حياةٌ خاليةٌ من الأرقام في "الدولة العشوائية": تعال نمتدح الرياضيات!

إيهاب شغيدل

03 آذار 2023

أرقام، كلها أرقام، لم يتبقَّ منها سوى القليل، أرقامٌ تلتفّ على حياتي، أرقام هواتف، أرقام سيارات، أرقام قتلى في التفجير، أرقام ضحايا هذا الحدث وذاك، أرقام تكتب على السبورة وأخرى تمسح، أقصد سبورة حياتي، لا تلك التي يكتب عليها طبشور السيدة إخلاص، أرقامٌ كثيرة ماذا بقي منها؟ هل احصيت كم صديقاً فقدت؟ كم امرأة واعدت؟ كم قصيدة كتبت؟ كم فرصة أضعت؟..

لا أتذكّر متى دخلنا بيت الجد، حتى بدأت أعدُّ قطع “السيراميك” الموضوعة على الجدران، كانت بيضاء ناصعة، بينها خطوط رمادية رفيعة تكاد لا تُرى، قالت إحدى النسوة من الجالسات في المطبخ قبالة قدر الأرز الموضوع على النار: “يبدو مختلا ابنك يا زينب!”.

أمي زينب ليست متطرفة كي تمنعني من الحساب، لا أتذكر أين وصلت لحظة بدأ الدوار يجتاحني ونمت على الأرضية في ذلك الصيف، لقد نفد الصباح جراء تفقد القطع تلك، نفد وأنا أعد وأتوه وأعاود العد ثانية، واصلت وضع اصبعي.. أين وصلت إلى هذه القطعة، لا ربما تلك، سنعيد الحساب مرة ثانية: 1 2 3 4 5 الخ، أظنني قد توصلت إلى عدد قطع السيراميك المرصوفة على الجدران الأربعة في المطبخ. صرختُ، لقد حسبت الجدران كلها، رغم تلك المشقة، كان نوعا من الانتصار لا يمكن تكراره.

عمري الآن 30 عاماً ونسيت العدد الذي توصلت إليه حينها، ربما كان العدد قريبا من التسعمائة قطعة، لأنها من القطع الصغيرة حجمها 20×20 سم، لقد كانت أول عملية حساب تجري خارج عصا ست إخلاص معلمة الرياضيات القاسية في مدرسة الغزالي الابتدائية بمدينة الثورة/ الصدر، لقد كانت عملية شاقة ومجانية ولا أنتظر قبالتها مكافأة أو ثناء، حصل كل ذلك لرغبة مني في معرفة عدد القطع البيضاء الناصعة، ويجب أن أشير -من أجل الدقة وإكمال المشهد- كانت ثمة قطع زرقاء شذرية مرصوفة بشكل ما لا أتذكر توزيعه بالضبط، لكنها لا تبدو عشوائية إطلاقاً وتمنح شكلاً مذهلاً للبياض الأملس ذاك.

لا يمكن أن تجتاز تلك الحكاية دون العودة إلى الست إخلاص العنيفة، تصرخ بملامح حادّة وقميص بنفسجي واظافر مطلية بالأحمر، إيهاب كريم شغيدل: ٢٥ من ١٠٠.

رمت ورقة امتحان الرياضيات بوجهي كشتيمة، وبسبابة طويلة وحادة بدأت تعزل الذين لم تعبر درجتهم قوس النصر المدرسي والذين كنت منهم، “بسطتنا” بتلك العصاة التي يمكن عدها اليد الثالثة لإخلاص. قطعتُ طريق العودة للمنزل بالألم والدمع. لم يرق ما حصل لأخي الأكبر سيف، واحد من مهرة الحياة في الرياضيات. قال: لن تخرج للعب، لا كرة قدم، ولا كرة زجاجية تلمس، حتى تجلب ١٠٠ من ١٠٠ وهي الدرجة الكاملة.

ذهب سيف في اليوم التالي للمدرسة معاتباً المعلمة على فعل العنف، متوعداً إياها انني سأجلب درجة كاملة في الامتحان القادم، وهذا ما حصل لاحقاً، حتى أنني احتفظت بورقة الـ100 درجة لسنوات.

لقد لاحقت المئة حينها، أيبدو ذلك جيدا؟! نعم ربما.

لم أكف عن الركض خلف الأعداد، صغيراً في أحد مآتم الزقاق، كنت أود أن أعرف عدد الجالسين، رحت أحسبهم، حتى وقع كف أحدهم على رأسي، “ولك اطلع شكو تحسب بالناس”، كنت أقف قبالة أحد الجالسين اعده وانتقل للثاني، لكن جراء تلك الكف ضاع مني عدد زوار المأتم، كان تجمعاً ضخماً، رجال من كل الأحجام والأشكال، جالسين بالطريقة نفسها ولديهم الحزن نفسه، الكآبة تخيم على اللقطة، لكنني كنت منشغلاً بالعدد الكلي، ويبقى اغرب ما حسبته هو عدد أعمدة الكهرباء من بيتنا في مدينة الثورة إلى بيت جدي في منطقة البلديات، وكالعادة اتوه في الحساب وأسهو وابدأ ثانية: 12345 .. الخ.

ساعدتني تلك المهارة لابتكار طرق أكثر حيوية في لعبة 102، حيث ننقسم إلى فريقين، نرسم دائرة كبيرة على الجدار، فريق بيده كرة صغيرة، وفريق يضع يده على الدائرة ويعد حتى يصل للعدد 102 قبل أن تضربه الكرة الصغيرة تلك، لقد كنت جيداً في تلك اللعبة كما أتصور وأستطيع أن أصل للعدد المطلوب بسرعة فائقة.

منشغلاً بمعرفة عدد أهداف بيليه، وحسين سعيد، وعد قطع واجهات المحل على الشارع، وعدد العجلات التي تمر، كان كل شيء قابلا للحساب، أحسب وأحسب، دونما هدف، أنزل لبيت النمل، أهدمه بهدوء ليخرج النمل مسرعاً بعدها، وأبدأ بالحساب. أحسب عدد قطع الخبز التي تخرجها أمي من تنور الالمنيوم، أحسب ارقام الساعة في كل حين، أحسب مقاس مرمى كرة القدم بأقدامي، نتفق، ونقرر أن عشرة أقدام تكفي، ابدأ بحساب العشرة بكل سهولة لخبرتي الأزلية في الارقام.

أرقام، كلها أرقام، لم يتبقّ منها سوى القليل، أرقام تلتف على حياتي، أرقام هواتف، أرقام سيارات، أرقام قتلى في التفجير، أرقام ضحايا هذا الحدث وذاك، أرقام تكتب على السبورة وأخرى تمسح، أقصد سبورة حياتي، لا تلك التي يكتب عليها طبشور السيدة إخلاص، أرقام كثيرة ماذا بقي منها؟ هل احصيت كم صديقا فقدت؟ كم امرأة واعدت؟ كم قصيدة كتبت؟ كم فرصة أضعت؟..

علوم الحاسبات الشعري

لم تنته تلك العلاقة الشائكة بالأرقام. فالأمر صار أكثر التصاقاً حين أخذني المعدل العام في الإعدادية وهو رقم على أية حال، إلى قسم علوم الحاسبات في الجامعة المستنصرية، وربما جاء ذلك لأن أعلى تقدير حصلت عليه في الإعدادية كان في مادة الرياضيات وهذه ليست مصادفة إطلاقاً.

في علوم الحاسبات عرفت أن جهاز الكمبيوتر عبارة عن مصفوفات 0-1 “باينري” رقم ثنائي، يا للدهشة، كل ذلك يجري داخل دماغ الصفر والواحد، كل ذلك يحصل ببركتهما، غياب أحدهما يعني شيئا وحضوره شيء آخر تماماً!

لكن الاهتمام بالأدب واللغة والقراءة بدأ يصبح أكثر جدية في الحياة الجامعية، بدأ جدول الضرب يتطاير.. يتفتت.. يذوب تحت حرارة اللغة، وتحلقت بدلاً عن الأرقام جمل وعبارات.

قلت مرةً بشيء من السخرية للأصدقاء: “الشعراء يكرهون الرياضيات”، ضحكنا. أيّد البعض واعترض قسم آخر، لكن المعنى الدقيق وقت قلت العبارة. كان الشعراء لا يكرهون الرياضيات، بين الكلمات علاقات رياضية وصوتية، حسابات دقيقة في الشعر العربي الكلاسيكي، تفعيلات محدّدٌ عددها، كلمة هنا ناقصة، وأخرى هنا زائدة، هذا ما يحصل حين أعود للنص الشعري بعد كتابته الأولى، ثمة كتابة ثانية، وثالثة.

يمكن ملاحظة ذلك التأثير بسهولة وانعكاسه على النص الذي كتبته، لا يحتاج جهدا، أول رقم يظهر هو عنوان مجموعتي الشعرية الوحيدة 144 م² وهي مساحة بيتنا في مدينة الثورة. في المجموعة نفسها ثمة حضور للأرقام، عناوين النصوص، “صفر يستاء نيابة عن الجميع، رأس الاصفار، جثتي في قطاع 25” وأيضاً سنوات مكتوبة داخل المتن على شكل ارقام: 1998، 2006, 2014 الخ، لقد كانت الرياضيات تلاحق اللغة، تنافسها، تتطاول عليها، فيما تنتصر في الجولات الحاسمة، آخذة أكبر حيز من حياتي.

اعتقدت في فترة ما أن الأمر مجرد تأثير من دراستي في الجامعة، لكن بعد ذلك بسنوات كتبت نصاً بعنوان 0_1، غير ذلك يبقى تأثير الرقم مهما في حياتي، لقد كنت أحسب كل ما يمر، وما لا يمر أيضاً.

كبرنا وضيعت الأرقام حياتنا

قد نتوهم، في الغالب يحصل ذلك، أننا نعرف عديدا من الحقائق، لأننا نعرف جزءاً من القصة، تدور أحاديث الناس في السياسة أثناء تناول الشاي أو المشي، الناس تتبادل المعلومات، عن قضايا تخص فساد وجرائم، حقائق غير مكتملة في أفضل الأحوال، لا أحدَ يعرف بيانات حقيقية ودقيقة عما يحصل، من يعرف أرقاماً مثبتة ودقيقة عمّا حصل في العراق منذ العام 2003 حتى الآن؟ ونبدأ من الأسئلة الشائعة إلى الأكثر تعقيداً، كم عدد ضحايا الارهاب في العراق؟ كم عدد المعاقين؟ قبل ذلك كم عدد العراقيين؟ كم عدد المهاجرين؟ كم دولار يدخل للعراق شهرياً؟ هل سبق وأن شاركت الحكومة أرقاماً عن عدد المشاريع المتلكئة في العراق أو عن أي ملف آخر؟ كم عدد السيارات؟ كم نحتاج من السيارات؟ كم عدد المختفين قسراً؟ كم عدد المغيبين لأسباب مجهولة؟ حتى الآن ثمة فرق شاسع بين الأرقام الرسمية وغير الرسمية لضحايا احتجاجات تشرين 2019. ليس من الغريب أن نطالب بتلك البيانات فهي أحد الحقوق التي لم يُلتفت لها، غالباً تشارك بعض المواقع الرسمية بيانات وإحصائيات، لكنها ضعيفة وعادة تعتمد الناس على البيانات التي تصدرها مراصد صحفية أو منظمات دولية مثل منظمة الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وغيرها.

لا أحد يعرف الأرقام، لا أحد يعرف حجم الهدر في المال العام، لا أحد يعرف أرقام هواتف السياسيين، لا أحد يعرف كم عدد النساء المعنفات، وغير المتعلمات، لا نعرف إلا القليل، غالبية ما يخص البيانات في العراق الرسمي غير شفاف، وغير دقيق ويستثمر سياسياً، كيف تجرى انتخابات من دون إحصاء؟ كيف توزع الدوائر الانتخابية دون معرفة عدد الناخبين؟

في مؤتمر ما قال أحد ممثلي الجهات الرسمية إن عدد المصابين بالسرطان في البصرة 10 بالمئة من سكان المدينة، وسأله أحد الصحفيين بشكلٍ شخصي، وكم عدد سكان البصرة؟ لم يجب وقتها. إحصائية تبدو عبثية.

من مؤشرات التقديم والشفافية في الدول الحديثة هي ما يطلق عليه البيانات المفتوحة، إضافة إلى الخطط الاستراتيجية التي ترتكز بالأساس على الحاجة الفعلية التي تشير إليها البيانات والإحصائيات. فلكي نعرف كم مستشفى نبني يجب أن نعرف عدد سكان المدينة، ومقابل ذلك كيف نقسم خريجي الإعدادية وفقا للحاجة، على سبيل المثال لا الحصر تؤكد نقابة المحامين بشكل ما أن اعداد المحامين أكثر من الحاجة الفعلية.

وبينما تشير الاحصائيات الرسمية أن هناك نحو 600 ألف دراجة نارية بما فيها عجلة التك توك في عموم العراق أغلبها في بغداد، تشير مصادر غير رسمية إلى أن العدد قد يكون ضعف هذا 6 مرات، لان أعداد التك توك لوحدها قد تتجاوز المليون عجلة. قبل ذلك، لا يمكن معرفة الحاجة الفعلية لعدد الدراجات النارية التي قد نحتاجها لو اضفنا الظروف العامة -خصوصاً تلك التي تتعلق بمستويات التلوث والحوادث الممكنة ونوع مستخدميها- انطلاقا من تلك الأمثلة لو دققنا في تفصيل الحالة العراقية سنجد ضعف البيانات واضحا ولو توفرت ستكون بشكل بدائي وشبه عشوائي، فهل يمكن لحياتنا أن تضيع جراء غياب الأرقام؟

حتى أرقام المشاهير كاذبة

في دولة العراق العشوائية قد يموت المرء لأسباب غريبة وغير مألوفة، لكن لا يمكن أن نتصور أن هناك أنواعاً من الموت مرتبطة بغياب الأرقام، كما هو ملاحظ أن الدرجات النارية بما فيها التك توك غير مرقمة وغير خاضعة لأي نوع من القانون، وهذا ما يعطي حرية وعشوائية في السير وعدم الالتزام، مما يسبب حوادث كارثية.

قبل سنوات قُتل أحد مواطني مدينة الصدر بحادثٍ مأساوي حيث دهسه أحد سائقي التك توك وفر هارباً، تاركاً الجثة تسبح بالدماء حتى فارق رجل خمسيني حياته، وعند مراجعة الكاميرات المثبتة بالقرب من الحادث لم تتضح ملامح سائق العجلة، وبكونها خالية من الأرقام لم يكن أمام عائلة الضحية إلا طرق الأسئلة والاستجوابات في مناطق توفر هذه العجلة، وبعد سنة أو أكثر أخذ اليأس ينال من العائلة ولم يتمكن القانون من محاسبة الجاني.. لقد تشابهت التكاتوك عليهم، فكانت صفراء فقط ولا ميزة فيها وأن توفرت فيها ميزة يمكن ببساطة أن يحذفها الجاني ليضيع في حشد من التكاتوك.

انطلاقاً من تلك الحادثة بدأت أفكر بالمشكلات الاجتماعية والانفلات الذي يمكن أن تسببه غياب البيانات التي في تلك الحالة يعتبر غياب الرقابة وغياب القانون بالدرجة الأساس، ينسحب غياب الارقام إلى مناطق ومحطات قد تتشكل تبعاً لها كوارث مخفية وطي الكتمان، وغياب الأرقام نفسه الذي قد يكون كارثياً ينسحب على وجودها الوهمي، وهنا الأمر يخص حياة جديدة صيغت انطلاقاً من الأرقام، حيث صبغ بعض الناس حياتهم بأرقام وهمية من أجل العمل والإعلان، كثير من المشاهير اعطوا لأنفسهم قيمة وهمية تخدع المنتجين والمعلنين. ما بين “تك توك” بلا رقم ومشهور بأرقام كاذبة تلاشت المصداقية من حولنا، ما بين غياب الأرقام الرسمية وأرقام المشاهير الوهمية نسيت الطفل الذي كان يعد السيراميك، الطفل الذي يعد أعمدة الكهرباء منشغلاً بالشاب الذي يراقب حضور وغياب الأرقام في حياة يمكن فيها أن يحل بدلاً عن رقم هاتفي المحمول.. 07723 الخ.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لا أتذكّر متى دخلنا بيت الجد، حتى بدأت أعدُّ قطع “السيراميك” الموضوعة على الجدران، كانت بيضاء ناصعة، بينها خطوط رمادية رفيعة تكاد لا تُرى، قالت إحدى النسوة من الجالسات في المطبخ قبالة قدر الأرز الموضوع على النار: “يبدو مختلا ابنك يا زينب!”.

أمي زينب ليست متطرفة كي تمنعني من الحساب، لا أتذكر أين وصلت لحظة بدأ الدوار يجتاحني ونمت على الأرضية في ذلك الصيف، لقد نفد الصباح جراء تفقد القطع تلك، نفد وأنا أعد وأتوه وأعاود العد ثانية، واصلت وضع اصبعي.. أين وصلت إلى هذه القطعة، لا ربما تلك، سنعيد الحساب مرة ثانية: 1 2 3 4 5 الخ، أظنني قد توصلت إلى عدد قطع السيراميك المرصوفة على الجدران الأربعة في المطبخ. صرختُ، لقد حسبت الجدران كلها، رغم تلك المشقة، كان نوعا من الانتصار لا يمكن تكراره.

عمري الآن 30 عاماً ونسيت العدد الذي توصلت إليه حينها، ربما كان العدد قريبا من التسعمائة قطعة، لأنها من القطع الصغيرة حجمها 20×20 سم، لقد كانت أول عملية حساب تجري خارج عصا ست إخلاص معلمة الرياضيات القاسية في مدرسة الغزالي الابتدائية بمدينة الثورة/ الصدر، لقد كانت عملية شاقة ومجانية ولا أنتظر قبالتها مكافأة أو ثناء، حصل كل ذلك لرغبة مني في معرفة عدد القطع البيضاء الناصعة، ويجب أن أشير -من أجل الدقة وإكمال المشهد- كانت ثمة قطع زرقاء شذرية مرصوفة بشكل ما لا أتذكر توزيعه بالضبط، لكنها لا تبدو عشوائية إطلاقاً وتمنح شكلاً مذهلاً للبياض الأملس ذاك.

لا يمكن أن تجتاز تلك الحكاية دون العودة إلى الست إخلاص العنيفة، تصرخ بملامح حادّة وقميص بنفسجي واظافر مطلية بالأحمر، إيهاب كريم شغيدل: ٢٥ من ١٠٠.

رمت ورقة امتحان الرياضيات بوجهي كشتيمة، وبسبابة طويلة وحادة بدأت تعزل الذين لم تعبر درجتهم قوس النصر المدرسي والذين كنت منهم، “بسطتنا” بتلك العصاة التي يمكن عدها اليد الثالثة لإخلاص. قطعتُ طريق العودة للمنزل بالألم والدمع. لم يرق ما حصل لأخي الأكبر سيف، واحد من مهرة الحياة في الرياضيات. قال: لن تخرج للعب، لا كرة قدم، ولا كرة زجاجية تلمس، حتى تجلب ١٠٠ من ١٠٠ وهي الدرجة الكاملة.

ذهب سيف في اليوم التالي للمدرسة معاتباً المعلمة على فعل العنف، متوعداً إياها انني سأجلب درجة كاملة في الامتحان القادم، وهذا ما حصل لاحقاً، حتى أنني احتفظت بورقة الـ100 درجة لسنوات.

لقد لاحقت المئة حينها، أيبدو ذلك جيدا؟! نعم ربما.

لم أكف عن الركض خلف الأعداد، صغيراً في أحد مآتم الزقاق، كنت أود أن أعرف عدد الجالسين، رحت أحسبهم، حتى وقع كف أحدهم على رأسي، “ولك اطلع شكو تحسب بالناس”، كنت أقف قبالة أحد الجالسين اعده وانتقل للثاني، لكن جراء تلك الكف ضاع مني عدد زوار المأتم، كان تجمعاً ضخماً، رجال من كل الأحجام والأشكال، جالسين بالطريقة نفسها ولديهم الحزن نفسه، الكآبة تخيم على اللقطة، لكنني كنت منشغلاً بالعدد الكلي، ويبقى اغرب ما حسبته هو عدد أعمدة الكهرباء من بيتنا في مدينة الثورة إلى بيت جدي في منطقة البلديات، وكالعادة اتوه في الحساب وأسهو وابدأ ثانية: 12345 .. الخ.

ساعدتني تلك المهارة لابتكار طرق أكثر حيوية في لعبة 102، حيث ننقسم إلى فريقين، نرسم دائرة كبيرة على الجدار، فريق بيده كرة صغيرة، وفريق يضع يده على الدائرة ويعد حتى يصل للعدد 102 قبل أن تضربه الكرة الصغيرة تلك، لقد كنت جيداً في تلك اللعبة كما أتصور وأستطيع أن أصل للعدد المطلوب بسرعة فائقة.

منشغلاً بمعرفة عدد أهداف بيليه، وحسين سعيد، وعد قطع واجهات المحل على الشارع، وعدد العجلات التي تمر، كان كل شيء قابلا للحساب، أحسب وأحسب، دونما هدف، أنزل لبيت النمل، أهدمه بهدوء ليخرج النمل مسرعاً بعدها، وأبدأ بالحساب. أحسب عدد قطع الخبز التي تخرجها أمي من تنور الالمنيوم، أحسب ارقام الساعة في كل حين، أحسب مقاس مرمى كرة القدم بأقدامي، نتفق، ونقرر أن عشرة أقدام تكفي، ابدأ بحساب العشرة بكل سهولة لخبرتي الأزلية في الارقام.

أرقام، كلها أرقام، لم يتبقّ منها سوى القليل، أرقام تلتف على حياتي، أرقام هواتف، أرقام سيارات، أرقام قتلى في التفجير، أرقام ضحايا هذا الحدث وذاك، أرقام تكتب على السبورة وأخرى تمسح، أقصد سبورة حياتي، لا تلك التي يكتب عليها طبشور السيدة إخلاص، أرقام كثيرة ماذا بقي منها؟ هل احصيت كم صديقا فقدت؟ كم امرأة واعدت؟ كم قصيدة كتبت؟ كم فرصة أضعت؟..

علوم الحاسبات الشعري

لم تنته تلك العلاقة الشائكة بالأرقام. فالأمر صار أكثر التصاقاً حين أخذني المعدل العام في الإعدادية وهو رقم على أية حال، إلى قسم علوم الحاسبات في الجامعة المستنصرية، وربما جاء ذلك لأن أعلى تقدير حصلت عليه في الإعدادية كان في مادة الرياضيات وهذه ليست مصادفة إطلاقاً.

في علوم الحاسبات عرفت أن جهاز الكمبيوتر عبارة عن مصفوفات 0-1 “باينري” رقم ثنائي، يا للدهشة، كل ذلك يجري داخل دماغ الصفر والواحد، كل ذلك يحصل ببركتهما، غياب أحدهما يعني شيئا وحضوره شيء آخر تماماً!

لكن الاهتمام بالأدب واللغة والقراءة بدأ يصبح أكثر جدية في الحياة الجامعية، بدأ جدول الضرب يتطاير.. يتفتت.. يذوب تحت حرارة اللغة، وتحلقت بدلاً عن الأرقام جمل وعبارات.

قلت مرةً بشيء من السخرية للأصدقاء: “الشعراء يكرهون الرياضيات”، ضحكنا. أيّد البعض واعترض قسم آخر، لكن المعنى الدقيق وقت قلت العبارة. كان الشعراء لا يكرهون الرياضيات، بين الكلمات علاقات رياضية وصوتية، حسابات دقيقة في الشعر العربي الكلاسيكي، تفعيلات محدّدٌ عددها، كلمة هنا ناقصة، وأخرى هنا زائدة، هذا ما يحصل حين أعود للنص الشعري بعد كتابته الأولى، ثمة كتابة ثانية، وثالثة.

يمكن ملاحظة ذلك التأثير بسهولة وانعكاسه على النص الذي كتبته، لا يحتاج جهدا، أول رقم يظهر هو عنوان مجموعتي الشعرية الوحيدة 144 م² وهي مساحة بيتنا في مدينة الثورة. في المجموعة نفسها ثمة حضور للأرقام، عناوين النصوص، “صفر يستاء نيابة عن الجميع، رأس الاصفار، جثتي في قطاع 25” وأيضاً سنوات مكتوبة داخل المتن على شكل ارقام: 1998، 2006, 2014 الخ، لقد كانت الرياضيات تلاحق اللغة، تنافسها، تتطاول عليها، فيما تنتصر في الجولات الحاسمة، آخذة أكبر حيز من حياتي.

اعتقدت في فترة ما أن الأمر مجرد تأثير من دراستي في الجامعة، لكن بعد ذلك بسنوات كتبت نصاً بعنوان 0_1، غير ذلك يبقى تأثير الرقم مهما في حياتي، لقد كنت أحسب كل ما يمر، وما لا يمر أيضاً.

كبرنا وضيعت الأرقام حياتنا

قد نتوهم، في الغالب يحصل ذلك، أننا نعرف عديدا من الحقائق، لأننا نعرف جزءاً من القصة، تدور أحاديث الناس في السياسة أثناء تناول الشاي أو المشي، الناس تتبادل المعلومات، عن قضايا تخص فساد وجرائم، حقائق غير مكتملة في أفضل الأحوال، لا أحدَ يعرف بيانات حقيقية ودقيقة عما يحصل، من يعرف أرقاماً مثبتة ودقيقة عمّا حصل في العراق منذ العام 2003 حتى الآن؟ ونبدأ من الأسئلة الشائعة إلى الأكثر تعقيداً، كم عدد ضحايا الارهاب في العراق؟ كم عدد المعاقين؟ قبل ذلك كم عدد العراقيين؟ كم عدد المهاجرين؟ كم دولار يدخل للعراق شهرياً؟ هل سبق وأن شاركت الحكومة أرقاماً عن عدد المشاريع المتلكئة في العراق أو عن أي ملف آخر؟ كم عدد السيارات؟ كم نحتاج من السيارات؟ كم عدد المختفين قسراً؟ كم عدد المغيبين لأسباب مجهولة؟ حتى الآن ثمة فرق شاسع بين الأرقام الرسمية وغير الرسمية لضحايا احتجاجات تشرين 2019. ليس من الغريب أن نطالب بتلك البيانات فهي أحد الحقوق التي لم يُلتفت لها، غالباً تشارك بعض المواقع الرسمية بيانات وإحصائيات، لكنها ضعيفة وعادة تعتمد الناس على البيانات التي تصدرها مراصد صحفية أو منظمات دولية مثل منظمة الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وغيرها.

لا أحد يعرف الأرقام، لا أحد يعرف حجم الهدر في المال العام، لا أحد يعرف أرقام هواتف السياسيين، لا أحد يعرف كم عدد النساء المعنفات، وغير المتعلمات، لا نعرف إلا القليل، غالبية ما يخص البيانات في العراق الرسمي غير شفاف، وغير دقيق ويستثمر سياسياً، كيف تجرى انتخابات من دون إحصاء؟ كيف توزع الدوائر الانتخابية دون معرفة عدد الناخبين؟

في مؤتمر ما قال أحد ممثلي الجهات الرسمية إن عدد المصابين بالسرطان في البصرة 10 بالمئة من سكان المدينة، وسأله أحد الصحفيين بشكلٍ شخصي، وكم عدد سكان البصرة؟ لم يجب وقتها. إحصائية تبدو عبثية.

من مؤشرات التقديم والشفافية في الدول الحديثة هي ما يطلق عليه البيانات المفتوحة، إضافة إلى الخطط الاستراتيجية التي ترتكز بالأساس على الحاجة الفعلية التي تشير إليها البيانات والإحصائيات. فلكي نعرف كم مستشفى نبني يجب أن نعرف عدد سكان المدينة، ومقابل ذلك كيف نقسم خريجي الإعدادية وفقا للحاجة، على سبيل المثال لا الحصر تؤكد نقابة المحامين بشكل ما أن اعداد المحامين أكثر من الحاجة الفعلية.

وبينما تشير الاحصائيات الرسمية أن هناك نحو 600 ألف دراجة نارية بما فيها عجلة التك توك في عموم العراق أغلبها في بغداد، تشير مصادر غير رسمية إلى أن العدد قد يكون ضعف هذا 6 مرات، لان أعداد التك توك لوحدها قد تتجاوز المليون عجلة. قبل ذلك، لا يمكن معرفة الحاجة الفعلية لعدد الدراجات النارية التي قد نحتاجها لو اضفنا الظروف العامة -خصوصاً تلك التي تتعلق بمستويات التلوث والحوادث الممكنة ونوع مستخدميها- انطلاقا من تلك الأمثلة لو دققنا في تفصيل الحالة العراقية سنجد ضعف البيانات واضحا ولو توفرت ستكون بشكل بدائي وشبه عشوائي، فهل يمكن لحياتنا أن تضيع جراء غياب الأرقام؟

حتى أرقام المشاهير كاذبة

في دولة العراق العشوائية قد يموت المرء لأسباب غريبة وغير مألوفة، لكن لا يمكن أن نتصور أن هناك أنواعاً من الموت مرتبطة بغياب الأرقام، كما هو ملاحظ أن الدرجات النارية بما فيها التك توك غير مرقمة وغير خاضعة لأي نوع من القانون، وهذا ما يعطي حرية وعشوائية في السير وعدم الالتزام، مما يسبب حوادث كارثية.

قبل سنوات قُتل أحد مواطني مدينة الصدر بحادثٍ مأساوي حيث دهسه أحد سائقي التك توك وفر هارباً، تاركاً الجثة تسبح بالدماء حتى فارق رجل خمسيني حياته، وعند مراجعة الكاميرات المثبتة بالقرب من الحادث لم تتضح ملامح سائق العجلة، وبكونها خالية من الأرقام لم يكن أمام عائلة الضحية إلا طرق الأسئلة والاستجوابات في مناطق توفر هذه العجلة، وبعد سنة أو أكثر أخذ اليأس ينال من العائلة ولم يتمكن القانون من محاسبة الجاني.. لقد تشابهت التكاتوك عليهم، فكانت صفراء فقط ولا ميزة فيها وأن توفرت فيها ميزة يمكن ببساطة أن يحذفها الجاني ليضيع في حشد من التكاتوك.

انطلاقاً من تلك الحادثة بدأت أفكر بالمشكلات الاجتماعية والانفلات الذي يمكن أن تسببه غياب البيانات التي في تلك الحالة يعتبر غياب الرقابة وغياب القانون بالدرجة الأساس، ينسحب غياب الارقام إلى مناطق ومحطات قد تتشكل تبعاً لها كوارث مخفية وطي الكتمان، وغياب الأرقام نفسه الذي قد يكون كارثياً ينسحب على وجودها الوهمي، وهنا الأمر يخص حياة جديدة صيغت انطلاقاً من الأرقام، حيث صبغ بعض الناس حياتهم بأرقام وهمية من أجل العمل والإعلان، كثير من المشاهير اعطوا لأنفسهم قيمة وهمية تخدع المنتجين والمعلنين. ما بين “تك توك” بلا رقم ومشهور بأرقام كاذبة تلاشت المصداقية من حولنا، ما بين غياب الأرقام الرسمية وأرقام المشاهير الوهمية نسيت الطفل الذي كان يعد السيراميك، الطفل الذي يعد أعمدة الكهرباء منشغلاً بالشاب الذي يراقب حضور وغياب الأرقام في حياة يمكن فيها أن يحل بدلاً عن رقم هاتفي المحمول.. 07723 الخ.