"تمّت المعالجة داخلياً": كيف يترسّخ الفساد بوصفه "قَدَرَاً"؟
25 أيار 2025
كيف ترسخت قناعات داخل المجتمع ومؤسسات الدولة بأن "المال سيضيع على أي حال"، وأن "من حصل على حصته أفضل ممن بقي بانتظار النزاهة"؟ عن الفساد بوصفه "قدراً" في العراق..
في العراق لم يولَد الفساد نتيجة غياب المؤسسات فحسب، بل بسبب تكيّفها مع أدوار جديدة، لم تعد تتعلق بتطبيق القواعد، بل بتأجيل المساءلة، وإعادة ترتيب الأولويات بعيداً عن المصلحة العامة. ليس السؤال هنا عن طبيعة الخلل، بل عن آلية إنتاجه، ولماذا لا يُواجه بعقوبة، ولماذا يبقى من يرتكبُه ضمن الدائرة، يوقّع اليوم على ما سمح بتمريره بالأمس، ويعود غداً لتصحيح خطأ لم يُحاسَب عليه أحد.
ليس غريباً، في ضوء هذه البنية التي تفرّغ الدولة من معناها الرقابي، أن يقبع العراق في المرتبة 140 من أصل 180 دولة في آخر تحديث لمؤشر مدركات الفساد لعام 2024، بحسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية، حاصداً 26 نقطة فقط من أصل 100، في موقع متأخر لا يفوقه سوى دول أنهكتها الحروب أو انعدم فيها الحكم. هذا الرقم ليس مجرد ترتيب، بل انعكاس حيّ لنسق كامل، تحوّلت فيه الدولة إلى كيان ينظم الفساد أكثر مما يقاومه، ويقنّنه في وثائق، أكثر مما يطارده في المحاكم. لا يُقاس الفساد هنا بالمخالفات، بل بالبنية التي تجعل من الرداءة نمطًا مستقراً، ومن الإفلات عرفاً محمياً، لا استثناءً عارضاً. ولا يُفسَّر هذا النمط بضعف القانون أو محدودية الرقابة فحسب، بل يرتبط بطبيعة النظام نفسه، الذي يعيد إنتاج أدواته بطريقة تضمن البقاء، لا الإصلاح.
كيف يُصاغ العقد كأداة سلطة؟
في عراق ما بعد 2003، تحوّل العقد الإداريُ تدريجياً إلى تعبير مركّب عن التوازنات السياسية، وتقاطعات المصالح، وإعادة تشكيل الولاء داخل نظام الدولة. لم تعد الحاجة هي ما تولّد المشروع، بل أصبح المشروع هو ما يُفصَّل ليتطابق مع خارطة توزيع النفوذ. تنشأ الفكرة التعاقدية ليس بوصفها أداة لتحقيق الغرض التنموي، بل كفعل سياسي يُحاكي بنية المحاصصة، ويتناسق مع مزاج اللحظة، ويتفاعل مع مقتضيات الرضا السياسي.

ووفقًا لتقارير رسمية صادرة عن ديوان الرقابة المالية الاتحادي، فأن أكثر من 35 بالمئة من المشاريع المدرجة في الخطط الاستثمارية السنوية بين عامي 2011 و2022 لم تكن مدعومة بدراسات جدوى تفصيلية، أو قد جرى إعدادها بعد الإحالة، وليس قبلها. في وقت ساد فيه نمط “المشروع المصمَّم مسبقاً”، حيث تتحوّل الحاجة التنموية إلى رديف اصطلاحي لاستخدام الموارد العامة، دون أن تكون جزءاً من سلسلة تخطيط متكاملة.
في هذا النمط، يتحول العقد من أداة لضمان جودة الإنفاق، إلى آلية مطاطة لتوزيع الموارد السياسية؛ إذ يمكن إقحام “المشروع” في أي لحظة تحت مسمى “الضرورة”، أو “الطوارئ”، أو “الاستجابة العاجلة”، وهي تسميات تُستخدم غالباً كقنوات قانونية لتمرير المشروعات خارج التسلسل البيروقراطي الاعتيادي. تحوّلت هذه القنوات إلى أدوات لإعادة إنتاج “تخصيصات موجهة”، تحمل في ظاهرها الصفة التخطيطية/التنموية، لكنها في جوهرها: تقاسم سياسي للمنفعة.
تتجسّد هذه الآلية في بنية العلاقة بين المركز والمحافظات، حيث لا تُبنى أولويات المشاريع من الأسفل إلى الأعلى، بل العكس. ففي حالات عديدة، يُطلب من الجهات التنفيذية أن تتكيّف مع المشاريع التي أُقرت مسبقاً من دون إشراكها. ويجري التنسيق فقط على مستوى الإجراءات، وليس على مستوى المبادئ. ولهذا، فإن أغلب المشاريع التي تُوصف بـ”الاستراتيجية” في خطط التنمية لا تعكس حاجة فعلية، وإنما تمثل جزءاً من خرائط النفوذ المرسومة بين القوى السياسية.
في كثير من الحالات، يتجاوز تصميم المشروع الخطط السنوية أو الخمسية للوزارة المعنية، ويجري إدراجه بقرار من مجلس الوزراء، أو بإيعاز مباشر من رئيس الجهة التنفيذية العليا، ضمن صلاحيات يُطلق عليها وصف “الإجراءات المستعجلة”، أو “المشاريع الخاصة”. وقد وجدت هيئات رقابية رسمية أن قرارات من هذا النوع غالباً ما تُمرر بدون تقييم فني من الوزارات المختصة، ويتم تنفيذها بغطاء وزاري لاحق، ما يؤدي إلى تغييب دور المؤسسات الوسيطة مثل مجالس التخطيط الإقليمية أو الهيئات القطاعية.

كما أن المقاول نفسه لا يتم اختياره في نهاية السلسلة، بل يكون في كثير من الأحيان حاضراً منذ البداية. إذ يُصمَّم المشروع وفق مقاساته، وتُضبط المواصفات لتلائم قدراته، وتُفصل الكلف بناءً على تقديرات مرنة تُستكمل لاحقاً بالملحقات. وتُشكَّل لجان الإحالة أحياناً بعد أن تُعتمد التوصية غير الرسمية، ويصبح عمل اللجنة توفيرَ غطاء قانوني لقرار اتُّخذ قبل انعقادها. وتؤكد إفادات عدد من الموظفين الذين أدلوا بشهاداتهم في تقارير لهيئة النزاهة أن اللجنة، في حالات متعددة، لم تكن تملك صلاحية حقيقية للرفض، لأن الإحالة كانت مفروضة بشكل مباشر من المكتب الوزاري.
أما الحاجة الميدانية، فغالباً ما تُخلَقُ بأثر رجعي. حيث يتم استحضار تقارير جاهزة، أو يُعاد تدوير دراسات سابقة، أو تُنتج بيانات شكلية عن جدوى المشروع، لتتناسق مع قرار الإحالة. وفي حالات موثّقة، تم استنساخ نفس الدراسات لعدة مشاريع في محافظات مختلفة، مع تغيير الاسم والموقع فقط، ويؤدي هذا الأسلوب إلى إفراغ مفهوم الحاجة العامة من مضمونه، ويُعيد تعريفه بوصفه أداة لتبرير المخرجات.
يمتدّ هذا الخلل إلى نتائج التنفيذ، فالمشاريع التي لم تُبنَ على حاجة حقيقية وتُخطّط بشكل علمي، سرعان ما تنهار أو تتلكأ أو تُنجز جزئياً دون تحقيق أثر ملموس. ففي مراجعة أُجريت لعدد من مشاريع المجمعات السكنية بين 2015 و2020، وُجد أن نسبة كبيرة منها أُنجزت في مواقع غير مخدومة، أو على أراضٍ غير مُهيّأة للبناء، أو في مناطق لا تعاني أصلاً من أزمة سكن مقارنة بمناطق أخرى، فقط لأن الموقع كان ضمن نطاق النفوذ السياسي لصاحب الإحالة.
ومع تكرار هذا النمط، تصبح دورة التعاقد متوقعة، إذ يُبادر طرف سياسي بإدراج المشروع، لتُمرر الإحالة بغطاء فني وفق المقاس. يُستدعى المقاول الملائم، يُطلق المشروع بلا خطة تشغيلية، يُنجز بشكل جزئي أو يتوقف، ثم يُعاد إدراجه لاحقاً ضمن قائمة الصيانة أو التأهيل، لتبدأ دورة جديدة من التخصيص، وكل ذلك دون مساءلة.
السياسة تفتح الباب
تصطحب العقود التي تولد من رحمٍ سياسي مشوّه، التشوّهَ هذا إلى مرحلة تنفيذها، حيث تتقاطع التنازلات الإجرائية مع التحويرات القانونية، وتُقنّن الرداءة فتبدو نمطاً إنتاجياً، لا خللاً استثنائياً. فلا تُسند المشاريع إلى مقاولين متخصصين، كما تُصمَّم العقود بطريقة تتيح التهرّب من الجودة، وتمكّن من إعادة تدوير الإنفاق في دورات متكررة من الصيانة والتجديد أو الهدم والبناء.
تشير تقارير ديوان الرقابة المالية إلى أن أكثر من 40 بالمئة من العقود المبرمة خلال السنوات العشر الأخيرة تمّت مراجعتها بموجب ملحق تعاقدي واحد على الأقل، وغالباً ما تمّ إدراجه بعد انطلاق التنفيذ، لا قبله، بما يفتح الباب أمام تغييرات غير محسوبة في الكلفة أو الجدول الزمني. غالباً ما تُدرج هذه الملاحق تحت عنوان “تعديلات فنية” أو “ظروف ميدانية مستجدة”، وهي تسميات فضفاضة تفتقر إلى المعايير المرجعية، وتتيح لأطراف العقد إدخال تعديلات من شأنها تقليل جودة المواد أو تقليص مراحل التنفيذ مقابل المحافظة على الكلفة المقرّة أو زيادتها.

تزداد الإشكالية حين يُضاف إلى هذه المطاطية، غياب التخصص في اللجان الفنية التي تُشرف على العقد، أو التواطؤ المباشر مع المقاول. ففي كثير من المشاريع التي راجعتها هيئة النزاهة، وُجد أن لجان الاستلام قد وقّعت على نسب إنجاز غير مطابقة للواقع، أو لم تقم أصلاً بزيارة ميدانية، بل اعتمدت على تقارير داخلية أعدّها مهندس مقيم تحت ضغط إداري أو سياسي. كما أظهرت بعض الإفادات أن عدّة مشاريع تمّت فيها عملية الاستلام رغم علم اللجنة بوجود نقص أو عيوب إنشائية، لكن التوقيع تمّ “لإنهاء الإجراء” أو “لتسليم المستحقات”.
يتداخل هذا الإهمال مع نمط التنازلات المتسلسلة، حيث لا تنفذ الشركة الأصلية المشروع فعلياً، بل تُسنده إلى طرف آخر بعقد داخلي، يُعرف بـ”عقد الباطن”، وغالباً ما يكون الطرف الثاني أضعف فنياً، وأقل قدرة، لكنه أكثر مرونة في تمرير ما يُطلب منه. وقد راجع ديوان الرقابة أكثر من 280 مشروعاً شهدت تنازلاً جزئياً أو كلياً، وأظهرت البيانات أن التنازل لم يُفصح عنه في معظم العقود الرسمية، بل تمّ تنفيذه بناءً على تفاهمات شفوية، أو بموجب اتفاقات لم تُبلَّغ الجهات الرقابية بها.
أما في مرحلة الإنجاز، فتُخفَّف المواد، وتُختصر المواصفات، والفحوصات المختبرية إما تُهمل أو تُستبدل بتقارير معدّة مسبقاً. في بعض الحالات، تُوقَّع شهادات الإنجاز لمراحل لم تُنفذ، أو تُدرج أرقام غير حقيقية لنسب الإكمال. وقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية، أن 27 بالمئة من المشاريع التي شملتها العينة لم تخضع لفحص مختبري مستقل، وأن 19 بالمئة منها تمّت المصادقة عليها بناءً على تقارير المقاول نفسه.
ويأخذ هذا الانحدار بعداً أكثر خطورة حين يتحوّل الانهيار البنيوي إلى سياسة كامنة، إذ تُصمَّم بعض المشاريع، أو يُنفَّذ بعضها، بطريقة تؤدي إلى انهيار جزئي أو كلّي بعد فترة وجيزة من الاستلام؛ والهدف هنا ليس فقط التغاضي عن الرداءة، بل التخطيط لصيانة لاحقة -عقود ومقاولات جديدة-. فسُجِّلَت مشاريع كثيرة على أنها “منجزة بنسبة 100 بالمئة” ثم خضعت لعقود صيانة بعد أقل من عامين من التسليم، وغالباً ما أُسنِدت أعمال الصيانة إلى نفس الجهة المنفّذة، تحت عنوان “معالجة فنية”، دون فتح ملف محاسبي. ويُشير هذا النمط، الذي وُثّق في تقارير مجلس النواب حول مشاريع البنى التحتية، إلى أن الدورة المالية لا تنتهي عند الإنجاز، بل تبدأ منه.
وفي حالات كثيرة، يُترك المشروع قبل إنجازه، دون إعلان رسمي وبلا بيان انسحاب: تبدأ الحفريات، تُعلَّق اللوحات، وتُلتقط صور الافتتاح، ثم تتوقّف الأعمال، وتُسحب الآليات، ويختفي المقاول. وعند المراجعة، لا يُعثر إلا على أعذار فضفاضة مثل “ظروف ميدانية”، “تلكؤ بسبب التمويل”، أو “توقف بقرار وزاري”. ولا أحد يحدّد المسؤول، لأن لا أحد يملك السجل الكامل، ولا توجد قاعدة بيانات تربط المشاريع المهجورة بجهات التنفيذ، خاصة إن كانت الشركة واجهة لشخصيات غير مسجّلة رسمياً.
الرقابة الغائبة
في نظم الإدارة التقليدية، تُبنى الرقابة على فكرة الفعل الراجع، بمعنى أن تُتابَع الإجراءات، وتُراجَع النتائج، ويُحاسَب المنفّذ على ما أتمّ أو قصّر. لكنْ في السياق العراقي، تطورت الرقابة إلى آلية من نوع خاص، لا تعمل لكشف الانحراف، بل لإخفائه.
في الكثير من الحالات، لا تتشكل اللجنة الرقابية إلا بعد اكتمال الضرر، أو عند وقوع أزمة، ثم يُناط بها “تقييم” الحاصل، لا محاسبة من صنعه. ويُعاد تشكيل هذه اللجان من ذات كوادر المؤسسة التي مرّرت المشروع، ليُحقّق المرؤوس فيما قرره رئيسه، أو ليُراجِع المهندس ما وقّع عليه قبل أشهر. وتُكتب التوصيات كما تُكتب الملاحظات الداخلية: “تنبيه”، “توجيه”، “ضرورة الالتزام مستقبلاً”. ولا أحد يُسأل عن الملايين التي صُرفت، ولا عن الأخطاء التي تراكمت، لأن التحقيق بحد ذاته يُعدّ، في الخيال الإداري، كافياً لإغلاق الملف.
الخلل الأعمق يكمن في أن هذه الرقابة تُفعَّل أحياناً لا لمحاسبة المقاول أو المسؤول، بل لإعفائه من التبعة، عبر استصدار تقارير توثّق الشكل وتغفل المضمون. فيتكرّس بذلك ما يُمكن تسميته بـ”الرقابة الشكلية”، التي لا تلاحق الانحراف، بل تُشرعنه.
وفي ظل هذا التعقيد، لا يُستدعى القضاء كأداة مساءلة فورية، بل يُؤجل تدخُّلُه قدر المستطاع، ويُستعاض عنه بلجان تحقيق إدارية تُشكَّل من داخل المؤسسة نفسها. هذه اللجان غالباً ما تُنتج محاضر غير ملزمة، توصيات غير تنفيذية، ويُعاد تدويرها عند كل خلل. فإذا تكررت الشكاوى، تم تشكيل لجنة ثانية، ثم ثالثة، وربما “فريق متابعة”. وتتحول القضية من جريمة مالية إلى “مخالفة إجرائية”، ثم إلى “سوء فهم”، ثم تُغلق بصيغة: “جرى التنبيه بعدم التكرار”.
تُظهر تقارير هيئة النزاهة أن مئات القضايا التي تم التحقيق فيها إدارياً لم تُحَلْ إلى المحاكم، ليس لعدم ثبوت المخالفة، بل لعدم توفر الأدلة “القطعية”، وهي أدلة لا يُمكن توفيرها أصلاً في نظام يكتب محاضره بنفسه، ويراجع إجراءاته بمنطق الحذر المؤسسي. إذ كيف يمكن أن تُدان دائرة بمستند أصدرته، أو أن يُحاسَب مدير بوثيقة مرّرت من تحت توقيعه، لكنه لم يُحررها فعلياً. ويُكرّس هذا النمط مفهوماً مضاداً للعدالة، لا يُحاسب فيه من تسبّب بالهدر، بل من عجز عن تغطيته إدارياً.
يُستخدم هذا الطوق من التبريرات لاحقاً كدرع قانوني ضد أي محاولة للمساءلة؛ فإذا حاولت جهة رقابية خارجية التدخل، قيل لها إن التحقيق قد تم داخلياً، وإن المسؤول “نُبّه”، وإن اللجنة “أوصت بعدم التكرار”. وإذا حاول القضاء إعادة فتح الملف، يُواجَه بكمّ هائل من المراسلات والمحاضر التي توحي بأن الخلل قد عولج بالفعل. وهكذا، يتحوّل الخطأ إلى ماضٍ مؤرشف، لا إلى قضية مفتوحة، وتُقفل الصفحة دون أن يُسأل أحد عن الثمن.
إن هذا الصمت المؤسسي لا يصنع الإفلات فقط، بل يمنحه الشرعية؛ لأن الرقابة حين تُفرغ من محتواها تصبح خط الدفاع الأول عن الفساد، لا خصماً له. ويُعاد إنتاج هذا السياق في ثقافة مؤسسية ترى في اللجنة “إجراءاً لا مخرجاً”، وفي المحضر “حماية لا توثيقاً”، وفي الصمت وسيلة للاستمرار.
المواطن شريكاً
في خضم الدولة المتهالكة إدارياً، لا يبقى المواطن خارج اللعبة، ولا يستمر دوره محدوداً في خانة “الضحية” أو “المتضرر”. بل مع مرور الوقت، وبفعل التكرار والخذلان، ينتقل الموقع الرمزي للمواطن من المتلقّي السلبي إلى عنصر مندمج في المنظومة، مشارك فيها بدرجات متفاوتة. لأن السلطات جعلت التواطؤ معها شرطاً للبقاء، أو وسيلة لتسيير الحياة اليومية. وفي غياب العدالة كقيمة عملية، تتحوّل العلاقة بين الفرد والنظام إلى مفاوضة مستمرة: السكوت مقابل المرور، القبول مقابل الحصول، وغضّ الطرف مقابل النجاة.

يبدأ التحوّل من لحظة إدراك بسيطة: أن من يعترض يُعاقَب، ومن يسكت يُكافَأ، ولو بالتغاضي. فيتعلّم المواطن، بمرور الزمن، أن النزاهة قد تكون عبئاً، وأن المطالبة بالحق قد تُفسَّر كعدوان. وما دام القانون انتقائياً، فإن التكيّف يصبح أخف ضرراً من الرفض. فلا أحد يُكافأ على البلاغ، ولا أحد يُؤمَّن عند الشهادة، ولا حماية لمَن يفضح عقداً فاسداً أو صفقة مشبوهة. فتتحول “ثقافة الخوف” من العنف السياسي إلى صمت إداري شامل.
وحين لا تُلبَّى الحاجات الأساسية إلا عبر الوساطات، يصبح الاصطفاف جزءاً من المنطق الاجتماعي. يسعى المواطن خلف “نائب منطقته”، أو “طرف متنفّذ”، أو “صلة عشائرية”، ليس لتجاوز القانون بالضرورة، بل لاختصار طُرقه الملتوية. ويتحوّل الحق العام إلى مكرمة، والواجب المؤسسي إلى خدمة شخصية، ويصبح المشروع التنموي مشروعاً لـ”فلان”، لا للدولة. تُقال عبارات من قبيل “شيّد المدرسة”، “أدخل الكهرباء”، “عبّد الشارع”، وكأن البنية التحتية لا تُبنى بوصفها واجباً، بل بوصفها منّةً سياسية. وهكذا، لا تتشوّه الدولة فقط، بل تتشوّه مفاهيم المواطنة ذاتها.
هذه الحال لا تعني أن المواطن هو من يصنع الفساد، بل أنه يُعاد إنتاجه داخل نمط من العيش القسري، حيث لا تنفع القيَم حين لا تحميك القوانين، ولا تُجدي النزاهة حين لا تردعها مؤسسات فاعلة. ويصبح الشك في كلّ شيء جزءاً من الحياة اليومية. وفي ظل هذا الانهيار البطيء للثقة، تنسحب المطالبة، وتستقرّ القناعة بأن “المال سيضيع على أي حال”، وأن “من حصل على حصته أفضل ممن بقي بانتظار النزاهة”.
ولا تقتصر مساهمة المواطن على الصمت أو التكيّف، بل تمتد إلى تبرير الفساد بوصفه حتمياً. تُقال جمل مثل “ماكو مسؤول ما يأخذ”، “كلها طابكة”، “خلي يستفادون، الكل تستفاد”. وتُصبح الرداءة عرفاً، ويُختزل الغضب إلى تذمّر موسمي، أو منشور إلكتروني، أو نكتة تُلقي التهمة على الجميع وتعفي الجميع.
وفي الجانب المؤسسي، تُعمّق الدولة هذا النمط حين تتعامل مع المواطن بوصفه مجرد مُطالب، لا بوصفه شريكاً في القرار العام. لا تُشركه في الرقابة، ولا في التخطيط، ولا في التقييم. ويُجرَّد من أدوات المعرفة، لأن البيانات محجوبة، والتقارير مغلقة، والميزانيات تُنشر بلا تفاصيل. فحتى حين يُراد له أن يشارك، يُدعى إلى مراقبة شيء لا يمكنه فهمه أو قياسه.
أما المنظمات المجتمعية، والجماعات الرقابية المستقلة، فكثيراً ما تُقيَّد أو تُحاصر بالاتهامات: “مسيَّسة”، “مدفوعة”، “تخدم أجندة”. ولا يُسمح لها أن تُراقب إلا حين لا تُحرج. وإن تجاوزت الحدّ، يتم إخراجها من المشهد، أو محاصرتها بالملاحقات، أو قطع التمويل. فتتراجع الرقابة المجتمعية، وتُفرَّغ من أدواتها، ويبقى المواطن منفرداً أمام بنية مغلقة، تتطلب منه التكيّف، أو العزلة. وفي ظل كل هذا، لم يعد الإصلاح مجرّد فكرة سياسية، بل معركة على الوعي. لأن الخطر الأكبر لا يكمن في استشراء الفساد فقط، بل في تداوله بوصفه قدراً، والتصالح معه وقبوله بوصفه عرفاً.
الثغرات المعطّلة… كي لا يُحاسب أحد
رغم كثافة التوثيق الإجرائي، تفتقر منظومة التعاقد في العراق إلى أدوات قياس تُظهر حجم الخلل على نحو رقمي منتظم. فغياب الإحصاءات الدورية حول نسب المشاريع المتلكئة، أو كلفة الفشل التعاقدي، أو عدد العقود المنجزة التي خضعت لصيانة لاحقة دون محاسبة، جعل من الأمر ظاهرة يصعب تقديرها كمّياً، وبالتالي يصعب مساءلتها مؤسساتياً. لا توجد قاعدة بيانات موحدة تفرز عدد المشاريع المهجورة من مجمل الخطط السنوية، ولا تتوفر مؤشرات أداء مستقلة يمكن مقارنتها زمنياً أو مكانياً، في نمط من الإخفاء المؤسسي.
تتعمّق المشكلة حين يُغيب التوثيق التحليلي أيضاً. فلا توجد دراسات حالة تفصيلية تتعقب مشروعاً محدداً من الفكرة إلى الفشل، وتُظهر كيف مرّ عبر سلاسل التوقيع، وكيف تمّت الإحالة، ومتى انهار، ولماذا لم يُحاسَب أحد. فباستثناء التقارير المجمّعة، لا تتوفر نماذج تطبيقية توضح ديناميكيات القرار داخل المشروع الواحد. ويمكن أن يشكّل عقد فوانيس رمضان في البصرة مثالاً كاشفاً، ليس فقط بسبب مبلغه البالغ نحو 7 مليارات دينار، بل لأنه يختصر أوجه الخلل كلها، لكن هذا المثال ظل حبيس التداول الإعلامي.
وتزداد هشاشة البنية حين تُفصَل المنظومة التعاقدية عن السياق القانوني الذي يُفترض أن يضبطها. فالقوانين العراقية المتعلقة بالتعاقدات الحكومية، مثل قانون تنفيذ العقود الحكومية رقم 87 لسنة 2004 وتعليماته اللاحقة، لا تتضمن صيغاً رادعة بما يكفي للعقوبات التراكمية، ولا تُحدّد بوضوح المسؤولية بعد تسليم المشروع. كما أن إجراءات التحقيق غالباً ما تُحال إلى لجان إدارية غير ملزمة بالتحويل إلى القضاء، ما يُعطّل دور السلطة القضائية ويجعل من الرقابة الداخلية غطاءً لدفن الأخطاء، بدلاً من أن تكون وسيلة لمكاشفتها ومعالجتها.
أما الأثر الاقتصادي، فلا يُقاس ضمن الحسابات الرسمية للضرر العام. إذ لا توجد تقديرات معتمدة لحجم الخسارة الناتجة عن المشاريع المتوقفة أو غير المنجزة أو المنجزة جزئياً. ولا تتوفر حسابات دقيقة عن نسبة الهدر، ما يخفّض منزلة الدولة الاقتصادية لا بسبب شحّ الموارد، بل بسبب إهدارها.
يؤسس هذا الغياب الرباعي (للتمثيل الكمي والدراسة التطبيقية والإطار القانوني الفاعل والتقدير الاقتصادي للخسائر) لحالة شاملة من انعدام القدرة على الإصلاح. لأن ما لا يُقاس، لا يُحاسب، وما لا يُدرس، لا يُفهم، وما لا يُجرَّم قانوناً، لا يُردَع، وما لا يُكلَّف اقتصادياً، لا يُستعاد.
في النهاية، ما يُهدّد الدولة ليس فقط من سرق، بل من صمّم العقد بحيث لا يُسأل أحد. من دوّن الوثيقة بشكل يسمح بالالتفاف، ومن وقّع على الإجراء ليُغلق الباب خلفه دون أثر. وإن كانت الدولة تُقاس بعقدها مع المواطن، فإن أخطر ما يمكن أن تفعله هو أن تُحوّل هذا العقد إلى مجرّد ورقة… تُكتب ولا تُقرأ، تُنسى ولا تُراجَع، وتُختم بختمٍ واحد: “تمّت المعالجة داخلياً”.
- تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في العراق لم يولَد الفساد نتيجة غياب المؤسسات فحسب، بل بسبب تكيّفها مع أدوار جديدة، لم تعد تتعلق بتطبيق القواعد، بل بتأجيل المساءلة، وإعادة ترتيب الأولويات بعيداً عن المصلحة العامة. ليس السؤال هنا عن طبيعة الخلل، بل عن آلية إنتاجه، ولماذا لا يُواجه بعقوبة، ولماذا يبقى من يرتكبُه ضمن الدائرة، يوقّع اليوم على ما سمح بتمريره بالأمس، ويعود غداً لتصحيح خطأ لم يُحاسَب عليه أحد.
ليس غريباً، في ضوء هذه البنية التي تفرّغ الدولة من معناها الرقابي، أن يقبع العراق في المرتبة 140 من أصل 180 دولة في آخر تحديث لمؤشر مدركات الفساد لعام 2024، بحسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية، حاصداً 26 نقطة فقط من أصل 100، في موقع متأخر لا يفوقه سوى دول أنهكتها الحروب أو انعدم فيها الحكم. هذا الرقم ليس مجرد ترتيب، بل انعكاس حيّ لنسق كامل، تحوّلت فيه الدولة إلى كيان ينظم الفساد أكثر مما يقاومه، ويقنّنه في وثائق، أكثر مما يطارده في المحاكم. لا يُقاس الفساد هنا بالمخالفات، بل بالبنية التي تجعل من الرداءة نمطًا مستقراً، ومن الإفلات عرفاً محمياً، لا استثناءً عارضاً. ولا يُفسَّر هذا النمط بضعف القانون أو محدودية الرقابة فحسب، بل يرتبط بطبيعة النظام نفسه، الذي يعيد إنتاج أدواته بطريقة تضمن البقاء، لا الإصلاح.
كيف يُصاغ العقد كأداة سلطة؟
في عراق ما بعد 2003، تحوّل العقد الإداريُ تدريجياً إلى تعبير مركّب عن التوازنات السياسية، وتقاطعات المصالح، وإعادة تشكيل الولاء داخل نظام الدولة. لم تعد الحاجة هي ما تولّد المشروع، بل أصبح المشروع هو ما يُفصَّل ليتطابق مع خارطة توزيع النفوذ. تنشأ الفكرة التعاقدية ليس بوصفها أداة لتحقيق الغرض التنموي، بل كفعل سياسي يُحاكي بنية المحاصصة، ويتناسق مع مزاج اللحظة، ويتفاعل مع مقتضيات الرضا السياسي.

ووفقًا لتقارير رسمية صادرة عن ديوان الرقابة المالية الاتحادي، فأن أكثر من 35 بالمئة من المشاريع المدرجة في الخطط الاستثمارية السنوية بين عامي 2011 و2022 لم تكن مدعومة بدراسات جدوى تفصيلية، أو قد جرى إعدادها بعد الإحالة، وليس قبلها. في وقت ساد فيه نمط “المشروع المصمَّم مسبقاً”، حيث تتحوّل الحاجة التنموية إلى رديف اصطلاحي لاستخدام الموارد العامة، دون أن تكون جزءاً من سلسلة تخطيط متكاملة.
في هذا النمط، يتحول العقد من أداة لضمان جودة الإنفاق، إلى آلية مطاطة لتوزيع الموارد السياسية؛ إذ يمكن إقحام “المشروع” في أي لحظة تحت مسمى “الضرورة”، أو “الطوارئ”، أو “الاستجابة العاجلة”، وهي تسميات تُستخدم غالباً كقنوات قانونية لتمرير المشروعات خارج التسلسل البيروقراطي الاعتيادي. تحوّلت هذه القنوات إلى أدوات لإعادة إنتاج “تخصيصات موجهة”، تحمل في ظاهرها الصفة التخطيطية/التنموية، لكنها في جوهرها: تقاسم سياسي للمنفعة.
تتجسّد هذه الآلية في بنية العلاقة بين المركز والمحافظات، حيث لا تُبنى أولويات المشاريع من الأسفل إلى الأعلى، بل العكس. ففي حالات عديدة، يُطلب من الجهات التنفيذية أن تتكيّف مع المشاريع التي أُقرت مسبقاً من دون إشراكها. ويجري التنسيق فقط على مستوى الإجراءات، وليس على مستوى المبادئ. ولهذا، فإن أغلب المشاريع التي تُوصف بـ”الاستراتيجية” في خطط التنمية لا تعكس حاجة فعلية، وإنما تمثل جزءاً من خرائط النفوذ المرسومة بين القوى السياسية.
في كثير من الحالات، يتجاوز تصميم المشروع الخطط السنوية أو الخمسية للوزارة المعنية، ويجري إدراجه بقرار من مجلس الوزراء، أو بإيعاز مباشر من رئيس الجهة التنفيذية العليا، ضمن صلاحيات يُطلق عليها وصف “الإجراءات المستعجلة”، أو “المشاريع الخاصة”. وقد وجدت هيئات رقابية رسمية أن قرارات من هذا النوع غالباً ما تُمرر بدون تقييم فني من الوزارات المختصة، ويتم تنفيذها بغطاء وزاري لاحق، ما يؤدي إلى تغييب دور المؤسسات الوسيطة مثل مجالس التخطيط الإقليمية أو الهيئات القطاعية.

كما أن المقاول نفسه لا يتم اختياره في نهاية السلسلة، بل يكون في كثير من الأحيان حاضراً منذ البداية. إذ يُصمَّم المشروع وفق مقاساته، وتُضبط المواصفات لتلائم قدراته، وتُفصل الكلف بناءً على تقديرات مرنة تُستكمل لاحقاً بالملحقات. وتُشكَّل لجان الإحالة أحياناً بعد أن تُعتمد التوصية غير الرسمية، ويصبح عمل اللجنة توفيرَ غطاء قانوني لقرار اتُّخذ قبل انعقادها. وتؤكد إفادات عدد من الموظفين الذين أدلوا بشهاداتهم في تقارير لهيئة النزاهة أن اللجنة، في حالات متعددة، لم تكن تملك صلاحية حقيقية للرفض، لأن الإحالة كانت مفروضة بشكل مباشر من المكتب الوزاري.
أما الحاجة الميدانية، فغالباً ما تُخلَقُ بأثر رجعي. حيث يتم استحضار تقارير جاهزة، أو يُعاد تدوير دراسات سابقة، أو تُنتج بيانات شكلية عن جدوى المشروع، لتتناسق مع قرار الإحالة. وفي حالات موثّقة، تم استنساخ نفس الدراسات لعدة مشاريع في محافظات مختلفة، مع تغيير الاسم والموقع فقط، ويؤدي هذا الأسلوب إلى إفراغ مفهوم الحاجة العامة من مضمونه، ويُعيد تعريفه بوصفه أداة لتبرير المخرجات.
يمتدّ هذا الخلل إلى نتائج التنفيذ، فالمشاريع التي لم تُبنَ على حاجة حقيقية وتُخطّط بشكل علمي، سرعان ما تنهار أو تتلكأ أو تُنجز جزئياً دون تحقيق أثر ملموس. ففي مراجعة أُجريت لعدد من مشاريع المجمعات السكنية بين 2015 و2020، وُجد أن نسبة كبيرة منها أُنجزت في مواقع غير مخدومة، أو على أراضٍ غير مُهيّأة للبناء، أو في مناطق لا تعاني أصلاً من أزمة سكن مقارنة بمناطق أخرى، فقط لأن الموقع كان ضمن نطاق النفوذ السياسي لصاحب الإحالة.
ومع تكرار هذا النمط، تصبح دورة التعاقد متوقعة، إذ يُبادر طرف سياسي بإدراج المشروع، لتُمرر الإحالة بغطاء فني وفق المقاس. يُستدعى المقاول الملائم، يُطلق المشروع بلا خطة تشغيلية، يُنجز بشكل جزئي أو يتوقف، ثم يُعاد إدراجه لاحقاً ضمن قائمة الصيانة أو التأهيل، لتبدأ دورة جديدة من التخصيص، وكل ذلك دون مساءلة.
السياسة تفتح الباب
تصطحب العقود التي تولد من رحمٍ سياسي مشوّه، التشوّهَ هذا إلى مرحلة تنفيذها، حيث تتقاطع التنازلات الإجرائية مع التحويرات القانونية، وتُقنّن الرداءة فتبدو نمطاً إنتاجياً، لا خللاً استثنائياً. فلا تُسند المشاريع إلى مقاولين متخصصين، كما تُصمَّم العقود بطريقة تتيح التهرّب من الجودة، وتمكّن من إعادة تدوير الإنفاق في دورات متكررة من الصيانة والتجديد أو الهدم والبناء.
تشير تقارير ديوان الرقابة المالية إلى أن أكثر من 40 بالمئة من العقود المبرمة خلال السنوات العشر الأخيرة تمّت مراجعتها بموجب ملحق تعاقدي واحد على الأقل، وغالباً ما تمّ إدراجه بعد انطلاق التنفيذ، لا قبله، بما يفتح الباب أمام تغييرات غير محسوبة في الكلفة أو الجدول الزمني. غالباً ما تُدرج هذه الملاحق تحت عنوان “تعديلات فنية” أو “ظروف ميدانية مستجدة”، وهي تسميات فضفاضة تفتقر إلى المعايير المرجعية، وتتيح لأطراف العقد إدخال تعديلات من شأنها تقليل جودة المواد أو تقليص مراحل التنفيذ مقابل المحافظة على الكلفة المقرّة أو زيادتها.

تزداد الإشكالية حين يُضاف إلى هذه المطاطية، غياب التخصص في اللجان الفنية التي تُشرف على العقد، أو التواطؤ المباشر مع المقاول. ففي كثير من المشاريع التي راجعتها هيئة النزاهة، وُجد أن لجان الاستلام قد وقّعت على نسب إنجاز غير مطابقة للواقع، أو لم تقم أصلاً بزيارة ميدانية، بل اعتمدت على تقارير داخلية أعدّها مهندس مقيم تحت ضغط إداري أو سياسي. كما أظهرت بعض الإفادات أن عدّة مشاريع تمّت فيها عملية الاستلام رغم علم اللجنة بوجود نقص أو عيوب إنشائية، لكن التوقيع تمّ “لإنهاء الإجراء” أو “لتسليم المستحقات”.
يتداخل هذا الإهمال مع نمط التنازلات المتسلسلة، حيث لا تنفذ الشركة الأصلية المشروع فعلياً، بل تُسنده إلى طرف آخر بعقد داخلي، يُعرف بـ”عقد الباطن”، وغالباً ما يكون الطرف الثاني أضعف فنياً، وأقل قدرة، لكنه أكثر مرونة في تمرير ما يُطلب منه. وقد راجع ديوان الرقابة أكثر من 280 مشروعاً شهدت تنازلاً جزئياً أو كلياً، وأظهرت البيانات أن التنازل لم يُفصح عنه في معظم العقود الرسمية، بل تمّ تنفيذه بناءً على تفاهمات شفوية، أو بموجب اتفاقات لم تُبلَّغ الجهات الرقابية بها.
أما في مرحلة الإنجاز، فتُخفَّف المواد، وتُختصر المواصفات، والفحوصات المختبرية إما تُهمل أو تُستبدل بتقارير معدّة مسبقاً. في بعض الحالات، تُوقَّع شهادات الإنجاز لمراحل لم تُنفذ، أو تُدرج أرقام غير حقيقية لنسب الإكمال. وقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية، أن 27 بالمئة من المشاريع التي شملتها العينة لم تخضع لفحص مختبري مستقل، وأن 19 بالمئة منها تمّت المصادقة عليها بناءً على تقارير المقاول نفسه.
ويأخذ هذا الانحدار بعداً أكثر خطورة حين يتحوّل الانهيار البنيوي إلى سياسة كامنة، إذ تُصمَّم بعض المشاريع، أو يُنفَّذ بعضها، بطريقة تؤدي إلى انهيار جزئي أو كلّي بعد فترة وجيزة من الاستلام؛ والهدف هنا ليس فقط التغاضي عن الرداءة، بل التخطيط لصيانة لاحقة -عقود ومقاولات جديدة-. فسُجِّلَت مشاريع كثيرة على أنها “منجزة بنسبة 100 بالمئة” ثم خضعت لعقود صيانة بعد أقل من عامين من التسليم، وغالباً ما أُسنِدت أعمال الصيانة إلى نفس الجهة المنفّذة، تحت عنوان “معالجة فنية”، دون فتح ملف محاسبي. ويُشير هذا النمط، الذي وُثّق في تقارير مجلس النواب حول مشاريع البنى التحتية، إلى أن الدورة المالية لا تنتهي عند الإنجاز، بل تبدأ منه.
وفي حالات كثيرة، يُترك المشروع قبل إنجازه، دون إعلان رسمي وبلا بيان انسحاب: تبدأ الحفريات، تُعلَّق اللوحات، وتُلتقط صور الافتتاح، ثم تتوقّف الأعمال، وتُسحب الآليات، ويختفي المقاول. وعند المراجعة، لا يُعثر إلا على أعذار فضفاضة مثل “ظروف ميدانية”، “تلكؤ بسبب التمويل”، أو “توقف بقرار وزاري”. ولا أحد يحدّد المسؤول، لأن لا أحد يملك السجل الكامل، ولا توجد قاعدة بيانات تربط المشاريع المهجورة بجهات التنفيذ، خاصة إن كانت الشركة واجهة لشخصيات غير مسجّلة رسمياً.
الرقابة الغائبة
في نظم الإدارة التقليدية، تُبنى الرقابة على فكرة الفعل الراجع، بمعنى أن تُتابَع الإجراءات، وتُراجَع النتائج، ويُحاسَب المنفّذ على ما أتمّ أو قصّر. لكنْ في السياق العراقي، تطورت الرقابة إلى آلية من نوع خاص، لا تعمل لكشف الانحراف، بل لإخفائه.
في الكثير من الحالات، لا تتشكل اللجنة الرقابية إلا بعد اكتمال الضرر، أو عند وقوع أزمة، ثم يُناط بها “تقييم” الحاصل، لا محاسبة من صنعه. ويُعاد تشكيل هذه اللجان من ذات كوادر المؤسسة التي مرّرت المشروع، ليُحقّق المرؤوس فيما قرره رئيسه، أو ليُراجِع المهندس ما وقّع عليه قبل أشهر. وتُكتب التوصيات كما تُكتب الملاحظات الداخلية: “تنبيه”، “توجيه”، “ضرورة الالتزام مستقبلاً”. ولا أحد يُسأل عن الملايين التي صُرفت، ولا عن الأخطاء التي تراكمت، لأن التحقيق بحد ذاته يُعدّ، في الخيال الإداري، كافياً لإغلاق الملف.
الخلل الأعمق يكمن في أن هذه الرقابة تُفعَّل أحياناً لا لمحاسبة المقاول أو المسؤول، بل لإعفائه من التبعة، عبر استصدار تقارير توثّق الشكل وتغفل المضمون. فيتكرّس بذلك ما يُمكن تسميته بـ”الرقابة الشكلية”، التي لا تلاحق الانحراف، بل تُشرعنه.
وفي ظل هذا التعقيد، لا يُستدعى القضاء كأداة مساءلة فورية، بل يُؤجل تدخُّلُه قدر المستطاع، ويُستعاض عنه بلجان تحقيق إدارية تُشكَّل من داخل المؤسسة نفسها. هذه اللجان غالباً ما تُنتج محاضر غير ملزمة، توصيات غير تنفيذية، ويُعاد تدويرها عند كل خلل. فإذا تكررت الشكاوى، تم تشكيل لجنة ثانية، ثم ثالثة، وربما “فريق متابعة”. وتتحول القضية من جريمة مالية إلى “مخالفة إجرائية”، ثم إلى “سوء فهم”، ثم تُغلق بصيغة: “جرى التنبيه بعدم التكرار”.
تُظهر تقارير هيئة النزاهة أن مئات القضايا التي تم التحقيق فيها إدارياً لم تُحَلْ إلى المحاكم، ليس لعدم ثبوت المخالفة، بل لعدم توفر الأدلة “القطعية”، وهي أدلة لا يُمكن توفيرها أصلاً في نظام يكتب محاضره بنفسه، ويراجع إجراءاته بمنطق الحذر المؤسسي. إذ كيف يمكن أن تُدان دائرة بمستند أصدرته، أو أن يُحاسَب مدير بوثيقة مرّرت من تحت توقيعه، لكنه لم يُحررها فعلياً. ويُكرّس هذا النمط مفهوماً مضاداً للعدالة، لا يُحاسب فيه من تسبّب بالهدر، بل من عجز عن تغطيته إدارياً.
يُستخدم هذا الطوق من التبريرات لاحقاً كدرع قانوني ضد أي محاولة للمساءلة؛ فإذا حاولت جهة رقابية خارجية التدخل، قيل لها إن التحقيق قد تم داخلياً، وإن المسؤول “نُبّه”، وإن اللجنة “أوصت بعدم التكرار”. وإذا حاول القضاء إعادة فتح الملف، يُواجَه بكمّ هائل من المراسلات والمحاضر التي توحي بأن الخلل قد عولج بالفعل. وهكذا، يتحوّل الخطأ إلى ماضٍ مؤرشف، لا إلى قضية مفتوحة، وتُقفل الصفحة دون أن يُسأل أحد عن الثمن.
إن هذا الصمت المؤسسي لا يصنع الإفلات فقط، بل يمنحه الشرعية؛ لأن الرقابة حين تُفرغ من محتواها تصبح خط الدفاع الأول عن الفساد، لا خصماً له. ويُعاد إنتاج هذا السياق في ثقافة مؤسسية ترى في اللجنة “إجراءاً لا مخرجاً”، وفي المحضر “حماية لا توثيقاً”، وفي الصمت وسيلة للاستمرار.
المواطن شريكاً
في خضم الدولة المتهالكة إدارياً، لا يبقى المواطن خارج اللعبة، ولا يستمر دوره محدوداً في خانة “الضحية” أو “المتضرر”. بل مع مرور الوقت، وبفعل التكرار والخذلان، ينتقل الموقع الرمزي للمواطن من المتلقّي السلبي إلى عنصر مندمج في المنظومة، مشارك فيها بدرجات متفاوتة. لأن السلطات جعلت التواطؤ معها شرطاً للبقاء، أو وسيلة لتسيير الحياة اليومية. وفي غياب العدالة كقيمة عملية، تتحوّل العلاقة بين الفرد والنظام إلى مفاوضة مستمرة: السكوت مقابل المرور، القبول مقابل الحصول، وغضّ الطرف مقابل النجاة.

يبدأ التحوّل من لحظة إدراك بسيطة: أن من يعترض يُعاقَب، ومن يسكت يُكافَأ، ولو بالتغاضي. فيتعلّم المواطن، بمرور الزمن، أن النزاهة قد تكون عبئاً، وأن المطالبة بالحق قد تُفسَّر كعدوان. وما دام القانون انتقائياً، فإن التكيّف يصبح أخف ضرراً من الرفض. فلا أحد يُكافأ على البلاغ، ولا أحد يُؤمَّن عند الشهادة، ولا حماية لمَن يفضح عقداً فاسداً أو صفقة مشبوهة. فتتحول “ثقافة الخوف” من العنف السياسي إلى صمت إداري شامل.
وحين لا تُلبَّى الحاجات الأساسية إلا عبر الوساطات، يصبح الاصطفاف جزءاً من المنطق الاجتماعي. يسعى المواطن خلف “نائب منطقته”، أو “طرف متنفّذ”، أو “صلة عشائرية”، ليس لتجاوز القانون بالضرورة، بل لاختصار طُرقه الملتوية. ويتحوّل الحق العام إلى مكرمة، والواجب المؤسسي إلى خدمة شخصية، ويصبح المشروع التنموي مشروعاً لـ”فلان”، لا للدولة. تُقال عبارات من قبيل “شيّد المدرسة”، “أدخل الكهرباء”، “عبّد الشارع”، وكأن البنية التحتية لا تُبنى بوصفها واجباً، بل بوصفها منّةً سياسية. وهكذا، لا تتشوّه الدولة فقط، بل تتشوّه مفاهيم المواطنة ذاتها.
هذه الحال لا تعني أن المواطن هو من يصنع الفساد، بل أنه يُعاد إنتاجه داخل نمط من العيش القسري، حيث لا تنفع القيَم حين لا تحميك القوانين، ولا تُجدي النزاهة حين لا تردعها مؤسسات فاعلة. ويصبح الشك في كلّ شيء جزءاً من الحياة اليومية. وفي ظل هذا الانهيار البطيء للثقة، تنسحب المطالبة، وتستقرّ القناعة بأن “المال سيضيع على أي حال”، وأن “من حصل على حصته أفضل ممن بقي بانتظار النزاهة”.
ولا تقتصر مساهمة المواطن على الصمت أو التكيّف، بل تمتد إلى تبرير الفساد بوصفه حتمياً. تُقال جمل مثل “ماكو مسؤول ما يأخذ”، “كلها طابكة”، “خلي يستفادون، الكل تستفاد”. وتُصبح الرداءة عرفاً، ويُختزل الغضب إلى تذمّر موسمي، أو منشور إلكتروني، أو نكتة تُلقي التهمة على الجميع وتعفي الجميع.
وفي الجانب المؤسسي، تُعمّق الدولة هذا النمط حين تتعامل مع المواطن بوصفه مجرد مُطالب، لا بوصفه شريكاً في القرار العام. لا تُشركه في الرقابة، ولا في التخطيط، ولا في التقييم. ويُجرَّد من أدوات المعرفة، لأن البيانات محجوبة، والتقارير مغلقة، والميزانيات تُنشر بلا تفاصيل. فحتى حين يُراد له أن يشارك، يُدعى إلى مراقبة شيء لا يمكنه فهمه أو قياسه.
أما المنظمات المجتمعية، والجماعات الرقابية المستقلة، فكثيراً ما تُقيَّد أو تُحاصر بالاتهامات: “مسيَّسة”، “مدفوعة”، “تخدم أجندة”. ولا يُسمح لها أن تُراقب إلا حين لا تُحرج. وإن تجاوزت الحدّ، يتم إخراجها من المشهد، أو محاصرتها بالملاحقات، أو قطع التمويل. فتتراجع الرقابة المجتمعية، وتُفرَّغ من أدواتها، ويبقى المواطن منفرداً أمام بنية مغلقة، تتطلب منه التكيّف، أو العزلة. وفي ظل كل هذا، لم يعد الإصلاح مجرّد فكرة سياسية، بل معركة على الوعي. لأن الخطر الأكبر لا يكمن في استشراء الفساد فقط، بل في تداوله بوصفه قدراً، والتصالح معه وقبوله بوصفه عرفاً.
الثغرات المعطّلة… كي لا يُحاسب أحد
رغم كثافة التوثيق الإجرائي، تفتقر منظومة التعاقد في العراق إلى أدوات قياس تُظهر حجم الخلل على نحو رقمي منتظم. فغياب الإحصاءات الدورية حول نسب المشاريع المتلكئة، أو كلفة الفشل التعاقدي، أو عدد العقود المنجزة التي خضعت لصيانة لاحقة دون محاسبة، جعل من الأمر ظاهرة يصعب تقديرها كمّياً، وبالتالي يصعب مساءلتها مؤسساتياً. لا توجد قاعدة بيانات موحدة تفرز عدد المشاريع المهجورة من مجمل الخطط السنوية، ولا تتوفر مؤشرات أداء مستقلة يمكن مقارنتها زمنياً أو مكانياً، في نمط من الإخفاء المؤسسي.
تتعمّق المشكلة حين يُغيب التوثيق التحليلي أيضاً. فلا توجد دراسات حالة تفصيلية تتعقب مشروعاً محدداً من الفكرة إلى الفشل، وتُظهر كيف مرّ عبر سلاسل التوقيع، وكيف تمّت الإحالة، ومتى انهار، ولماذا لم يُحاسَب أحد. فباستثناء التقارير المجمّعة، لا تتوفر نماذج تطبيقية توضح ديناميكيات القرار داخل المشروع الواحد. ويمكن أن يشكّل عقد فوانيس رمضان في البصرة مثالاً كاشفاً، ليس فقط بسبب مبلغه البالغ نحو 7 مليارات دينار، بل لأنه يختصر أوجه الخلل كلها، لكن هذا المثال ظل حبيس التداول الإعلامي.
وتزداد هشاشة البنية حين تُفصَل المنظومة التعاقدية عن السياق القانوني الذي يُفترض أن يضبطها. فالقوانين العراقية المتعلقة بالتعاقدات الحكومية، مثل قانون تنفيذ العقود الحكومية رقم 87 لسنة 2004 وتعليماته اللاحقة، لا تتضمن صيغاً رادعة بما يكفي للعقوبات التراكمية، ولا تُحدّد بوضوح المسؤولية بعد تسليم المشروع. كما أن إجراءات التحقيق غالباً ما تُحال إلى لجان إدارية غير ملزمة بالتحويل إلى القضاء، ما يُعطّل دور السلطة القضائية ويجعل من الرقابة الداخلية غطاءً لدفن الأخطاء، بدلاً من أن تكون وسيلة لمكاشفتها ومعالجتها.
أما الأثر الاقتصادي، فلا يُقاس ضمن الحسابات الرسمية للضرر العام. إذ لا توجد تقديرات معتمدة لحجم الخسارة الناتجة عن المشاريع المتوقفة أو غير المنجزة أو المنجزة جزئياً. ولا تتوفر حسابات دقيقة عن نسبة الهدر، ما يخفّض منزلة الدولة الاقتصادية لا بسبب شحّ الموارد، بل بسبب إهدارها.
يؤسس هذا الغياب الرباعي (للتمثيل الكمي والدراسة التطبيقية والإطار القانوني الفاعل والتقدير الاقتصادي للخسائر) لحالة شاملة من انعدام القدرة على الإصلاح. لأن ما لا يُقاس، لا يُحاسب، وما لا يُدرس، لا يُفهم، وما لا يُجرَّم قانوناً، لا يُردَع، وما لا يُكلَّف اقتصادياً، لا يُستعاد.
في النهاية، ما يُهدّد الدولة ليس فقط من سرق، بل من صمّم العقد بحيث لا يُسأل أحد. من دوّن الوثيقة بشكل يسمح بالالتفاف، ومن وقّع على الإجراء ليُغلق الباب خلفه دون أثر. وإن كانت الدولة تُقاس بعقدها مع المواطن، فإن أخطر ما يمكن أن تفعله هو أن تُحوّل هذا العقد إلى مجرّد ورقة… تُكتب ولا تُقرأ، تُنسى ولا تُراجَع، وتُختم بختمٍ واحد: “تمّت المعالجة داخلياً”.
- تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.