ليلة في طوارئ الكندي: "وكأنها زريبة حيوانات أو مسلخ لذبحها"

حيدر نجم

03 كانون الأول 2022

شغلت مباراة كرة قدم معاوناً طبّياً عن الاهتمام برجل مُصاب برصاصة، بينما كانت الأسِرَّة قذرة، والأرضية متسخة، والأطباء يدفعون المريض إلى الذهاب إلى مستشفى خاص لإجراء عملية.. ليلة مؤلمة لمحمد عبد الزهرة السوداني في طوارئ مستشفى الكندي شعر فيها وكأنه في "مسلخ"...

 عندما أصيب محمد عبد الزهرة السوداني في كتفهِ اليمنى برصاصةٍ طائشةٍ وهو في طريقِ عودته إلى المنزلِ ليلة 20 تشرين الأوّل الماضي، كانت قدرة تحمّله هي من جعله ينجو من الموت، وليس سرعة تعامل الكادر الطبّي في مستشفى الكندي بجانب الرصافة من بغداد مع حالته الطارئة.

طلقة طائشة في كتف السوداني! 

السوداني، وهو معلّم في العقد الخامس من عمره ويقيم في منطقة الشعب شرقي بغداد، كان عائداً في مساء ذلك اليوم من السوق الشعبي القريب من منزله برفقة ابنه الأوسط.

الاثنان كانا يجلسان في المقعد الخلفي لعربة “التكتك” ذات الثلاث عجلات، والتي تُعدّ وسيلة النقل الأشهر في مناطق شرق العاصمة. 

شعر السوداني فجأة أن حرارة حارقة قد دبّت في كتفه اليمنى، وسرعان ما لحقها ألم قاسٍ.

طلب الرجل من سائق التكتك التوقف عند ناصية الرصيف ليرى ما أصابه. “شعرت وكان أحدهم قد ضربني بحجارة او شيء ما”.

لكن الإصابة كانت طلقاً نارياً استقرت في كتف المُعلم. 

استطاع السوداني إخراج هاتفه المحمول والاتصال بنجله الأكبر مصطفى، الذي حضر مسرعاً برفقة والدته وبعض الأقارب.

قاد مصطفى والده إلى مستشفى الكندي، المبنى الطبّي الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1976، والذي افتتح باسم مستشفى الضمان الاجتماعي للعاملين، ومن ثم نُقلت ملكيته عام 1979 إلى وزارة الصحة.

عند باب المستشفى المُخصص للحالات الطارئة، لم يكن أحد من الطاقم الطبّي حاضراً لتقديم المساعدة للسوداني الذي ملأ الدم قميصه.

أسند مصطفى ووالدته السوداني وسارا به عشرات الأمتار في المستشفى الذي تبلغ طاقته 400 سرير حتى وصلوا إلى ردهة قسم جراحة الطوارئ.

كرة قدم في غرفة التصوير الإشعاعي  

عندما دخل الردهة، كانت كتفه مستمرة بالنزيف ويده اليمنى مرفوعة على صدره بعد أن انخفضت قدرته على تحريكها.

داخل صالة “الترياق” وهي غرفة مفتوحة يُستقبل فيها مرضى الطوارئ على اختلاف إصاباتهم وعللهم، طُلب من السوداني إجراء تصوير شعاعي تقليدي، وآخر بالأشعة السينية لموضع الإصابة.

لم يكن هناك ممرضون، ولا كرسيّ مُتحرّك لنقل السوداني إلى شعبة جهاز “المفراس” الحلزوني الذي يبعد أمتاراً عدة عن “الترياق”.

اضطر إلى السير عشرات الأمتار للوصول إلى غرفة المفراس، وهناك أُخرج مرافقيه من الغرفة، ومُدد السوداني على سريرٍ مُتّسخٍ وأجريت له خلال دقائق الأشعة المطلوبة، لكنه ظلّ وحيداً لنحو 25 دقيقة يشتدّ عليه الألم، ولا تسمعه زوجته وابنه أو المعاون الطبّي.

عندما استبطئت الزوجة والابن السوداني، ذهبا إلى المعاون الطبي للسؤال عنه.

“لم تأخذوه بعد؟”، قال الرجل، “كنت أعتقد أنكم أخرجتموه من الغرفة.. لقد أجريت اللازم”.

أدار وجهه إلى شاشة هاتفه وقال “يمكنكم أخذه”.

انشغل المعاون الطبي عن مُصاب بطلقٍ ناري لأن مباراة كرة القدم بين فريقي برشلونة وفياريال الاسبانيين كانت تُبثّ وكان يُشاهدها عبر هاتفه المحمول.

قبل خروجهم، طلب المعاون الطبي من عائلة السوداني التقاط صورة لشاشة تصوير الجهاز الطبي ثلاثي الأبعاد عبر كاميرا هاتفهم الشخصي.

على الشاشة كانت تظهر عظام كتف السوداني التي تضررت بفعل الرصاصة الطائشة.

يشكو مرضى مستشفى الكندي على الدوام من إجبارهم على التقاط الصور لنتائج تصوير الجهاز الطبي ثلاثي الأبعاد.

يتلقّى المراجعون إجابة شبه موحدّة من إدارة المستشفى مفادها هو عدم توفّر الورق الزيتي الملون الخاص بطباعة صور “المفراس”.

الرقود في طوارئ الكندي

أثناء عودتهم إلى قسم الطوارئ، انتبه السوداني وزوجته وابنه للروائح الكريهة التي تملأ المستشفى.

“كأنه زريبة حيوانات أو مسلخ لذبحها.. وليس مكان لطبابة الأوادم ومعالجتهم”، يقول الرجل المصاب.

في صالة الطوارئ، كانت الدماء المتيبّسة على الأرض قد اختلطت بالخطوط السوداء الفاحمة لعجلات الأسّرة، وهذه الأخيرة كانت أغطيتها متسخّة، وسبق وأن نام عليها عدّة مرضى ولم تُغسل.

كان المصابون والمرضى كُثراً داخل الصالة، بيد أن الفريق الطبي والتمريضي لم يكن كافياً لمعالجة الحالات الطارئة المُختلفة.

بعد انتظار، أُرقِد الرجل على سرير في الطوارئ لنحو ساعتين على أمل استخراج الرصاصة من كتفهِ.

ولأنّ الكادر الطبي والتمريضي معظمهم من المتخرّجين الجُدد، ترددوا في إجراء العملية، “ظلوا عاجزين وبعضهم متهاون في أداء واجباته”، يقول السوداني. “أبلغونا في نهاية المطاف بأنه لا يتوفر في المستشفى الجهاز اللازم لإجراء عملية جراحية في الأوعية الدموية”.

كان الحظّ قد حال دون اختراق الطلق الناري جسد السوداني بشكل عميق، إذ لم يُصب أي عضو من أعضاء جسمه الداخلية كالرئة أو القلب.

“لو رافق إصابتي نزيف لا سمح الله، لكنت قد فقدت الحياة في ظل الإجراءات المتبعة إدارياً في المستشفى، خصوصا مع غياب الأجهزة والمعدات والكادر المحترف”، يستذكر السوداني تلك الليلة.

سمسرة في طوارئ الكندي!

بحسب الإحصاءات الرسميّة، فإن مستشفى الكندي يجري نحو 3 آلاف عمليّة جراحيّة شهرياً.

لكن الكادر الطبّي أكد أنه غير قادر على إجراء العمليّة لاستخراج الرصاصة التي مرّت ساعات على اختراقها كتف السوداني.

“بعد أن أبلغتنا طبيبة الطوارئ الخافرة بتعذر إجراء عملية جراحية في المستشفى.. اقترحت علينا هي وآخرون من الكادر التمريضي الذهاب إلى مستشفى مارينا الأهلي حيث يعمل أستاذها الجراح ومسؤولها الأعلى هناك”، وفقا لنجل السوداني.

عرضت الطبيبة أيضاً على السوداني الذهاب إلى مستشفى آخر يمكنه القيام بالعملية مقابل مبلغ 1,5 مليون دينار.

لكن العائلة رفضت.

مستشفى الكندي على الفيسبوك

ينشر إعلام مستشفى الكندي على صفحته في فيسبوك، على الدوام، صوراً لمدير عام صحة الرصافة ومسؤولين آخرين وهم يتجولون داخل أروقة المستشفى المذكور، ويتفحصّون الأجهزة الطبيّة والغرف ويتحدثّون إلى المرضى.

تحظى مثل هذه الصور بتعليقات مادحة بالمستشفى، ومديرها، وبعض الأطباء، والأقسام الطبيّة.

لكن، مع تتبع التعليقات، فإن أكثرها يأتي من أشخاصٍ يعملون في المستشفى نفسها، أو موظفون في وزارة الصحة.

أما التعليقات المنتقدة فبالكاد تظهر.

“اهتموا بالمرضى أكثر أجهزتكم وسخة (..) والسديات قذرة ومكسرة اغلبها (..)”، كتبت أم يوسف تعليقاً في تشرين الثاني الفائت على أحد منشورات المستشفى، كما طالبت كادرها بوضع “مو قناع واحد يفتر ع المرضى”، في إشارة إلى أن كادر المستشفى يستخدم قناع الأوكسجين نفسه لكل المرضى الراقدين.

“نتمنى تاخذون المسالة بعين الاعتبار”، أنهت أم يوسف جملتها، لكن أحدّاً من إعلام المستشفى لم يرد عليها.

حاول “جمار” التواصل مع إعلام المستشفى للحصول على الرد بشأن نقد السوداني وأم يوسف لحالة قسم الطوارئ، لكنه لم يتلق ردّاً.

بدوره، لا ينفي المسؤولون في وزارة الصحة تردي الخدمات في طوارئ المستشفيات العراقية، لكن أحد المتحدثين باسم الوزارة يكتفي بالقول إنها نتيجة “إرث سنوات، بل عقود سابقة” من إهمال القطاع الصحي في العراق.

لكن بيانات منظمة الصحة العالمية تُظهر تهاون الحكومات العراقيّة المتعاقبة في تطوير النظام الصّحي في العراق.

يبلغ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة نحو 161 دولاراً في المتوسط، وهو معدل أدنى بكثير بالمقارنة مع دول أفقر مثل الأردن 304 دولارات، ولبنان 649 دولاراً.

مخالفات واضحة 

في 26 تشرين الثاني المنصرم، أجرى وزير الصحّة صالح الحسناوي زيارة مفاجئة لمستشفى الكندي، وأظهرت 11 صورة الوزير وهو يتجوّل في أروقة المستشفى ويتحدّث إلى الكوادر الصحيّة والمرضى.

على عكس رئيس الوزراء الذي بدا غاضباً من حالة مستشفى الكاظمية التي زارها في 13 تشرين الثاني واتخذ إجراءات عاجلة بحق بعض المسؤولين فيها، فإن وزير الصحّة اكتفى بالدعوة إلى بذل مزيد من الجهود في مستشفى الكندي، ولم يظهر أي امتعاض من الخدمات الصحيّة التي تقدمّها.

في بعض الصور، التي التقطت بعناية في أماكن أنظف من غيرها، ظهرت مُخالفات وبعض المساوئ والمخاطر.

في إحدى الصور، ظهرت الرطوبة على الجدران الخارجيّة للمستشفى، وتضرّر الأرضية أيضاً في صور أخرى.

تُخالف مستشفى الكندي تعليمات مديرية الدفاع المدني، إذ أنها تستعمل سقوفاً ثانوية للديكور سريعة الاشتعال، وتساعد في اتساع رقعة الحرائق في حال حدوثها.

لا تتوقّف المخالفات على المشاهدات العيانية فحسب، إذ سبق وأن أظهر تقريراً لديوان الرقابة الماليّة مخالفات واسعة في المستشفى التعليمي، الذي يُفترض أن يقدم الخدمات الطبيّة لمناطق شرقي بغداد المكتظّة.

بدءاً من عام 2013، أجرى ديوان الرقابة المالية مسوحات لبعض غرف مستشفى الكندي، وظهر وجود بكتيريا على أسّرة العمليات وأنابيب التخدير والآلات الجراحية.

بعض أنواع البكتيريا مثل Pseudomonas aeruginosa يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة لدى المرضى.

العودة إلى المستشفيات الخاصة

بعد ساعات من الانتظار في مستشفى الكندي، اشتد الألم على السوداني، وقررت العائلة في النهاية نقله إلى مستشفى اهلي في حي الوزيرية وسط بغداد.

دفع المعلم نحو مليوني دينار لإجراء عمليّة إخراج الرصاصة من كتفه.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

 عندما أصيب محمد عبد الزهرة السوداني في كتفهِ اليمنى برصاصةٍ طائشةٍ وهو في طريقِ عودته إلى المنزلِ ليلة 20 تشرين الأوّل الماضي، كانت قدرة تحمّله هي من جعله ينجو من الموت، وليس سرعة تعامل الكادر الطبّي في مستشفى الكندي بجانب الرصافة من بغداد مع حالته الطارئة.

طلقة طائشة في كتف السوداني! 

السوداني، وهو معلّم في العقد الخامس من عمره ويقيم في منطقة الشعب شرقي بغداد، كان عائداً في مساء ذلك اليوم من السوق الشعبي القريب من منزله برفقة ابنه الأوسط.

الاثنان كانا يجلسان في المقعد الخلفي لعربة “التكتك” ذات الثلاث عجلات، والتي تُعدّ وسيلة النقل الأشهر في مناطق شرق العاصمة. 

شعر السوداني فجأة أن حرارة حارقة قد دبّت في كتفه اليمنى، وسرعان ما لحقها ألم قاسٍ.

طلب الرجل من سائق التكتك التوقف عند ناصية الرصيف ليرى ما أصابه. “شعرت وكان أحدهم قد ضربني بحجارة او شيء ما”.

لكن الإصابة كانت طلقاً نارياً استقرت في كتف المُعلم. 

استطاع السوداني إخراج هاتفه المحمول والاتصال بنجله الأكبر مصطفى، الذي حضر مسرعاً برفقة والدته وبعض الأقارب.

قاد مصطفى والده إلى مستشفى الكندي، المبنى الطبّي الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1976، والذي افتتح باسم مستشفى الضمان الاجتماعي للعاملين، ومن ثم نُقلت ملكيته عام 1979 إلى وزارة الصحة.

عند باب المستشفى المُخصص للحالات الطارئة، لم يكن أحد من الطاقم الطبّي حاضراً لتقديم المساعدة للسوداني الذي ملأ الدم قميصه.

أسند مصطفى ووالدته السوداني وسارا به عشرات الأمتار في المستشفى الذي تبلغ طاقته 400 سرير حتى وصلوا إلى ردهة قسم جراحة الطوارئ.

كرة قدم في غرفة التصوير الإشعاعي  

عندما دخل الردهة، كانت كتفه مستمرة بالنزيف ويده اليمنى مرفوعة على صدره بعد أن انخفضت قدرته على تحريكها.

داخل صالة “الترياق” وهي غرفة مفتوحة يُستقبل فيها مرضى الطوارئ على اختلاف إصاباتهم وعللهم، طُلب من السوداني إجراء تصوير شعاعي تقليدي، وآخر بالأشعة السينية لموضع الإصابة.

لم يكن هناك ممرضون، ولا كرسيّ مُتحرّك لنقل السوداني إلى شعبة جهاز “المفراس” الحلزوني الذي يبعد أمتاراً عدة عن “الترياق”.

اضطر إلى السير عشرات الأمتار للوصول إلى غرفة المفراس، وهناك أُخرج مرافقيه من الغرفة، ومُدد السوداني على سريرٍ مُتّسخٍ وأجريت له خلال دقائق الأشعة المطلوبة، لكنه ظلّ وحيداً لنحو 25 دقيقة يشتدّ عليه الألم، ولا تسمعه زوجته وابنه أو المعاون الطبّي.

عندما استبطئت الزوجة والابن السوداني، ذهبا إلى المعاون الطبي للسؤال عنه.

“لم تأخذوه بعد؟”، قال الرجل، “كنت أعتقد أنكم أخرجتموه من الغرفة.. لقد أجريت اللازم”.

أدار وجهه إلى شاشة هاتفه وقال “يمكنكم أخذه”.

انشغل المعاون الطبي عن مُصاب بطلقٍ ناري لأن مباراة كرة القدم بين فريقي برشلونة وفياريال الاسبانيين كانت تُبثّ وكان يُشاهدها عبر هاتفه المحمول.

قبل خروجهم، طلب المعاون الطبي من عائلة السوداني التقاط صورة لشاشة تصوير الجهاز الطبي ثلاثي الأبعاد عبر كاميرا هاتفهم الشخصي.

على الشاشة كانت تظهر عظام كتف السوداني التي تضررت بفعل الرصاصة الطائشة.

يشكو مرضى مستشفى الكندي على الدوام من إجبارهم على التقاط الصور لنتائج تصوير الجهاز الطبي ثلاثي الأبعاد.

يتلقّى المراجعون إجابة شبه موحدّة من إدارة المستشفى مفادها هو عدم توفّر الورق الزيتي الملون الخاص بطباعة صور “المفراس”.

الرقود في طوارئ الكندي

أثناء عودتهم إلى قسم الطوارئ، انتبه السوداني وزوجته وابنه للروائح الكريهة التي تملأ المستشفى.

“كأنه زريبة حيوانات أو مسلخ لذبحها.. وليس مكان لطبابة الأوادم ومعالجتهم”، يقول الرجل المصاب.

في صالة الطوارئ، كانت الدماء المتيبّسة على الأرض قد اختلطت بالخطوط السوداء الفاحمة لعجلات الأسّرة، وهذه الأخيرة كانت أغطيتها متسخّة، وسبق وأن نام عليها عدّة مرضى ولم تُغسل.

كان المصابون والمرضى كُثراً داخل الصالة، بيد أن الفريق الطبي والتمريضي لم يكن كافياً لمعالجة الحالات الطارئة المُختلفة.

بعد انتظار، أُرقِد الرجل على سرير في الطوارئ لنحو ساعتين على أمل استخراج الرصاصة من كتفهِ.

ولأنّ الكادر الطبي والتمريضي معظمهم من المتخرّجين الجُدد، ترددوا في إجراء العملية، “ظلوا عاجزين وبعضهم متهاون في أداء واجباته”، يقول السوداني. “أبلغونا في نهاية المطاف بأنه لا يتوفر في المستشفى الجهاز اللازم لإجراء عملية جراحية في الأوعية الدموية”.

كان الحظّ قد حال دون اختراق الطلق الناري جسد السوداني بشكل عميق، إذ لم يُصب أي عضو من أعضاء جسمه الداخلية كالرئة أو القلب.

“لو رافق إصابتي نزيف لا سمح الله، لكنت قد فقدت الحياة في ظل الإجراءات المتبعة إدارياً في المستشفى، خصوصا مع غياب الأجهزة والمعدات والكادر المحترف”، يستذكر السوداني تلك الليلة.

سمسرة في طوارئ الكندي!

بحسب الإحصاءات الرسميّة، فإن مستشفى الكندي يجري نحو 3 آلاف عمليّة جراحيّة شهرياً.

لكن الكادر الطبّي أكد أنه غير قادر على إجراء العمليّة لاستخراج الرصاصة التي مرّت ساعات على اختراقها كتف السوداني.

“بعد أن أبلغتنا طبيبة الطوارئ الخافرة بتعذر إجراء عملية جراحية في المستشفى.. اقترحت علينا هي وآخرون من الكادر التمريضي الذهاب إلى مستشفى مارينا الأهلي حيث يعمل أستاذها الجراح ومسؤولها الأعلى هناك”، وفقا لنجل السوداني.

عرضت الطبيبة أيضاً على السوداني الذهاب إلى مستشفى آخر يمكنه القيام بالعملية مقابل مبلغ 1,5 مليون دينار.

لكن العائلة رفضت.

مستشفى الكندي على الفيسبوك

ينشر إعلام مستشفى الكندي على صفحته في فيسبوك، على الدوام، صوراً لمدير عام صحة الرصافة ومسؤولين آخرين وهم يتجولون داخل أروقة المستشفى المذكور، ويتفحصّون الأجهزة الطبيّة والغرف ويتحدثّون إلى المرضى.

تحظى مثل هذه الصور بتعليقات مادحة بالمستشفى، ومديرها، وبعض الأطباء، والأقسام الطبيّة.

لكن، مع تتبع التعليقات، فإن أكثرها يأتي من أشخاصٍ يعملون في المستشفى نفسها، أو موظفون في وزارة الصحة.

أما التعليقات المنتقدة فبالكاد تظهر.

“اهتموا بالمرضى أكثر أجهزتكم وسخة (..) والسديات قذرة ومكسرة اغلبها (..)”، كتبت أم يوسف تعليقاً في تشرين الثاني الفائت على أحد منشورات المستشفى، كما طالبت كادرها بوضع “مو قناع واحد يفتر ع المرضى”، في إشارة إلى أن كادر المستشفى يستخدم قناع الأوكسجين نفسه لكل المرضى الراقدين.

“نتمنى تاخذون المسالة بعين الاعتبار”، أنهت أم يوسف جملتها، لكن أحدّاً من إعلام المستشفى لم يرد عليها.

حاول “جمار” التواصل مع إعلام المستشفى للحصول على الرد بشأن نقد السوداني وأم يوسف لحالة قسم الطوارئ، لكنه لم يتلق ردّاً.

بدوره، لا ينفي المسؤولون في وزارة الصحة تردي الخدمات في طوارئ المستشفيات العراقية، لكن أحد المتحدثين باسم الوزارة يكتفي بالقول إنها نتيجة “إرث سنوات، بل عقود سابقة” من إهمال القطاع الصحي في العراق.

لكن بيانات منظمة الصحة العالمية تُظهر تهاون الحكومات العراقيّة المتعاقبة في تطوير النظام الصّحي في العراق.

يبلغ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة نحو 161 دولاراً في المتوسط، وهو معدل أدنى بكثير بالمقارنة مع دول أفقر مثل الأردن 304 دولارات، ولبنان 649 دولاراً.

مخالفات واضحة 

في 26 تشرين الثاني المنصرم، أجرى وزير الصحّة صالح الحسناوي زيارة مفاجئة لمستشفى الكندي، وأظهرت 11 صورة الوزير وهو يتجوّل في أروقة المستشفى ويتحدّث إلى الكوادر الصحيّة والمرضى.

على عكس رئيس الوزراء الذي بدا غاضباً من حالة مستشفى الكاظمية التي زارها في 13 تشرين الثاني واتخذ إجراءات عاجلة بحق بعض المسؤولين فيها، فإن وزير الصحّة اكتفى بالدعوة إلى بذل مزيد من الجهود في مستشفى الكندي، ولم يظهر أي امتعاض من الخدمات الصحيّة التي تقدمّها.

في بعض الصور، التي التقطت بعناية في أماكن أنظف من غيرها، ظهرت مُخالفات وبعض المساوئ والمخاطر.

في إحدى الصور، ظهرت الرطوبة على الجدران الخارجيّة للمستشفى، وتضرّر الأرضية أيضاً في صور أخرى.

تُخالف مستشفى الكندي تعليمات مديرية الدفاع المدني، إذ أنها تستعمل سقوفاً ثانوية للديكور سريعة الاشتعال، وتساعد في اتساع رقعة الحرائق في حال حدوثها.

لا تتوقّف المخالفات على المشاهدات العيانية فحسب، إذ سبق وأن أظهر تقريراً لديوان الرقابة الماليّة مخالفات واسعة في المستشفى التعليمي، الذي يُفترض أن يقدم الخدمات الطبيّة لمناطق شرقي بغداد المكتظّة.

بدءاً من عام 2013، أجرى ديوان الرقابة المالية مسوحات لبعض غرف مستشفى الكندي، وظهر وجود بكتيريا على أسّرة العمليات وأنابيب التخدير والآلات الجراحية.

بعض أنواع البكتيريا مثل Pseudomonas aeruginosa يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة لدى المرضى.

العودة إلى المستشفيات الخاصة

بعد ساعات من الانتظار في مستشفى الكندي، اشتد الألم على السوداني، وقررت العائلة في النهاية نقله إلى مستشفى اهلي في حي الوزيرية وسط بغداد.

دفع المعلم نحو مليوني دينار لإجراء عمليّة إخراج الرصاصة من كتفه.