أين تذهب ذكرياتنا بعد أن يقطعوا الأشجار؟
20 آذار 2025
الأشجار التي تقتل كل يوم، تصبح خسارتها أكبر من مجرد أضرار بيئية.. إنها خسارة لجزء من حياتنا وذاكرتنا.. أربعة أشخاص يشاركوننا معنى أن نفقد شجرة.
ماذا يعني أن نفقد شجرة كانت جزءاً من يومنا؟ ماذا يحدث عندما يختفي ذلك الظل الذي كان يخفف عنا حرّ الصيف؟ أو تلك الأغصان التي شهدت حكاياتنا وأسرارنا؟
في هذا النص، يخبرنا أربعة أشخاص عن الأشجار المقتولة، وهي بالنسبة لهم أكثر من مجرد أغصان وأوراق، بل جزء من حيواتهم وأحلامهم، ومع رحيلها لا يبقى سوى الذكريات التي لا تموت، على هيئة صورة أو ورقة مجففة في دفتر.

هذه أول مرة أفهم فيها معنى أن تفقد شجرة، أن تشعر بأن ابنتك، ابنك، حبيبتك، أو صديقتك… قد تكون شجرة.
“بنفسج ” كما أسميتها، أو “كف مريم” كما يسميها معظم الناس، عندما اشتريتها من المشتل لم تكن أكثر من غصن صغير، بالكاد يبلغ المتر، فاخترت لها مكاناً مناسباً في حديقتنا الصغيرة. زرعها أخي، وتولّيتُ رعايتها، أراقبها تكبر يوماً بعد يوم، وأقصى أمنياتي أن تزهر يوماً ما، أن أرى أزهارها البنفسجية التي كنت أتشوّق إليها.
كبرت بنفسج، صارت الشجرة الأكبر في حديقتنا، بأغصانها الوارفة التي تظلل مرآة الحمام الخارجي، وتحمينا من شمس الصيف الحارقة.
كبرت بنفسج ولم تُزهر. كنت أحاورها يومياً بعبارة، “يمته يصير بيج ورد؟ كل شجرات الشارع طلعن ورد وانتي لا”، وأختم عتبي، “عفيه طلعي وردات”، مع قُبلة على أوراقها الخضراء.
وهكذا حتى أتى ذلك اليوم الذي عرفت فيه معنى وشعور أن نقول عن يوم ما؛ إنه “يوم عصيب”.
عدتُ إلى المنزل بمشاعر تثقلني ومزاج مكدّر. وفجأة، لمحت عيناي ما لم أكن أتوقعه..
زهرة بنفسجية صغيرة تفتّحت على أحد أغصانها.

أحد أغصان بنفسج، تصوير: الكاتبة.
لحظتها، شعرتُ أن تعبي ورقة صفراء سقطت، لقد أزهرت بالوقت المناسب لمواساة قلبي. وكأنها اختارت أن تزهر في اللحظة التي كنتُ بحاجة فيها إلى عزاء، وكأنها أرادت أن تخبرني بأنها كانت تنصت إليّ طيلة الوقت.
ويوماً تلو الآخر، صارت تُزهر أكثر فأكثر. وقلبي يبتهج أكثر مع كل زهرة جديدة.
قبل يوم واحد من اقتلاعها، كنت جالسة أمام بنفسج، أتأملها بصمت. وفجأة، تملّكني صوت داخلي غريب “روحي شبگيها”، فسمعتُ نداء قلبي.
غرست أقدامي في الطين وعانقتها بقوة، ثم رحت أتأملها مندهشة لجمالها وسعتها ولونها ودفئها، مغمورة بشعور الامتنان لوجودها ولكل مشاعر السعادة التي منحتها لي.
وددتُ لو أني استطعتُ تصوير المشهد بمشاعره الدافئة والاحتفاظ به إلى الأبد، فلم أكن أعلم أن هذا العناق سيكون الأخير بيننا.
عندما عدت في اليوم التالي من العمل، كالعادة بحثت بعينيّ عن أغصانها الخضراء الممتدة فوق باب المنزل، حيث كان هذا المنظر بمثابة يد دافئة تمسح عن قلبي تعب اليوم كله، فأظلّ أبتسم وأتابع تمايلها مع النسائم. وكالأمهات، أتبعُ حركاتها بعينيّ بصلوات امتنان لوجودها ومنظرها المبهج.
لكن نظرة ذلك اليوم تبعها فراغ، فراغ مخيف، لم أجدها.. ولا أغصانها، وحين دخلت لحديقة المنزل وجدت فراغاً كبيراً صرخت لحظتها، ” شلعتوها! شلعتو شجرتي؟”.
شعرت بوحشة كبيرة تملأ قلبي، بحزنٍ جعلني أبكي كالأطفال حين يفقدون شيئاً عزيزاً لديهم ولا حيلة سوى البكاء.
فقدت شجرتي، بأغصانها وزهورها وظلها ومنظرها، وكلّ ما كانت تمثّله من حياة في حديقتنا الصغيرة.
مر أكثر من شهرين على اقتلاعها وما أزال أفتقدها. أفتقد تقبيل أوراقها، وعناقي لأغصانها، وتأمّلها والحديث معها.
كلما رأيت الفراغ الذي تركته، أردد “كدرت تكون شي چبير أكبر من كونها أغصان وأوراق وجذور.. تگدر تاخذ حيّز چبير بقلبك وتحس لما تفقدها كأنك فاقد رفيق عزيز على قلبك”.
ذهبت بنفسج ولم يتبقَّ منها سوى بعض الصور، وزهرة مجففة في دفتر مذكراتي، وهذا النص الذي سيجعلها خالدة بذاكرتي وربما ذاكرة آخرين لم يعرفوها.

تدوينة عن بنفسج مع بعض أزهارها، تصوير: الكاتبة.

لطالما شعرت أنني تخلّصت من إحدى ذكريات الطفولة، لكن فجأة عدت ذاك الطفل الصغير الذي بكى سرّاً لأجل شجرة. ولا أعلم أيهما أحزنني أكثر، عودة الذكريات أم رحيل الشجرة؟
في إحدى زوايا الحديقة الخلفية في الكليّة التي أدرس بها، فوق مكان يغمره اللون الأخضر لوفرة الأشجار، تقفُ شجرة كبيرة تنفرد عن سائر الأشجار بظلالها الرَحِيبة التي كانت ملاذاً للعديد من الطلاب والطالبات من حرّ الصيف، وبطريقة عجيبة كانت كلّ الطرق تودي إليها، كأنها القلب الخفيّ لهذا المكان.
وعلى مدار ثلاث سنوات من حياتي الجامعية، كانت ملاذنا سواء بجانبها أو تحت ظلها. وخلال أيام الربيع المعدودة، وفرت لنا مساحة لتبادل النقاشات والضحكات. ومنحت للعشاق ملتقى آمناً لا تصله أعين الرقابة.
صلة المحبة بيني وبين الشجرة، تكوّنت لأنها شجرة طبق الأصل عن أخرى كنت أجلس وألعبُ بجانبها في منزل الطفولة القديم. أتذكرُ أنني كنتُ أسقيها بحبّ، وألعب تحت ظلّها، وأشعر أن العالم لا يمكن أن يكون مكاناً سيئاً طالما أن الأشجار ما تزال تنمو فيه، وغالباً حينما أسترجع صور الطفولة في ذاكرتي، أكون بقربها.
لكن في واحد من أيام الخريف، ذُبحت وأخواتها من قبل أعمامي، عندما سألت عن السبب، ردوا بلا ندم أو شعور بالخطأ؛ بأنها لا تحمل أي فائدة للحديقة والمنزل سوى تساقط الأوراق التي تسبب الكثير من النفايات في الحديقة.
رغم صغر سني، شعرتُ بشيء خاطئ تجاه فعلهم، ولكن لم أجد له تفسيراً آنذاك. وبعد تلك الحادثة، كان مشهداً محزناً أن أرى تلك الحديقة، بجارها وعشبها وبابها، خالية من رفاقها الأشجار.
لم أتخيل أن شجرتي الوارفة في الجامعة سيطولها المصير ذاته، تصوراً مني، أن “القائمين عليها” لم ولن يسمحوا بذبح شجرة عمرها عشرات السنوات.
ولكن خلال سنتي الجامعية الثالثة، وفي طريقي باتجاه تلك الشجرة المعمّرة صديقة الجميع، وجدت المكان الذي كان يضجُّ بالحياة، صحراء صامتة، كأن اللون الأخضر مُحي من لوحة الذاكرة، وقطع الظلّ من تحتنا وتركنا تحت شمس لا ترحم.

جذع الشجرة بعد القطع، تصوير: الكاتب.
سألتُ زميلتي عن سبب ذبح شجرة ساكنة، تعطي أكثر مما تأخذ، “اللي كص الأشجار برر أن الشمس ما تدخل للحديقة وما ينمو الحشيش لذلك كصيناها”.
أما بعض من الزملاء فردّوا بنبرة ساخرة، “يمكن ميردون الأصدقاء يكعدون والعشاق بذاك المكان”.
بدت تلك التبريرات واهية سخيفة، بالنسبة إلي.
كيف يمكن لإنسان أن يقرر، بكل بساطة، أن يقطع شجرة؟ هل فكّر للحظة في الذكريات التي اقتلعها معها؟ في الأحاديث التي لم تكتمل تحتها، أو على الأقل، في الكارثة البيئية التي تسبب بها؟
ما يحزنني ليس فقط موت تلك الشجرة، بل موت كل الأشجار التي تُقتل بصمت، دون أن يدافع عنها أحد، لتجنّب المشاكل. لذا صرنا نعتاد الفقدان ولا نعترض، أن نقبل غياب الأشياء الجميلة دون أن نحاول إنقاذها.
وهكذا، ماتت شجرتي، كما ماتت شجرة طفولتي من قبل. وكأن قدري أن أودّع الأشجار التي أحبها، واحدةً بعد الأخرى، بصمت.

في المرحلة الإعدادية تولعتُ بقراءةِ الأدب العراقي، وبينما كنت أتجول في مكتبة المدرسة، انجذبت لرواية “وحدها شجرة الرمان” أثار العنوان، ومن ثمّ الغلاف، فضولي.
وبينما كنت أتبادل الأحاديث الأدبية مع صديقاتي وقريبتي التي تشاركني الاهتمامات نفسها، ذكرت اسم الكتاب الذي شدّني عنوانه، لأفاجئ بعد أيام بقريبتي تهديني إياه.
فرحتُ من قلبي للهدية، وأغرمت بالرواية بعد قراءتها وانبهرتُ بالقصة، حتى أنها أصبحت موضوعي الشاغل، ورحتُ أحدّثُ كلَّ بنات مدرستي عنها حتى أنني صنعتُ وصديقتي المقرّبة جدارية من المخطوطاتِ على شباك صفي المدرسي، واحد منها يشمل اسم رواية، “وحدها شجرة الرمان”، وأخذتُ رمانة صغيرة من حديقة المدرسة وجففتها وألصقتها عليها.

جدارية على شباك الصف، تصوير: الكاتبة.
صرتُ أنتبه لكل أشجار الرمان حولي، بل لكل الأشجار. وأشعر أن كل شجرة رمان هي حبيبتي، كلهن من المدرسة والشارع والبساتين، وشعرت أنهن يعرفن قدر حبي لهن، ولتأثري بالرواية، شعرت دوماً أن حُزناً عميقاً يسكن أي شجرة رمان، و لكل شجرة رمان حكاية حزينة كامنة، كما في الرواية، وتلك الحكايات تناديني لأتعرف عليها.
لسنوات لم أنتبه للرمانة في بيتِ جدتي، إلا بعد الرواية. فصارت أقربهنّ لقلبي، كانت متوسطة العمرِ مثلي، تقطنُ في زاوية الحديقة أو “اللاحة” كما نسميها في الموصل وصار هذا مكان جلوسي المفضل مع قريبتي.
في تلكَ الفترة لم تكن لدينا التزامات كثيرة تكبّلنا، معظم وقتنا نمضيه في الزيارات أو المبيت عند جدتي، وهذا ما زادني تعلّقاً بها.
صارت العادة مع زيارة كل خميس أو جمعة، أن أطمئن عليها، وأتناول تحت فيئها “الريوك” بصحبة جدتي أو “العصرونية”، ونحنُ نتحدثُ عن همومنا البريئة التي لا أكادُ أذكرُ شيئاً منها الآن.
كانت واحدة منا، تسمع قصصنا وأسرارنا، وتصغي بكلّ حب لنا وتحفظ ما تسمع، وتكرمنا بحبات رمان لذيذة.
وفي إحدى الزيارات، تفاجأت أنَّ عمي قد قطعها لأن ورقها أصبحَ يتناثرُ في كلِّ مكان وأصبحت تزعجهم.
حزنتُ حينها أشدّ الحزن، وعاتبت جدتي التي كانت تعلم أنني أحبها، فوعدتني أن تزرع لي شجرة رمانٍ أخرى.
وبقيَ الفراغُ الذي تركتهُ شجرة الرمانِ حينها يفطِرُ قلبي وكأنهُ شرخٌ أختبأت فيه، فقَد كنتُ آنذاك في أوجِّ مشاعري التي كانت تظهر عند أي موقف.
بعد فترة، نبتَ غصنٌ لها من المكان الذي قطعوها منه، لكنه لم يكبر ليكون مثلها أبداً، ولم تَعُد كما حينما كبرت، ولم نجنِ منها أي ثمار بعد تلك الحادثة… وبقيت “وحدها شجرة الرمان”.

لم يكن فقداني للبصر يعني فقط عتمة تحيط بعالمي، بل كان يعني أيضاً انقطاع صلتي بأشياء كنت أظنّها ثابتة، لا يغيرها الزمن. واحدة من هذه الأشياء كانت شجرة الكالبتوس في حديقة منزلنا، تلك التي شهدت زراعتها حين كنت طفلاً. ومتابعة نموها، كان جزءاً من أيامي كطفل بـ “تك عين”.
اعتدتُ أن أضع سلّماً معدنياً مثلث الشكل أمامها، وأتسلق لأجلس عند أول تفرّع للجذع، بينما كان ابن عمي، وهو أكثر جرأة مني، يتسلّق إلى الأعلى، يتنقّل بين الأغصان بسهولة لم أمتلكها يوماً. لم يكن الأمر متعلقاً فقط بالخوف، بل بحقيقة أن بصري كان ضعيفاً حتى في أفضل حالاته، وهو ما جعلني أكثر حذراً في كل ما أفعل.
لكن حتى هذه المغامرات البسيطة توقفت تماماً عندما بدأ بصري يخذلني أكثر، إلى أن فقدته كلياً مع بداية العقد الثاني من عمري.
اليوم، أعلم أن الشجرة صارت أطول بكثير. لم أعد أعرف لون أوراقها، ولا شكل أغصانها وهي تمتد نحو السماء، لكنني ما أزال أسمعها، أميّز صوت احتكاك الأوراق حين تمرّ بينها الريح، وأصغي إلى خشخشة الأوراق الجافة تحت قدمي حين أتمشى في الحديقة.
أحاول أن أتصورها في رأسي، أن أرسم ملامحها كما تخيلتها وهي تكبر. هل صار جذعها أكثر سماكة؟ هل تشابكت أغصانها حتى أصبحت مثل سقف أخضر لا يخترقه الضوء؟ هل بقيت أوراقها بلونها الذي كنت أعرفه، أم أن الزمن غيّرها كما غيّر كل شيء؟ لا أحد يخبرني بتفاصيلها، وربما لا أريد أن يخبرني أحد. أفضّل أن أتركها كما هي في ذاكرتي، متجمّدة عند لحظة رؤيتي الأخيرة لها، أو ربما حرة لتكبر بالطريقة التي أختارها في خيالي.
ما أفتقده ليس الألوان فقط، وليس مجرد القدرة على رؤيتها، بل علاقتي بها كما كانت. أفتقد ملمس لحائها تحت أصابعي، وشعور الجلوس على أحد أغصانها، والاستناد إلى جذعها وأنا أستمع إلى العالم من حولي. أفتقد أن أراها تكبر معي، وأن أكون شاهداً على تغيرها مثلما كانت شاهدة على طفولتي.
لم أفقد رؤيتي لهذه الشجرة وحدها، بل لكل الأشجار، في الشوارع، وفي الصور، وخلف ظهور الأصدقاء الذين لم أعد أعرف ملامحهم. وحدها الأشجار في الكتب الصوتية ما تزال ممكنة، أراها في خيالي، أشكّلها من الكلمات، وألوّنها بوصف الكاتب، وأمنحها حياة لا تحتاج بصراً كي تُرى.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
ماذا يعني أن نفقد شجرة كانت جزءاً من يومنا؟ ماذا يحدث عندما يختفي ذلك الظل الذي كان يخفف عنا حرّ الصيف؟ أو تلك الأغصان التي شهدت حكاياتنا وأسرارنا؟
في هذا النص، يخبرنا أربعة أشخاص عن الأشجار المقتولة، وهي بالنسبة لهم أكثر من مجرد أغصان وأوراق، بل جزء من حيواتهم وأحلامهم، ومع رحيلها لا يبقى سوى الذكريات التي لا تموت، على هيئة صورة أو ورقة مجففة في دفتر.

هذه أول مرة أفهم فيها معنى أن تفقد شجرة، أن تشعر بأن ابنتك، ابنك، حبيبتك، أو صديقتك… قد تكون شجرة.
“بنفسج ” كما أسميتها، أو “كف مريم” كما يسميها معظم الناس، عندما اشتريتها من المشتل لم تكن أكثر من غصن صغير، بالكاد يبلغ المتر، فاخترت لها مكاناً مناسباً في حديقتنا الصغيرة. زرعها أخي، وتولّيتُ رعايتها، أراقبها تكبر يوماً بعد يوم، وأقصى أمنياتي أن تزهر يوماً ما، أن أرى أزهارها البنفسجية التي كنت أتشوّق إليها.
كبرت بنفسج، صارت الشجرة الأكبر في حديقتنا، بأغصانها الوارفة التي تظلل مرآة الحمام الخارجي، وتحمينا من شمس الصيف الحارقة.
كبرت بنفسج ولم تُزهر. كنت أحاورها يومياً بعبارة، “يمته يصير بيج ورد؟ كل شجرات الشارع طلعن ورد وانتي لا”، وأختم عتبي، “عفيه طلعي وردات”، مع قُبلة على أوراقها الخضراء.
وهكذا حتى أتى ذلك اليوم الذي عرفت فيه معنى وشعور أن نقول عن يوم ما؛ إنه “يوم عصيب”.
عدتُ إلى المنزل بمشاعر تثقلني ومزاج مكدّر. وفجأة، لمحت عيناي ما لم أكن أتوقعه..
زهرة بنفسجية صغيرة تفتّحت على أحد أغصانها.

أحد أغصان بنفسج، تصوير: الكاتبة.
لحظتها، شعرتُ أن تعبي ورقة صفراء سقطت، لقد أزهرت بالوقت المناسب لمواساة قلبي. وكأنها اختارت أن تزهر في اللحظة التي كنتُ بحاجة فيها إلى عزاء، وكأنها أرادت أن تخبرني بأنها كانت تنصت إليّ طيلة الوقت.
ويوماً تلو الآخر، صارت تُزهر أكثر فأكثر. وقلبي يبتهج أكثر مع كل زهرة جديدة.
قبل يوم واحد من اقتلاعها، كنت جالسة أمام بنفسج، أتأملها بصمت. وفجأة، تملّكني صوت داخلي غريب “روحي شبگيها”، فسمعتُ نداء قلبي.
غرست أقدامي في الطين وعانقتها بقوة، ثم رحت أتأملها مندهشة لجمالها وسعتها ولونها ودفئها، مغمورة بشعور الامتنان لوجودها ولكل مشاعر السعادة التي منحتها لي.
وددتُ لو أني استطعتُ تصوير المشهد بمشاعره الدافئة والاحتفاظ به إلى الأبد، فلم أكن أعلم أن هذا العناق سيكون الأخير بيننا.
عندما عدت في اليوم التالي من العمل، كالعادة بحثت بعينيّ عن أغصانها الخضراء الممتدة فوق باب المنزل، حيث كان هذا المنظر بمثابة يد دافئة تمسح عن قلبي تعب اليوم كله، فأظلّ أبتسم وأتابع تمايلها مع النسائم. وكالأمهات، أتبعُ حركاتها بعينيّ بصلوات امتنان لوجودها ومنظرها المبهج.
لكن نظرة ذلك اليوم تبعها فراغ، فراغ مخيف، لم أجدها.. ولا أغصانها، وحين دخلت لحديقة المنزل وجدت فراغاً كبيراً صرخت لحظتها، ” شلعتوها! شلعتو شجرتي؟”.
شعرت بوحشة كبيرة تملأ قلبي، بحزنٍ جعلني أبكي كالأطفال حين يفقدون شيئاً عزيزاً لديهم ولا حيلة سوى البكاء.
فقدت شجرتي، بأغصانها وزهورها وظلها ومنظرها، وكلّ ما كانت تمثّله من حياة في حديقتنا الصغيرة.
مر أكثر من شهرين على اقتلاعها وما أزال أفتقدها. أفتقد تقبيل أوراقها، وعناقي لأغصانها، وتأمّلها والحديث معها.
كلما رأيت الفراغ الذي تركته، أردد “كدرت تكون شي چبير أكبر من كونها أغصان وأوراق وجذور.. تگدر تاخذ حيّز چبير بقلبك وتحس لما تفقدها كأنك فاقد رفيق عزيز على قلبك”.
ذهبت بنفسج ولم يتبقَّ منها سوى بعض الصور، وزهرة مجففة في دفتر مذكراتي، وهذا النص الذي سيجعلها خالدة بذاكرتي وربما ذاكرة آخرين لم يعرفوها.

تدوينة عن بنفسج مع بعض أزهارها، تصوير: الكاتبة.

لطالما شعرت أنني تخلّصت من إحدى ذكريات الطفولة، لكن فجأة عدت ذاك الطفل الصغير الذي بكى سرّاً لأجل شجرة. ولا أعلم أيهما أحزنني أكثر، عودة الذكريات أم رحيل الشجرة؟
في إحدى زوايا الحديقة الخلفية في الكليّة التي أدرس بها، فوق مكان يغمره اللون الأخضر لوفرة الأشجار، تقفُ شجرة كبيرة تنفرد عن سائر الأشجار بظلالها الرَحِيبة التي كانت ملاذاً للعديد من الطلاب والطالبات من حرّ الصيف، وبطريقة عجيبة كانت كلّ الطرق تودي إليها، كأنها القلب الخفيّ لهذا المكان.
وعلى مدار ثلاث سنوات من حياتي الجامعية، كانت ملاذنا سواء بجانبها أو تحت ظلها. وخلال أيام الربيع المعدودة، وفرت لنا مساحة لتبادل النقاشات والضحكات. ومنحت للعشاق ملتقى آمناً لا تصله أعين الرقابة.
صلة المحبة بيني وبين الشجرة، تكوّنت لأنها شجرة طبق الأصل عن أخرى كنت أجلس وألعبُ بجانبها في منزل الطفولة القديم. أتذكرُ أنني كنتُ أسقيها بحبّ، وألعب تحت ظلّها، وأشعر أن العالم لا يمكن أن يكون مكاناً سيئاً طالما أن الأشجار ما تزال تنمو فيه، وغالباً حينما أسترجع صور الطفولة في ذاكرتي، أكون بقربها.
لكن في واحد من أيام الخريف، ذُبحت وأخواتها من قبل أعمامي، عندما سألت عن السبب، ردوا بلا ندم أو شعور بالخطأ؛ بأنها لا تحمل أي فائدة للحديقة والمنزل سوى تساقط الأوراق التي تسبب الكثير من النفايات في الحديقة.
رغم صغر سني، شعرتُ بشيء خاطئ تجاه فعلهم، ولكن لم أجد له تفسيراً آنذاك. وبعد تلك الحادثة، كان مشهداً محزناً أن أرى تلك الحديقة، بجارها وعشبها وبابها، خالية من رفاقها الأشجار.
لم أتخيل أن شجرتي الوارفة في الجامعة سيطولها المصير ذاته، تصوراً مني، أن “القائمين عليها” لم ولن يسمحوا بذبح شجرة عمرها عشرات السنوات.
ولكن خلال سنتي الجامعية الثالثة، وفي طريقي باتجاه تلك الشجرة المعمّرة صديقة الجميع، وجدت المكان الذي كان يضجُّ بالحياة، صحراء صامتة، كأن اللون الأخضر مُحي من لوحة الذاكرة، وقطع الظلّ من تحتنا وتركنا تحت شمس لا ترحم.

جذع الشجرة بعد القطع، تصوير: الكاتب.
سألتُ زميلتي عن سبب ذبح شجرة ساكنة، تعطي أكثر مما تأخذ، “اللي كص الأشجار برر أن الشمس ما تدخل للحديقة وما ينمو الحشيش لذلك كصيناها”.
أما بعض من الزملاء فردّوا بنبرة ساخرة، “يمكن ميردون الأصدقاء يكعدون والعشاق بذاك المكان”.
بدت تلك التبريرات واهية سخيفة، بالنسبة إلي.
كيف يمكن لإنسان أن يقرر، بكل بساطة، أن يقطع شجرة؟ هل فكّر للحظة في الذكريات التي اقتلعها معها؟ في الأحاديث التي لم تكتمل تحتها، أو على الأقل، في الكارثة البيئية التي تسبب بها؟
ما يحزنني ليس فقط موت تلك الشجرة، بل موت كل الأشجار التي تُقتل بصمت، دون أن يدافع عنها أحد، لتجنّب المشاكل. لذا صرنا نعتاد الفقدان ولا نعترض، أن نقبل غياب الأشياء الجميلة دون أن نحاول إنقاذها.
وهكذا، ماتت شجرتي، كما ماتت شجرة طفولتي من قبل. وكأن قدري أن أودّع الأشجار التي أحبها، واحدةً بعد الأخرى، بصمت.

في المرحلة الإعدادية تولعتُ بقراءةِ الأدب العراقي، وبينما كنت أتجول في مكتبة المدرسة، انجذبت لرواية “وحدها شجرة الرمان” أثار العنوان، ومن ثمّ الغلاف، فضولي.
وبينما كنت أتبادل الأحاديث الأدبية مع صديقاتي وقريبتي التي تشاركني الاهتمامات نفسها، ذكرت اسم الكتاب الذي شدّني عنوانه، لأفاجئ بعد أيام بقريبتي تهديني إياه.
فرحتُ من قلبي للهدية، وأغرمت بالرواية بعد قراءتها وانبهرتُ بالقصة، حتى أنها أصبحت موضوعي الشاغل، ورحتُ أحدّثُ كلَّ بنات مدرستي عنها حتى أنني صنعتُ وصديقتي المقرّبة جدارية من المخطوطاتِ على شباك صفي المدرسي، واحد منها يشمل اسم رواية، “وحدها شجرة الرمان”، وأخذتُ رمانة صغيرة من حديقة المدرسة وجففتها وألصقتها عليها.

جدارية على شباك الصف، تصوير: الكاتبة.
صرتُ أنتبه لكل أشجار الرمان حولي، بل لكل الأشجار. وأشعر أن كل شجرة رمان هي حبيبتي، كلهن من المدرسة والشارع والبساتين، وشعرت أنهن يعرفن قدر حبي لهن، ولتأثري بالرواية، شعرت دوماً أن حُزناً عميقاً يسكن أي شجرة رمان، و لكل شجرة رمان حكاية حزينة كامنة، كما في الرواية، وتلك الحكايات تناديني لأتعرف عليها.
لسنوات لم أنتبه للرمانة في بيتِ جدتي، إلا بعد الرواية. فصارت أقربهنّ لقلبي، كانت متوسطة العمرِ مثلي، تقطنُ في زاوية الحديقة أو “اللاحة” كما نسميها في الموصل وصار هذا مكان جلوسي المفضل مع قريبتي.
في تلكَ الفترة لم تكن لدينا التزامات كثيرة تكبّلنا، معظم وقتنا نمضيه في الزيارات أو المبيت عند جدتي، وهذا ما زادني تعلّقاً بها.
صارت العادة مع زيارة كل خميس أو جمعة، أن أطمئن عليها، وأتناول تحت فيئها “الريوك” بصحبة جدتي أو “العصرونية”، ونحنُ نتحدثُ عن همومنا البريئة التي لا أكادُ أذكرُ شيئاً منها الآن.
كانت واحدة منا، تسمع قصصنا وأسرارنا، وتصغي بكلّ حب لنا وتحفظ ما تسمع، وتكرمنا بحبات رمان لذيذة.
وفي إحدى الزيارات، تفاجأت أنَّ عمي قد قطعها لأن ورقها أصبحَ يتناثرُ في كلِّ مكان وأصبحت تزعجهم.
حزنتُ حينها أشدّ الحزن، وعاتبت جدتي التي كانت تعلم أنني أحبها، فوعدتني أن تزرع لي شجرة رمانٍ أخرى.
وبقيَ الفراغُ الذي تركتهُ شجرة الرمانِ حينها يفطِرُ قلبي وكأنهُ شرخٌ أختبأت فيه، فقَد كنتُ آنذاك في أوجِّ مشاعري التي كانت تظهر عند أي موقف.
بعد فترة، نبتَ غصنٌ لها من المكان الذي قطعوها منه، لكنه لم يكبر ليكون مثلها أبداً، ولم تَعُد كما حينما كبرت، ولم نجنِ منها أي ثمار بعد تلك الحادثة… وبقيت “وحدها شجرة الرمان”.

لم يكن فقداني للبصر يعني فقط عتمة تحيط بعالمي، بل كان يعني أيضاً انقطاع صلتي بأشياء كنت أظنّها ثابتة، لا يغيرها الزمن. واحدة من هذه الأشياء كانت شجرة الكالبتوس في حديقة منزلنا، تلك التي شهدت زراعتها حين كنت طفلاً. ومتابعة نموها، كان جزءاً من أيامي كطفل بـ “تك عين”.
اعتدتُ أن أضع سلّماً معدنياً مثلث الشكل أمامها، وأتسلق لأجلس عند أول تفرّع للجذع، بينما كان ابن عمي، وهو أكثر جرأة مني، يتسلّق إلى الأعلى، يتنقّل بين الأغصان بسهولة لم أمتلكها يوماً. لم يكن الأمر متعلقاً فقط بالخوف، بل بحقيقة أن بصري كان ضعيفاً حتى في أفضل حالاته، وهو ما جعلني أكثر حذراً في كل ما أفعل.
لكن حتى هذه المغامرات البسيطة توقفت تماماً عندما بدأ بصري يخذلني أكثر، إلى أن فقدته كلياً مع بداية العقد الثاني من عمري.
اليوم، أعلم أن الشجرة صارت أطول بكثير. لم أعد أعرف لون أوراقها، ولا شكل أغصانها وهي تمتد نحو السماء، لكنني ما أزال أسمعها، أميّز صوت احتكاك الأوراق حين تمرّ بينها الريح، وأصغي إلى خشخشة الأوراق الجافة تحت قدمي حين أتمشى في الحديقة.
أحاول أن أتصورها في رأسي، أن أرسم ملامحها كما تخيلتها وهي تكبر. هل صار جذعها أكثر سماكة؟ هل تشابكت أغصانها حتى أصبحت مثل سقف أخضر لا يخترقه الضوء؟ هل بقيت أوراقها بلونها الذي كنت أعرفه، أم أن الزمن غيّرها كما غيّر كل شيء؟ لا أحد يخبرني بتفاصيلها، وربما لا أريد أن يخبرني أحد. أفضّل أن أتركها كما هي في ذاكرتي، متجمّدة عند لحظة رؤيتي الأخيرة لها، أو ربما حرة لتكبر بالطريقة التي أختارها في خيالي.
ما أفتقده ليس الألوان فقط، وليس مجرد القدرة على رؤيتها، بل علاقتي بها كما كانت. أفتقد ملمس لحائها تحت أصابعي، وشعور الجلوس على أحد أغصانها، والاستناد إلى جذعها وأنا أستمع إلى العالم من حولي. أفتقد أن أراها تكبر معي، وأن أكون شاهداً على تغيرها مثلما كانت شاهدة على طفولتي.
لم أفقد رؤيتي لهذه الشجرة وحدها، بل لكل الأشجار، في الشوارع، وفي الصور، وخلف ظهور الأصدقاء الذين لم أعد أعرف ملامحهم. وحدها الأشجار في الكتب الصوتية ما تزال ممكنة، أراها في خيالي، أشكّلها من الكلمات، وألوّنها بوصف الكاتب، وأمنحها حياة لا تحتاج بصراً كي تُرى.