثيراً من الوقت، وعادة ما تكون صالحة للاستهلاك لمدة سنة من تاريخ الإنتاج، لكن المخلّص يمكن أن يجعلها غير صالحة للاستهلاك ما لم يتم إرضاؤه.

يضع المخلّص التاجر في آخر الطابور ما لم يدفع له، وفي الغالب المخلّص ليس مجرد شخص فاسد يبتز التجار، لكنه أول خيط تمده الفصائل المسلحة في العراق للاستحواذ على السوق، ومراقبة حركة الأموال؛ فعبره تعرف الجماعات لمن هذه البضائع وأين ستذهب، ومن هو المستورد وأين محله، وما هي ملكيته، ولأية جماعة تابع أو لمن يدفع من الفصائل الأخرى.

المخلّص موظف يملك أرواح التجار؛ لذا يلجأ بعضهم إلى عقد صلة وثيقة مع المخلّصين، وفي بعض الأحيان تتطور هذه العلاقة إلى شراكات عمل مستديمة، تحفظ للتاجر أمواله وتحفظ للمخلّص حصته وحصة من جعله مخلّصاً!

“يعاني رجال الأعمال في العراق من نوعين من القيود؛ الأول متعلق بإجراءات الدولة، والثاني متعلق بإجراءات الدولة الشبح، التي هي عبارة عن سلاح منفلت في الشارع يهدد كل رأس مال شخصي” قال فاضل.

واستناداً إلى رواية فاضل، يتعرض التجار ورجال الأعمال إلى مضايقات شرطة المرور ودوريات النجدة، وفوق كل ذلك يتعرضون لتهديدات مبطنة ولغة متعالية من أشخاص مرتبطين بجماعات مسلحة.

“قد يتم إجبارنا يوماً ما على الدخول في عمليات تبييض أموال. من يدري؟ لقد تورط البعض في ذلك بالفعل” أضاف فاضل.

خطورة الاسم

من مصاعب التجارة في العراق أن صاحب المشروع الناجح يتجنب افتتاح فروع أخرى تحمل العلامة التجارية ذاتها للمشروع، لأن هناك من يراقب توسعه ونجاحه ويريد مشاركته إياه.

حصل هذا مع جلال، أحد تجار الملابس في بغداد.

يمتلك جلال محلاً ناجحاً في منطقة الكرادة وسط بغداد، ويمتلك محلاً آخر في مدينة الصدر شرقي العاصمة، غير أنه اختار اسماً آخر لمحل مدينة الصدر عندما افتتحه يختلف عن اسم محل الكرادة.

“لا يوجد أقسى من أن تخفي نجاحك. لا حلول غير هذه. عندما يصبح لديك أكثر من محل تصبح العين عليك” قال لنا.

من خلال عمله في السوق، اطلع جلال على طريقة تعامل الجماعات المسلحة مع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، فهي ترغمهم على إقامة علاقة معهم تتضمن نوعاً من الضريبة.

“أبسط شيء أن يقولوا لك: نحن هنا لحمايتك”، وهذا يعني أن على التاجر أن يدفع لهم بعضاً مما يجني أو يتحمل العواقب.

والعواقب قد تتضمن إيقاف شحنات البضائع في ميناء البصرة أو إحراقها وهي في الطريق.

ومن وسائل معاقبة من لا يتعاون إحراق محاله ومخازنه والاختباء خلف “التماس الكهربائي”، وهو السبب الشائع والتقليدي المعلن للحرائق المتكررة في العراق.

تندلع الحرائق باستمرار في الأسواق العراقية الكبرى، ومنها سوق الشورجة الشهيرة وسط بغداد، وبينما تعلن الجهات الرسمية دائماً أن “تماساً كهربائياً” يتسبب بها، يشير فارس إلى غير ذلك.

يعمل فارس في سوق الشورجة.

“هناك حرب علنية بين التجار تشتعل فيها بضاعتك إذا كان التاجر المنافس يملك جماعة سياسية أو حزبية تدعمه أو عشيرة. يمكن لهذه الجماعة أن تتسلل إلى مخازنك وتعيدك إلى الصفر بقداحة ثمنها 250 ديناراً عراقياً فقط (نحو 16 سنتاً). لقد حصل ذلك وسوف يتكرر” قال فارس.

أصبحت هناك صلات وثيقة بين التاجر والجماعات المُسلحة.

 يعتقد فارس أن السبب في ذلك يعود إلى ضعف رأس المال على أرض الواقع، وعدم توفير الحماية له من قبل الدولة.

وفي ظل ضعف القانون، يضطر بعض التجار إلى الاستعانة بجماعات مسلحة لاسترداد مئات الآلاف من الدولارات من المدينين الذين يمتنعون عن التسديد، على أن يقدم هدية مالية للجهة التي تسترد أمواله.

الطرف الأول يعمل ويربح، والطرف الثاني يوفر الحماية للعمل.

“صار بعض التجار يتحدثون بأسماء أحزاب وميليشيات بينما هم لا ينتمون لها” أوضح فارس.

دواء مهدد

يجري على سوق الأدوية ما يجري على بقية الأسواق، فهي أيضاً خاضعة لسطوة السلاح ونفوذ الأحزاب، ولا تعمل إلا بإشارات منها.

يرى إياد، وهو صاحب مذخر للأدوية في منطقة الحارثية غربي بغداد، أن العمل في مجاله بات “معقداً”.

“كل من يعتقد أن السوق تسيطر عليها مجموعة تجار فهو واهم” قال إياد وهو يشرح حالة السوق الخاضعة لجماعات حزبية وسياسية مرتبطة بالوزارات.

“سوق الأدوية مسيطر عليها كلياً” أضاف لنا.

ويعدّ تاجر الأدوية أن سيطرة الجماعات المسلحة على كل ما يتعلق بالطبابة هي السبب الرئيس في هجرة الكوادر الطبية.

حماية العشيرة

تمكن بعض التجار من الإفلات من مخالب الميليشيات بمساعدة عشائرهم، إذ أنهم يروجون في السوق بأنهم ينتمون لعشائر كبيرة وقوية، ما يمنحهم هالة تطرد من يحاول وضع يده على أرباحهم.

أحمد واحد من أولئك التجار.

يتحرك أحمد في السوق بكامل الثقة بالنفس ولا يخشى أن يطرق بابه جامعو الإتاوات، لكنه لا يخفي شعوره بالأسى تجاه “الضعفاء” سواء من التجار أو حتى أصحاب البسطات.

“أصحاب البسطات يدفعون أيضاً لجهات حكومية وغير حكومية على قلة ما يجنونه” قال لنا.

كما أشار إلى أنه يستخدم اسم عشيرته داخل السوق فقط ليدفع عن نفسه المتربصين بعمله، أما خارج السوق فإن “قليلين من يعرفون لأي عشيرة أنتمي”.

ممنوعات محروسة

ساهمت سطوة الميليشيات على الأسواق في عرض بضائع ممنوعة، منها الملابس العسكرية التي لا يبيح القانون تداولها خارج منافذ وزارتي الدفاع والداخلية.

كان تجار هذه الملابس يجلبونها في بادئ الأمر من إقليم كردستان، وكانوا يتعرضون لابتزاز جماعات كردية تفرض عليهم الشروط والأسعار، ولم يكن أمامهم سوى الإذعان لها، إلا أن بعضهم اتجه نحو الصين لاستيراد هذه الملابس.

“طبعاً هي ممنوعة ولكن هناك جهات سياسية تقبض حصتها وتهيئ الأرضية المناسبة للمتاجرة بها” قال حمودي أحد تجار الملابس العسكرية في منطقة الباب الشرقي وسط بغداد.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يمتلك فاضل سلسلة من متاجر السوبر ماركت في بغداد، وعندما جاءه شخص في أحد الأيام وعرّفه بنفسه وبأنه يمثل الجماعة “الفلانية”، وقال له “أحنا هم أخوتك دير بالك علينا”، أدرك أنه يتعرض للابتزاز في هذه الأثناء.

عرف فاضل هذه الجماعة على الفور (رفض الإشارة إلى اسمها)، فهي واحدة من الفصائل المسلحة الكثيرة في العراق، وعرف أيضاً أنه سيخسر كل شيء ويتعرض للأذى ربما إذا لم يمنحها ما تريد، فقرر استقطاع جزء من أرباحه الشهرية لصالحها.

وهذه ليست القصة كاملة.

أعين تراقب

تحت البنادق تتحرك دنانير في هذه البلاد، تحت بنادق لا أمان فيها، لذا خزّن البعض أمواله في البنوك أو استقر خارج الخوف. يرى البعض أن العراق بيئة غير صالحة للعمل، بيئة يمكن أن يُسرق فيها بكل سهولة ويسر، ويمكن أن يعود إلى الصفر متى ما شاء أحدهم!

تماس كهربائيّ، تهديد ملتو وآخر مباشر، حرق بضائع وتعطيل وصول المنتج إلى التاجر، تغيير أسماء محال، وبسطات تدفع شهرياً، رعب من رسائل مجهولة، وهجرة خارج البلاد، مضايقات لفظية في أفضل الأحوال، هذا هو نصيب الكثيرين من العاملين في التجارة داخل العراق.

جماعات مرتبطة بجهات حزبية وسياسية هي من تفعل ذلك، بشكل علني مرة، وعبر جماعات مرتبطة بها مرة أخرى، أسواق تحترق وفي ظروف غامضة، سلاح يرفع على رؤوس التجار الذين لا يلبون الطموح، والتحقيقات دائماً ما تنتهي إلى النسيان، أحداث تجري يومياً يُقرُّ بها في السر، ولا أحد يجرؤ على التحدث عنها في العلن.

التقينا أكثر من ٢٢ تاجراً، منهم من كبار التجار، ومنهم من الفئة المتوسطة، حكى لنا بعضهم، وامتنع البعض الآخر بشكل قاطع، كان يربطهم جميعاً الخوف من إفشاء السر، سر أسمائهم الحقيقية، فهم “معروفون ويمكن الوصول إليهم بسهولة”، التقينا بشبان طموحين وخبراء لنعرف منهم قوة ونفوذ الجماعات التي تسيطر على حركة الأموال في العراق، دخلنا محملين ببعض الشكوك، وخرجنا بالصدمة.

العملية تبدأ من الميناء و”المخلّص” وصولاً إلى المحل والمخزن، وحتى الزبائن. يشتغل التجار فوق حقل من الألغام والمخاوف والوعود. عمل تحت أعين الجماعات والميليشيات والعصابات التي لا يقف في وجهها قانون، ولأن العراق بيئة استهلاكية وبات يستورد كل شيء، كيف يحمي التجار حركة أموالهم؟ كيف يواجه التجار هذا الواقع؟ وهل ثمة قانون يمكن أن يزيح لثاماً عن الجماعات المتخصصة في نقل الأموال من جيوب التجار إلى اقتصاديات الأحزاب؟

البداية من التخليص

يرى العديد من التجار والمستوردين أنهم وأموالهم مرتبطون بمزاج المخلّص، تراهم مستعدين لتقدم أي شيء له.

والمخلّص في العادة هو وسيط بين التاجر وبين الجمارك العامة، يسهّل عملية دخول البضائع ويقدم المستندات الخاصة، وينشغل بالأمور القانونية لتسهيل المهمة، لكن في العراق قد يكون المخلّص موظفاً في الجمارك العامة، أو وظيفته مخلص لكنه مرتبط بعلاقات وثيقة مع الجمارك ويأخذ نصيبه من التجار مقابل بعض الرشى التي يقدمها للجمارك، خصوصاً في البضائع منتهية الصلاحية أو غير المطابقة للمواصفات.

المخلّص يقدم ويؤخر عملية دخول البضائع وهو المتحكم الفعلي بالسوق، فهو الذي يقرر متى تصل البضائع، ومتى تخرج من الميناء، ومتى يأتي دورها للدخول إلى حيز الاستهلاك، لكن خشية كل التجار تكمن في تاريخ النفاذ، فبعض المنتجات لا تتحمل كثيراً من الوقت، وعادة ما تكون صالحة للاستهلاك لمدة سنة من تاريخ الإنتاج، لكن المخلّص يمكن أن يجعلها غير صالحة للاستهلاك ما لم يتم إرضاؤه.

يضع المخلّص التاجر في آخر الطابور ما لم يدفع له، وفي الغالب المخلّص ليس مجرد شخص فاسد يبتز التجار، لكنه أول خيط تمده الفصائل المسلحة في العراق للاستحواذ على السوق، ومراقبة حركة الأموال؛ فعبره تعرف الجماعات لمن هذه البضائع وأين ستذهب، ومن هو المستورد وأين محله، وما هي ملكيته، ولأية جماعة تابع أو لمن يدفع من الفصائل الأخرى.

المخلّص موظف يملك أرواح التجار؛ لذا يلجأ بعضهم إلى عقد صلة وثيقة مع المخلّصين، وفي بعض الأحيان تتطور هذه العلاقة إلى شراكات عمل مستديمة، تحفظ للتاجر أمواله وتحفظ للمخلّص حصته وحصة من جعله مخلّصاً!

“يعاني رجال الأعمال في العراق من نوعين من القيود؛ الأول متعلق بإجراءات الدولة، والثاني متعلق بإجراءات الدولة الشبح، التي هي عبارة عن سلاح منفلت في الشارع يهدد كل رأس مال شخصي” قال فاضل.

واستناداً إلى رواية فاضل، يتعرض التجار ورجال الأعمال إلى مضايقات شرطة المرور ودوريات النجدة، وفوق كل ذلك يتعرضون لتهديدات مبطنة ولغة متعالية من أشخاص مرتبطين بجماعات مسلحة.

“قد يتم إجبارنا يوماً ما على الدخول في عمليات تبييض أموال. من يدري؟ لقد تورط البعض في ذلك بالفعل” أضاف فاضل.

خطورة الاسم

من مصاعب التجارة في العراق أن صاحب المشروع الناجح يتجنب افتتاح فروع أخرى تحمل العلامة التجارية ذاتها للمشروع، لأن هناك من يراقب توسعه ونجاحه ويريد مشاركته إياه.

حصل هذا مع جلال، أحد تجار الملابس في بغداد.

يمتلك جلال محلاً ناجحاً في منطقة الكرادة وسط بغداد، ويمتلك محلاً آخر في مدينة الصدر شرقي العاصمة، غير أنه اختار اسماً آخر لمحل مدينة الصدر عندما افتتحه يختلف عن اسم محل الكرادة.

“لا يوجد أقسى من أن تخفي نجاحك. لا حلول غير هذه. عندما يصبح لديك أكثر من محل تصبح العين عليك” قال لنا.

من خلال عمله في السوق، اطلع جلال على طريقة تعامل الجماعات المسلحة مع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، فهي ترغمهم على إقامة علاقة معهم تتضمن نوعاً من الضريبة.

“أبسط شيء أن يقولوا لك: نحن هنا لحمايتك”، وهذا يعني أن على التاجر أن يدفع لهم بعضاً مما يجني أو يتحمل العواقب.

والعواقب قد تتضمن إيقاف شحنات البضائع في ميناء البصرة أو إحراقها وهي في الطريق.

ومن وسائل معاقبة من لا يتعاون إحراق محاله ومخازنه والاختباء خلف “التماس الكهربائي”، وهو السبب الشائع والتقليدي المعلن للحرائق المتكررة في العراق.

تندلع الحرائق باستمرار في الأسواق العراقية الكبرى، ومنها سوق الشورجة الشهيرة وسط بغداد، وبينما تعلن الجهات الرسمية دائماً أن “تماساً كهربائياً” يتسبب بها، يشير فارس إلى غير ذلك.

يعمل فارس في سوق الشورجة.

“هناك حرب علنية بين التجار تشتعل فيها بضاعتك إذا كان التاجر المنافس يملك جماعة سياسية أو حزبية تدعمه أو عشيرة. يمكن لهذه الجماعة أن تتسلل إلى مخازنك وتعيدك إلى الصفر بقداحة ثمنها 250 ديناراً عراقياً فقط (نحو 16 سنتاً). لقد حصل ذلك وسوف يتكرر” قال فارس.

أصبحت هناك صلات وثيقة بين التاجر والجماعات المُسلحة.

 يعتقد فارس أن السبب في ذلك يعود إلى ضعف رأس المال على أرض الواقع، وعدم توفير الحماية له من قبل الدولة.

وفي ظل ضعف القانون، يضطر بعض التجار إلى الاستعانة بجماعات مسلحة لاسترداد مئات الآلاف من الدولارات من المدينين الذين يمتنعون عن التسديد، على أن يقدم هدية مالية للجهة التي تسترد أمواله.

الطرف الأول يعمل ويربح، والطرف الثاني يوفر الحماية للعمل.

“صار بعض التجار يتحدثون بأسماء أحزاب وميليشيات بينما هم لا ينتمون لها” أوضح فارس.

دواء مهدد

يجري على سوق الأدوية ما يجري على بقية الأسواق، فهي أيضاً خاضعة لسطوة السلاح ونفوذ الأحزاب، ولا تعمل إلا بإشارات منها.

يرى إياد، وهو صاحب مذخر للأدوية في منطقة الحارثية غربي بغداد، أن العمل في مجاله بات “معقداً”.

“كل من يعتقد أن السوق تسيطر عليها مجموعة تجار فهو واهم” قال إياد وهو يشرح حالة السوق الخاضعة لجماعات حزبية وسياسية مرتبطة بالوزارات.

“سوق الأدوية مسيطر عليها كلياً” أضاف لنا.

ويعدّ تاجر الأدوية أن سيطرة الجماعات المسلحة على كل ما يتعلق بالطبابة هي السبب الرئيس في هجرة الكوادر الطبية.

حماية العشيرة

تمكن بعض التجار من الإفلات من مخالب الميليشيات بمساعدة عشائرهم، إذ أنهم يروجون في السوق بأنهم ينتمون لعشائر كبيرة وقوية، ما يمنحهم هالة تطرد من يحاول وضع يده على أرباحهم.

أحمد واحد من أولئك التجار.

يتحرك أحمد في السوق بكامل الثقة بالنفس ولا يخشى أن يطرق بابه جامعو الإتاوات، لكنه لا يخفي شعوره بالأسى تجاه “الضعفاء” سواء من التجار أو حتى أصحاب البسطات.

“أصحاب البسطات يدفعون أيضاً لجهات حكومية وغير حكومية على قلة ما يجنونه” قال لنا.

كما أشار إلى أنه يستخدم اسم عشيرته داخل السوق فقط ليدفع عن نفسه المتربصين بعمله، أما خارج السوق فإن “قليلين من يعرفون لأي عشيرة أنتمي”.

ممنوعات محروسة

ساهمت سطوة الميليشيات على الأسواق في عرض بضائع ممنوعة، منها الملابس العسكرية التي لا يبيح القانون تداولها خارج منافذ وزارتي الدفاع والداخلية.

كان تجار هذه الملابس يجلبونها في بادئ الأمر من إقليم كردستان، وكانوا يتعرضون لابتزاز جماعات كردية تفرض عليهم الشروط والأسعار، ولم يكن أمامهم سوى الإذعان لها، إلا أن بعضهم اتجه نحو الصين لاستيراد هذه الملابس.

“طبعاً هي ممنوعة ولكن هناك جهات سياسية تقبض حصتها وتهيئ الأرضية المناسبة للمتاجرة بها” قال حمودي أحد تجار الملابس العسكرية في منطقة الباب الشرقي وسط بغداد.