طب العرب: "هذا دواك وعلى الله شفاك"  

علي عزيز

15 نيسان 2025

حكيم يعالج بالإبرة والمنجل، رجال يُمنعون من الصراخ، وأطفال يُكْوَون بالنار، وعلاجات موروثة بعضها قاتل... عن طب العرب وضياع الخيط بين الحكيم والدجال.

في ظهيرة من صيف 2011، كنت أجلس في مضيف الجيران “آل جبّار”، في قريتنا، الكعبوري، بقضاء المشخاب التي تبعد 60 كيلو متراً إلى الجنوب من مدينة النجف، لكنّها تبعد أكثر عن الزمن الذي نحن فيه. 

من قرية مجاورة، جاء مبيدر متثاقلاً بسنينه السبعين، وكان يشكو من ألم في رجله، قاصداً الحكيم جبّار (جارنا الأكبر)، الذي قال له الناس إنّه يعالج آلام المفاصل وعلل أخرى.  

جلس مبيدر، وبعد الشاي، شرح حالته للحكيم جبّار، “يخويه رجليّه يوجعنّي من الرُكبة، خصوصاً بالليل من أنام”، وبينما يستمع إليه جبّار ويهزُ برأسه هزةَ خبير، أمر بإحضار الإبر، وهي مجموعة من إبر الخياطة متفاوتة الأحجام والأطوال، كان يضعها في حافظة نظارات قديمة.  

اختار جبّار أطول إبرة، 10 سم تقريباً، وأمرنا بإمساك مبيدر من أطرافه الأربعة، حتى لا يتحرك أثناء “الدگ”.  

العلاج بالدگ والجفت 

“الدگ” هو أحد أكثر أساليب طبّ العرب شيوعاً، تتضمن العملية استعمال إبرة ووخز المنطقة المصابة للمريض مراراً، حتى يظهر الدم، الذي يزعمون أنه دم فاسد لأنه قاتم اللون. بينما هو كذلك لأنه دم وريدي “غير مؤكسج”.  

مسكنا مبيدر بموافقته، إبراهيم حفيد الحكيم جبّار أمسك برجليه وأنا بقدميه، ثم شرع جبّار بتطريز رجل مبيدر المسكين الذي كان يتلوّى من الألم.  

ولأنَّه من المعيب أن يصرخ الرجال أو يبكون من الألم في تقاليدنا الاجتماعية، فإن مبيدر كان يتلوّى فقط تحت وخز الإبرة، التي قد تدخل لأكثر من 1 سم في ركبته، دون أن يصرخ أو يبكي.  

بعد نحو خمس دقائق انتهى جبّار من العملية، ونهض مبيدر وخرج قافلاً إلى قريته وهو يعرج، ليظلَّ هكذا حتى وفاته بعد نحو عشرة أعوام من تلك الظهيرة المشؤومة. فقط كان يقول كلّما رأى أحد من قريتنا، “صگّط رجلي جبّار”.  

لم يكن الحكيم جبار قد تلقّى أيّ تعليم سوى القراءة والكتابة على يد “الملّا” في شبابه، والملالي كانوا رجال دين ينتشرون في القرى والأرياف لمحو الأمية، أمّا كيف تحوّل جبّار إلى حكيم فهذا ما يُسمّى بالتجريب، أي التجريب على أجساد الناس وعلى مدى سنوات طويلة، اكتسب خلالها خبرةً ومهارة في التعامل مع الأوجاع التي يصفونها له، مستغلاً غياب الرعاية الصحية في الأرياف.. 

تخلّف القطاع الصحي في تلك المناطق، وغلاء الأدوية وتكاليف المراجعات الطبية، يجعل الناس يبحثون عن بدائل لتهدئة أوجاعهم، أمّا بالنسبة للقب الحكيم، فهو من أطلقه على نفسه، لقد كان جبّار يصنع الخلطات ويجرّبها على نفسه أولاً، وإن لم تكن مضرة فإنه يعتمدها لمراجعيه، بهذه البساطة الخطيرة.  

اقرأ أيضاً

“كأنّه مخزن”.. مرضى في “المستشفى الوحيد” بسنجار  

من تلك الخلطات مثلاً ما يزعم أنّه يعالج الحروق، حيث يخلط “الجفت” وهو بقايا الزيتون بعد عصره واستخراج الزيت منه، الذي يكون شديد المَرارة، ويخمره بماء المطر وأشياء أخرى لا أحد يعرفها ثمّ يضعها على الحروق، ولم نسمع بأن أحدهم قد شفي بفعل تلك الخلطات، بل على العكس، ذات مرة صنع قطرة عين لأحد إخوته، وعندما جرّبها فقد عينه إلى الأبد.  

شفاك على الله 

كان جبّار في كل مرّة يعطي فيها عقاراً لأحد يتبعه بالعبارة المعروفة شعبياً “هذا دواك وعلى الله شفاك”. أمّا أساليب التطبيب فقد ورثها عن أسلافه المهتمين بهذه الأمور أو اخترعها بنفسه، ومن أساليب التطبيب تلك؛ الحجامة والدگ والكوي وعلاج “السُرّة الطافرة” وعلاج الممتون والبواسير وغير ذلك.  

هذه الحال نفسها بالنسبة لبقيّة أطباء العرب، حيث يصنعون أدوية باجتهادات شخصية، مستعينين بالعطّار، الذي يوفر لهم المواد الأولية من الأعشاب والمستحضرات اللازمة لصناعة الأدوية.  

ابن جبّار الأكبر واسمه خليل، بينما كان في التاسعة من عمره عام 1982، كان قد ظهرت له بثرة كبيرة في وجهه قرب عينه، وتلك البثرة في العادة معروفة شعبياً بـ”المستجوية”، لأن الناس اعتادوا على معالجة تلك البثرة بالكي أو الحرق. والغريب أن الكي لا يستهدف البثرة مباشرة، بل يكون موضع الكي في مؤخرة الرقبة. ولكي يعالجوا خليل، قام مختص بعلاج “المستجوية” في قرية الكعبوري يدعى “رويعي” وبمساعدة عمّ خليل، بتسخين منجل حصاد حتى احمرّ ثمّ وضعاه على رقبة خليل، فازدادت حالة ذلك الطفل المسكين سوءاً، والعلّة صارت علّتين، بثرة كبيرة قرب عينه، وحروق في الرقبة. وظل هكذا لأكثر من أسبوع حتى أخذه جده إلى مستشفى اليرموك في بغداد.  

رقد خليل في المستشفى مدة شهر كامل، حتى شفي بمتابعة وعلاج الأطباء. أما لماذا لم يكوِ جبّار ابنه خليل فلأنه لا يجرؤ على إحراق ابنه بيده، لكنّه لم تكن عنده مشكلة من أن يُكوى بمنجل غيره من الحكماء.  

يروي الطبيب شامل جساب من أرياف المشخاب في النجف، عن تجربة عاشها عن كثب، عندما كان في السابعة من عمره، عام 2004، عندما وصلت الأخبار ليلاً بأن آل حجّي (أسرة من القرية) قد احترق منزلهم، ومن مجموع الخسائر، كان ابنهم “حسين” الذي تعرّض لحروق شديدة في أطرافه.  

عولج حسين، ومرّت الأيام، وأصبح شامل طبيباً، لكنّه في العام الماضي وبعد نحو عشرين عاماً من ذلك الحريق، اتصل به حسين، بوصفه صديقاً وطبيباً، ليخبره أنّه منذ سبعة أشهر يعاني من تقرّح في ساقه، وبدلاً من ذهابه إلى طبيب مختص أو إلى مستشفى، ذهب لأحد حكماء طبّ العرب، فوصف له علاجاً عشبياً، وطوال هذه المدة ازدادت حالته سوءاً، وتقرّحت ساقه أكثر.  

يقول الطبيب شامل، “مباشرة عرفت أنه مصاب بقرحة مارجولين، وهي نوع نادر من السرطانات الجلدية التي تتطور عادة في مواقع الجروح المزمنة أو الندوب القديمة، خاصة تلك الناتجة عن الحروق”.  

نصح شامل صديقه حسين بالإسراع في الدخول إلى المستشفى، وبالفعل دخلها لكنّه بعد بضعة أسابيع مات، حدث ذلك عام 2024. يعتقد شامل أنّه كان بالإمكان إنقاذه لو أنه راجع الطبيب عند ظهور هذا التقرّح واستئصاله قبل انتشاره.  

كان وما يزال الطب الشعبي أو التقليدي أو البديل، جزءاً من ثقافة كثير من المجتمعات البشرية، حيث يُمارَس في نحو 170 دولة حول العالم، وباتت بعض البلدان تعترف بالطب التقليدي، ودمجته في نُظُم الرعاية الصحية الخاصة بها، فبحسب منظمة الصحة العالمية يستخدم ما يقرب من نصف السكان في العديد من البلدان الصناعية الآن بعض أشكال الطب الشعبي والتكميلي بانتظام.  

اقرأ أيضاً

“دخلوا للعلاج فخرجوا مصابين”.. الكبد الفيروسي يعشعش في مستشفيات العراق

وتعرف منظمة الصحة العالمية، الطب الشعبي، أنّه مجموع المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات الأصلية للثقافات المختلفة، سواء كانت قابلة للتفسير أم لا، والمستخدمة في الحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية، أو تشخيصها، أو تحسينها، أو علاجها.    

لكن مشكلة الطب الشعبي العراقي تكمن في عدم اعتماده أساليب علمية تجريبية، خاضعة للاختبار المخبري والأبحاث، أو حتى أساليب آمنة، إنما هي ممارسات موروثة، منها ما هو مفيد ومنها ما هو ضار، وفي كل الأحوال لا يصلح الطب الشعبي ليكون بديلاً للطب الحديث، إنّما يمكن أن يؤدي أدواراً تكميلية.  

على سبيل المثال تقول جدتي رتبة، بأنّهم كانوا يستعملون “الدگ” لعلاج صداع الرأس وخفض ارتفاع ضغط الدم. وما تزال هذه الطريقة تستعمل حول العالم، وهناك دراسات طبية أثبتت جدوى هذه الطرق في تقليل الصداع، عدا الحالات الخطيرة، التي تتطلب تدخلاً طبياً، ولأنّ قريتنا تبعد نحو 40 كم عن أقرب مستشفى في محافظة النجف، ووسائل النقل بدائية؛ فإنّ من يمرّ بوعكة صحية خطيرة تتطلب تدخلاً طارئاً، يكون مصيره الموت غالباً، ما لم تسعفه بقيّة في العمر.  

يرى علي عبد المجيد علاوي، الأستاذ في كلية الطب بجامعة بغداد، أن طب العرب أو الطب البديل له تاريخ طويل ولا يمكن إهماله، خاصة لدوره في علاج المرضى قبل ظهور المستحضرات الدوائية. ومع ذلك، فإن غياب الرقابة وانتشار الدجل والخرافات جعلا استخدامه اليوم أكثر تعقيداً وخطورة.  

حتى العشابين قديماً كانت لهم جمعيات مجتمعية، وشهادات فخرية تُمنح من النقابات الطبية اعترافاً بأصالة عملهم واحترافهم في طب الأعشاب. أما الآن، فقد أصبح المريض والطبيب في حيرة بين تصديق التاريخ والنتائج الإيجابية في علاج الأمراض، وبين الخوف من تعريض المريض لخطر هذا النوع من العلاج بسبب كثرة الدجل والتداخلات فيه.  

لذلك، يجب وضع الأمر والقرار الطبي في ميزان الحكمة قبل إطلاق الأحكام، فبالنهاية تبقى صحة وسلامة وشفاء المريض هي الأولوية. 

الدكتور حسين المحنا، مدير المركز الصحي الرئيس في ناحية القادسية، ذكر في حوار معه أنّ مركزهم تصله بين الحين والآخر حالات لمضاعفات سلبية جراء استعمال طب العرب “لكنها قليلة”، من ثلاث إلى خمس حالات شهرياً، وتكون معظم الحالات لما يسمّى “الممتون” و”السُرّة الطافرة”، وعلاج الممتون يتم بطريقة قد تكون خطيرة، خاصة عندما يُطبّب بها الأطفال. فالطريقة تقوم على الضغط بقوة على منطقة قرب الترقوة، حتى يشعر المريض بالخدر في يده، ثم يقوم المعالج أو الحكيم بالإمساك بطرف اليد بإحكام، وشدها بسرعة وقوة للأعلى، حتى يُسمَع صوت طقطقة في الكتف، وإذا لم يسمع صوت الطقطقة تُعاد المحاولة.  

أما مستشفى الصدر في مدينة النجف، ومستشفى الحسينية في مدينة كربلاء، فلا تتوفر لديهم إحصاءات بعدد الحالات المرضية؛ لكون المستشفيات العراقية تُسجِّل الحالة فقط، دون ذكر الأسباب التي أدت إليها، وبالتالي لا سبيل للحصول على معلومات دقيقة عن ظاهرة الاستعمال الخاطئ لطب العرب، ولكن سألنا أطباء مقيمين أقدمين في المستشفيين (الصدر والحسينية)، وذكروا أنّهم يواجهون مثل هذه الحالات لمضاعفات سلبية جرّاء استعمال طب العرب، وغالبية ضحايا تلك الحالات كانوا حقول تجارب للكيّ بالنار والعطّابة، والسگوة للأطفال وغيرها.  

 يروي عابر عدنان، الطبيب والمقيم الأقدم في مستشفى الحسينية في كربلاء، أن أبرز الحالات التي تتكرر هي “چوي” الأطفال، لا سيما حديثي الولادة، فعادة يصاب أولئك الأطفال بيرقان الرضّع (أبو صفار) أو تيفوئيد. ففي حالة أبو صفار وهو مرض ناجم عن تراكم المادة الصفراء “البيليروبين” في الدم، يستخدم الكوي بالعطّابة لعلاج الطفل، والعطّابة هي قطعة قماش صغيرة، يشعلون فيها النار، ثم يضعونها على الجلد مباشرة حتى تنطفئ، وبالتالي سيزداد وضع المريض سوءاً، فيضطرون بالنهاية لنقله للمستشفى.  

حتى الأشخاص البالغون يستعملون العطّابة أو العُطْبَة للتداوي، تحديداً في آلام عرق النَّسا، وما يرسّخ هذا النوع من التداوي، أن بعض الأمراض مثل بعض أنواع التهابات الكبد الفيروسي يتعافى فيها المريض تلقائياً دون علاج، أو يستعملون العلاج الطبي والعطّابة في الوقت ذاته، ولذا فإن المريض يتصوّر أنه شُفي بواسطة علاج الحكيم، وبالتالي فإنه سينصح الآخرين بتلك الطريقة الخطيرة والضارة. 

بعض العادات العلاجية الشعبية تستخدم الحناء في علاج اليرقان، توضع الحنّاء على وجه وجسم الطفل، ظناً أنها تعالج المرض، ولكون الحنّاء تصبغ الجسم باللون الأحمر فهي تخفي لون الجسد المريض، وبالتالي قد يصل لمراحل خطيرة قد تودي بالحياة.  

هذه الممارسات بدأت تأخذ حيزاً في الفضاء الرقمي، وكثيرون هم من يعرضون خبراتهم العلاجية وممارساتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، مثل رائد السعيدي من الديوانية، وهو واحد من عشرات الذي يدّعون أنهم يمارسون الطب الشعبي لعلاج مختلف الأمراض. 

في إحدى الحالات التي نشرها السعيدي، زعم أنه عالج طفلاً من الهربس. وتعليقاً على ذلك المنشور، يقول الدكتور شامل جساب، “الهربس عبارة عن تقرحات وبثور تسببها عدوى فيروسية، في معظم الحالات، يمكن لجهاز المناعة عند الأطفال الأصحاء محاربة الفيروس وتخفيف الأعراض تلقائياً خلال أسبوع أو أسبوعين، دون الحاجة إلى علاج طبي محدد، لذا فالترويج لعلاجه الأطفال هي محض ادعاءات غير دقيقة”. 

طب أهلنا ينتشر لأنه البديل المتوّفر بسبب غياب الرعاية الصحية الحديثة، وتحديداً في القرى والأرياف والمناطق النائية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في ظهيرة من صيف 2011، كنت أجلس في مضيف الجيران “آل جبّار”، في قريتنا، الكعبوري، بقضاء المشخاب التي تبعد 60 كيلو متراً إلى الجنوب من مدينة النجف، لكنّها تبعد أكثر عن الزمن الذي نحن فيه. 

من قرية مجاورة، جاء مبيدر متثاقلاً بسنينه السبعين، وكان يشكو من ألم في رجله، قاصداً الحكيم جبّار (جارنا الأكبر)، الذي قال له الناس إنّه يعالج آلام المفاصل وعلل أخرى.  

جلس مبيدر، وبعد الشاي، شرح حالته للحكيم جبّار، “يخويه رجليّه يوجعنّي من الرُكبة، خصوصاً بالليل من أنام”، وبينما يستمع إليه جبّار ويهزُ برأسه هزةَ خبير، أمر بإحضار الإبر، وهي مجموعة من إبر الخياطة متفاوتة الأحجام والأطوال، كان يضعها في حافظة نظارات قديمة.  

اختار جبّار أطول إبرة، 10 سم تقريباً، وأمرنا بإمساك مبيدر من أطرافه الأربعة، حتى لا يتحرك أثناء “الدگ”.  

العلاج بالدگ والجفت 

“الدگ” هو أحد أكثر أساليب طبّ العرب شيوعاً، تتضمن العملية استعمال إبرة ووخز المنطقة المصابة للمريض مراراً، حتى يظهر الدم، الذي يزعمون أنه دم فاسد لأنه قاتم اللون. بينما هو كذلك لأنه دم وريدي “غير مؤكسج”.  

مسكنا مبيدر بموافقته، إبراهيم حفيد الحكيم جبّار أمسك برجليه وأنا بقدميه، ثم شرع جبّار بتطريز رجل مبيدر المسكين الذي كان يتلوّى من الألم.  

ولأنَّه من المعيب أن يصرخ الرجال أو يبكون من الألم في تقاليدنا الاجتماعية، فإن مبيدر كان يتلوّى فقط تحت وخز الإبرة، التي قد تدخل لأكثر من 1 سم في ركبته، دون أن يصرخ أو يبكي.  

بعد نحو خمس دقائق انتهى جبّار من العملية، ونهض مبيدر وخرج قافلاً إلى قريته وهو يعرج، ليظلَّ هكذا حتى وفاته بعد نحو عشرة أعوام من تلك الظهيرة المشؤومة. فقط كان يقول كلّما رأى أحد من قريتنا، “صگّط رجلي جبّار”.  

لم يكن الحكيم جبار قد تلقّى أيّ تعليم سوى القراءة والكتابة على يد “الملّا” في شبابه، والملالي كانوا رجال دين ينتشرون في القرى والأرياف لمحو الأمية، أمّا كيف تحوّل جبّار إلى حكيم فهذا ما يُسمّى بالتجريب، أي التجريب على أجساد الناس وعلى مدى سنوات طويلة، اكتسب خلالها خبرةً ومهارة في التعامل مع الأوجاع التي يصفونها له، مستغلاً غياب الرعاية الصحية في الأرياف.. 

تخلّف القطاع الصحي في تلك المناطق، وغلاء الأدوية وتكاليف المراجعات الطبية، يجعل الناس يبحثون عن بدائل لتهدئة أوجاعهم، أمّا بالنسبة للقب الحكيم، فهو من أطلقه على نفسه، لقد كان جبّار يصنع الخلطات ويجرّبها على نفسه أولاً، وإن لم تكن مضرة فإنه يعتمدها لمراجعيه، بهذه البساطة الخطيرة.  

اقرأ أيضاً

“كأنّه مخزن”.. مرضى في “المستشفى الوحيد” بسنجار  

من تلك الخلطات مثلاً ما يزعم أنّه يعالج الحروق، حيث يخلط “الجفت” وهو بقايا الزيتون بعد عصره واستخراج الزيت منه، الذي يكون شديد المَرارة، ويخمره بماء المطر وأشياء أخرى لا أحد يعرفها ثمّ يضعها على الحروق، ولم نسمع بأن أحدهم قد شفي بفعل تلك الخلطات، بل على العكس، ذات مرة صنع قطرة عين لأحد إخوته، وعندما جرّبها فقد عينه إلى الأبد.  

شفاك على الله 

كان جبّار في كل مرّة يعطي فيها عقاراً لأحد يتبعه بالعبارة المعروفة شعبياً “هذا دواك وعلى الله شفاك”. أمّا أساليب التطبيب فقد ورثها عن أسلافه المهتمين بهذه الأمور أو اخترعها بنفسه، ومن أساليب التطبيب تلك؛ الحجامة والدگ والكوي وعلاج “السُرّة الطافرة” وعلاج الممتون والبواسير وغير ذلك.  

هذه الحال نفسها بالنسبة لبقيّة أطباء العرب، حيث يصنعون أدوية باجتهادات شخصية، مستعينين بالعطّار، الذي يوفر لهم المواد الأولية من الأعشاب والمستحضرات اللازمة لصناعة الأدوية.  

ابن جبّار الأكبر واسمه خليل، بينما كان في التاسعة من عمره عام 1982، كان قد ظهرت له بثرة كبيرة في وجهه قرب عينه، وتلك البثرة في العادة معروفة شعبياً بـ”المستجوية”، لأن الناس اعتادوا على معالجة تلك البثرة بالكي أو الحرق. والغريب أن الكي لا يستهدف البثرة مباشرة، بل يكون موضع الكي في مؤخرة الرقبة. ولكي يعالجوا خليل، قام مختص بعلاج “المستجوية” في قرية الكعبوري يدعى “رويعي” وبمساعدة عمّ خليل، بتسخين منجل حصاد حتى احمرّ ثمّ وضعاه على رقبة خليل، فازدادت حالة ذلك الطفل المسكين سوءاً، والعلّة صارت علّتين، بثرة كبيرة قرب عينه، وحروق في الرقبة. وظل هكذا لأكثر من أسبوع حتى أخذه جده إلى مستشفى اليرموك في بغداد.  

رقد خليل في المستشفى مدة شهر كامل، حتى شفي بمتابعة وعلاج الأطباء. أما لماذا لم يكوِ جبّار ابنه خليل فلأنه لا يجرؤ على إحراق ابنه بيده، لكنّه لم تكن عنده مشكلة من أن يُكوى بمنجل غيره من الحكماء.  

يروي الطبيب شامل جساب من أرياف المشخاب في النجف، عن تجربة عاشها عن كثب، عندما كان في السابعة من عمره، عام 2004، عندما وصلت الأخبار ليلاً بأن آل حجّي (أسرة من القرية) قد احترق منزلهم، ومن مجموع الخسائر، كان ابنهم “حسين” الذي تعرّض لحروق شديدة في أطرافه.  

عولج حسين، ومرّت الأيام، وأصبح شامل طبيباً، لكنّه في العام الماضي وبعد نحو عشرين عاماً من ذلك الحريق، اتصل به حسين، بوصفه صديقاً وطبيباً، ليخبره أنّه منذ سبعة أشهر يعاني من تقرّح في ساقه، وبدلاً من ذهابه إلى طبيب مختص أو إلى مستشفى، ذهب لأحد حكماء طبّ العرب، فوصف له علاجاً عشبياً، وطوال هذه المدة ازدادت حالته سوءاً، وتقرّحت ساقه أكثر.  

يقول الطبيب شامل، “مباشرة عرفت أنه مصاب بقرحة مارجولين، وهي نوع نادر من السرطانات الجلدية التي تتطور عادة في مواقع الجروح المزمنة أو الندوب القديمة، خاصة تلك الناتجة عن الحروق”.  

نصح شامل صديقه حسين بالإسراع في الدخول إلى المستشفى، وبالفعل دخلها لكنّه بعد بضعة أسابيع مات، حدث ذلك عام 2024. يعتقد شامل أنّه كان بالإمكان إنقاذه لو أنه راجع الطبيب عند ظهور هذا التقرّح واستئصاله قبل انتشاره.  

كان وما يزال الطب الشعبي أو التقليدي أو البديل، جزءاً من ثقافة كثير من المجتمعات البشرية، حيث يُمارَس في نحو 170 دولة حول العالم، وباتت بعض البلدان تعترف بالطب التقليدي، ودمجته في نُظُم الرعاية الصحية الخاصة بها، فبحسب منظمة الصحة العالمية يستخدم ما يقرب من نصف السكان في العديد من البلدان الصناعية الآن بعض أشكال الطب الشعبي والتكميلي بانتظام.  

اقرأ أيضاً

“دخلوا للعلاج فخرجوا مصابين”.. الكبد الفيروسي يعشعش في مستشفيات العراق

وتعرف منظمة الصحة العالمية، الطب الشعبي، أنّه مجموع المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات الأصلية للثقافات المختلفة، سواء كانت قابلة للتفسير أم لا، والمستخدمة في الحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية، أو تشخيصها، أو تحسينها، أو علاجها.    

لكن مشكلة الطب الشعبي العراقي تكمن في عدم اعتماده أساليب علمية تجريبية، خاضعة للاختبار المخبري والأبحاث، أو حتى أساليب آمنة، إنما هي ممارسات موروثة، منها ما هو مفيد ومنها ما هو ضار، وفي كل الأحوال لا يصلح الطب الشعبي ليكون بديلاً للطب الحديث، إنّما يمكن أن يؤدي أدواراً تكميلية.  

على سبيل المثال تقول جدتي رتبة، بأنّهم كانوا يستعملون “الدگ” لعلاج صداع الرأس وخفض ارتفاع ضغط الدم. وما تزال هذه الطريقة تستعمل حول العالم، وهناك دراسات طبية أثبتت جدوى هذه الطرق في تقليل الصداع، عدا الحالات الخطيرة، التي تتطلب تدخلاً طبياً، ولأنّ قريتنا تبعد نحو 40 كم عن أقرب مستشفى في محافظة النجف، ووسائل النقل بدائية؛ فإنّ من يمرّ بوعكة صحية خطيرة تتطلب تدخلاً طارئاً، يكون مصيره الموت غالباً، ما لم تسعفه بقيّة في العمر.  

يرى علي عبد المجيد علاوي، الأستاذ في كلية الطب بجامعة بغداد، أن طب العرب أو الطب البديل له تاريخ طويل ولا يمكن إهماله، خاصة لدوره في علاج المرضى قبل ظهور المستحضرات الدوائية. ومع ذلك، فإن غياب الرقابة وانتشار الدجل والخرافات جعلا استخدامه اليوم أكثر تعقيداً وخطورة.  

حتى العشابين قديماً كانت لهم جمعيات مجتمعية، وشهادات فخرية تُمنح من النقابات الطبية اعترافاً بأصالة عملهم واحترافهم في طب الأعشاب. أما الآن، فقد أصبح المريض والطبيب في حيرة بين تصديق التاريخ والنتائج الإيجابية في علاج الأمراض، وبين الخوف من تعريض المريض لخطر هذا النوع من العلاج بسبب كثرة الدجل والتداخلات فيه.  

لذلك، يجب وضع الأمر والقرار الطبي في ميزان الحكمة قبل إطلاق الأحكام، فبالنهاية تبقى صحة وسلامة وشفاء المريض هي الأولوية. 

الدكتور حسين المحنا، مدير المركز الصحي الرئيس في ناحية القادسية، ذكر في حوار معه أنّ مركزهم تصله بين الحين والآخر حالات لمضاعفات سلبية جراء استعمال طب العرب “لكنها قليلة”، من ثلاث إلى خمس حالات شهرياً، وتكون معظم الحالات لما يسمّى “الممتون” و”السُرّة الطافرة”، وعلاج الممتون يتم بطريقة قد تكون خطيرة، خاصة عندما يُطبّب بها الأطفال. فالطريقة تقوم على الضغط بقوة على منطقة قرب الترقوة، حتى يشعر المريض بالخدر في يده، ثم يقوم المعالج أو الحكيم بالإمساك بطرف اليد بإحكام، وشدها بسرعة وقوة للأعلى، حتى يُسمَع صوت طقطقة في الكتف، وإذا لم يسمع صوت الطقطقة تُعاد المحاولة.  

أما مستشفى الصدر في مدينة النجف، ومستشفى الحسينية في مدينة كربلاء، فلا تتوفر لديهم إحصاءات بعدد الحالات المرضية؛ لكون المستشفيات العراقية تُسجِّل الحالة فقط، دون ذكر الأسباب التي أدت إليها، وبالتالي لا سبيل للحصول على معلومات دقيقة عن ظاهرة الاستعمال الخاطئ لطب العرب، ولكن سألنا أطباء مقيمين أقدمين في المستشفيين (الصدر والحسينية)، وذكروا أنّهم يواجهون مثل هذه الحالات لمضاعفات سلبية جرّاء استعمال طب العرب، وغالبية ضحايا تلك الحالات كانوا حقول تجارب للكيّ بالنار والعطّابة، والسگوة للأطفال وغيرها.  

 يروي عابر عدنان، الطبيب والمقيم الأقدم في مستشفى الحسينية في كربلاء، أن أبرز الحالات التي تتكرر هي “چوي” الأطفال، لا سيما حديثي الولادة، فعادة يصاب أولئك الأطفال بيرقان الرضّع (أبو صفار) أو تيفوئيد. ففي حالة أبو صفار وهو مرض ناجم عن تراكم المادة الصفراء “البيليروبين” في الدم، يستخدم الكوي بالعطّابة لعلاج الطفل، والعطّابة هي قطعة قماش صغيرة، يشعلون فيها النار، ثم يضعونها على الجلد مباشرة حتى تنطفئ، وبالتالي سيزداد وضع المريض سوءاً، فيضطرون بالنهاية لنقله للمستشفى.  

حتى الأشخاص البالغون يستعملون العطّابة أو العُطْبَة للتداوي، تحديداً في آلام عرق النَّسا، وما يرسّخ هذا النوع من التداوي، أن بعض الأمراض مثل بعض أنواع التهابات الكبد الفيروسي يتعافى فيها المريض تلقائياً دون علاج، أو يستعملون العلاج الطبي والعطّابة في الوقت ذاته، ولذا فإن المريض يتصوّر أنه شُفي بواسطة علاج الحكيم، وبالتالي فإنه سينصح الآخرين بتلك الطريقة الخطيرة والضارة. 

بعض العادات العلاجية الشعبية تستخدم الحناء في علاج اليرقان، توضع الحنّاء على وجه وجسم الطفل، ظناً أنها تعالج المرض، ولكون الحنّاء تصبغ الجسم باللون الأحمر فهي تخفي لون الجسد المريض، وبالتالي قد يصل لمراحل خطيرة قد تودي بالحياة.  

هذه الممارسات بدأت تأخذ حيزاً في الفضاء الرقمي، وكثيرون هم من يعرضون خبراتهم العلاجية وممارساتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، مثل رائد السعيدي من الديوانية، وهو واحد من عشرات الذي يدّعون أنهم يمارسون الطب الشعبي لعلاج مختلف الأمراض. 

في إحدى الحالات التي نشرها السعيدي، زعم أنه عالج طفلاً من الهربس. وتعليقاً على ذلك المنشور، يقول الدكتور شامل جساب، “الهربس عبارة عن تقرحات وبثور تسببها عدوى فيروسية، في معظم الحالات، يمكن لجهاز المناعة عند الأطفال الأصحاء محاربة الفيروس وتخفيف الأعراض تلقائياً خلال أسبوع أو أسبوعين، دون الحاجة إلى علاج طبي محدد، لذا فالترويج لعلاجه الأطفال هي محض ادعاءات غير دقيقة”. 

طب أهلنا ينتشر لأنه البديل المتوّفر بسبب غياب الرعاية الصحية الحديثة، وتحديداً في القرى والأرياف والمناطق النائية.