"الطماطة" في سلّة الصراع السياسي في العراق 

إيهاب شغيدل

08 أيار 2025

للطماطم حضور في المطبخ العراقي، وهذا يستدعي بالضرورة حضورها في المخيال الشعبي، ولكن الحضور المثير للطماطم هو في السياسة الاقتصادية العراقية، واستعمالها أداةً في الصراع والثراء.

كان حسين على الدوام آخر الواصلين إلى شعبة الثالث باء في ابتدائية الغزالي للبنين. يعود ذلك لوجبة الإفطار التي تعدّها “العلوية” والدته، فهي “تَقلي” الطماطم مع البصل صباحاً لأطفالها الثلاثة، وهم على وشك التأخّر عن الدرس الأول.  

الوجبة غير مكلفة مادياً، لكنّها كذلك من ناحية الوقت، وبيت السيّد مثل بقيّة البيوت حينها؛ عائلة لم تستطع توفير الجبن والبيض يومياً، وهو الإفطار الذي يُقدَّم بسهولة ويُسر. كان ذلك في شتاء العام 2001. 

منذ تسعينيات العقد الماضي، التجأت بعض العوائل من الطبقات المتوسطة والفقيرة إلى جعل الطماطم وجبة إفطار رئيسية، مرغمة على ذلك. وهو فطور مستمر حتى الآن، لأسباب تتعلق بالاعتياد والحنين إلى الماضي، ونتيجة للوضع الاقتصادي أحياناً. 

صباحاً، في طريق الذهاب إلى المدرسة، ترافق رائحة الطماطم الطلبة، تتشبث بالحقائب والكتب، رائحتها مع الزيت والبصل تتسلل من الشبابيك والأبواب. ناهيك عن وضعها طازجة مقطّعة مع خضروات أخرى، استهلكها الأطفال فاكهة بسبب ارتفاع أسعار الفواكه في حينها. لكن ذلك كله هامشي مقارنةً باستخدامها الأساسي في كل أنواع الحساء “المرق”.  

الطماطم، التي كانت تؤخر زميل المدرسة، تتقدّم مائدة الطعام، ولا تنفكّ تثبت حضورها، فلا يكاد يخلو “غداء” أو حتى “عشاء” منها. 

عند الظهيرة، حين العودة من المدرسة، نقطع طريق السوق الذي يزدهر بالخضار الشاحب، هناك نشاهد آخر ما تركه الحصار على المائدة بشكله الأولي؛ كانت صناديق الخشب والبلاستيك تكدّس الطماطم والباذنجان والبصل. 

قال أحد الأولاد، “اهووو، هم طماطة!”، في إشارة إلى ملله من وفرتها مقابل ندرة تنوّع الطعام.  

كان سعر الكيلوغرام منها قبل 2003 يتراوح بين 25 إلى 75 ديناراً عراقياً، ولم يسبق لأمٍّ عراقية في الحصار أن عجزت عن توفير مبلغ ذلك الكيلو. 

رافقت الطماطم العراقيين في رحلة الجوع، أصبحت الغذاء الأثير الذي لا يحتاج سوى القليل من الملح والدهن، ويُقدَّم مع الخبز. ورغم استحواذ الباذنجان على رمزية المنقذ في الحصار، فإنّ الطماطم لم تأخذ كفايتها من المديح. مرق “التبسي” يُسمّى “أسود” بسبب الباذنجان، غير أنّ أمي تؤكد أنه يحتاج الطماطم أكثر من الباذنجان. 

من ذلك الحضور، لا تنفك الطماطم عن الظهور في السياق الشعبي، وبسياقات عديدة، خصوصاً في “الگولات” و”الهوسات”، وواحدة من أشهر “گولات” العقد التسعيني، التي راجت في المناطق الشعبية، هي تلك  التي تتهكّم من هذا الغذاء الذي يُعد فقيراً، “شموكلة الولد/ خبزة وطماطية”. 

في الأعراس، تقول النساء، “خدها طماطة ولا تگول محمّرة”، ويأتي ذلك في سياق امتداح جمال “العروس”، مشبّهات وجنتيها بالطماطم، إذ أنّ اللون الأحمر دلالة ثراء وجمال وترف. ومثلها الردّة التي تُقال في الأعراس أيضاً، “حمرة يا طماطة، منين جابوك؟”، ممتدحين أهل العريس في دقّة اختيار العروس. وهذا الارتباط الذهني والنفسي يوضح مدى أهمية هذا المحصول في تلك الفترة. 

من نبات برّي هامشي إلى متصدّر السلة الغذائية 

يُعتقد أن الطماطم أُكلت لأول مرة في أمريكا الجنوبية، في منطقة تمتد من الإكوادور إلى شمال تشيلي، وكانت تُستهلك من قبل الشعوب الأصلية في هذه المناطق، حيث عثر العلماء على أدلة تفيد بأن حضارات مثل الأزتكوالمايا  كانت تزرع الطماطم وتستخدمها في طعامها اليومي. عند الأزتك تُسمى tomatoes، ومن اللفظ جاءت تسميتها في أغلب اللغات، ومنها العربية. 

مع وصول الإسبان غزاة إلى أمريكا الجنوبية في القرن الخامس عشر، اكتشفوا نباتات جديدة، منها الطماطم، التي جُلبت إلى أوروبا في القرن السادس عشر. انتشرت في إسبانيا وإيطاليا، ثم إلى آسيا وأفريقيا عبر الاستعمار. في أمريكا، اعتُبرت سامة حتى القرن الثامن عشر، لكنها أصبحت محصولاً رئيسياً. 

خاضت الطماطم رحلة شاقة، من كونها نباتاً برياً في أمريكا الجنوبية إلى اعتبارها ثاني أهم أنواع الخضار بعد البطاطس. بلغ إجمالي إنتاج العالم  منها في عام 2021 حوالي 189.1 مليون طن متري، بزيادة 2 بالمئة عن 2020، إذ بلغ إنتاجها 184.8 مليون طن متري، بزيادة 4 بالمئة عن المتوسط (182.7 مليون طن متري) في السنوات الثلاث السابقة (2018 – 2020). 

الطماطم ورقة ضغط سياسية 

هذه الرحلة لها خصوصيتها في أرض العراق. لم تكتفِ الطماطم بكونها محل إشكال، إن كانت خضار أم فاكهة، بل صارت الصديق الوفي للطبقات المسحوقة والمتوسطة، خصوصاً وقت الأزمات.  

لم تكتفِ بكونها جزءاً من السلّة الغذائية، بل دخلت ضمن سلّة الصراع السياسي القائم، بوصفها ورقة ضغط يمكن أن تمنح قوة لطرف على حساب آخر. وهذا هو الوجه الآخر غير البريء الذي تلبسه السلطة لهذه الثمرة الحمراء، التي لو دهستها العجلة لا تموت، بل تصبح “معجوناً”، كما تقول النكتة. 

فرض الحصار الاقتصادي من 1991 وحتى 2003 وضعاً استثنائياً على البلاد، شلّ حركة استيراد السلع، ودمر البنى التحتية، بضمنها مصادر الطاقة. وقتها كان العراق يستورد 70 بالمئة من غذائه، وبات لم يعد مسموحاً له استيراد الغذاء إلا تحت بند “الحاجات الإنسانية”، وبموافقة لجنة 661 التي أشرفت على تطبيق الحصار. 

أدى ذلك إلى تطبيق خطط صارمة لمواجهة نقص الغذاء، منها التركيز على الزراعة. ومن جملة ذلك، أنتج العراق صنفاً من الطماطم يُعرف بـ”إباء 1006″، والذي يبلغ معدل إنتاج الدونم الواحد منه ما بين 14 و16 طناً. الصنف هذا “أثبت ملاءمته للظروف البيئية العراقية”، في الوقت نفسه، حُرم العراق من استيراد الأسمدة والمبيدات والمواد الأساسية الخاصة بقطاع الزراعة، وجُرفت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ما أثّر على كميات إنتاجها.  

قرار الأمم المتحدة رقم 986، والذي يُعرف ببرنامج “النفط مقابل الغذاء”، دخل حيّز التنفيذ عام 1997، وأعاد جزءاً من تلك المساحات، خصوصاً في المدن الشمالية. إجمالاً، عانى قطاع الزراعة في تلك الفترة من عجز بسبب العقوبات المفروضة على العراق، أدى لانهيار البنى التحتية التي من شأنها أن تحافظ على السلة الغذائية. 

وقتها، انصبّ تركيز الحكومة على إنتاج المواد الأساسية، منها الشعير، والحنطة، والرز، والطماطم، والخيار، والبصل، وغيرها من المواد التي لا يمكن الاستغناء عنها. 

هذا كلّه في أعقاب ما صار يُعرف لاحقاً في الأدبيات السياسية بـ “الانتفاضة الشعبانية”، والتي واجهتها السلطة برد عنيف، ولا يمكن تأكيد عدد ضحاياها، “يُرجّح مقتل 80 ألف شخص”.  

بالمقابل، تشير التقديرات إلى نزوح حوالي مليون شخص، الجزء الأكبر نزح إلى بغداد بسبب استقرار الأوضاع الأمنية فيها. غالبية النازحين من سكنة القرى والأرياف، وهم المزارعون والفلاحون، دفعهم العنف للنزوح، إضافة إلى الإجراءات الصارمة التي وصلت حد “تجفيف الأهوار”، وقطع منابع المياه على جزء من البلاد. وتضررت أراضيهم، ما أثّر مباشرة على الإنتاج الزراعي، وتلف الكثير من المساحات الزراعية في وسط وجنوب العراق تحديداً. 

منذ 2003، بدأت عملية رفع العقوبات الاقتصادية، ومنها استيراد المواد، بضمنها الأسمدة والمبيدات وغيرهما مما يدخل في عصب قطاع الزراعة. لكن غياب الأرقام في السنوات الأولى للاحتلال يصعّب من مهمة البحث، غير أن الجهات الرسمية أطلقت العديد من المبادرات الزراعية، أبرزها تلك التي أعلن عن نجاحها رئيس الوزراء وقتها نوري المالكي في نهاية 2013، وآخرها أُطلقت من قبل حكومة محمد شياع السوداني، الذي وجّه في شباط 2025 بالتحقيق  في سلف المبادرة الزراعية، بسبب المخالفات المالية. فما إن خرجت الطماطم وباقي المحاصيل من ضغط العقوبات، حتى وقعت في شباك الفساد والتجريف المتعمد للأراضي، ما جعل ترنّح قطاع الزراعة مستمراً حتى اللحظة. 

شگد عدنا طماطة؟ شگد نحتاج؟ 

المبادرات الزراعية لم تُحسّن كثيراً من واقع الزراعة في العراق، الذي ما يزال يعاني من مشاكل بنيوية. خلاف ذلك، يعاني محصول الطماطم من معوّقات أساسية تقف في طريق النمو، منها الاستيراد، وقلة الطلب على المنتج المحلي، ضعف التمويل الحكومي، ضعف التوزيع في السوق، وأزمة المياه في بعض المحافظات التي تؤثر على جميع المحاصيل. 

لا يمكن فحص هذه الأرقام على نحو دقيق، طالما لا توجد دراسة جدوى تثبت حاجة الاستهلاك المحلي العراقي من المحصول سنوياً، بأشكالها المتعددة “طماطم / معجون / كاتشب”.  

مقابل ذلك، استورد العراق 81 طناً من المعجون والكاتشب بنحو 37 مليون دولار في العام 2020، من أجل تغطية الحاجة المحلية، على الرغم من أن 2020 هي الأعلى إنتاجاً في المحصول بـ754,760 ألف طن.  

بينما أعلنت  تركيا أن العراق استورد خلال ثلاثة أشهر من العام 2021 معجون طماطم بقيمة 25 مليوناً و613 ألف دولار.  

حسن الشيخ، رئيس غرفة تجارة بغداد، وفي تصريحات صحفية سابقة، يقول إنّ العراق يستورد من الجانب التركي بحوالي 84 مليون دولار لسد مفردات البطاقة التموينية، وهذا من غير استيراد القطاع الخاص. 

كميات الاستيراد التي يُعلن عنها تلك، تعود لسببين في الغالب؛ الأول هو أن تلك الأرقام المالية لا تخلو من الفساد المالي، وهذا ما تشير له تقارير صحفية، والحرب المتعمدة على الصناعة في العراق التي ضحيتها مصانع المعجون المحلية. هذا كله يؤدي إلى كساد محصول الطماطم المحلي، مما يدفع الفلاحين للهجرة إلى المدن، والدخول في عالم الاستهلاك بدلاً من الإنتاج. 

من ناحية أخرى، هناك انخفاض واضح في المساحة الزراعية للخضروات، بعد أن كانت 648 ألف دونم في 2020، و621 ألف دونم في 2021، انخفضت إلى 597 ألف دونم في 2022، وهذا تبرره الوزارة عادة بالحاجة الفعلية، أو بسبب أزمة المياه.  

لكنّ اعتقاداً يسود بأن الحرب ضد الزراعة ذات جنبة سياسية، إذ أن هناك جهات معينة مستفيدة من الاستيراد. ذلك ما يبرر الانخفاض الملحوظ الذي حدث في العام 2023 في مساحة الأراضي الزراعية المخصصة للخضروات، إذ أصبحت 283 ألف دونم. أي أن محاصيل الخضروات إجمالاً فقدت 56 بالمئة من مساحاتها مقارنة بالعام 2020.  

وهذا ما انعكس على انخفاض كميات محصول الطماطم المنتجة محلياً في 2023 مقارنة بالأعوام الثلاثة، 2022، 2021، و2020.  

هذه المساحات صغيرة مقارنة بما يملكه العراق من أراضٍ زراعية والتي تُقدَّر بحوالي 210 ملايين دونم. كما أن غياب الحاجة الفعلية للاستهلاك المحلي من المحاصيل يجعل عمليات قضم الأراضي والاستيراد غير مسيطر عليها. فيأتي التخلي عن الأراضي بسبب الاكتفاء، كما يستمر الاستيراد بسبب الحاجة. 

ما تشير إليه الأرقام الرسمية مرتبط بجملة من الأسباب، بضمنها الروزنامة الزراعية التي تحدد كميات إنتاج كل محصول، والحصص المائية وغيرها، لكن محصول الطماطم تحديداً محاصر بظروف تبدو أكثر تعقيداً.  

مدير زراعة الزبير في العام 2024، وهي المدينة التي تنتج حوالي 700 ألف طن، يقول إن الدعم الحكومي لا يغطي سوى 30 بالمئة من عدد المزارع الكلي. غياب هذا الدعم عن مزارع قضائي الزبير وسفوان، التي يفوق عدد مزارعها الـ 2000 مزرعة، يشكل واحداً من أكبر تحديات زراعة المحصول، إذ تصل تكلفة المزرعة الواحدة من 20 إلى 25 مليون دينار.  

هذا جعل العديد من المزارعين يعانون من مشاكل مع المكاتب الزراعية التي تمولهم بجميع المواد الزراعية على شكل قروض يصعب سدادها. هذا دفع لانتحار أحد المزارعين قبل سنتين “بسبب الخسائر المالية الكبيرة التي تكبدها، ونتيجة لتراكم الديون وطلبات المكاتب الزراعية”. 

هذه الأعباء يضاف لها الانهيارات المستمرة التي تطال أسعار الطماطم العراقية نتيجة إغراق السوق بالمستورد. جغرافياً، العراق يجاور أكبر منتجي ومصدري الطماطم في العالم، تركيا، المنتج الثالث عالمياً للطماطم بـ 13 مليون طن سنوياً، وإيران، الحادي عشر عالمياً من حيث الإنتاج بواقع 3.4 مليون طن، والثالث من ناحية التصدير بواقع 824 ألف طن.  

إضافة للطماطم المصرية التي تُعد السادس عالمياً بالتصدير بـ 6.2 مليون طن سنوياً. مقابل ذلك، العقوبات الاقتصادية الصارمة المفروضة على إيران تجعل محصولها ضاغطاً على المحصول المحلي، رغم أن المنافذ الحدودية العراقية تلتزم عادة بالتعليمات التي تصدرها وزارة الزراعة بين فترة وأخرى، وتُغلق الحدود على بعض المحاصيل الزراعية حين يصل العراق للاكتفاء الذاتي منها.  

الوزارة أعلنت في أكثر من مناسبة اكتفاء العراق من منتوج الطماطم، و”لم تحدد كمية الاحتياج”. كما أعلن  وزير الزراعة، عباس جبر العلي المالكي، في شباط 2025، التنسيق مع السلطات ووزارة الداخلية بالتشديد على تفتيش السيارات التي تنقل هذه الطماطم إلى محافظة البصرة. 

الملفات الشائكة بين الإقليم والمركز تجعل من الإقليم يستخدم حدوده مع إيران وتركيا ورقة ضغط سياسية على المركز، حسب مصادر غير رسمية. الطماطم المستوردة تدخل إلى العراق من حدود كردستان وبكميات تنافس المحلي، وبأسعار أقل بكثير، وهذا ما أعلنت عنه مصادر رسمية وغير رسمية في مناسبات عديدة. لكن حكومة الإقليم نفت  هذه الادعاءات، عبر مستشارة وزارة الزراعة والموارد المائية في حكومة إقليم كوردستان، شيماء جمال كوخا، التي تقول في تصريح صحفي: “إن الوزارة أصدرت تعليمات صارمة بمنع استيراد الطماطم إلى الإقليم، التزاماً بالروزنامة الزراعية المتفق عليها مع وزارة الزراعة في الحكومة الاتحادية”.  

كما أعلنت حكومة الإقليم نهاية كانون الثاني 2025 حظر استيراد الطماطم. لكن تدفق الطماطم المستوردة يبدو من الصعب السيطرة عليه حسب حكومة الإقليم، مقابل ذلك، تبدو الطماطم المحلية في مهمة شاقة أمام نظيرتها التي تصل الأسواق بأسعار زهيدة، ولم يتبقَّ للمزارعين سوى المناشدات والشكاوى. رغم أن استجابة الإقليم أنعشت السوق العراقي من المحصول المحلي، وهذا في نفس الوقت لا ينفي أن الإقليم أحياناً لا يلتزم بالروزنامة الزراعية، خصوصاً وقت الأزمات السياسية، أو كما أُعلن مراراً عن صعوبة السيطرة على الاستيراد. 

ضمن جملة التحولات غير المفهومة التي يعاني منها محصول الطماطم، ارتفعت أسعارها بشكل غير مسبوق في الأسبوع الأول من نيسان 2025، حين تراوحت من 2000 إلى 3000 دينار عراقي، بينما كانت تترنح لسنوات من 500 إلى 1000 دينار.  

المصادر الرسمية تقول إنّ السبب هو انتهاء موسم الزراعة، وأن هذا الارتفاع سببه غلق الحدود أمام الطماطم المستوردة، والإنتاج المحلي لا يغطي السوق. بعد أن كانت البصرة تصرح بالوصول إلى 700 ألف طن، اتضح من انتهاء الموسم أنها لم تنتج سوى 550 ألف طن.  

وهذا بحسب هادي حسين، مدير زراعة البصرة، لا يغطي السوق سوى لشهري نيسان وأيار. ذلك ما دعا نواب من محافظة البصرة إلى توجيه رسالة إلى الحكومة العراقية، مطالبين فيها بفتح منفذ الشلامجة الحدودي مع إيران أمام السلع والبضائع المستوردة.  

وبحسب نص الرسالة الذي تداولته وسائل إعلام، فإن وزير الزراعة وبعض المسؤولين يرفضون فتح المنفذ. لكن يبدو أن وزارة الزراعة على وشك الدخول في صراع مع جهات سياسية تضغط من أجل فتح الاستيراد، وجعل تدفق السلع، بمن فيها الغذائية، مستمراً. 

بالمقابل، واجهت الجهات الرسمية هذا الارتفاع بجملة من الإجراءات، بضمنها حملة لضبط السوق، والقبض على المتلاعبين بالأسعار. وهذا قد يشير، على نحو ما، إلى فئات مستفيدة من الارتفاع، إلى جانب الفئات التي تحاول إعادة فتح الحدود المغلقة أمام المحاصيل الزراعية. ما يُرجح ذلك هو شبهات الفساد التي تتورط فيها جهات عديدة، في جعل البلاد مستهلكة بالدرجة الأساس، وتحارب ضد الإنتاج المحلي، زراعةً وصناعةً.  

وزارة الزراعة تقول إنّ العراق فقد 82 ألف دونم زراعي بسبب ما تسميه “التجريف الممنهج”، نتيجة لسرقة الأراضي الزراعية من قبل جهات متنفذة، وكذلك بسبب الزحف السكاني على البساتين والمزارع، وهذا مستمر منذ 2003 حتى الآن. 

وزارة الزراعة، في الإجراءات المتخذة، تواجه جملة من الصعوبات، أحد تجلياتها هو ارتفاع أسعار الطماطم. بعد حوالي أقلّ من شهر على التقارير التي تشير إلى الحاجة الملحّة إلى استمرار غلق الحدود، يصرّح المسؤولون بضرورة الاستيراد. 

سنوات من إهمال قطاع الزراعة، كانت كفيلة بتحويل العراق من بلد يحتفي بمواسم الطماطم إلى سوق مفتوح لكل ما هو مستورد، ومن مزارعين حالمين بالربح إلى ضحايا على هوامش المعادلة السياسية والاقتصادية. وهكذا، لم يعد ارتفاع السعر أو انخفاضه هو السؤال الأهم، بل، من المتحكم في الزراعة، ومن المستفيد من الاستيراد؟ وما نتائج الخطط الزراعية والمبادرات العديدة التي سبق وأن أطلقت؟ 

تتكشف مأساة عراقية على هيئة محصول بسيط. الطماطم، تلك الثمرة الحمراء التي كانت رمزاً للوفرة والغزل، أصبحت مرآة عاكسة لفشل السياسات، وتواطؤ المصالح، وغياب التخطيط.  

حكاية الطماطم في العراق، ثمرة بدأت بريّة، وانتهت سياسية. صارت ورقة ضغط، ثم سلعة، ثمَّ لعنة بيد مزارع لا يستطع سداد القرض. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

كان حسين على الدوام آخر الواصلين إلى شعبة الثالث باء في ابتدائية الغزالي للبنين. يعود ذلك لوجبة الإفطار التي تعدّها “العلوية” والدته، فهي “تَقلي” الطماطم مع البصل صباحاً لأطفالها الثلاثة، وهم على وشك التأخّر عن الدرس الأول.  

الوجبة غير مكلفة مادياً، لكنّها كذلك من ناحية الوقت، وبيت السيّد مثل بقيّة البيوت حينها؛ عائلة لم تستطع توفير الجبن والبيض يومياً، وهو الإفطار الذي يُقدَّم بسهولة ويُسر. كان ذلك في شتاء العام 2001. 

منذ تسعينيات العقد الماضي، التجأت بعض العوائل من الطبقات المتوسطة والفقيرة إلى جعل الطماطم وجبة إفطار رئيسية، مرغمة على ذلك. وهو فطور مستمر حتى الآن، لأسباب تتعلق بالاعتياد والحنين إلى الماضي، ونتيجة للوضع الاقتصادي أحياناً. 

صباحاً، في طريق الذهاب إلى المدرسة، ترافق رائحة الطماطم الطلبة، تتشبث بالحقائب والكتب، رائحتها مع الزيت والبصل تتسلل من الشبابيك والأبواب. ناهيك عن وضعها طازجة مقطّعة مع خضروات أخرى، استهلكها الأطفال فاكهة بسبب ارتفاع أسعار الفواكه في حينها. لكن ذلك كله هامشي مقارنةً باستخدامها الأساسي في كل أنواع الحساء “المرق”.  

الطماطم، التي كانت تؤخر زميل المدرسة، تتقدّم مائدة الطعام، ولا تنفكّ تثبت حضورها، فلا يكاد يخلو “غداء” أو حتى “عشاء” منها. 

عند الظهيرة، حين العودة من المدرسة، نقطع طريق السوق الذي يزدهر بالخضار الشاحب، هناك نشاهد آخر ما تركه الحصار على المائدة بشكله الأولي؛ كانت صناديق الخشب والبلاستيك تكدّس الطماطم والباذنجان والبصل. 

قال أحد الأولاد، “اهووو، هم طماطة!”، في إشارة إلى ملله من وفرتها مقابل ندرة تنوّع الطعام.  

كان سعر الكيلوغرام منها قبل 2003 يتراوح بين 25 إلى 75 ديناراً عراقياً، ولم يسبق لأمٍّ عراقية في الحصار أن عجزت عن توفير مبلغ ذلك الكيلو. 

رافقت الطماطم العراقيين في رحلة الجوع، أصبحت الغذاء الأثير الذي لا يحتاج سوى القليل من الملح والدهن، ويُقدَّم مع الخبز. ورغم استحواذ الباذنجان على رمزية المنقذ في الحصار، فإنّ الطماطم لم تأخذ كفايتها من المديح. مرق “التبسي” يُسمّى “أسود” بسبب الباذنجان، غير أنّ أمي تؤكد أنه يحتاج الطماطم أكثر من الباذنجان. 

من ذلك الحضور، لا تنفك الطماطم عن الظهور في السياق الشعبي، وبسياقات عديدة، خصوصاً في “الگولات” و”الهوسات”، وواحدة من أشهر “گولات” العقد التسعيني، التي راجت في المناطق الشعبية، هي تلك  التي تتهكّم من هذا الغذاء الذي يُعد فقيراً، “شموكلة الولد/ خبزة وطماطية”. 

في الأعراس، تقول النساء، “خدها طماطة ولا تگول محمّرة”، ويأتي ذلك في سياق امتداح جمال “العروس”، مشبّهات وجنتيها بالطماطم، إذ أنّ اللون الأحمر دلالة ثراء وجمال وترف. ومثلها الردّة التي تُقال في الأعراس أيضاً، “حمرة يا طماطة، منين جابوك؟”، ممتدحين أهل العريس في دقّة اختيار العروس. وهذا الارتباط الذهني والنفسي يوضح مدى أهمية هذا المحصول في تلك الفترة. 

من نبات برّي هامشي إلى متصدّر السلة الغذائية 

يُعتقد أن الطماطم أُكلت لأول مرة في أمريكا الجنوبية، في منطقة تمتد من الإكوادور إلى شمال تشيلي، وكانت تُستهلك من قبل الشعوب الأصلية في هذه المناطق، حيث عثر العلماء على أدلة تفيد بأن حضارات مثل الأزتكوالمايا  كانت تزرع الطماطم وتستخدمها في طعامها اليومي. عند الأزتك تُسمى tomatoes، ومن اللفظ جاءت تسميتها في أغلب اللغات، ومنها العربية. 

مع وصول الإسبان غزاة إلى أمريكا الجنوبية في القرن الخامس عشر، اكتشفوا نباتات جديدة، منها الطماطم، التي جُلبت إلى أوروبا في القرن السادس عشر. انتشرت في إسبانيا وإيطاليا، ثم إلى آسيا وأفريقيا عبر الاستعمار. في أمريكا، اعتُبرت سامة حتى القرن الثامن عشر، لكنها أصبحت محصولاً رئيسياً. 

خاضت الطماطم رحلة شاقة، من كونها نباتاً برياً في أمريكا الجنوبية إلى اعتبارها ثاني أهم أنواع الخضار بعد البطاطس. بلغ إجمالي إنتاج العالم  منها في عام 2021 حوالي 189.1 مليون طن متري، بزيادة 2 بالمئة عن 2020، إذ بلغ إنتاجها 184.8 مليون طن متري، بزيادة 4 بالمئة عن المتوسط (182.7 مليون طن متري) في السنوات الثلاث السابقة (2018 – 2020). 

الطماطم ورقة ضغط سياسية 

هذه الرحلة لها خصوصيتها في أرض العراق. لم تكتفِ الطماطم بكونها محل إشكال، إن كانت خضار أم فاكهة، بل صارت الصديق الوفي للطبقات المسحوقة والمتوسطة، خصوصاً وقت الأزمات.  

لم تكتفِ بكونها جزءاً من السلّة الغذائية، بل دخلت ضمن سلّة الصراع السياسي القائم، بوصفها ورقة ضغط يمكن أن تمنح قوة لطرف على حساب آخر. وهذا هو الوجه الآخر غير البريء الذي تلبسه السلطة لهذه الثمرة الحمراء، التي لو دهستها العجلة لا تموت، بل تصبح “معجوناً”، كما تقول النكتة. 

فرض الحصار الاقتصادي من 1991 وحتى 2003 وضعاً استثنائياً على البلاد، شلّ حركة استيراد السلع، ودمر البنى التحتية، بضمنها مصادر الطاقة. وقتها كان العراق يستورد 70 بالمئة من غذائه، وبات لم يعد مسموحاً له استيراد الغذاء إلا تحت بند “الحاجات الإنسانية”، وبموافقة لجنة 661 التي أشرفت على تطبيق الحصار. 

أدى ذلك إلى تطبيق خطط صارمة لمواجهة نقص الغذاء، منها التركيز على الزراعة. ومن جملة ذلك، أنتج العراق صنفاً من الطماطم يُعرف بـ”إباء 1006″، والذي يبلغ معدل إنتاج الدونم الواحد منه ما بين 14 و16 طناً. الصنف هذا “أثبت ملاءمته للظروف البيئية العراقية”، في الوقت نفسه، حُرم العراق من استيراد الأسمدة والمبيدات والمواد الأساسية الخاصة بقطاع الزراعة، وجُرفت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ما أثّر على كميات إنتاجها.  

قرار الأمم المتحدة رقم 986، والذي يُعرف ببرنامج “النفط مقابل الغذاء”، دخل حيّز التنفيذ عام 1997، وأعاد جزءاً من تلك المساحات، خصوصاً في المدن الشمالية. إجمالاً، عانى قطاع الزراعة في تلك الفترة من عجز بسبب العقوبات المفروضة على العراق، أدى لانهيار البنى التحتية التي من شأنها أن تحافظ على السلة الغذائية. 

وقتها، انصبّ تركيز الحكومة على إنتاج المواد الأساسية، منها الشعير، والحنطة، والرز، والطماطم، والخيار، والبصل، وغيرها من المواد التي لا يمكن الاستغناء عنها. 

هذا كلّه في أعقاب ما صار يُعرف لاحقاً في الأدبيات السياسية بـ “الانتفاضة الشعبانية”، والتي واجهتها السلطة برد عنيف، ولا يمكن تأكيد عدد ضحاياها، “يُرجّح مقتل 80 ألف شخص”.  

بالمقابل، تشير التقديرات إلى نزوح حوالي مليون شخص، الجزء الأكبر نزح إلى بغداد بسبب استقرار الأوضاع الأمنية فيها. غالبية النازحين من سكنة القرى والأرياف، وهم المزارعون والفلاحون، دفعهم العنف للنزوح، إضافة إلى الإجراءات الصارمة التي وصلت حد “تجفيف الأهوار”، وقطع منابع المياه على جزء من البلاد. وتضررت أراضيهم، ما أثّر مباشرة على الإنتاج الزراعي، وتلف الكثير من المساحات الزراعية في وسط وجنوب العراق تحديداً. 

منذ 2003، بدأت عملية رفع العقوبات الاقتصادية، ومنها استيراد المواد، بضمنها الأسمدة والمبيدات وغيرهما مما يدخل في عصب قطاع الزراعة. لكن غياب الأرقام في السنوات الأولى للاحتلال يصعّب من مهمة البحث، غير أن الجهات الرسمية أطلقت العديد من المبادرات الزراعية، أبرزها تلك التي أعلن عن نجاحها رئيس الوزراء وقتها نوري المالكي في نهاية 2013، وآخرها أُطلقت من قبل حكومة محمد شياع السوداني، الذي وجّه في شباط 2025 بالتحقيق  في سلف المبادرة الزراعية، بسبب المخالفات المالية. فما إن خرجت الطماطم وباقي المحاصيل من ضغط العقوبات، حتى وقعت في شباك الفساد والتجريف المتعمد للأراضي، ما جعل ترنّح قطاع الزراعة مستمراً حتى اللحظة. 

شگد عدنا طماطة؟ شگد نحتاج؟ 

المبادرات الزراعية لم تُحسّن كثيراً من واقع الزراعة في العراق، الذي ما يزال يعاني من مشاكل بنيوية. خلاف ذلك، يعاني محصول الطماطم من معوّقات أساسية تقف في طريق النمو، منها الاستيراد، وقلة الطلب على المنتج المحلي، ضعف التمويل الحكومي، ضعف التوزيع في السوق، وأزمة المياه في بعض المحافظات التي تؤثر على جميع المحاصيل. 

لا يمكن فحص هذه الأرقام على نحو دقيق، طالما لا توجد دراسة جدوى تثبت حاجة الاستهلاك المحلي العراقي من المحصول سنوياً، بأشكالها المتعددة “طماطم / معجون / كاتشب”.  

مقابل ذلك، استورد العراق 81 طناً من المعجون والكاتشب بنحو 37 مليون دولار في العام 2020، من أجل تغطية الحاجة المحلية، على الرغم من أن 2020 هي الأعلى إنتاجاً في المحصول بـ754,760 ألف طن.  

بينما أعلنت  تركيا أن العراق استورد خلال ثلاثة أشهر من العام 2021 معجون طماطم بقيمة 25 مليوناً و613 ألف دولار.  

حسن الشيخ، رئيس غرفة تجارة بغداد، وفي تصريحات صحفية سابقة، يقول إنّ العراق يستورد من الجانب التركي بحوالي 84 مليون دولار لسد مفردات البطاقة التموينية، وهذا من غير استيراد القطاع الخاص. 

كميات الاستيراد التي يُعلن عنها تلك، تعود لسببين في الغالب؛ الأول هو أن تلك الأرقام المالية لا تخلو من الفساد المالي، وهذا ما تشير له تقارير صحفية، والحرب المتعمدة على الصناعة في العراق التي ضحيتها مصانع المعجون المحلية. هذا كله يؤدي إلى كساد محصول الطماطم المحلي، مما يدفع الفلاحين للهجرة إلى المدن، والدخول في عالم الاستهلاك بدلاً من الإنتاج. 

من ناحية أخرى، هناك انخفاض واضح في المساحة الزراعية للخضروات، بعد أن كانت 648 ألف دونم في 2020، و621 ألف دونم في 2021، انخفضت إلى 597 ألف دونم في 2022، وهذا تبرره الوزارة عادة بالحاجة الفعلية، أو بسبب أزمة المياه.  

لكنّ اعتقاداً يسود بأن الحرب ضد الزراعة ذات جنبة سياسية، إذ أن هناك جهات معينة مستفيدة من الاستيراد. ذلك ما يبرر الانخفاض الملحوظ الذي حدث في العام 2023 في مساحة الأراضي الزراعية المخصصة للخضروات، إذ أصبحت 283 ألف دونم. أي أن محاصيل الخضروات إجمالاً فقدت 56 بالمئة من مساحاتها مقارنة بالعام 2020.  

وهذا ما انعكس على انخفاض كميات محصول الطماطم المنتجة محلياً في 2023 مقارنة بالأعوام الثلاثة، 2022، 2021، و2020.  

هذه المساحات صغيرة مقارنة بما يملكه العراق من أراضٍ زراعية والتي تُقدَّر بحوالي 210 ملايين دونم. كما أن غياب الحاجة الفعلية للاستهلاك المحلي من المحاصيل يجعل عمليات قضم الأراضي والاستيراد غير مسيطر عليها. فيأتي التخلي عن الأراضي بسبب الاكتفاء، كما يستمر الاستيراد بسبب الحاجة. 

ما تشير إليه الأرقام الرسمية مرتبط بجملة من الأسباب، بضمنها الروزنامة الزراعية التي تحدد كميات إنتاج كل محصول، والحصص المائية وغيرها، لكن محصول الطماطم تحديداً محاصر بظروف تبدو أكثر تعقيداً.  

مدير زراعة الزبير في العام 2024، وهي المدينة التي تنتج حوالي 700 ألف طن، يقول إن الدعم الحكومي لا يغطي سوى 30 بالمئة من عدد المزارع الكلي. غياب هذا الدعم عن مزارع قضائي الزبير وسفوان، التي يفوق عدد مزارعها الـ 2000 مزرعة، يشكل واحداً من أكبر تحديات زراعة المحصول، إذ تصل تكلفة المزرعة الواحدة من 20 إلى 25 مليون دينار.  

هذا جعل العديد من المزارعين يعانون من مشاكل مع المكاتب الزراعية التي تمولهم بجميع المواد الزراعية على شكل قروض يصعب سدادها. هذا دفع لانتحار أحد المزارعين قبل سنتين “بسبب الخسائر المالية الكبيرة التي تكبدها، ونتيجة لتراكم الديون وطلبات المكاتب الزراعية”. 

هذه الأعباء يضاف لها الانهيارات المستمرة التي تطال أسعار الطماطم العراقية نتيجة إغراق السوق بالمستورد. جغرافياً، العراق يجاور أكبر منتجي ومصدري الطماطم في العالم، تركيا، المنتج الثالث عالمياً للطماطم بـ 13 مليون طن سنوياً، وإيران، الحادي عشر عالمياً من حيث الإنتاج بواقع 3.4 مليون طن، والثالث من ناحية التصدير بواقع 824 ألف طن.  

إضافة للطماطم المصرية التي تُعد السادس عالمياً بالتصدير بـ 6.2 مليون طن سنوياً. مقابل ذلك، العقوبات الاقتصادية الصارمة المفروضة على إيران تجعل محصولها ضاغطاً على المحصول المحلي، رغم أن المنافذ الحدودية العراقية تلتزم عادة بالتعليمات التي تصدرها وزارة الزراعة بين فترة وأخرى، وتُغلق الحدود على بعض المحاصيل الزراعية حين يصل العراق للاكتفاء الذاتي منها.  

الوزارة أعلنت في أكثر من مناسبة اكتفاء العراق من منتوج الطماطم، و”لم تحدد كمية الاحتياج”. كما أعلن  وزير الزراعة، عباس جبر العلي المالكي، في شباط 2025، التنسيق مع السلطات ووزارة الداخلية بالتشديد على تفتيش السيارات التي تنقل هذه الطماطم إلى محافظة البصرة. 

الملفات الشائكة بين الإقليم والمركز تجعل من الإقليم يستخدم حدوده مع إيران وتركيا ورقة ضغط سياسية على المركز، حسب مصادر غير رسمية. الطماطم المستوردة تدخل إلى العراق من حدود كردستان وبكميات تنافس المحلي، وبأسعار أقل بكثير، وهذا ما أعلنت عنه مصادر رسمية وغير رسمية في مناسبات عديدة. لكن حكومة الإقليم نفت  هذه الادعاءات، عبر مستشارة وزارة الزراعة والموارد المائية في حكومة إقليم كوردستان، شيماء جمال كوخا، التي تقول في تصريح صحفي: “إن الوزارة أصدرت تعليمات صارمة بمنع استيراد الطماطم إلى الإقليم، التزاماً بالروزنامة الزراعية المتفق عليها مع وزارة الزراعة في الحكومة الاتحادية”.  

كما أعلنت حكومة الإقليم نهاية كانون الثاني 2025 حظر استيراد الطماطم. لكن تدفق الطماطم المستوردة يبدو من الصعب السيطرة عليه حسب حكومة الإقليم، مقابل ذلك، تبدو الطماطم المحلية في مهمة شاقة أمام نظيرتها التي تصل الأسواق بأسعار زهيدة، ولم يتبقَّ للمزارعين سوى المناشدات والشكاوى. رغم أن استجابة الإقليم أنعشت السوق العراقي من المحصول المحلي، وهذا في نفس الوقت لا ينفي أن الإقليم أحياناً لا يلتزم بالروزنامة الزراعية، خصوصاً وقت الأزمات السياسية، أو كما أُعلن مراراً عن صعوبة السيطرة على الاستيراد. 

ضمن جملة التحولات غير المفهومة التي يعاني منها محصول الطماطم، ارتفعت أسعارها بشكل غير مسبوق في الأسبوع الأول من نيسان 2025، حين تراوحت من 2000 إلى 3000 دينار عراقي، بينما كانت تترنح لسنوات من 500 إلى 1000 دينار.  

المصادر الرسمية تقول إنّ السبب هو انتهاء موسم الزراعة، وأن هذا الارتفاع سببه غلق الحدود أمام الطماطم المستوردة، والإنتاج المحلي لا يغطي السوق. بعد أن كانت البصرة تصرح بالوصول إلى 700 ألف طن، اتضح من انتهاء الموسم أنها لم تنتج سوى 550 ألف طن.  

وهذا بحسب هادي حسين، مدير زراعة البصرة، لا يغطي السوق سوى لشهري نيسان وأيار. ذلك ما دعا نواب من محافظة البصرة إلى توجيه رسالة إلى الحكومة العراقية، مطالبين فيها بفتح منفذ الشلامجة الحدودي مع إيران أمام السلع والبضائع المستوردة.  

وبحسب نص الرسالة الذي تداولته وسائل إعلام، فإن وزير الزراعة وبعض المسؤولين يرفضون فتح المنفذ. لكن يبدو أن وزارة الزراعة على وشك الدخول في صراع مع جهات سياسية تضغط من أجل فتح الاستيراد، وجعل تدفق السلع، بمن فيها الغذائية، مستمراً. 

بالمقابل، واجهت الجهات الرسمية هذا الارتفاع بجملة من الإجراءات، بضمنها حملة لضبط السوق، والقبض على المتلاعبين بالأسعار. وهذا قد يشير، على نحو ما، إلى فئات مستفيدة من الارتفاع، إلى جانب الفئات التي تحاول إعادة فتح الحدود المغلقة أمام المحاصيل الزراعية. ما يُرجح ذلك هو شبهات الفساد التي تتورط فيها جهات عديدة، في جعل البلاد مستهلكة بالدرجة الأساس، وتحارب ضد الإنتاج المحلي، زراعةً وصناعةً.  

وزارة الزراعة تقول إنّ العراق فقد 82 ألف دونم زراعي بسبب ما تسميه “التجريف الممنهج”، نتيجة لسرقة الأراضي الزراعية من قبل جهات متنفذة، وكذلك بسبب الزحف السكاني على البساتين والمزارع، وهذا مستمر منذ 2003 حتى الآن. 

وزارة الزراعة، في الإجراءات المتخذة، تواجه جملة من الصعوبات، أحد تجلياتها هو ارتفاع أسعار الطماطم. بعد حوالي أقلّ من شهر على التقارير التي تشير إلى الحاجة الملحّة إلى استمرار غلق الحدود، يصرّح المسؤولون بضرورة الاستيراد. 

سنوات من إهمال قطاع الزراعة، كانت كفيلة بتحويل العراق من بلد يحتفي بمواسم الطماطم إلى سوق مفتوح لكل ما هو مستورد، ومن مزارعين حالمين بالربح إلى ضحايا على هوامش المعادلة السياسية والاقتصادية. وهكذا، لم يعد ارتفاع السعر أو انخفاضه هو السؤال الأهم، بل، من المتحكم في الزراعة، ومن المستفيد من الاستيراد؟ وما نتائج الخطط الزراعية والمبادرات العديدة التي سبق وأن أطلقت؟ 

تتكشف مأساة عراقية على هيئة محصول بسيط. الطماطم، تلك الثمرة الحمراء التي كانت رمزاً للوفرة والغزل، أصبحت مرآة عاكسة لفشل السياسات، وتواطؤ المصالح، وغياب التخطيط.  

حكاية الطماطم في العراق، ثمرة بدأت بريّة، وانتهت سياسية. صارت ورقة ضغط، ثم سلعة، ثمَّ لعنة بيد مزارع لا يستطع سداد القرض.