"بين نارين".. يوميات من حياة الكرد على حدود تركيا

رشيد صوفي

10 كانون الثاني 2023

"تحول محيط قريتنا إلى ساحة حرب بين مسلحي حزب العمال الكردستاني والجيش التركي. صارت المنطقة شبه سجن، فلا نستطيع الخروج حتى من منازلنا لشدة المواجهات والقصف المستمر".. أيام الخوف والهروب من المواجهات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني..

شهران اضطر فيهما سركون يوخنا إلى سماع دوي انفجارات قذائف المدافع وصواريخ الطائرات في قريته “جلك” على الحدود العراقية التركية، قبل أن ينفذ بجلده مع أسرته نحو حي هادئ من أحياء محافظة دهوك.

كان يوخنا يكابد شعوراً قاسياً من الخوف والقلق وهو يعلم أن بعضاً من تلك المقذوفات يحصد أرواح المدنيين، ثم رأى الإنذار الأخير بهيأة قوة عسكرية تركية تمركزت فوق قمة جبل كيستة المطل على قريته عام 2021.

عندئذ قرر يوخنا المغادرة.

ترك خلفه بستاناً وماشية ودواجن واصطحب أسرته في أيار 2021 في رحلة ترك الديار.

كان تمركز القوة التركية فوق الجبل علامة حاسمة على أن الصراع لن ينتهي في الأجل القريب، فاختار الرجل الانتقال إلى مكان بعيد.

أسرة يوخنا واحدة من أكثر من 30 أسرة نزحت من قرية جلك في أيار 2021 عقب هجوم تركي عنيف على المنطقة استمر أكثر من شهر.

“تحول محيط قريتنا إلى ساحة حرب بين مسلحي حزب العمال الكردستاني والجيش التركي. صارت المنطقة شبه سجن، فلا نستطيع الخروج حتى من منازلنا لشدة المواجهات والقصف المستمر” قال يوخنا.

روى سكان لنا أن مسلحي حزب العمال الكردستاني يتخذون من بعض المواقع القريبة من المناطق المأهولة بالسكان منطلقاً لشن هجماتهم ضد القوات التركية، وبالمقابل ترد الأخيرة عليهم بعنف من دون اعتبار للقرويين، ما يجلعهم في مرمى النيران.

ولكن ليس جميع السكان فرّوا من مناطق الصراع.

ما زال بضعة أفراد مصرين على البقاء في قرية جلك، منهم مارتا خوشابا ذات الـ71 عاماً، التي ترفض النزوح وتفضّل البقاء في القرية على أمل انجلاء الغمة.

تقضي خوشابا وقتها في تربية الدجاج والمواشي وحياكة الصوف، وقد قطعت عهداً على نفسها بأن لا يفرّقها عن قريتها سوى الموت.

“خمس عوائل فقط بقيت في القرية” قالت لنا.

حرب منذ الثمانينيات

بدأت المواجهات المسلحة بين عناصر حزب العمال الكردستاني والجيش التركي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث اختار الحزب حمل السلاح ضد السلطات التركية الرافضة منح الكرد حكماً ذاتياً في مناطقهم جنوبي البلاد.

وتقدّر مصادر غير رسمية عدد الكرد في تركيا بأكثر من 20 مليون نسمة.

وتفيد مصادر حكومية تركية بأن الصراع بين الجانبين المتواصل منذ سنوات، خلف أكثر من 40 ألف قتيل من الطرفين، فضلا عن تدمير مئات القرى وتهجير آلاف الأسر.

أدى الصراع إلى نزوح سكان قرى أخرى مجاورة لقرية جلك، منها أدني وديرشك وكيستة ودركلا وسيدا.

وعندما تتحدث الجهات الرسمية عن الموضوع تذكر أعداداً أكبر بكثير للقرى التي هجرها سكانها.

فبحسب تقرير للجنة تقصي الحقائق في برلمان إقليم كردستان نشرته وسائل إعلام كردية وعربية عام 2020 أخليت أكثر من 500 قرية جرّاء القصف المدفعي والجوي التركي والإيراني خلال السنوات الماضية.

يشير التقرير إلى أن 55 من أصل 73 قرية حدودية أخليت في أربيل لوحدها، بينما أدت حرائق التهمت حقولاً ومزارع وبساتين نتيجة للعمليات الحربية إلى خسائر بعشرات الملايين من الدولارات.

كما أخليت 104 قرى في قضاء جومان وناحية سيدكان.

تبدو الأرقام واقعية أمام كميات الذخيرة التركية المُطلقة نحو تلك المناطق، ففي قضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك توغلت القوات التركية في مساحة عرضها 40 كيلومتراً وعمقها 15 كيلومتراً، وأطلقت 666 قذيفة مدفع و70 صاروخاً على القرى. كما أدت العمليات العسكرية إلى مقتل 6 مدنيين في المحافظة، بحسب التقرير.

وفي ناحية دركار التابعة لقضاء زاخو، بات 200 مزارع عاجزين عن العودة إلى مناطقهم، كما جرى قصف 13 قرية تابعة لناحية باطوفا بالطائرات، وأخليت 27 قرية، وبلغ مجموع العوائل المتضررة من هذه العمليات 400 عائلة.

في قضاء العمادية التابع لمحافظة دهوك، تم إخلاء 198 من أصل 348 قرية، وقتل أربعة مدنيين وجرح 28، كما جرى إخلاء 80 بالمئة من قرى ناحية جمانكي وست من قرى ناحية كاني ماسي، ونزحت 2500 عائلة، كما أخليت 85 من أصل 92 قرية تابعة لناحية شيلادزي، وفقاً لما جاء في التقرير.

شهدت ناحية ديرلوك هي الأخرى إخلاء 42 من أصل 56 قرية، بينما أخليت 24 قرية تابعة لدينارتة من أصل 91، وقتل تسعة مدنيين وجرح 21 على مدى 24 سنة، استناداً للتقرير.

قال محمود طه نهيلي، وهو إعلامي كردي يتابع قضية هذه القرى، إن “أغلب النازحين جراء الهجمات التركية والإيرانية يعيشون في المجمعات السكنية والبلدات ويعانون من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، وأغلب الشبان القرويين يعانون من البطالة بسبب تركهم أماكنهم، إذ أن أغلبهم كان يعمل في الزراعة وتربية المواشي”.

وأضاف أن “حركة سكان المناطق الحدودية شبه محدودة ومن الصعوبة ممارسة حياتهم الطبيعية في الزراعة وتربية المواشي وغيرها من الأعمال، خشية من القصف الجوي والمدفعي شبه اليومي”.

وأوضح نهيلي أن “عدم وجود الاستقرار الأمني في هذه المناطق فاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى الدول الأوروبية بحثا عن حياة أفضل”.

أشّرت مؤسسة لوتكة (القمة) الكردية المعنية بشؤون اللاجئين والنازحين في إقليم كردستان، ارتفاع نسبة الهجرة بواقع 35 إلى 40 بالمئة بعد عام 2020 مقارنة بالأعوام السابقة.

وتظهر إحصائيات المؤسسة أن الأعوام السبعة الماضية شهدت هجرة أكثر من ستة آلاف مواطن عراقي (أغلبهم من كردستان) إلى الدول الأوروبية، ولقي 261 منهم مصرعهم في طريق الهجرة، فضلاً عن فقدان آخرين واعتقال عدد منهم من قبل السلطات التركية، حيث أنهم يتخذون تركيا معبراً نحو أوروبا.

بقايا المقذوفات التركية على القرى الكردية

يرى نهيلي أن تحصين القوات التركية مواقعها وتعزيزها يوماً بعد آخر، وقيامها بشق الطرق داخل أراضي كردستان، دليل على أنها لن تنسحب في وقت قريب.

وتسببت هذه الأوضاع في تراجع النشاط السياحي والزراعي والاقتصادي في المنطقة مقارنة بالأعوام الماضية كما يفيد سكّان.

“الناس يائسون ويشعرون بأن منطقتهم ستبقى ساحة صراع” قال نهيلي.

آلاف الهجمات

تورد منظمة فرق صانعي السلام المجتمعي الدولية (CPT) أرقاماً أخرى بشأن الهجمات والضحايا في شمال العراق.

يذكر تقرير للمنظمة أن القوات التركية نفذت ما لا يقل عن 88 هجوماً جویاً ومدفعیاً وبریاً عبر الحدود خلال الأعوام 2015-2021.

أسفرت تلك الهجمات عن مقتل 98-123 مدنياً وإصابة 134-161 آخرين بينهم نساء وأطفال، فضلا عن استهداف منشآت ومشاريع خدمية ومدارس ومراكز الصحية ومشاريع لتوفير المياه.

على مدى سنوات قليلة مضت، بنت القوات التركية أكثر من 60 قاعدة عسكرية ونقطة تفتيش داخل الأراضي العراقية تنطلق منها الهجمات.

ومنذ 2015 أطلقت تركيا حملات عسكرية بأسماء متعددة، وبدأت التعمق أكثر فأكثر داخل الأراضي العراقية.

أحدث تلك العمليات هي عملية “قفل المخلب”.

انطلقت هذه العملية في نيسان أبريل 2022، ومن خلالها أصبحت القوات التركية على بعد 40 كيلومتراً من مدن كردستان الكبيرة بينها أربيل.

قبل العملية والتوغل كانت هناك آلاف الهجمات التركية داخل الأراضي العراقية.

يفيد تقرير المنظمة بأنه منذ عام 2015 شنت القوات التركية أكثر من أربعة آلاف هجوم جوي ومدفعي وبري داخل حدود العراق، تم تسجيل 1600 منها في عام 2021 وحده.

ويجمل التقرير النتائج الرئيسة للعمليات بمقتل 98-123 مدنياً خلال 88 عملية عسكرية على الأقل منذ العام 2015، ومقتل أكثر من 55 مزارعاً وراعياً مدنياً بنيران تركية عندما كانوا يمارسون أعمالهم.

بلغت نسبة النساء القتيلات 13 بالمئة من مجموع القتلى والرجال 87 بالمئة.

قُتل أيضاً ستة أطفال وأصيب 14 آخرون وأخليت نحو 500 قرية خلال المدة ذاتها، وفقاً للتقرير.

لم تقتصر النيران على السكان القرويين فقط.

في 20 تموز 2022 استهدفت المدفعية التركية تجمعاً للسياح العراقيين في مصيف برخ شمالي محافظة دهوك.

أسفر الهجوم عن مقتل تسعة مدنيين بينهم طفلة وإصابة 33 آخرين.

لا شيء يوقف الصراع

طرحت الحكومة العراقية هذه القضية أمام مجلس الأمن الدولي وطالبت بإصدار قرار يلزم تركيا بسحب قواتها العسكرية من كامل الأراضي العراقية والعمل على ضمان مساءلة مرتكبي الهجوم وإلزام الحكومة التركية بدفع تعويضات للضحايا.

لكن لم يتحقق أي من تلك الطلبات.

دخان القصف يتصاعد في قرية كردية على حدود تركيا

قال ريفينك هروري، رئيس لجنة البيشمركة في برلمان إقليم كردستان، إن الأوضاع في المناطق الحدودية “سيئة جداً” وباتت القرى في تلك المناطق شبه مهجورة.

“القوات التركية توغلت بنحو 20-25 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية” أضاف لنا.

تحصي قناة “رووداو” الكردية، المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وجود 14 مقراً عسكرياً تركياً قرب أربيل، 12 منها في ناحية سيدكان الواقعة في المثلث الحدودي العراقي التركي الإيراني، واثنان في ميركسور، فضلا عن وجود 41 مقراً في مناطق تابعة لمحافظة دهوك، منها 23 في مناطق شيلادزي وكاني ماسي وبامرني وديرلوك، و18 في حدود قضاء زاخو.

ويقترح هروري إخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من العراق لإبطال ذريعة تركيا التي تتوغل وتهاجم بموجبها.

إلا أن أوميد محمد، النائب عن كتلة “الجيل الجديد” في مجلس النواب العراقي، يرى أن للمجلس دوراً أيضاً في هذا الملف.

“على مجلس النواب (الاتحادي) إصدار قرارات صارمة بشأن هذه الاعتداءات” قال النائب لـ”جمّار”.

وأضاف “على السلطة التنفيذية العراقية، خصوصاً وزارتي الدفاع والخارجية، التحرك وإصدار قرارات صارمة لمنع استمرار هذه الانتهاكات”.

أحدث خطوة اتخذتها الحكومة العراقية في هذا الصدد إصدار المجلس الوزاري للأمن الوطني العراقي في 23 تشرين الثاني نوفمبر 2022 قراراً بإعادة نشر قوات عراقية لمسك الخط الصفري على طول الحدود مع إيران وتركيا.

لكن يوخنا ما زال بعيداً عن قريته. يعيش في منزل مستأجر داخل مجمع سكني شمالي دهوك، ويعمل حارساً في محطة لمياه الإسالة مقابل راتب شهري لا يتجاوز 300 ألف دينار (نحو 150 دولاراً)، يدفع ثلثه للإيجار، بعدما كان يجني أرباحاً وفيرة من بستانه ودواجنه ومواشيه.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شهران اضطر فيهما سركون يوخنا إلى سماع دوي انفجارات قذائف المدافع وصواريخ الطائرات في قريته “جلك” على الحدود العراقية التركية، قبل أن ينفذ بجلده مع أسرته نحو حي هادئ من أحياء محافظة دهوك.

كان يوخنا يكابد شعوراً قاسياً من الخوف والقلق وهو يعلم أن بعضاً من تلك المقذوفات يحصد أرواح المدنيين، ثم رأى الإنذار الأخير بهيأة قوة عسكرية تركية تمركزت فوق قمة جبل كيستة المطل على قريته عام 2021.

عندئذ قرر يوخنا المغادرة.

ترك خلفه بستاناً وماشية ودواجن واصطحب أسرته في أيار 2021 في رحلة ترك الديار.

كان تمركز القوة التركية فوق الجبل علامة حاسمة على أن الصراع لن ينتهي في الأجل القريب، فاختار الرجل الانتقال إلى مكان بعيد.

أسرة يوخنا واحدة من أكثر من 30 أسرة نزحت من قرية جلك في أيار 2021 عقب هجوم تركي عنيف على المنطقة استمر أكثر من شهر.

“تحول محيط قريتنا إلى ساحة حرب بين مسلحي حزب العمال الكردستاني والجيش التركي. صارت المنطقة شبه سجن، فلا نستطيع الخروج حتى من منازلنا لشدة المواجهات والقصف المستمر” قال يوخنا.

روى سكان لنا أن مسلحي حزب العمال الكردستاني يتخذون من بعض المواقع القريبة من المناطق المأهولة بالسكان منطلقاً لشن هجماتهم ضد القوات التركية، وبالمقابل ترد الأخيرة عليهم بعنف من دون اعتبار للقرويين، ما يجلعهم في مرمى النيران.

ولكن ليس جميع السكان فرّوا من مناطق الصراع.

ما زال بضعة أفراد مصرين على البقاء في قرية جلك، منهم مارتا خوشابا ذات الـ71 عاماً، التي ترفض النزوح وتفضّل البقاء في القرية على أمل انجلاء الغمة.

تقضي خوشابا وقتها في تربية الدجاج والمواشي وحياكة الصوف، وقد قطعت عهداً على نفسها بأن لا يفرّقها عن قريتها سوى الموت.

“خمس عوائل فقط بقيت في القرية” قالت لنا.

حرب منذ الثمانينيات

بدأت المواجهات المسلحة بين عناصر حزب العمال الكردستاني والجيش التركي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث اختار الحزب حمل السلاح ضد السلطات التركية الرافضة منح الكرد حكماً ذاتياً في مناطقهم جنوبي البلاد.

وتقدّر مصادر غير رسمية عدد الكرد في تركيا بأكثر من 20 مليون نسمة.

وتفيد مصادر حكومية تركية بأن الصراع بين الجانبين المتواصل منذ سنوات، خلف أكثر من 40 ألف قتيل من الطرفين، فضلا عن تدمير مئات القرى وتهجير آلاف الأسر.

أدى الصراع إلى نزوح سكان قرى أخرى مجاورة لقرية جلك، منها أدني وديرشك وكيستة ودركلا وسيدا.

وعندما تتحدث الجهات الرسمية عن الموضوع تذكر أعداداً أكبر بكثير للقرى التي هجرها سكانها.

فبحسب تقرير للجنة تقصي الحقائق في برلمان إقليم كردستان نشرته وسائل إعلام كردية وعربية عام 2020 أخليت أكثر من 500 قرية جرّاء القصف المدفعي والجوي التركي والإيراني خلال السنوات الماضية.

يشير التقرير إلى أن 55 من أصل 73 قرية حدودية أخليت في أربيل لوحدها، بينما أدت حرائق التهمت حقولاً ومزارع وبساتين نتيجة للعمليات الحربية إلى خسائر بعشرات الملايين من الدولارات.

كما أخليت 104 قرى في قضاء جومان وناحية سيدكان.

تبدو الأرقام واقعية أمام كميات الذخيرة التركية المُطلقة نحو تلك المناطق، ففي قضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك توغلت القوات التركية في مساحة عرضها 40 كيلومتراً وعمقها 15 كيلومتراً، وأطلقت 666 قذيفة مدفع و70 صاروخاً على القرى. كما أدت العمليات العسكرية إلى مقتل 6 مدنيين في المحافظة، بحسب التقرير.

وفي ناحية دركار التابعة لقضاء زاخو، بات 200 مزارع عاجزين عن العودة إلى مناطقهم، كما جرى قصف 13 قرية تابعة لناحية باطوفا بالطائرات، وأخليت 27 قرية، وبلغ مجموع العوائل المتضررة من هذه العمليات 400 عائلة.

في قضاء العمادية التابع لمحافظة دهوك، تم إخلاء 198 من أصل 348 قرية، وقتل أربعة مدنيين وجرح 28، كما جرى إخلاء 80 بالمئة من قرى ناحية جمانكي وست من قرى ناحية كاني ماسي، ونزحت 2500 عائلة، كما أخليت 85 من أصل 92 قرية تابعة لناحية شيلادزي، وفقاً لما جاء في التقرير.

شهدت ناحية ديرلوك هي الأخرى إخلاء 42 من أصل 56 قرية، بينما أخليت 24 قرية تابعة لدينارتة من أصل 91، وقتل تسعة مدنيين وجرح 21 على مدى 24 سنة، استناداً للتقرير.

قال محمود طه نهيلي، وهو إعلامي كردي يتابع قضية هذه القرى، إن “أغلب النازحين جراء الهجمات التركية والإيرانية يعيشون في المجمعات السكنية والبلدات ويعانون من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، وأغلب الشبان القرويين يعانون من البطالة بسبب تركهم أماكنهم، إذ أن أغلبهم كان يعمل في الزراعة وتربية المواشي”.

وأضاف أن “حركة سكان المناطق الحدودية شبه محدودة ومن الصعوبة ممارسة حياتهم الطبيعية في الزراعة وتربية المواشي وغيرها من الأعمال، خشية من القصف الجوي والمدفعي شبه اليومي”.

وأوضح نهيلي أن “عدم وجود الاستقرار الأمني في هذه المناطق فاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى الدول الأوروبية بحثا عن حياة أفضل”.

أشّرت مؤسسة لوتكة (القمة) الكردية المعنية بشؤون اللاجئين والنازحين في إقليم كردستان، ارتفاع نسبة الهجرة بواقع 35 إلى 40 بالمئة بعد عام 2020 مقارنة بالأعوام السابقة.

وتظهر إحصائيات المؤسسة أن الأعوام السبعة الماضية شهدت هجرة أكثر من ستة آلاف مواطن عراقي (أغلبهم من كردستان) إلى الدول الأوروبية، ولقي 261 منهم مصرعهم في طريق الهجرة، فضلاً عن فقدان آخرين واعتقال عدد منهم من قبل السلطات التركية، حيث أنهم يتخذون تركيا معبراً نحو أوروبا.

بقايا المقذوفات التركية على القرى الكردية

يرى نهيلي أن تحصين القوات التركية مواقعها وتعزيزها يوماً بعد آخر، وقيامها بشق الطرق داخل أراضي كردستان، دليل على أنها لن تنسحب في وقت قريب.

وتسببت هذه الأوضاع في تراجع النشاط السياحي والزراعي والاقتصادي في المنطقة مقارنة بالأعوام الماضية كما يفيد سكّان.

“الناس يائسون ويشعرون بأن منطقتهم ستبقى ساحة صراع” قال نهيلي.

آلاف الهجمات

تورد منظمة فرق صانعي السلام المجتمعي الدولية (CPT) أرقاماً أخرى بشأن الهجمات والضحايا في شمال العراق.

يذكر تقرير للمنظمة أن القوات التركية نفذت ما لا يقل عن 88 هجوماً جویاً ومدفعیاً وبریاً عبر الحدود خلال الأعوام 2015-2021.

أسفرت تلك الهجمات عن مقتل 98-123 مدنياً وإصابة 134-161 آخرين بينهم نساء وأطفال، فضلا عن استهداف منشآت ومشاريع خدمية ومدارس ومراكز الصحية ومشاريع لتوفير المياه.

على مدى سنوات قليلة مضت، بنت القوات التركية أكثر من 60 قاعدة عسكرية ونقطة تفتيش داخل الأراضي العراقية تنطلق منها الهجمات.

ومنذ 2015 أطلقت تركيا حملات عسكرية بأسماء متعددة، وبدأت التعمق أكثر فأكثر داخل الأراضي العراقية.

أحدث تلك العمليات هي عملية “قفل المخلب”.

انطلقت هذه العملية في نيسان أبريل 2022، ومن خلالها أصبحت القوات التركية على بعد 40 كيلومتراً من مدن كردستان الكبيرة بينها أربيل.

قبل العملية والتوغل كانت هناك آلاف الهجمات التركية داخل الأراضي العراقية.

يفيد تقرير المنظمة بأنه منذ عام 2015 شنت القوات التركية أكثر من أربعة آلاف هجوم جوي ومدفعي وبري داخل حدود العراق، تم تسجيل 1600 منها في عام 2021 وحده.

ويجمل التقرير النتائج الرئيسة للعمليات بمقتل 98-123 مدنياً خلال 88 عملية عسكرية على الأقل منذ العام 2015، ومقتل أكثر من 55 مزارعاً وراعياً مدنياً بنيران تركية عندما كانوا يمارسون أعمالهم.

بلغت نسبة النساء القتيلات 13 بالمئة من مجموع القتلى والرجال 87 بالمئة.

قُتل أيضاً ستة أطفال وأصيب 14 آخرون وأخليت نحو 500 قرية خلال المدة ذاتها، وفقاً للتقرير.

لم تقتصر النيران على السكان القرويين فقط.

في 20 تموز 2022 استهدفت المدفعية التركية تجمعاً للسياح العراقيين في مصيف برخ شمالي محافظة دهوك.

أسفر الهجوم عن مقتل تسعة مدنيين بينهم طفلة وإصابة 33 آخرين.

لا شيء يوقف الصراع

طرحت الحكومة العراقية هذه القضية أمام مجلس الأمن الدولي وطالبت بإصدار قرار يلزم تركيا بسحب قواتها العسكرية من كامل الأراضي العراقية والعمل على ضمان مساءلة مرتكبي الهجوم وإلزام الحكومة التركية بدفع تعويضات للضحايا.

لكن لم يتحقق أي من تلك الطلبات.

دخان القصف يتصاعد في قرية كردية على حدود تركيا

قال ريفينك هروري، رئيس لجنة البيشمركة في برلمان إقليم كردستان، إن الأوضاع في المناطق الحدودية “سيئة جداً” وباتت القرى في تلك المناطق شبه مهجورة.

“القوات التركية توغلت بنحو 20-25 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية” أضاف لنا.

تحصي قناة “رووداو” الكردية، المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وجود 14 مقراً عسكرياً تركياً قرب أربيل، 12 منها في ناحية سيدكان الواقعة في المثلث الحدودي العراقي التركي الإيراني، واثنان في ميركسور، فضلا عن وجود 41 مقراً في مناطق تابعة لمحافظة دهوك، منها 23 في مناطق شيلادزي وكاني ماسي وبامرني وديرلوك، و18 في حدود قضاء زاخو.

ويقترح هروري إخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من العراق لإبطال ذريعة تركيا التي تتوغل وتهاجم بموجبها.

إلا أن أوميد محمد، النائب عن كتلة “الجيل الجديد” في مجلس النواب العراقي، يرى أن للمجلس دوراً أيضاً في هذا الملف.

“على مجلس النواب (الاتحادي) إصدار قرارات صارمة بشأن هذه الاعتداءات” قال النائب لـ”جمّار”.

وأضاف “على السلطة التنفيذية العراقية، خصوصاً وزارتي الدفاع والخارجية، التحرك وإصدار قرارات صارمة لمنع استمرار هذه الانتهاكات”.

أحدث خطوة اتخذتها الحكومة العراقية في هذا الصدد إصدار المجلس الوزاري للأمن الوطني العراقي في 23 تشرين الثاني نوفمبر 2022 قراراً بإعادة نشر قوات عراقية لمسك الخط الصفري على طول الحدود مع إيران وتركيا.

لكن يوخنا ما زال بعيداً عن قريته. يعيش في منزل مستأجر داخل مجمع سكني شمالي دهوك، ويعمل حارساً في محطة لمياه الإسالة مقابل راتب شهري لا يتجاوز 300 ألف دينار (نحو 150 دولاراً)، يدفع ثلثه للإيجار، بعدما كان يجني أرباحاً وفيرة من بستانه ودواجنه ومواشيه.