وثائق تشتبه بتمويل مصرف ألماني لـ"داعش" في العراق: ملايين تدفقت لـ"المناطق المُحتلة"

هلا نهاد نصرالدين

01 تشرين الأول 2022

أحد أكبر المصارف الألمانية "دويتشه بنك" حوّل واستلم ملايين الدولارات من مناطق سيطرة تنظيم "داعش" في العراق وقام أيضاً بحوالات يشتبه أنها وصلت إلى جماعات مسلّحة أخرى، رغم ذلك استمرت الحكومة بالتعامل مع المصرف، ولم يتعرّض لعقوبات تُذكر..

شهد العراق بين عامي 2014 و2015 أحداث دامية اتّسمت بتقدّم مهول لتنظيم الدولة الاسلاميّة (داعش) وسيطرته على أراض ومساحات شاسعة أبرزها مدينة الموصل حزيران 2014. واستطاع التنظيم خلال هذه الفترة السيطرة على 121 فرعاً لمصارف بحسب المصرف المركزي العراقي فيما وُصف بواحدة من أكبر عمليّات السطو على البنوك حول العالم استطاع فيها التنظيم اختلاس حوالي 830 مليون دولار أميركي.

وبالرغم من إدراكها الكامل لهذه الحقيقة، استمرّت بعض المصارف وأبرزها مصرف دويتشه بنك (Deutsche Bank) وتحديداً من خلال عمليّاته في الولايات المتّحدة الأميركيّة بإرسال حوالات ماليّة مشبوهة إلى العراق على الرغم من سيطرة التنظيم على مناطق ومساحات شاسعة من الدولة.

تكشف وثائق مصرفية مسرّبة حصلت عليها BuzzFeed News وتمّت مشاركتها مع ICIJ وARIJ وشركاء إعلاميين آخرين، عن تحويلات مالية مشبوهة تتجاوز الأربعة مليار دولار أمريكي من قبل فروع “دويتشه بنك” في الولايات المتحدة و”مصرف أمريكا”، إلى عدد من البنوك العراقيّة بين 15 حزيران 2014 و30 حزيران 2015.

أعلن “مصرف أمريكا” عن تحويل 524 حوالة بنكيّة من حسابات أمريكية إلى فروع مصرفيّة عراقيّة مختلفة في الفترة بين 2 و13 شباط 2015، قيمتها الإجمالية 16,873,841.84 دولار أمريكي، بالإضافة إلى 244 حوالة بنكيّة في الفترة بين 18 و29 أيّار من العام نفسه. تراوحت قيمة هذه الحوالات بين 46 دولار وبين 28 مليون دولار للحوالة واحدة، بإجمالي قيمته 41.4 مليون دولار تقريبًا.

قدم البنك تقريرين للإبلاغ عن المعاملات المشبوهة (SAR) إلى هيئة مكافحة الجرائم المالية “كجزء من مشروع خاص من قبل Bank of America لتحديد الحوالات الماليّة الصادرة عن مؤسسات ماليّة موجودة في العراق والتي يتمّ إرسالها إليها”.

يشير تقرير SAR الصادر في حزيران أنّ 109 من التحويلات المصرفية تم إرسالها من سبعة بنوك مقرها العراق إلى عملاء مصرف أميركا وبلغ مجموعها أكثر من 900 ألف دولار، في حين تمّ إرسال 54 حوالة ماليّة (outbound wire transfers) بمبلغ إجمالي قدره 7,089,519.27 دولار أمريكي، “وتم إجراء 81 تحويلًا بإجمالي 33,409,836.12 دولار أمريكي عبر البنوك المراسلة (correspondent bank relationships) التي شملت العديد من المؤسسات المالية على المستوى العالمي”، بحسب بنك أميركا.

ورفع مصرف Deutsche Bank Trust Company Americas تقريراً عن المعاملات والنشاطات المشبوهة “بالتزامن مع التعاون المستمر في مجال إنفاذ القانون”، والذي لا تزال طبيعته ومعالمه غير واضحة.

في التقرير الأول من بين 15 تقريرا من المصرف – الصادر في كانون الثاني 2015، والذي رصد المعاملات والحوالات التي تمّت بين 15 حزيران 2014 و15 كانون الأول 2014 – تمّ الإبلاغ عن 3844 حوالة ماليّة بقيمة 2,376,828,821.47 دولارًا أمريكيًّا تشمل 13 بنكا عراقيا.

ومع ذلك، لم تتضمّن هذه التقارير المسرّبة أي معلومات عن العملاء أو أي تفاصيل عن المستفيدين.

دويتشه بنك يموّل جماعات مسلّحة في العراق؟

لم تحدّد التسريبات فروع المصارف التي وصلتها الحوالات الماليّة من دويتشه بنك، الّا أنّ المبالغ الماليّة التي حُوّلت خلال ذروة قوّة تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على فروع عديدة لمصارف عراقيّة انّما تدلّ على شبهة ما. فالكثير من فروع البنوك في شمال العراق كانت في مناطق نفوذ تنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش”، وقد تكون تلك الحوالات عائدات تجارة النفط والغاز والآثار غير المشروعة التي اعتمد عليها التنظيم في مناطق سيطرته.

وبحسب تقرير للبنك المركزي العراقي أعده مستشاره المالي الدكتور وليد عيدي عبد النبي، في تشرين الأول 2017، فقد اتخذ البنك إجراءات احترازية مختلفة لحماية القطاع المصرفي والمالي في عهد داعش، منها ما يلي: “ايقاف نشاط فروع المصارف والشركات المالية غير المصرفية الواقعة في محافظات (الموصل، صلاح الدين و ديالى، الأنبار) ومنع نقلها او تزويدها بالعملة الأجنبية من خلال النافذة وذلك بموجب كتاب مراقبة الصيرفة المرقم بالعدد 9/2/185 في 2014/7/3.

ايقاف اشتراك فروع المصارف والشركات المالية غير المصرفية في نظام المقاصة الالكترونية ونظام المدفوعات بشكل عام والواقعة في محافظات (نينوى، كركوك، صلاح الدين، ديالى، الأنبار) وذلك بتنفيذ تعاميم دائرة المدفوعات المرقم بالعدد 23/916 في 8/7/2014.

اعداد تقرير شهري موحّد لنشاط وموقف الفروع الواقعة تحت سيطرة داعش يتم رفعه لمعالي المحافظ بهدف منع الأموال المستحوذ عليها من قبل داعش من الدخول الى النظام المصرفي والمالي العراقي تنفيذا لتعميم مراقبة الصيرفة والائتمان المرقم بالعدد 9/2/1015 في 3/7/2014.”

على الرغم من الإجراءات الاحترازية التي اتخذها البنك المركزي لوقف نشاط فروع البنوك في الموصل في 7 تموز 2014، صرّح الرئيس التنفيذي لـ “المصرف المتّحد للاستثمار” علاء كرم الله في مقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز (Financial Times)  في 17 تموز 2014، أن البنك في الموصل يعمل بشكل طبيعي و”لم يغلق ولم يتوقف العمل به. لم يتعرض أي من موظفينا للاعتداء، والمبنى لم يمسّ”.

في هذا السياق، نشرت مجموعة العمل المالي (FATF)، وهي منظمة حكومية دولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب مقرّها باريس، تقريراً حدّد مصادر تمويل تنظيم الدولة الاسلاميّة (شباط 2015)، وصنّف تلك المصادر نسبةً لأهميتها كالتالي: “عائدات غير المشروعة من خلال احتلال الأراضي، والسطو على المصارف، والابتزاز، والسيطرة على حقول النفط ومصافي التكرير، وسرقة الأصول الاقتصادية، والضرائب غير الشرعية على السلع والنقد الذي يعبر الأراضي التي تقع تحت سيطرة التنظيم.

الاختطاف مقابل فدية.

التبرعات.

الدعم المادي، مثل الدعم المرتبط بالمقاتلين الإرهابيين الأجانب (Foreign Terrorist Fighters).

جمع الأموال من خلال “شبكات التواصل الحديثة” أي مواقع التواصل الاجتماعي.

وقُدّرت أصول الدولة الإسلاميّة في آواخر العام 2015 بما في ذلك احتياطيات النفط والغاز والنقد والمعادن والأراضي، بـ 2.2 مليار دولار بحسب مركز تحليل الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، ذكرت البيانات المتوفّرة أنّ تجارة النفط غير المشروعة كانت مصدر تمويل رئيسيّ للتنظيم.

في مقابل انتعاش وضع التنظيم الماليّ، تدهور الوضع الماليّ للدولة العراقيّة نتيجة تراجع أسعار النفط فارتفع عجز الموازنة من 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014 إلى 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 وانخفض إجمالي احتياطي مصرف العراق المركزي من العملة الأجنبية من 67 مليار دولار عام 2014 إلى 51 مليار دولار عام 2015، وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي.

والجدير ذكره أنّ دويتشه بنك و مصرف إيلاف العراقي (الخاص) قد أُثبت تورّطهما في معاملات مصرفيّة مع إيران، بما يتعارض مع العقوبات الأمريكية. وبالتالي قد تكون هذه الحوالات وصلت لجماعات تابعة لإيران في العراق وهذا يتطابق مع العقوبات التي فُرضت على “دويتشه بنك” من إدارة الخدمات الماليّة في New York بسبب التعامل مع الكيانات الإيرانية الخاضعة للعقوبات. إلّا أنّ التسريبات التي حصلنا عليها لا تظهر الجهات المستفيدة من هذه الحوالات.

ويبقى التساؤل الأبرز لماذا سُمح بتحويل هذه الأموال الطائلة على الرغم من الشبهات وإجراءات مواجهة التطرّف والعقوبات المتعلّقة بها في الولايات المتّحدة الأميركيّة وفي العراق؟

توزّع الحوالات الماليّة المشبوهة

وفي أيّار 2019 ، تذرّع دويتشه بنك، بوجود خلل في برمجياته منعه عن الإبلاغ عن بعض المعاملات المشبوهة للسلطات المعنيّة منذ ما يقارب العقد، وهو ما يعني أنّ آلاف العمليّات المصرفيّة المشبوهة قد تمّت من دون الرقابة الملائمة من ضمنها التحويلات في التسريب المذكور آنفاً من 2014-2015. هذا ما أكّده المحامي المقيم في واشنطن والمتخصّص المعتمد في مكافحة غسل الأموال (CAMS)، روس ديلستون ، وهو أنّ “هذه التحويلات مستمرة طوال الوقت، ولا أحد يعرف نسبة التحويلات التي تمّ ضبطها في الواقع”.

ويضيف ديلستون أن “المصرف مطالب بمراقبة الحوالات” وبتحمّل المسؤولية لأن “الأمر متروك لها (أي للمصارف) لإيقاف الحوالات أو منعها أو الإبلاغ عنها. يمكنهم حظرها من دون الإبلاغ عنها… العمليّة ليست آلية. الأمر متروك لكل مصرف ليقرّر ما يجب فعله”.

وبناءً على تقارير الإبلاغ عن العمليات المشبوهة المسرّبة التي وصلت هيئة مكافحة الجرائم المالية، حصل المصرف العراقي للتجارة على الحصّة الأكبر من الحوالات الماليّة بقيمة تفوق ٣.٦ مليار دولاراً أميركيّاً في الفترة من حزيران 2014 إلى حزيران 2015. لم يُبلغ دويتشه بنك عن أي معلومات خاصة بالعملاء، أو يحدّد من أرسل أو استلم الأموال. وتجدر الإشارة أنّ المصرف العراقي للتجارة، وهو مصرف مملوك للقطاع العام، هو المؤسسة الرئيسية التي تستخدمها بغداد للتجارة والتمويل وهو مصرف تابع للدولة. وصدر بحق مديري المصرف الأخيرين: حمدية الجاف وفيصل وسام الهيمص (الرئيس والمدير التنفيذي الحالي) أمراً قضائياً بتهم مختلفة من بينها الفساد وسوء الإدارة.

أما المصرف الثاني الذي وصلته حوالات كان مصرف آشور الدولي –شركة خاصة فرعيّة تابعة لمصرف إيلاف الإسلامي ومصرف الموصل للتنمية والاستثمار. في أيّار 2015، حصل البنك على حوالة ماليّة واحدة بالدولار بقيمة 15,250,000.00 دولاراً أميركيّاً. وأيضاً لم يقدّم دويتشه بنك أي معلومات عن مرسلي أو مستلمي التحويلات المالية. ولدى مصرف الرافدين التابع للدولة 13.28 بالمئة من أسهم مصرف أشور.

تجدر الإشارة أنّ وزارة الخزانة الأميركيّة كانت قد فرضت عقوبات على مصرف إيلاف (قطاع خاص) من 31 تمّوز 2012 إلى 17 أيّار 2013، على خلفيّة معرفته وتسهيله للمعاملات وتقديم خدمات مالية كبيرة لمصرف إيران لتنمية الصادرات (EDBI). وتمّت مراقبة بنك إيلاف و10 من الشركات التابعة له من قبل دويتشه بنك وفقًا لتقاريره.

أمّا المصرف العراقي الاسلامي للاستثمار والتنمية (قطاع خاص) وصلت إليه حوالات تقدر ب 43.3 مليون دولار تقريباً فيما حصل مصرف بغداد (قطاع خاص) على أكثر من 5.5 مليون دولار خلال الفترة عينها فضلاً عن عددٍ من المصارف العراقيّة الأخرى التي حصلت على حوالات مذكورة في التقارير لم يعرف سببها او الغاية منها.

الجدير ذكره أنّ معظم هذه المصارف لها فروع في المدن الرئيسيّة في العراق: بغداد، الموصل، كركوك، أربيل وغيرها وكما سبق وذُكر، لم تحدّد التسريبات لأي فروع تمّت هذه التحويلات.

وبالتالي، “فمن الممكن ألا تشمل هذه المعاملات المشبوهة حوالات لصالح تنظيم الدولة الإسلامية. ومع ذلك، يمكن للمصارف العراقية المحلية بسهولة رفع الغموض الذي يخيّم على هذه المعاملات من خلال الكشف للسلطات عن هوية الأطراف المرتبطة في هذه المعاملات. بهذه الطريقة يمكن تحديد ما إذا كانت هذه الأطراف لها صلة بالجماعات المتطرفة”، بحسب هنريش بومكي، محقّق جنائي متخصّص في التحقيق بسرقات أصول الدول.

علما أن شبكة أريج تواصلت مع كل البنوك التي وردت في هذا التحقيق “مصرف الرافدين، آشور، البنك الإسلامي، إيلاف، المصرف العراقي للتجارة”، ولم نتلق أي رد حتى لحظة نشر التحقيق.

ولكن المعلوم أنّ عقب سيطرته على الموصل عام 2014، سرق “داعش” أكثر من 400 مليون دولار (500 مليار دينار عراقي) من المؤسسات المالية في المدينة ما تمّ وصفه بـ “واحدة من أكبر عمليات السطو في تاريخ السطو على البنوك.”

“لضمان بقاء تنظيم الدولة الإسلامية على قيد الحياة، كان على جزء من هذه الأموال أن يدخل النظام المصرفي الشرعي لدفع أموال لأطراف خارجية مقابل الأسلحة والسلع والخدمات. من المحتمل أن القنوات ذاتها تمّ استخدامها لتلقّي الأموال من المتعاطفين والعملاء والمُدينين،” يضيف بومكي.

يظهر تقرير لمصرف العراق المركزي، في تمّوز2017 عن العام 2014، فروع المصارف التي سيطر عليها تنظيم الدولة الاسلاميّة ومجموعها 121 مصرفا: 84 فرعاً تابعاً للمصارف الحكوميّة و37 فرعاً للمصارف الخاصّة كالآتي:

   وبحسب التقرير، سلب التنظيم قرابة 830 مليون دولار من فروع المصارف التي وقعت تحت سيطرته على شكل 101 مليون دولار و856.5 مليار دينار عراقي (أي حوالي 727.6 مليون دولار) وأكثر من نصفها أي أكثر من 415 مليون دولار تمّ تحصيلها من مصرف العراق للتجارة وفقاً لمجلة نيوزويك الأميركيّة (Newsweek).

علاقات ومصالح دويتشه بنك في العراق

تتشعّب علاقات دويتشه بنك في العراق، فالمصرف لديه علاقة ومصالح قويّة مع الحكومة العراقيّة وفي إقليم كردستان في العراق.

أ‌- علاقة المصرف مع الحكومة العراقيّة: في منتصف عام 2015، عيّنت الحكومة العراقيّة برئاسة حيدر العبادي آنذاك، ثلاث مصارف وهي دويتشه بنك وسيتي بنك وJPMorgan Chase لإصدار سندات حكوميّة بقيمة 6 مليار دولار، بهدف محاولة تمويل عجز الميزانية وقدره 25 مليار دولار لعام 2015 الّا أنّ المفاوضات مع المصارف والعمليّة كلّها توقّفت لتعاود الحكومة العراقيّة إصدار سندات بقيمة 2 مليار دولار عام 2017 وتعيين دويتشه بنك وسيتي بنك وJPMorgan Chase مجدّداً كمدراء رئيسيّين مشتركين للسندات الجديدة ومدتها خمس سنوات.

وفي أيلول عام 2019 ، وافق مجلس الوزراء العراقي برئاسة عادل عبد المهدي على اتفاقيّة قرض بين وزارة الماليّة الاتحاديّة ومصرفي دويتشه بنك وStandard Chartered لتمويل إنشاء 13 محطة طاقة فرعيّة وتوريد 35 محوّلا عالي الجهد لوزارة الكهرباء من شركة سيمنز Siemens الألمانيّة.

ب‌- مصالح المصرف في إقليم كردستان: في شباط 2015 على سبيل المثال، اختارت شركةGulf Keystone Petroleum (GKP) في كردستان المصرف وجهة أخرى كمستشارين ماليّين لصفقات محتملة متعلّقة بالأصول أو بيع الشركة.

وبعدها في حزيران 2015، اختارت حكومة إقليم كردستان مصرفين، أحدهما، دويتشه بنك، للإشراف على مبيعات السندات التي أصدرتها الحكومة.

ولاحقاً في آذار 2016، لجأت Qaiwan Group في إقليم كردستان إلى المصرف مجدّداً، بالإضافة إلى فرع بنك “مد” (MED) اللبناني في دبي، لترتيب ائتمان شرائي بقيمة 75 مليون دولار لمدة ثماني سنوات.

فمن الواضح أنّ دويتشه بنك هو أحد خيارات العراق الأولى والمفضّلة في أي معاملات أو استشارات ماليّة أو نفطيّة. فلماذا تصرّ الحكومة العراقيّة على اللجوء إلى مصرفٍ باتت سمعته مشبوهة ومصداقيّته على المحك خصوصاً بعد اشتباهه بتمويل جماعات مسلّحة في العراق وتسهيل المعاملات المصرفية لكيانات ايرانيّة خاضعة للعقوبات؟

ولكن علاقة المصرف بالعراق ليست جديدة، بل تعود جذور علاقة دويتشه بنك مع الدولة العراقيّة منذ عام 1888 عندما مُنح المصرف حقوق الأولوية في عمليات التعدين بما في ذلك النفط والبترول في الامبراطوريّة العثمانيّة.

دويتشه بنك تحت المجهر بقضايا فساد

هذه ليست المرّة الأولى التي يتم الاشتباه في المصرف الذي تكبّد حتى اليوم مليارات الدولارات من الغرامات جرّاء تبييض الأموال والتعاملات المشبوهة مع بعض رجال الأعمال بالإضافة إلى تمويل دول تخضع للعقوبات الأميركيّة بتهمة رعاية التطرّف.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، تقدّم عدد من أهالي جنود أميركيين قتلوا أو أصيبوا في العراق بشكوى بحقّ دويتشه بنك وعدداً من المصارف الأخرى بتهمة تقديم خدمات مصرفية لإيران مكّنت مسلحين من شنّ 55 هجوماً ضد القوات المسلّحة الأميركية في العراق. الّا أنّ القاضي الأميركي أسقط الدعوى باعتبار أنّ الدلائل لا تدين المصرف ولا تظهر أنّه كان على دراية بأنّه من خلال عمليّاته المصرفيّة يمكّن المسلّحين من شنّ هجمات في العراق وأنّه يساهم في تحويل أموال إلى حزب الله والقاعدة وجماعات أخرى تعتبرها الحكومة الأميركية منظّمات إرهابية وفقاً لوكالة رويترز.

اسم بارز آخر في القضايا المرفوعة ضد دويتشه بنك هي روندا كيمبر التي قُتل ابنها بقنبلة في البصرة، وبحسب ادّعائها، فالقنبلة كانت إيرانيّة الصنع وانتقلت من الحرس الثوري الايراني إلى حزب الله وإلى الميليشيات العراقية، التي زرعتها بعد ذلك في البصرة، واستعانت كيمبر في قضيّتها بالـ Anti-Terrorism Act (“ATA”) بحسب تقرير المحكمة. وأيضاً تمّ اسقاط الدعوى في كانون الأوّل 2018.

وعلى موقع إدارة الخدمات الماليّة في نيويورك (New York Department of Financial Services) خضع المصرف للعديد من العقوبات والشبهات باعتبار أنّ الإدارة تتمتّع بسلطة كبيرة على دويتشه بنك لأنها المُرخِّصة لعمل المصرف في الولاية حيث يقوم منها بمعظم عملياته في الولايات المتحدة الأميركيّة لأنّ المقر الرئيسي لدويتشه بنك في الولايات المتحدة يقع في نيويورك.

ويلفت المحامي المتخصّص في مكافحة غسل الأموال (CAMS)، روس ديلستون إلى أنّه بخلاف كندا على سبيل المثال، ليس لدى الولايات المتحدة نظاماً يقضي بـ “ضرورة الإبلاغ عن التحويلات الماليّة التي تزيد عن 10000 دولار كندي”. وبالتالي، يتمّ اكتشاف نسبة محدودة فقط من هذه التحويلات، “لهذا السبب عندما يتم اكتشافها، يمكن أن تكون العقوبات التي يتم فرضها / تطبيقها على البنك عالية جداً، وذلك ببساطة لتحذير البنوك الأخرى بضرورة الالتزام بهذه القواعد عن كثب”.

  1. ومن هذه العقوبات: في تشرين الثاني 2015، غُرّم المصرف من قبل إدارة الخدمات الماليّة بـ 258 مليون دولار، وبوجوب تعيين مراقب مستقل، وإنهاء الموظفين للتحويلات الماليّة نيابة عن إيران وسوريا والسودان والكيانات الأخرى الخاضعة للعقوبات وذلك بعدما وثّقت أنّه من عام 1999 حتى عام 2006 على الأقل، استخدم دويتشه بنك أساليب ملتوية وغير شفّافة في أكثر من 27200 تحويل ماليّ بالدولار بقيمة تتخطّى الـ 10.86 مليار دولار نيابة عن المؤسسات المالية الإيرانية والليبية والسورية والبورمية والسودانية وغيرها من الكيانات الخاضعة للعقوبات الاقتصادية الأميركية.
  2. وبالنسبة للغرامات الماليّة الناتجة عن تبييض الأموال وتغطية الفساد والتعامل مع أشخاص مشبوهين فلقد غُرّم بـ 2.5 مليار دولار في 23 نيسان 2015، وبوجوب إنهاء عقود وحظر بعض الموظفين بسبب التلاعب في أسعار الفائدة وبعدها غُرّم بـ 425 مليون دولار في بداية عام 2017 للسماح للتجّار بالانخراط بغسل الأموال باستخدام “الصفقات المتطابقة” في روسيا. وغُرّم أيضاً بـ 205 مليون دولار في 20 حزيران 2018 على خلفيّة سلوك غير قانوني وغير آمن في تداول العملات الأجنبية.
  3. داهمت السلطات الألمانية في تشرين الثاني عام 2018 مقر دويتشه بنك في فرانكفورت بحثًا عن معلومات تتعلق بفضيحة غسل أموال.

من الواضح أن سجل البنك حافل بالادعاءات الموثّقة المتعلقة بالتجاوزات القانونية. وعلى الرغم من ذلك، لم يتم اتّخاذ الإجراءات الصارمة والكافية لضمان ايقاف المعاملات غير المشروعة والتحويلات المالية المشبوهة، ما يحتّم اعتماد المصرف للشفافية في تعاملاته.

لو كان نظام الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة لدويتشه بنك يعمل بشكل صحيح، وفقًا لما يقتضيه القانون، في وقت تدفق الأموال من وإلى البنوك العراقية في عام 2015، لكان من الممكن أن يتمّ منع وايقاف بعض الحوالات الماليّة غير المشروعة، بما في ذلك الحوالات المحتملة من وإلى داعش.

لم يعلّق دويتشه بنك على أسئلتنا المحدّدة حول ما ورد في التحقيق بل اكتفى بردٍّ عام من متحدّثٍ باسمه جاء فيها أنّ المصرف ” يتعرض لمخاطر الجرائم المالية المتنوعة، بما في ذلك غسل الأموال، وتمويل الإرهاب، والعقوبات. تماشياً مع التزاماته القانونية والتنظيمية، يعتقد دويتشه بنك أنه من المهم جدًّا مكافحة الجريمة المالية من أجل ضمان استقرار البنوك ونزاهة النظام المالي الدولي. يؤدي الإخفاق في إدارة مخاطر الجرائم المالية إلى تعريض دويتشه بنك وموظفيه لمسؤولية جنائية و/أو تنظيميّة محتملة، ودعاوى قضائيّة مدنية، والمسّ بالسمعة. على الرغم من أنه من غير الممكن القضاء على مخاطر الجرائم المالية هذه تمامًا، يجب وضع ضوابط مناسبة لتقليل هذه المخاطر”، وبناءً على ذلك “يخضع دويتشه بنك حالياً لمستويات متزايدة من التدقيق التنظيمي والأنشطة المتعلقة بإدارة مخاطر الجرائم المالية. وقد أدت هذه الأنشطة التنظيمية إلى تعيين عدد من المراقبين الخارجيين”.

يُنشر هذا التحقيق بالشراكة مع “أريج

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شهد العراق بين عامي 2014 و2015 أحداث دامية اتّسمت بتقدّم مهول لتنظيم الدولة الاسلاميّة (داعش) وسيطرته على أراض ومساحات شاسعة أبرزها مدينة الموصل حزيران 2014. واستطاع التنظيم خلال هذه الفترة السيطرة على 121 فرعاً لمصارف بحسب المصرف المركزي العراقي فيما وُصف بواحدة من أكبر عمليّات السطو على البنوك حول العالم استطاع فيها التنظيم اختلاس حوالي 830 مليون دولار أميركي.

وبالرغم من إدراكها الكامل لهذه الحقيقة، استمرّت بعض المصارف وأبرزها مصرف دويتشه بنك (Deutsche Bank) وتحديداً من خلال عمليّاته في الولايات المتّحدة الأميركيّة بإرسال حوالات ماليّة مشبوهة إلى العراق على الرغم من سيطرة التنظيم على مناطق ومساحات شاسعة من الدولة.

تكشف وثائق مصرفية مسرّبة حصلت عليها BuzzFeed News وتمّت مشاركتها مع ICIJ وARIJ وشركاء إعلاميين آخرين، عن تحويلات مالية مشبوهة تتجاوز الأربعة مليار دولار أمريكي من قبل فروع “دويتشه بنك” في الولايات المتحدة و”مصرف أمريكا”، إلى عدد من البنوك العراقيّة بين 15 حزيران 2014 و30 حزيران 2015.

أعلن “مصرف أمريكا” عن تحويل 524 حوالة بنكيّة من حسابات أمريكية إلى فروع مصرفيّة عراقيّة مختلفة في الفترة بين 2 و13 شباط 2015، قيمتها الإجمالية 16,873,841.84 دولار أمريكي، بالإضافة إلى 244 حوالة بنكيّة في الفترة بين 18 و29 أيّار من العام نفسه. تراوحت قيمة هذه الحوالات بين 46 دولار وبين 28 مليون دولار للحوالة واحدة، بإجمالي قيمته 41.4 مليون دولار تقريبًا.

قدم البنك تقريرين للإبلاغ عن المعاملات المشبوهة (SAR) إلى هيئة مكافحة الجرائم المالية “كجزء من مشروع خاص من قبل Bank of America لتحديد الحوالات الماليّة الصادرة عن مؤسسات ماليّة موجودة في العراق والتي يتمّ إرسالها إليها”.

يشير تقرير SAR الصادر في حزيران أنّ 109 من التحويلات المصرفية تم إرسالها من سبعة بنوك مقرها العراق إلى عملاء مصرف أميركا وبلغ مجموعها أكثر من 900 ألف دولار، في حين تمّ إرسال 54 حوالة ماليّة (outbound wire transfers) بمبلغ إجمالي قدره 7,089,519.27 دولار أمريكي، “وتم إجراء 81 تحويلًا بإجمالي 33,409,836.12 دولار أمريكي عبر البنوك المراسلة (correspondent bank relationships) التي شملت العديد من المؤسسات المالية على المستوى العالمي”، بحسب بنك أميركا.

ورفع مصرف Deutsche Bank Trust Company Americas تقريراً عن المعاملات والنشاطات المشبوهة “بالتزامن مع التعاون المستمر في مجال إنفاذ القانون”، والذي لا تزال طبيعته ومعالمه غير واضحة.

في التقرير الأول من بين 15 تقريرا من المصرف – الصادر في كانون الثاني 2015، والذي رصد المعاملات والحوالات التي تمّت بين 15 حزيران 2014 و15 كانون الأول 2014 – تمّ الإبلاغ عن 3844 حوالة ماليّة بقيمة 2,376,828,821.47 دولارًا أمريكيًّا تشمل 13 بنكا عراقيا.

ومع ذلك، لم تتضمّن هذه التقارير المسرّبة أي معلومات عن العملاء أو أي تفاصيل عن المستفيدين.

دويتشه بنك يموّل جماعات مسلّحة في العراق؟

لم تحدّد التسريبات فروع المصارف التي وصلتها الحوالات الماليّة من دويتشه بنك، الّا أنّ المبالغ الماليّة التي حُوّلت خلال ذروة قوّة تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على فروع عديدة لمصارف عراقيّة انّما تدلّ على شبهة ما. فالكثير من فروع البنوك في شمال العراق كانت في مناطق نفوذ تنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش”، وقد تكون تلك الحوالات عائدات تجارة النفط والغاز والآثار غير المشروعة التي اعتمد عليها التنظيم في مناطق سيطرته.

وبحسب تقرير للبنك المركزي العراقي أعده مستشاره المالي الدكتور وليد عيدي عبد النبي، في تشرين الأول 2017، فقد اتخذ البنك إجراءات احترازية مختلفة لحماية القطاع المصرفي والمالي في عهد داعش، منها ما يلي: “ايقاف نشاط فروع المصارف والشركات المالية غير المصرفية الواقعة في محافظات (الموصل، صلاح الدين و ديالى، الأنبار) ومنع نقلها او تزويدها بالعملة الأجنبية من خلال النافذة وذلك بموجب كتاب مراقبة الصيرفة المرقم بالعدد 9/2/185 في 2014/7/3.

ايقاف اشتراك فروع المصارف والشركات المالية غير المصرفية في نظام المقاصة الالكترونية ونظام المدفوعات بشكل عام والواقعة في محافظات (نينوى، كركوك، صلاح الدين، ديالى، الأنبار) وذلك بتنفيذ تعاميم دائرة المدفوعات المرقم بالعدد 23/916 في 8/7/2014.

اعداد تقرير شهري موحّد لنشاط وموقف الفروع الواقعة تحت سيطرة داعش يتم رفعه لمعالي المحافظ بهدف منع الأموال المستحوذ عليها من قبل داعش من الدخول الى النظام المصرفي والمالي العراقي تنفيذا لتعميم مراقبة الصيرفة والائتمان المرقم بالعدد 9/2/1015 في 3/7/2014.”

على الرغم من الإجراءات الاحترازية التي اتخذها البنك المركزي لوقف نشاط فروع البنوك في الموصل في 7 تموز 2014، صرّح الرئيس التنفيذي لـ “المصرف المتّحد للاستثمار” علاء كرم الله في مقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز (Financial Times)  في 17 تموز 2014، أن البنك في الموصل يعمل بشكل طبيعي و”لم يغلق ولم يتوقف العمل به. لم يتعرض أي من موظفينا للاعتداء، والمبنى لم يمسّ”.

في هذا السياق، نشرت مجموعة العمل المالي (FATF)، وهي منظمة حكومية دولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب مقرّها باريس، تقريراً حدّد مصادر تمويل تنظيم الدولة الاسلاميّة (شباط 2015)، وصنّف تلك المصادر نسبةً لأهميتها كالتالي: “عائدات غير المشروعة من خلال احتلال الأراضي، والسطو على المصارف، والابتزاز، والسيطرة على حقول النفط ومصافي التكرير، وسرقة الأصول الاقتصادية، والضرائب غير الشرعية على السلع والنقد الذي يعبر الأراضي التي تقع تحت سيطرة التنظيم.

الاختطاف مقابل فدية.

التبرعات.

الدعم المادي، مثل الدعم المرتبط بالمقاتلين الإرهابيين الأجانب (Foreign Terrorist Fighters).

جمع الأموال من خلال “شبكات التواصل الحديثة” أي مواقع التواصل الاجتماعي.

وقُدّرت أصول الدولة الإسلاميّة في آواخر العام 2015 بما في ذلك احتياطيات النفط والغاز والنقد والمعادن والأراضي، بـ 2.2 مليار دولار بحسب مركز تحليل الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، ذكرت البيانات المتوفّرة أنّ تجارة النفط غير المشروعة كانت مصدر تمويل رئيسيّ للتنظيم.

في مقابل انتعاش وضع التنظيم الماليّ، تدهور الوضع الماليّ للدولة العراقيّة نتيجة تراجع أسعار النفط فارتفع عجز الموازنة من 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014 إلى 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 وانخفض إجمالي احتياطي مصرف العراق المركزي من العملة الأجنبية من 67 مليار دولار عام 2014 إلى 51 مليار دولار عام 2015، وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي.

والجدير ذكره أنّ دويتشه بنك و مصرف إيلاف العراقي (الخاص) قد أُثبت تورّطهما في معاملات مصرفيّة مع إيران، بما يتعارض مع العقوبات الأمريكية. وبالتالي قد تكون هذه الحوالات وصلت لجماعات تابعة لإيران في العراق وهذا يتطابق مع العقوبات التي فُرضت على “دويتشه بنك” من إدارة الخدمات الماليّة في New York بسبب التعامل مع الكيانات الإيرانية الخاضعة للعقوبات. إلّا أنّ التسريبات التي حصلنا عليها لا تظهر الجهات المستفيدة من هذه الحوالات.

ويبقى التساؤل الأبرز لماذا سُمح بتحويل هذه الأموال الطائلة على الرغم من الشبهات وإجراءات مواجهة التطرّف والعقوبات المتعلّقة بها في الولايات المتّحدة الأميركيّة وفي العراق؟

توزّع الحوالات الماليّة المشبوهة

وفي أيّار 2019 ، تذرّع دويتشه بنك، بوجود خلل في برمجياته منعه عن الإبلاغ عن بعض المعاملات المشبوهة للسلطات المعنيّة منذ ما يقارب العقد، وهو ما يعني أنّ آلاف العمليّات المصرفيّة المشبوهة قد تمّت من دون الرقابة الملائمة من ضمنها التحويلات في التسريب المذكور آنفاً من 2014-2015. هذا ما أكّده المحامي المقيم في واشنطن والمتخصّص المعتمد في مكافحة غسل الأموال (CAMS)، روس ديلستون ، وهو أنّ “هذه التحويلات مستمرة طوال الوقت، ولا أحد يعرف نسبة التحويلات التي تمّ ضبطها في الواقع”.

ويضيف ديلستون أن “المصرف مطالب بمراقبة الحوالات” وبتحمّل المسؤولية لأن “الأمر متروك لها (أي للمصارف) لإيقاف الحوالات أو منعها أو الإبلاغ عنها. يمكنهم حظرها من دون الإبلاغ عنها… العمليّة ليست آلية. الأمر متروك لكل مصرف ليقرّر ما يجب فعله”.

وبناءً على تقارير الإبلاغ عن العمليات المشبوهة المسرّبة التي وصلت هيئة مكافحة الجرائم المالية، حصل المصرف العراقي للتجارة على الحصّة الأكبر من الحوالات الماليّة بقيمة تفوق ٣.٦ مليار دولاراً أميركيّاً في الفترة من حزيران 2014 إلى حزيران 2015. لم يُبلغ دويتشه بنك عن أي معلومات خاصة بالعملاء، أو يحدّد من أرسل أو استلم الأموال. وتجدر الإشارة أنّ المصرف العراقي للتجارة، وهو مصرف مملوك للقطاع العام، هو المؤسسة الرئيسية التي تستخدمها بغداد للتجارة والتمويل وهو مصرف تابع للدولة. وصدر بحق مديري المصرف الأخيرين: حمدية الجاف وفيصل وسام الهيمص (الرئيس والمدير التنفيذي الحالي) أمراً قضائياً بتهم مختلفة من بينها الفساد وسوء الإدارة.

أما المصرف الثاني الذي وصلته حوالات كان مصرف آشور الدولي –شركة خاصة فرعيّة تابعة لمصرف إيلاف الإسلامي ومصرف الموصل للتنمية والاستثمار. في أيّار 2015، حصل البنك على حوالة ماليّة واحدة بالدولار بقيمة 15,250,000.00 دولاراً أميركيّاً. وأيضاً لم يقدّم دويتشه بنك أي معلومات عن مرسلي أو مستلمي التحويلات المالية. ولدى مصرف الرافدين التابع للدولة 13.28 بالمئة من أسهم مصرف أشور.

تجدر الإشارة أنّ وزارة الخزانة الأميركيّة كانت قد فرضت عقوبات على مصرف إيلاف (قطاع خاص) من 31 تمّوز 2012 إلى 17 أيّار 2013، على خلفيّة معرفته وتسهيله للمعاملات وتقديم خدمات مالية كبيرة لمصرف إيران لتنمية الصادرات (EDBI). وتمّت مراقبة بنك إيلاف و10 من الشركات التابعة له من قبل دويتشه بنك وفقًا لتقاريره.

أمّا المصرف العراقي الاسلامي للاستثمار والتنمية (قطاع خاص) وصلت إليه حوالات تقدر ب 43.3 مليون دولار تقريباً فيما حصل مصرف بغداد (قطاع خاص) على أكثر من 5.5 مليون دولار خلال الفترة عينها فضلاً عن عددٍ من المصارف العراقيّة الأخرى التي حصلت على حوالات مذكورة في التقارير لم يعرف سببها او الغاية منها.

الجدير ذكره أنّ معظم هذه المصارف لها فروع في المدن الرئيسيّة في العراق: بغداد، الموصل، كركوك، أربيل وغيرها وكما سبق وذُكر، لم تحدّد التسريبات لأي فروع تمّت هذه التحويلات.

وبالتالي، “فمن الممكن ألا تشمل هذه المعاملات المشبوهة حوالات لصالح تنظيم الدولة الإسلامية. ومع ذلك، يمكن للمصارف العراقية المحلية بسهولة رفع الغموض الذي يخيّم على هذه المعاملات من خلال الكشف للسلطات عن هوية الأطراف المرتبطة في هذه المعاملات. بهذه الطريقة يمكن تحديد ما إذا كانت هذه الأطراف لها صلة بالجماعات المتطرفة”، بحسب هنريش بومكي، محقّق جنائي متخصّص في التحقيق بسرقات أصول الدول.

علما أن شبكة أريج تواصلت مع كل البنوك التي وردت في هذا التحقيق “مصرف الرافدين، آشور، البنك الإسلامي، إيلاف، المصرف العراقي للتجارة”، ولم نتلق أي رد حتى لحظة نشر التحقيق.

ولكن المعلوم أنّ عقب سيطرته على الموصل عام 2014، سرق “داعش” أكثر من 400 مليون دولار (500 مليار دينار عراقي) من المؤسسات المالية في المدينة ما تمّ وصفه بـ “واحدة من أكبر عمليات السطو في تاريخ السطو على البنوك.”

“لضمان بقاء تنظيم الدولة الإسلامية على قيد الحياة، كان على جزء من هذه الأموال أن يدخل النظام المصرفي الشرعي لدفع أموال لأطراف خارجية مقابل الأسلحة والسلع والخدمات. من المحتمل أن القنوات ذاتها تمّ استخدامها لتلقّي الأموال من المتعاطفين والعملاء والمُدينين،” يضيف بومكي.

يظهر تقرير لمصرف العراق المركزي، في تمّوز2017 عن العام 2014، فروع المصارف التي سيطر عليها تنظيم الدولة الاسلاميّة ومجموعها 121 مصرفا: 84 فرعاً تابعاً للمصارف الحكوميّة و37 فرعاً للمصارف الخاصّة كالآتي:

   وبحسب التقرير، سلب التنظيم قرابة 830 مليون دولار من فروع المصارف التي وقعت تحت سيطرته على شكل 101 مليون دولار و856.5 مليار دينار عراقي (أي حوالي 727.6 مليون دولار) وأكثر من نصفها أي أكثر من 415 مليون دولار تمّ تحصيلها من مصرف العراق للتجارة وفقاً لمجلة نيوزويك الأميركيّة (Newsweek).

علاقات ومصالح دويتشه بنك في العراق

تتشعّب علاقات دويتشه بنك في العراق، فالمصرف لديه علاقة ومصالح قويّة مع الحكومة العراقيّة وفي إقليم كردستان في العراق.

أ‌- علاقة المصرف مع الحكومة العراقيّة: في منتصف عام 2015، عيّنت الحكومة العراقيّة برئاسة حيدر العبادي آنذاك، ثلاث مصارف وهي دويتشه بنك وسيتي بنك وJPMorgan Chase لإصدار سندات حكوميّة بقيمة 6 مليار دولار، بهدف محاولة تمويل عجز الميزانية وقدره 25 مليار دولار لعام 2015 الّا أنّ المفاوضات مع المصارف والعمليّة كلّها توقّفت لتعاود الحكومة العراقيّة إصدار سندات بقيمة 2 مليار دولار عام 2017 وتعيين دويتشه بنك وسيتي بنك وJPMorgan Chase مجدّداً كمدراء رئيسيّين مشتركين للسندات الجديدة ومدتها خمس سنوات.

وفي أيلول عام 2019 ، وافق مجلس الوزراء العراقي برئاسة عادل عبد المهدي على اتفاقيّة قرض بين وزارة الماليّة الاتحاديّة ومصرفي دويتشه بنك وStandard Chartered لتمويل إنشاء 13 محطة طاقة فرعيّة وتوريد 35 محوّلا عالي الجهد لوزارة الكهرباء من شركة سيمنز Siemens الألمانيّة.

ب‌- مصالح المصرف في إقليم كردستان: في شباط 2015 على سبيل المثال، اختارت شركةGulf Keystone Petroleum (GKP) في كردستان المصرف وجهة أخرى كمستشارين ماليّين لصفقات محتملة متعلّقة بالأصول أو بيع الشركة.

وبعدها في حزيران 2015، اختارت حكومة إقليم كردستان مصرفين، أحدهما، دويتشه بنك، للإشراف على مبيعات السندات التي أصدرتها الحكومة.

ولاحقاً في آذار 2016، لجأت Qaiwan Group في إقليم كردستان إلى المصرف مجدّداً، بالإضافة إلى فرع بنك “مد” (MED) اللبناني في دبي، لترتيب ائتمان شرائي بقيمة 75 مليون دولار لمدة ثماني سنوات.

فمن الواضح أنّ دويتشه بنك هو أحد خيارات العراق الأولى والمفضّلة في أي معاملات أو استشارات ماليّة أو نفطيّة. فلماذا تصرّ الحكومة العراقيّة على اللجوء إلى مصرفٍ باتت سمعته مشبوهة ومصداقيّته على المحك خصوصاً بعد اشتباهه بتمويل جماعات مسلّحة في العراق وتسهيل المعاملات المصرفية لكيانات ايرانيّة خاضعة للعقوبات؟

ولكن علاقة المصرف بالعراق ليست جديدة، بل تعود جذور علاقة دويتشه بنك مع الدولة العراقيّة منذ عام 1888 عندما مُنح المصرف حقوق الأولوية في عمليات التعدين بما في ذلك النفط والبترول في الامبراطوريّة العثمانيّة.

دويتشه بنك تحت المجهر بقضايا فساد

هذه ليست المرّة الأولى التي يتم الاشتباه في المصرف الذي تكبّد حتى اليوم مليارات الدولارات من الغرامات جرّاء تبييض الأموال والتعاملات المشبوهة مع بعض رجال الأعمال بالإضافة إلى تمويل دول تخضع للعقوبات الأميركيّة بتهمة رعاية التطرّف.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، تقدّم عدد من أهالي جنود أميركيين قتلوا أو أصيبوا في العراق بشكوى بحقّ دويتشه بنك وعدداً من المصارف الأخرى بتهمة تقديم خدمات مصرفية لإيران مكّنت مسلحين من شنّ 55 هجوماً ضد القوات المسلّحة الأميركية في العراق. الّا أنّ القاضي الأميركي أسقط الدعوى باعتبار أنّ الدلائل لا تدين المصرف ولا تظهر أنّه كان على دراية بأنّه من خلال عمليّاته المصرفيّة يمكّن المسلّحين من شنّ هجمات في العراق وأنّه يساهم في تحويل أموال إلى حزب الله والقاعدة وجماعات أخرى تعتبرها الحكومة الأميركية منظّمات إرهابية وفقاً لوكالة رويترز.

اسم بارز آخر في القضايا المرفوعة ضد دويتشه بنك هي روندا كيمبر التي قُتل ابنها بقنبلة في البصرة، وبحسب ادّعائها، فالقنبلة كانت إيرانيّة الصنع وانتقلت من الحرس الثوري الايراني إلى حزب الله وإلى الميليشيات العراقية، التي زرعتها بعد ذلك في البصرة، واستعانت كيمبر في قضيّتها بالـ Anti-Terrorism Act (“ATA”) بحسب تقرير المحكمة. وأيضاً تمّ اسقاط الدعوى في كانون الأوّل 2018.

وعلى موقع إدارة الخدمات الماليّة في نيويورك (New York Department of Financial Services) خضع المصرف للعديد من العقوبات والشبهات باعتبار أنّ الإدارة تتمتّع بسلطة كبيرة على دويتشه بنك لأنها المُرخِّصة لعمل المصرف في الولاية حيث يقوم منها بمعظم عملياته في الولايات المتحدة الأميركيّة لأنّ المقر الرئيسي لدويتشه بنك في الولايات المتحدة يقع في نيويورك.

ويلفت المحامي المتخصّص في مكافحة غسل الأموال (CAMS)، روس ديلستون إلى أنّه بخلاف كندا على سبيل المثال، ليس لدى الولايات المتحدة نظاماً يقضي بـ “ضرورة الإبلاغ عن التحويلات الماليّة التي تزيد عن 10000 دولار كندي”. وبالتالي، يتمّ اكتشاف نسبة محدودة فقط من هذه التحويلات، “لهذا السبب عندما يتم اكتشافها، يمكن أن تكون العقوبات التي يتم فرضها / تطبيقها على البنك عالية جداً، وذلك ببساطة لتحذير البنوك الأخرى بضرورة الالتزام بهذه القواعد عن كثب”.

  1. ومن هذه العقوبات: في تشرين الثاني 2015، غُرّم المصرف من قبل إدارة الخدمات الماليّة بـ 258 مليون دولار، وبوجوب تعيين مراقب مستقل، وإنهاء الموظفين للتحويلات الماليّة نيابة عن إيران وسوريا والسودان والكيانات الأخرى الخاضعة للعقوبات وذلك بعدما وثّقت أنّه من عام 1999 حتى عام 2006 على الأقل، استخدم دويتشه بنك أساليب ملتوية وغير شفّافة في أكثر من 27200 تحويل ماليّ بالدولار بقيمة تتخطّى الـ 10.86 مليار دولار نيابة عن المؤسسات المالية الإيرانية والليبية والسورية والبورمية والسودانية وغيرها من الكيانات الخاضعة للعقوبات الاقتصادية الأميركية.
  2. وبالنسبة للغرامات الماليّة الناتجة عن تبييض الأموال وتغطية الفساد والتعامل مع أشخاص مشبوهين فلقد غُرّم بـ 2.5 مليار دولار في 23 نيسان 2015، وبوجوب إنهاء عقود وحظر بعض الموظفين بسبب التلاعب في أسعار الفائدة وبعدها غُرّم بـ 425 مليون دولار في بداية عام 2017 للسماح للتجّار بالانخراط بغسل الأموال باستخدام “الصفقات المتطابقة” في روسيا. وغُرّم أيضاً بـ 205 مليون دولار في 20 حزيران 2018 على خلفيّة سلوك غير قانوني وغير آمن في تداول العملات الأجنبية.
  3. داهمت السلطات الألمانية في تشرين الثاني عام 2018 مقر دويتشه بنك في فرانكفورت بحثًا عن معلومات تتعلق بفضيحة غسل أموال.

من الواضح أن سجل البنك حافل بالادعاءات الموثّقة المتعلقة بالتجاوزات القانونية. وعلى الرغم من ذلك، لم يتم اتّخاذ الإجراءات الصارمة والكافية لضمان ايقاف المعاملات غير المشروعة والتحويلات المالية المشبوهة، ما يحتّم اعتماد المصرف للشفافية في تعاملاته.

لو كان نظام الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة لدويتشه بنك يعمل بشكل صحيح، وفقًا لما يقتضيه القانون، في وقت تدفق الأموال من وإلى البنوك العراقية في عام 2015، لكان من الممكن أن يتمّ منع وايقاف بعض الحوالات الماليّة غير المشروعة، بما في ذلك الحوالات المحتملة من وإلى داعش.

لم يعلّق دويتشه بنك على أسئلتنا المحدّدة حول ما ورد في التحقيق بل اكتفى بردٍّ عام من متحدّثٍ باسمه جاء فيها أنّ المصرف ” يتعرض لمخاطر الجرائم المالية المتنوعة، بما في ذلك غسل الأموال، وتمويل الإرهاب، والعقوبات. تماشياً مع التزاماته القانونية والتنظيمية، يعتقد دويتشه بنك أنه من المهم جدًّا مكافحة الجريمة المالية من أجل ضمان استقرار البنوك ونزاهة النظام المالي الدولي. يؤدي الإخفاق في إدارة مخاطر الجرائم المالية إلى تعريض دويتشه بنك وموظفيه لمسؤولية جنائية و/أو تنظيميّة محتملة، ودعاوى قضائيّة مدنية، والمسّ بالسمعة. على الرغم من أنه من غير الممكن القضاء على مخاطر الجرائم المالية هذه تمامًا، يجب وضع ضوابط مناسبة لتقليل هذه المخاطر”، وبناءً على ذلك “يخضع دويتشه بنك حالياً لمستويات متزايدة من التدقيق التنظيمي والأنشطة المتعلقة بإدارة مخاطر الجرائم المالية. وقد أدت هذه الأنشطة التنظيمية إلى تعيين عدد من المراقبين الخارجيين”.

يُنشر هذا التحقيق بالشراكة مع “أريج