كيف يُحرّك ميسي "هرمون السعادة" في أجساد محبيه؟

عامر مؤيد

04 كانون الثاني 2023

منذ بدايته وزّن ليونيل ميسي لعبه لكرة القدم بالمثقال. حرص دائماً على أن يوازن بين المتعة والإبهار والدقة في تحرّكه وتحريكه لكرة القدم.. وهكذا حقّق ما عجز عن تحقيقه من سبقه، وأسر عراقيين وقلب حياتهم رأساً على عقب..

لم يكن تاريخ 29 حزيران عام 1986 عادياً مثل الأيام الذي تلته في الارجنتين، ففيه رفع دييغو ارماندو مارادونا الكأس الذهبية أمام الرئيس المكسيكي ميغيل دي لا مدريد، بعد أن عاد حائزاً على أهم البطولات في تاريخ كؤوس العالم، ذاك أن كثيرين اعتبروها “بطولة مارادونا”، لما قدمه من أداء فردي لا يُضاهى.

بعد مرور 26 عاماً أصبح تاريخ 18 من كانون الاول 2022 يوماً خالداً جديداً، لكن هذه المرة ليس في الأرجنتين فقط، الفائزة توّاً بكأس العالم، بل في الكثير من دول العالم ومنها العراق.

ليونيل ميسي، أخيراً، حمل كأس العالم بيديه.

أخذ “أبو تياغو” الأرجنتين إلى حلمٍ راودها كثيراً، لكنه أخذ شبّاناً ورجالاً ونساءً في العراق إلى الحلم ذاته. بقي هؤلاء يحتفلون في الشوارع حتّى الصباح. لم تكن الأرجنتين هي المُحتفل بها، وإنما ميسي لوحده.

“البرغوث”، على ما عُرف في بدايته، بدا وكأنه منتخبٌ بأحد عشر لاعباً. الناس تلهج باسمه، وتعلي صورته، وتدعو له بالتقدم والسداد أمام حرّاس المرمى.

رقرق ميسي الدمع في عيون كثيرين: عاطلون عن العمل، طلبة، أشخاص أرادوا احتراف كرة القدم لكنهم خُذلوا. شعراء. مجانين. أساتذة جامعات. كل المهن والفئات والطبقات.

سَحَرَ ميسي الجميع.

الارتباط بميسي

لرجال كثيرين، كانت الحياة في أعوام الاقتتال الطائفي بين 2006-2008 تأخذ شكلين، الأول هو القتل في الشوارع، والثاني هو انتظار ميسي على شاشة التلفاز. التركيز على ساقيه وهو يُحرّك الكرة بقدمه اليسرى الثابتة.

كان رونالدينيو أيضاً في الملاعب، وله جمهور مأسور بطريقة تحرّكه وتسديده الأهداف، وبفخذيه الضخمتين المليئتين بالعضلات، وبابتسامته الساحرة عند تسديد أو إضاعة تسديدة هدف.

لكن ميسي كان مختلفاً.

منذ بدايته، كان ليونيل يزن لعبه لكرة القدم بالمثقال. حرص دائماً على أن يوازن بين المتعة والإبهار والدقة في تحرّكه وتحريكه لكرة القدم. وهكذا حقّق ما عجز عن تحقيقه من سبقه. وهكذا، أيضاً، أسر العراقيين الذين يتنفسّون كرة القدم.

ما أن أخذ نجم ميسي يلمع، أخذت صوره تغطي جدران المقاهي العراقيّة الفقيرة. وبدلاً من الصور الشخصيّة المتفاخرة، صارت صورة ميسي توضع كخلفيّة لشاشات الهواتف المحمولة.

وكان ظهور ميسي على الشاشة يعني الدخول في لحظات المتعة ونسيان الواقع والحرب التي تتفجّر خارج الأبواب. كان نجم “البرغوث” قد سطع في برشلونة، إذ كان أصغر لاعب يلعب مع النادي في الدوري الإسباني.

وولد جيل جديد من مشجعي الفريق الإسباني كل ارتباطهم بفريقهم نسجه ميسي، وليس أي شيء آخر.

نادٍ بعراقة وتاريخ برشلونة، صار يرتبط باسم ميسي فقط. صار اللاعب الأرجنتيني المولود عام 1987 جنوب مدينة روساريو، “لوغو” النادي، فكلما ذكر اسم برشلونة رفّت أمام العينين صورة ميسي، وليس شعارها الأصفر والأحمر والأزرق.

الحال هذه، وبينما كان ميسي يتقدّم ويزداد أناقة في لعبهِ، كان العراقيون يَعدّون الأهداف التي يسجلها، وعدد المباريات التي يخوضها، والكؤوس اللامعة التي يحصدها ويصفّها إلى جانب بعضها في رفوف زجاجية في منزله.

مجانينه كانوا يعرفون حتّى أكثر التفاصيل حميمية عنه، كان بعضهم يترجم مقالات الصحف الصفراء الإسبانية على غوغل ليعرف أخبار ميسي. كان هؤلاء يدافعون عنه وكأنه فرد من عائلتهم.

حصل ميسي على كل الألقاب الكروية، وحطّم أرقام لاعبين عظماء سبقوه، لكن متحفه الشخصي بقي ناقصاً من “كأس العالم”. وعندما اقترب منها عام 2014، ابتعدت. وفي عام 2018 أخرجه المنتخب الفرنسي كسيراً.

كان مونديال قطر فرصته الأخيرة، فإما البقاء خالداً لكن بنصر ناقص، أو الصعود إلى قمة الهرم والتربّع وحيداً.

كأس العالم

حضر ميسي مع منتخب الأرجنتين إلى كأس العالم وهو مرشح ساخن لخطف اللقب. منتخب التانغو كان قد توّج قبلها بعام بكوبا اميركا على حساب البرازيل، كما حقق فوزاً على إيطاليا في كأس فيناليسيما الذي جمع أبطال اوروبا ضد أبطال اميركا الجنوبية.

لكن، وفي مباراتها الأولى، سقطت الأرجنتين سقطة مريعة أمام السعودية. صار ميسي نكتة للسعوديين والإعلام الرياضي العربي، أما أنصار خصمه اللدود كريستيانو رونالدو، فقد أخرجوا كل إبداع كامن فيهم في السخرية.

لكن رقص التانغو عاد: منتخب الأرجنتين استعاد عافيته.لم تكن عودة الأرجنتين، والفوز في ما بعد بالمونديال، مرتبطة بتألق ميسي فقط، بل أن هناك عملا كبيرا للمدرب ليونيل سكالوني الذي اعتمد على لاعبين جدد كان لهم الاثر الكبير في الظفر بالمونديال، مثل المهاجم جوليان الفاريز ومتوسطي الميدان ماك اليستر وانزو فيرنانديز.

لكن سكالوني، في قرارة نفسه، يعرف أن الكأس ما كانت لتصل إلى بيونس ايريس من دون تألق ميسي داخل المربع الأخضر. لقد ساهم البرغوث بالأهداف في جميع المباريات التي خاضتها الارجنتين باستثناء لقاء بولندا. سجل على السعودية، المكسيك، استراليا، هولندا، كرواتيا، وفرنسا، وصنع لزملائه فرصاً لتسجيل الأهداف.

لم يكن اعتباطاً، إذاً، تتويج ميسي بالهداف التاريخي للأرجنتين في المونديال، إذ أنه أول لاعب يسجل في جميع الأدوار الاقصائية، وأكثر من شارك في مباريات بتاريخ المونديال.

ميسي في بغداد

يؤمن عراقيون كُثر، ربما، بأن الدعوات التي أطلقت من حناجرهم هي التي أدت إلى أن يختتم ميسي آخر مباراة كأس العالم في تاريخه بهذا التتويج التاريخي. أو أن تفسيرات لا منطقيّة أخرى، هي التي جعلتهم يحتفلون بنهائي المونديال بهذا الجنون.

فلم تنافس بيونس ايريس مدينةٌ بالاحتفال بفوز الأرجنتين بكأس العالم إلا بغداد. استمرت الاحتفالات حتّى الصباح، وقبل ذلك، أخذ الناس يؤمنون بأفكار ازدروها لأعوام طويلة.

لنأخذ إيهاب شغيدل، الشاعر والكاتب، مثالاً.

يحاول هذا الشاعر تحطيم كل الأوهام والوثنيات والأفكار الرجعية من خلال مقالاته وقصائده، لكن عندما تعلّق الأمر بميسي ومصيره، عدل عن كل أفكاره الراديكالية.

لم يتخلّ إيهاب عمّا يسميّها “عقائد خالدة” آمن بها أجداده تتعلق بالحظ الجميل، وفي تسميتها الشعبيّة: “الجاقة”.

و”الجاقة” في كرة القدم تعني مشاهدتك مباراة وأنت ترتدي ملابس بألوان معينة في مكان محدد، ومع أشخاص معينين، وقد يتطلب الأمر منك، رغم ذلك، إن تغير مكانك في حال وضعت هذه الحركة ضمن خططك الخاصة بـ”الجاقة”.

شاهد شغيدل المباراة في مقهى جديد، حيث أنه منذ مباراة السعودية التي خسرتها الارجنتين، قرر أن يكون كل لقاء للتانغو في مكان لأول مرة كنوع من جلب الحظ في النجاح.

16 عاماً هي عمر علاقة إيهاب بميسي.. منذ بدء اللاعب الارجنتيني مزاولة الكرة، “جميع متغيرات الحياة التي طرأت في حياتي كان ميسي مرافقا لها، لذا يعتبر هو من أصدقائي القديمين والمستمرين حتى اللحظة”.

بين ايهاب شغيدل وجمال السوداني نحو 30 عاماً فارق عمر للثاني على الأول، لكن ما يجمعهما سحر ميسي، أو الإيمان المُطلق بعبقرية أو حتّى ألوهية هذا اللاعب الذي يقترب من سن التقاعد.

السوداني، أستاذ الآداب، يعاني من قصر نظر كبير. عندما يُريد قراءة كلمة في كتاب، فإنه يكاد يلصق عينيه على ورقه، وإذا أراد مشاهدة التلفاز، فإن وجهه يكاد يلامس الشاشة.

نتيجة لذلك، فإن الرجل البالغ من العمر 62 عاماً لا يُجهد نظره إلا في حالتين: قراءة الشّعر العربي القديم وما يتعلّق بشرحه، وأي مباراة كرة قدم يشترك فيها ميسي.

“دائماً ما كان شعوري تجاه هذا اللاعب بانه جزء من عائلتي ويعرف جميع تفاصيل حياتنا، نظراً للأيام التي عاشها داخل منزلنا من خلال شاشة تلفاز صغيرة”.

السوداني، الذي يعتبر ميسي “صديقاً وفرداً من العائلة”، عرف اللاعب الأرجنتيني عندما بدأ اللعب في فريق برشلونة، “ميسي بدا منذ الوهلة الأولى بانه امتداد لأساطير كبار لكن شيئاً فشيئاً أخذ يتجاوزهم بمراحل وأصبح هو من يتسيّد اللعبة فقط”.

في المباراة النهائية بين فرنسا والأرجنتين، كان السوداني يلتصق بشاشة التلفاز، وكان يقفز كلّما حرّك ميسي الكرة بين يديه.

وعندما رفع ميسي الكأس، اغرورقت عينا السوداني.

“تغيير القضيّة”

يمكن القول أيضاً إن ميسي هزّ ثوابت وغيّر قواعد في أعراف تشجيع كرة القدم والإخلاص لمنتخب أو فريق أو لاعب. فيمكن للمشجع الحقيقي تغيير المكان الذي يسكنه، والانتماء الفكري والعقائدي اللذين يعتنقهما، لكن لا يمكنه تغيير ناديه الذي تربى على تشجيعه.

وقع بسام عبد الرزاق، الشاعر والصحفي، بهذه المعضلة: كيف لمشجع اعتاد منذ طفولته على الوقوف إلى جانب البرازيل.. كيف له أن يتمنى الفوز لمنتخب غريمه اللدود الأرجنتين.. عليه أن يشجعه لتسعين دقيقة. يفعل ذلك كلّه ليرى ميسي يرفع كأس العالم بيديه.

“قضية ميسي يجب أن تدرّس، فهناك تأثير منه على محبيّه يجعل لاعباً فرنسياً دولياً مثل أندريه بيير جينياك الذي شارك مع فرنسا في يورو 2016، يتمنى خسارة منتخب بلاده أمام الارجنتين، ليرى هو الآخر ميسي متوجاً بالكأس”.

“تصوّر، أسطورة برازيلية مثل رونالدينيو يجلس في المدرجات ويصفّق لميسي!”.

هرمون السعادة

يمكن لميسي أيضاً أن يتحوّل إلى هرمون يبث “السعادة” في جسد محبيه ومتابعيه.

بالنسبة لمحمد رائد، وهو لاعب كرة قدم هاوٍ، فإن ميسي هو “السعادة الأولى”.

قضى محمد مرحلة شبابه يبحث عن عمل، وحين أخذ يستقرّ مالياً ويذوق الهناء، قتل شقيقه أثناء احتلال تنظيم الدولية الإسلامية “داعش” لمناطق شمالي العراق في حزيران عام 2014.

“لا، لا وجود للسعادة قبل ميسي”، قال محمد.

“على مدار 16 عاماً كان بشكلٍ اسبوعي يعطيني هرمونا خاصا أطلقت عليه في ما بعد (هرمون ميسي) وهو مزيج من سعادة وانتشاء وإعطاء طاقة معنوية نحو الأمام”.

احتفل محمد بـ”فوز ميسي” بكأس العالم حتّى ساعات الصباح. أعرف هذا الشاب منذ كنا صغاراً، ولم أره سعيداً بهذا الشكل من قبل.

لكن هل كنت أنا أقلّ سعادة؟ في الحقيقة: لا.

بقيت أيضاً احتفل في الشارع، وأصوّر، وأحاول فهم هذه المحبة العجيبة للاعب غيّر شكل كرة قدم، وحطم الأساطير والأرقام.

ولا يبدو جنوناً أبداً، أن يكون ميسي بالنسبة لفئة من العراقيين: صديقا وفردا من العائلة يعادل كتب الأدب و”هرمون” يطلق السعادة في الجسم.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لم يكن تاريخ 29 حزيران عام 1986 عادياً مثل الأيام الذي تلته في الارجنتين، ففيه رفع دييغو ارماندو مارادونا الكأس الذهبية أمام الرئيس المكسيكي ميغيل دي لا مدريد، بعد أن عاد حائزاً على أهم البطولات في تاريخ كؤوس العالم، ذاك أن كثيرين اعتبروها “بطولة مارادونا”، لما قدمه من أداء فردي لا يُضاهى.

بعد مرور 26 عاماً أصبح تاريخ 18 من كانون الاول 2022 يوماً خالداً جديداً، لكن هذه المرة ليس في الأرجنتين فقط، الفائزة توّاً بكأس العالم، بل في الكثير من دول العالم ومنها العراق.

ليونيل ميسي، أخيراً، حمل كأس العالم بيديه.

أخذ “أبو تياغو” الأرجنتين إلى حلمٍ راودها كثيراً، لكنه أخذ شبّاناً ورجالاً ونساءً في العراق إلى الحلم ذاته. بقي هؤلاء يحتفلون في الشوارع حتّى الصباح. لم تكن الأرجنتين هي المُحتفل بها، وإنما ميسي لوحده.

“البرغوث”، على ما عُرف في بدايته، بدا وكأنه منتخبٌ بأحد عشر لاعباً. الناس تلهج باسمه، وتعلي صورته، وتدعو له بالتقدم والسداد أمام حرّاس المرمى.

رقرق ميسي الدمع في عيون كثيرين: عاطلون عن العمل، طلبة، أشخاص أرادوا احتراف كرة القدم لكنهم خُذلوا. شعراء. مجانين. أساتذة جامعات. كل المهن والفئات والطبقات.

سَحَرَ ميسي الجميع.

الارتباط بميسي

لرجال كثيرين، كانت الحياة في أعوام الاقتتال الطائفي بين 2006-2008 تأخذ شكلين، الأول هو القتل في الشوارع، والثاني هو انتظار ميسي على شاشة التلفاز. التركيز على ساقيه وهو يُحرّك الكرة بقدمه اليسرى الثابتة.

كان رونالدينيو أيضاً في الملاعب، وله جمهور مأسور بطريقة تحرّكه وتسديده الأهداف، وبفخذيه الضخمتين المليئتين بالعضلات، وبابتسامته الساحرة عند تسديد أو إضاعة تسديدة هدف.

لكن ميسي كان مختلفاً.

منذ بدايته، كان ليونيل يزن لعبه لكرة القدم بالمثقال. حرص دائماً على أن يوازن بين المتعة والإبهار والدقة في تحرّكه وتحريكه لكرة القدم. وهكذا حقّق ما عجز عن تحقيقه من سبقه. وهكذا، أيضاً، أسر العراقيين الذين يتنفسّون كرة القدم.

ما أن أخذ نجم ميسي يلمع، أخذت صوره تغطي جدران المقاهي العراقيّة الفقيرة. وبدلاً من الصور الشخصيّة المتفاخرة، صارت صورة ميسي توضع كخلفيّة لشاشات الهواتف المحمولة.

وكان ظهور ميسي على الشاشة يعني الدخول في لحظات المتعة ونسيان الواقع والحرب التي تتفجّر خارج الأبواب. كان نجم “البرغوث” قد سطع في برشلونة، إذ كان أصغر لاعب يلعب مع النادي في الدوري الإسباني.

وولد جيل جديد من مشجعي الفريق الإسباني كل ارتباطهم بفريقهم نسجه ميسي، وليس أي شيء آخر.

نادٍ بعراقة وتاريخ برشلونة، صار يرتبط باسم ميسي فقط. صار اللاعب الأرجنتيني المولود عام 1987 جنوب مدينة روساريو، “لوغو” النادي، فكلما ذكر اسم برشلونة رفّت أمام العينين صورة ميسي، وليس شعارها الأصفر والأحمر والأزرق.

الحال هذه، وبينما كان ميسي يتقدّم ويزداد أناقة في لعبهِ، كان العراقيون يَعدّون الأهداف التي يسجلها، وعدد المباريات التي يخوضها، والكؤوس اللامعة التي يحصدها ويصفّها إلى جانب بعضها في رفوف زجاجية في منزله.

مجانينه كانوا يعرفون حتّى أكثر التفاصيل حميمية عنه، كان بعضهم يترجم مقالات الصحف الصفراء الإسبانية على غوغل ليعرف أخبار ميسي. كان هؤلاء يدافعون عنه وكأنه فرد من عائلتهم.

حصل ميسي على كل الألقاب الكروية، وحطّم أرقام لاعبين عظماء سبقوه، لكن متحفه الشخصي بقي ناقصاً من “كأس العالم”. وعندما اقترب منها عام 2014، ابتعدت. وفي عام 2018 أخرجه المنتخب الفرنسي كسيراً.

كان مونديال قطر فرصته الأخيرة، فإما البقاء خالداً لكن بنصر ناقص، أو الصعود إلى قمة الهرم والتربّع وحيداً.

كأس العالم

حضر ميسي مع منتخب الأرجنتين إلى كأس العالم وهو مرشح ساخن لخطف اللقب. منتخب التانغو كان قد توّج قبلها بعام بكوبا اميركا على حساب البرازيل، كما حقق فوزاً على إيطاليا في كأس فيناليسيما الذي جمع أبطال اوروبا ضد أبطال اميركا الجنوبية.

لكن، وفي مباراتها الأولى، سقطت الأرجنتين سقطة مريعة أمام السعودية. صار ميسي نكتة للسعوديين والإعلام الرياضي العربي، أما أنصار خصمه اللدود كريستيانو رونالدو، فقد أخرجوا كل إبداع كامن فيهم في السخرية.

لكن رقص التانغو عاد: منتخب الأرجنتين استعاد عافيته.لم تكن عودة الأرجنتين، والفوز في ما بعد بالمونديال، مرتبطة بتألق ميسي فقط، بل أن هناك عملا كبيرا للمدرب ليونيل سكالوني الذي اعتمد على لاعبين جدد كان لهم الاثر الكبير في الظفر بالمونديال، مثل المهاجم جوليان الفاريز ومتوسطي الميدان ماك اليستر وانزو فيرنانديز.

لكن سكالوني، في قرارة نفسه، يعرف أن الكأس ما كانت لتصل إلى بيونس ايريس من دون تألق ميسي داخل المربع الأخضر. لقد ساهم البرغوث بالأهداف في جميع المباريات التي خاضتها الارجنتين باستثناء لقاء بولندا. سجل على السعودية، المكسيك، استراليا، هولندا، كرواتيا، وفرنسا، وصنع لزملائه فرصاً لتسجيل الأهداف.

لم يكن اعتباطاً، إذاً، تتويج ميسي بالهداف التاريخي للأرجنتين في المونديال، إذ أنه أول لاعب يسجل في جميع الأدوار الاقصائية، وأكثر من شارك في مباريات بتاريخ المونديال.

ميسي في بغداد

يؤمن عراقيون كُثر، ربما، بأن الدعوات التي أطلقت من حناجرهم هي التي أدت إلى أن يختتم ميسي آخر مباراة كأس العالم في تاريخه بهذا التتويج التاريخي. أو أن تفسيرات لا منطقيّة أخرى، هي التي جعلتهم يحتفلون بنهائي المونديال بهذا الجنون.

فلم تنافس بيونس ايريس مدينةٌ بالاحتفال بفوز الأرجنتين بكأس العالم إلا بغداد. استمرت الاحتفالات حتّى الصباح، وقبل ذلك، أخذ الناس يؤمنون بأفكار ازدروها لأعوام طويلة.

لنأخذ إيهاب شغيدل، الشاعر والكاتب، مثالاً.

يحاول هذا الشاعر تحطيم كل الأوهام والوثنيات والأفكار الرجعية من خلال مقالاته وقصائده، لكن عندما تعلّق الأمر بميسي ومصيره، عدل عن كل أفكاره الراديكالية.

لم يتخلّ إيهاب عمّا يسميّها “عقائد خالدة” آمن بها أجداده تتعلق بالحظ الجميل، وفي تسميتها الشعبيّة: “الجاقة”.

و”الجاقة” في كرة القدم تعني مشاهدتك مباراة وأنت ترتدي ملابس بألوان معينة في مكان محدد، ومع أشخاص معينين، وقد يتطلب الأمر منك، رغم ذلك، إن تغير مكانك في حال وضعت هذه الحركة ضمن خططك الخاصة بـ”الجاقة”.

شاهد شغيدل المباراة في مقهى جديد، حيث أنه منذ مباراة السعودية التي خسرتها الارجنتين، قرر أن يكون كل لقاء للتانغو في مكان لأول مرة كنوع من جلب الحظ في النجاح.

16 عاماً هي عمر علاقة إيهاب بميسي.. منذ بدء اللاعب الارجنتيني مزاولة الكرة، “جميع متغيرات الحياة التي طرأت في حياتي كان ميسي مرافقا لها، لذا يعتبر هو من أصدقائي القديمين والمستمرين حتى اللحظة”.

بين ايهاب شغيدل وجمال السوداني نحو 30 عاماً فارق عمر للثاني على الأول، لكن ما يجمعهما سحر ميسي، أو الإيمان المُطلق بعبقرية أو حتّى ألوهية هذا اللاعب الذي يقترب من سن التقاعد.

السوداني، أستاذ الآداب، يعاني من قصر نظر كبير. عندما يُريد قراءة كلمة في كتاب، فإنه يكاد يلصق عينيه على ورقه، وإذا أراد مشاهدة التلفاز، فإن وجهه يكاد يلامس الشاشة.

نتيجة لذلك، فإن الرجل البالغ من العمر 62 عاماً لا يُجهد نظره إلا في حالتين: قراءة الشّعر العربي القديم وما يتعلّق بشرحه، وأي مباراة كرة قدم يشترك فيها ميسي.

“دائماً ما كان شعوري تجاه هذا اللاعب بانه جزء من عائلتي ويعرف جميع تفاصيل حياتنا، نظراً للأيام التي عاشها داخل منزلنا من خلال شاشة تلفاز صغيرة”.

السوداني، الذي يعتبر ميسي “صديقاً وفرداً من العائلة”، عرف اللاعب الأرجنتيني عندما بدأ اللعب في فريق برشلونة، “ميسي بدا منذ الوهلة الأولى بانه امتداد لأساطير كبار لكن شيئاً فشيئاً أخذ يتجاوزهم بمراحل وأصبح هو من يتسيّد اللعبة فقط”.

في المباراة النهائية بين فرنسا والأرجنتين، كان السوداني يلتصق بشاشة التلفاز، وكان يقفز كلّما حرّك ميسي الكرة بين يديه.

وعندما رفع ميسي الكأس، اغرورقت عينا السوداني.

“تغيير القضيّة”

يمكن القول أيضاً إن ميسي هزّ ثوابت وغيّر قواعد في أعراف تشجيع كرة القدم والإخلاص لمنتخب أو فريق أو لاعب. فيمكن للمشجع الحقيقي تغيير المكان الذي يسكنه، والانتماء الفكري والعقائدي اللذين يعتنقهما، لكن لا يمكنه تغيير ناديه الذي تربى على تشجيعه.

وقع بسام عبد الرزاق، الشاعر والصحفي، بهذه المعضلة: كيف لمشجع اعتاد منذ طفولته على الوقوف إلى جانب البرازيل.. كيف له أن يتمنى الفوز لمنتخب غريمه اللدود الأرجنتين.. عليه أن يشجعه لتسعين دقيقة. يفعل ذلك كلّه ليرى ميسي يرفع كأس العالم بيديه.

“قضية ميسي يجب أن تدرّس، فهناك تأثير منه على محبيّه يجعل لاعباً فرنسياً دولياً مثل أندريه بيير جينياك الذي شارك مع فرنسا في يورو 2016، يتمنى خسارة منتخب بلاده أمام الارجنتين، ليرى هو الآخر ميسي متوجاً بالكأس”.

“تصوّر، أسطورة برازيلية مثل رونالدينيو يجلس في المدرجات ويصفّق لميسي!”.

هرمون السعادة

يمكن لميسي أيضاً أن يتحوّل إلى هرمون يبث “السعادة” في جسد محبيه ومتابعيه.

بالنسبة لمحمد رائد، وهو لاعب كرة قدم هاوٍ، فإن ميسي هو “السعادة الأولى”.

قضى محمد مرحلة شبابه يبحث عن عمل، وحين أخذ يستقرّ مالياً ويذوق الهناء، قتل شقيقه أثناء احتلال تنظيم الدولية الإسلامية “داعش” لمناطق شمالي العراق في حزيران عام 2014.

“لا، لا وجود للسعادة قبل ميسي”، قال محمد.

“على مدار 16 عاماً كان بشكلٍ اسبوعي يعطيني هرمونا خاصا أطلقت عليه في ما بعد (هرمون ميسي) وهو مزيج من سعادة وانتشاء وإعطاء طاقة معنوية نحو الأمام”.

احتفل محمد بـ”فوز ميسي” بكأس العالم حتّى ساعات الصباح. أعرف هذا الشاب منذ كنا صغاراً، ولم أره سعيداً بهذا الشكل من قبل.

لكن هل كنت أنا أقلّ سعادة؟ في الحقيقة: لا.

بقيت أيضاً احتفل في الشارع، وأصوّر، وأحاول فهم هذه المحبة العجيبة للاعب غيّر شكل كرة قدم، وحطم الأساطير والأرقام.

ولا يبدو جنوناً أبداً، أن يكون ميسي بالنسبة لفئة من العراقيين: صديقا وفردا من العائلة يعادل كتب الأدب و”هرمون” يطلق السعادة في الجسم.