بغداد عام 2035: موتى محتملون خلف "المقاود" وأمراض تتوطن في أجساد العراقيين
16 تشرين الأول 2022
بغداد تختنق بالسيارات، وطرقها تئن تحت ضغط عشرة أضعاف طاقتها الاستيعابية، فيما الأمراض ستتفاقم نتيجة الزحامات والتلوث البيئي الذي يسببه احتراق الوقود.
“في العام المقبل أو بعده ستتحول بغداد إلى بحيرة من السيارات العائمة على شكل طوابير تتحرك أبطأ من السلحفاة”. يتخيل عميد المرور المتقاعد ياسر القيسي كيف ستتفاقم مشكلة الزحامات المرورية في شوارع العاصمة، وهي من أعقد المشكلات بالنسبة للسكان منذ سنوات.
تستوعب هذه الشوارع 300 ألف سيارة فقط، بينما تروح وتجيء عليها يومياً نحو ثلاثة ملايين سيارة. ما يعني أن هذه الطرق المصممة وفق خرائط تعود لنهاية القرن الماضي دون أي تطوير لاحق حتى اليوم، تتحمل ضغط عشرة أضعاف طاقتها الاستيعابية، وفق مديرية المرور العامة.
وذكر المهندس قابل حمود، في تصريحات نقلتها الصحيفة الرسمية العام الماضي، أن أعداد السيارات في العراق (آنذاك) تجاوز سبعة ملايين سيارة بمعدل نمو سنوي يصل لأكثر من اثنين بالمئة، وبالتالي فإن عددها سيتجاوز 15 مليون مركبة عام 2035.
استند حمود في تقديراته هذه على سماح السلطات باستيراد السيارات المتضررة من الخارج.
وقال إن تصاميم المدن العراقية وشوارعها “غير المُحدّثة” لا تتناسب مع الزيادة الحاصلة في أعداد السيارات، ما يخلق زحامات مرورية خانقة يفاقمها برأيه “محدودية” استخدام وسائل النقل العام.
ووجدت دراسة أعدتها مؤسسة “عراق المستقبل للدراسات والاستشارات الاقتصادية” غير الحكومية في حزيران الماضي، أن 1059 سيارة تسير على كيلومتر واحد من شارع يتسع لثلاث سيارات في ذروة الزحامات، أما في الأوقات العادية فيبلغ العدد 450 سيارة.
بتفصيل أكثر، تقول وزارة التخطيط إن الكثافة الحالية على الكيلومتر الواحد من الشوارع حالياً تبلغ 154 سيارة، في حين يجب أن يكون العدد أقل من 100سيارة حتى لا تحدث زحامات.
“موت منثور”
يعيد الخبير البيئي عادل المختار حساب هذه الأرقام، مستنتجاً حجم “الخطر” وتلوث المناخ بفعل كميات الوقود المحترق والمبثوث إلى شوارع بغداد من عوادم السيارات.
“استهلاك الوقود يزيد إنتاج ثنائي أوكسيد الكربون، وهذا بدوره يزيد ارتفاع درجات الحرارة. نضيف إليها أن أغلب السيارات في العراق قديمة ومتهالكة ومحركاتها تزيد التلوث أكثر.. للأسف”، يقول.
ما يعني أن العراق “غير ملتزم” بتعهده العام الماضي بتطبيق توصيات مؤتمر غلاكسو للمناخ، برأي المختار.
ووفق الدراسة التي أعدتها مؤسسة “عراق المستقبل”، فإن وقوداً بقيمة 342 مليون دولار يهدر يومياً ويتحول إلى أبخرة نتيجة الزحامات في بغداد وحدها.
ولا ترى الطبيبة شيماء الكمالي، أخصائية تعزيز الصحة، في شوارع بغداد سوى أماكن مناسبة لإصابة الإنسان بالربو وسرطان الرئة على المدى البعيد بفعل ما تنتجه عوادم السيارات من غاز أحادي أكسيد الكاربون، والذي ويؤثر على الجهاز التنفسي ويؤدي لتحسس القصبات والجيوب الأنفية.
إنها تنظر إلى الجالسين لفترات طويلة على مقاعد السيارات وخلف المقود كمرضى مستقبليين، سواءً بالتشنجات العضلية أو أمراض المفاصل مع خطورة أكبر على من لديهم دوالي في الساق.
وتضيف إن الزحامات تؤثر على صحة الإنسان بيولوجياً ونفسياً، ويتجلى ذلك بزيادة إفراز الهرمونات المسؤولة عن التوتر والعصبية وإذا اشتد ذلك فسيؤدي إلى فقدان التوازن والغثيان والشعور بالاختناق وأمراض القلب وقد يصل إلى مرحلة الإغماء.
وللناظر إلى شوارع العاصمة، يبدو التوتر والعصبية واضحين على وجوه السائقين، خاصة في الصيف، عندما يعلقون في زحامات بغداد.. ثم سرعان ما يعود السير لحركته الطبيعية، حتى ينطلق بعضهم كأنه في سباق فيلاحقه القريبون بشتائم مسموعة أحياناً.
“لا حل ولا إستراتيجية.. ولا مترو”
في تموز 2021، أطلق رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي مبادرة لمعالجة الزحامات المرورية تقوم على قضم الأرصفة والجزرات الوسطية في الشوارع.
وكانت مديرية المرور العامة قد سبقته مطلع العام ذاته في تقديم مقترحات أخرى، بينها عدم تسجيل سيارة جديدة إلّا مقابل تسقيط واحدة قديمة وكذلك سحب السيارات القديمة بالإجبار وتعويض مالكيها، ومنع استيراد الدراجات النارية.
بيد أن الواقع لم يتغير ولم تطبّق هذه المقترحات، في حين تقدم مصارف حكومية، مثل الرافدين والرشيد، وكذلك مصارف أهلية، قروضاً طيلة السنة لشراء السيارات، ويضع بعضها تسهيلات على شروط السداد.
“ليست هناك أي خطط إستراتيجية لتخفيف الزحامات المرورية أو تهالك الطرق الرئيسة أو ضبط الاستيراد العشوائي للسيارات والدراجات النارية”، يقول عضو لجنة الخدمات النيابية لأكثر من دورة، النائب برهان المعموري.
يجري المعموري مقارنة بين استمرار السلطات في فرض الضرائب على السيارات والدراجات النارية بمختلف أنواعها، وبين عدم إنشاء طرق جديدة تستوعبها.
ويتوصل إلى نتيجة عدمية: “لا يوجد حل مرتقب يعالج هذه الأزمة ويضع حداً لمعاناة السائقين”.
ويقترح المعموري إنشاء طرق سريعة بمواصفات دولية ومد جسور جديدة في جميع المحافظات العراقية، بالتنسيق مع دائرة الطرق والجسور التي تجبي الضرائب من السائقين.
أما الحل الآخر فهو مشروع مترو بغداد المعطل الذي يسمع به سكان العاصمة منذ 40 عاماً ولم يروه حتى اللحظة.
يعد عضو لجنة الخدمات النيابية بأن لجنته ستدفع باتجاه تنفيذ هذا المشروع خلال المرحلة المقبلة، فضلاً عن تنفيذ مشاريع مشابهة في بقية المدن لتخفيف الزحامات المرورية.
لكن عميد المرور المتقاعد ياسر القيسي لا يغادر يأسه، “لا نتوقع أن يأتي الحل لا في القريب العاجل ولا في البعيد. لا مترو ولا أنفاق ولا توسعة ولا طرق حولية. بغداد مشلولة تقريباً وآلاف السيارات الجديدة تدخل العراق كل يوم. وزارة التخطيط تقول إن هناك ثمانية ملايين سيارة في الداخل. ما الذي ينتظرونه لكي يقننوا الاستيراد أو يسّقطوا الموديلات القديمة؟!”.
بالنسبة لسائقي سيارات الأُجرة، وهي فئة واسعة من العاملين في العراق، فإن الزحامات تعني تعطيل أرزاقهم الشحيحة بالأساس.
“في الزحامات نستهلك بنزيناً أكثر، ونضطر لرفع الأجرة، ونقلُّ زبائن أقل”، ورغم ذلك “لا نعود لمنازلنا في آخر الليل بمبالغ تكفي لسد حاجاتنا”، يقول أبو ياسر الذي يعمل سائق سيارة أجرة وهو عالق وسط الزحامات والعرق قد ملأ جبينه وقميصه الرمادي.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
"قبرها مفتوح أربعين يوماً": تجارب نساء بـ"النفاس" بين الطب والخرافة
19 يناير 2025
العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين
16 يناير 2025
استقطاعات رواتب موظفي العراق.. عن مليارات الدولارات مجهولة المصير
14 يناير 2025
"جسم رجال لو بنت بيوت".. ماذا نعرف عن متلازمة التكيُّس وعوارضها؟
12 يناير 2025
“في العام المقبل أو بعده ستتحول بغداد إلى بحيرة من السيارات العائمة على شكل طوابير تتحرك أبطأ من السلحفاة”. يتخيل عميد المرور المتقاعد ياسر القيسي كيف ستتفاقم مشكلة الزحامات المرورية في شوارع العاصمة، وهي من أعقد المشكلات بالنسبة للسكان منذ سنوات.
تستوعب هذه الشوارع 300 ألف سيارة فقط، بينما تروح وتجيء عليها يومياً نحو ثلاثة ملايين سيارة. ما يعني أن هذه الطرق المصممة وفق خرائط تعود لنهاية القرن الماضي دون أي تطوير لاحق حتى اليوم، تتحمل ضغط عشرة أضعاف طاقتها الاستيعابية، وفق مديرية المرور العامة.
وذكر المهندس قابل حمود، في تصريحات نقلتها الصحيفة الرسمية العام الماضي، أن أعداد السيارات في العراق (آنذاك) تجاوز سبعة ملايين سيارة بمعدل نمو سنوي يصل لأكثر من اثنين بالمئة، وبالتالي فإن عددها سيتجاوز 15 مليون مركبة عام 2035.
استند حمود في تقديراته هذه على سماح السلطات باستيراد السيارات المتضررة من الخارج.
وقال إن تصاميم المدن العراقية وشوارعها “غير المُحدّثة” لا تتناسب مع الزيادة الحاصلة في أعداد السيارات، ما يخلق زحامات مرورية خانقة يفاقمها برأيه “محدودية” استخدام وسائل النقل العام.
ووجدت دراسة أعدتها مؤسسة “عراق المستقبل للدراسات والاستشارات الاقتصادية” غير الحكومية في حزيران الماضي، أن 1059 سيارة تسير على كيلومتر واحد من شارع يتسع لثلاث سيارات في ذروة الزحامات، أما في الأوقات العادية فيبلغ العدد 450 سيارة.
بتفصيل أكثر، تقول وزارة التخطيط إن الكثافة الحالية على الكيلومتر الواحد من الشوارع حالياً تبلغ 154 سيارة، في حين يجب أن يكون العدد أقل من 100سيارة حتى لا تحدث زحامات.
“موت منثور”
يعيد الخبير البيئي عادل المختار حساب هذه الأرقام، مستنتجاً حجم “الخطر” وتلوث المناخ بفعل كميات الوقود المحترق والمبثوث إلى شوارع بغداد من عوادم السيارات.
“استهلاك الوقود يزيد إنتاج ثنائي أوكسيد الكربون، وهذا بدوره يزيد ارتفاع درجات الحرارة. نضيف إليها أن أغلب السيارات في العراق قديمة ومتهالكة ومحركاتها تزيد التلوث أكثر.. للأسف”، يقول.
ما يعني أن العراق “غير ملتزم” بتعهده العام الماضي بتطبيق توصيات مؤتمر غلاكسو للمناخ، برأي المختار.
ووفق الدراسة التي أعدتها مؤسسة “عراق المستقبل”، فإن وقوداً بقيمة 342 مليون دولار يهدر يومياً ويتحول إلى أبخرة نتيجة الزحامات في بغداد وحدها.
ولا ترى الطبيبة شيماء الكمالي، أخصائية تعزيز الصحة، في شوارع بغداد سوى أماكن مناسبة لإصابة الإنسان بالربو وسرطان الرئة على المدى البعيد بفعل ما تنتجه عوادم السيارات من غاز أحادي أكسيد الكاربون، والذي ويؤثر على الجهاز التنفسي ويؤدي لتحسس القصبات والجيوب الأنفية.
إنها تنظر إلى الجالسين لفترات طويلة على مقاعد السيارات وخلف المقود كمرضى مستقبليين، سواءً بالتشنجات العضلية أو أمراض المفاصل مع خطورة أكبر على من لديهم دوالي في الساق.
وتضيف إن الزحامات تؤثر على صحة الإنسان بيولوجياً ونفسياً، ويتجلى ذلك بزيادة إفراز الهرمونات المسؤولة عن التوتر والعصبية وإذا اشتد ذلك فسيؤدي إلى فقدان التوازن والغثيان والشعور بالاختناق وأمراض القلب وقد يصل إلى مرحلة الإغماء.
وللناظر إلى شوارع العاصمة، يبدو التوتر والعصبية واضحين على وجوه السائقين، خاصة في الصيف، عندما يعلقون في زحامات بغداد.. ثم سرعان ما يعود السير لحركته الطبيعية، حتى ينطلق بعضهم كأنه في سباق فيلاحقه القريبون بشتائم مسموعة أحياناً.
“لا حل ولا إستراتيجية.. ولا مترو”
في تموز 2021، أطلق رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي مبادرة لمعالجة الزحامات المرورية تقوم على قضم الأرصفة والجزرات الوسطية في الشوارع.
وكانت مديرية المرور العامة قد سبقته مطلع العام ذاته في تقديم مقترحات أخرى، بينها عدم تسجيل سيارة جديدة إلّا مقابل تسقيط واحدة قديمة وكذلك سحب السيارات القديمة بالإجبار وتعويض مالكيها، ومنع استيراد الدراجات النارية.
بيد أن الواقع لم يتغير ولم تطبّق هذه المقترحات، في حين تقدم مصارف حكومية، مثل الرافدين والرشيد، وكذلك مصارف أهلية، قروضاً طيلة السنة لشراء السيارات، ويضع بعضها تسهيلات على شروط السداد.
“ليست هناك أي خطط إستراتيجية لتخفيف الزحامات المرورية أو تهالك الطرق الرئيسة أو ضبط الاستيراد العشوائي للسيارات والدراجات النارية”، يقول عضو لجنة الخدمات النيابية لأكثر من دورة، النائب برهان المعموري.
يجري المعموري مقارنة بين استمرار السلطات في فرض الضرائب على السيارات والدراجات النارية بمختلف أنواعها، وبين عدم إنشاء طرق جديدة تستوعبها.
ويتوصل إلى نتيجة عدمية: “لا يوجد حل مرتقب يعالج هذه الأزمة ويضع حداً لمعاناة السائقين”.
ويقترح المعموري إنشاء طرق سريعة بمواصفات دولية ومد جسور جديدة في جميع المحافظات العراقية، بالتنسيق مع دائرة الطرق والجسور التي تجبي الضرائب من السائقين.
أما الحل الآخر فهو مشروع مترو بغداد المعطل الذي يسمع به سكان العاصمة منذ 40 عاماً ولم يروه حتى اللحظة.
يعد عضو لجنة الخدمات النيابية بأن لجنته ستدفع باتجاه تنفيذ هذا المشروع خلال المرحلة المقبلة، فضلاً عن تنفيذ مشاريع مشابهة في بقية المدن لتخفيف الزحامات المرورية.
لكن عميد المرور المتقاعد ياسر القيسي لا يغادر يأسه، “لا نتوقع أن يأتي الحل لا في القريب العاجل ولا في البعيد. لا مترو ولا أنفاق ولا توسعة ولا طرق حولية. بغداد مشلولة تقريباً وآلاف السيارات الجديدة تدخل العراق كل يوم. وزارة التخطيط تقول إن هناك ثمانية ملايين سيارة في الداخل. ما الذي ينتظرونه لكي يقننوا الاستيراد أو يسّقطوا الموديلات القديمة؟!”.
بالنسبة لسائقي سيارات الأُجرة، وهي فئة واسعة من العاملين في العراق، فإن الزحامات تعني تعطيل أرزاقهم الشحيحة بالأساس.
“في الزحامات نستهلك بنزيناً أكثر، ونضطر لرفع الأجرة، ونقلُّ زبائن أقل”، ورغم ذلك “لا نعود لمنازلنا في آخر الليل بمبالغ تكفي لسد حاجاتنا”، يقول أبو ياسر الذي يعمل سائق سيارة أجرة وهو عالق وسط الزحامات والعرق قد ملأ جبينه وقميصه الرمادي.