ترفيه طائفي.. علي وعمر وخلايا لايديغ
13 آذار 2025
بعد جزأين من الحرب الطائفية، ها هم الأبطال الإلهيون يخرجون مرّة أخرى قبل الانتخابات، يتحدثون عن خطر يهدّد المذهب (شيعياً/ سُنياً)، وينبشون في مزابل الماضي للعثور على النصوص العنيفة، ومثل كلّ مرّة هناك ملايين من الخائفين والمعطوبين والجوعى يقفون في طوابير الموت للحصول على "عيش" أفضل في حياة أخرى.
لم يكن في المقبرة غيرنا. ثلاثة رجال، وفتىً يجلس على حافة القبر، الذي يحفرونه لقتيل في طريقه إلى هنا. ما زال الميت في الطريق، وما يزال القبر لم يصل إلى العمق “المُستَحبّ” في النصوص – النصوص التي قتلته – وهذا وقتٌ يتّسع للسوالف والحفر.
متحزّماً بالنصف الأسفل من دشداشته، دردم كريّم وهو يضرب القبر بالقزمة، “نصحته الله يرحمه يعوف بغداد ويجي هين بس الحجي ما بيه فايدة”، واسترسل بكلام كثير عن الاحتلال والحرب الطائفية بين السُنّة والشيعة.
يضرب كريم الأرض بالقزمة ويتحدّث بصوت مرتفع ويلهث. لقد كان القتيل من أصدقائه المقرّبين، لكنّه ليس أول من يسقط في هذه الحرب، وكأنّه يحتال على البكاء بالكلام وضرب الأرض.
أزاح الفتى التراب حول حواف القبر، وتهيّأ ليدخل الحفرة بعد كريّم، الذي ما يزال يحفر ويلهث ويتحدّث. القتيل في طريقه إلى المقبرة، والقبر لم يصل إلى العمق “المُستَحبّ” في النصوص، والوقت يتسّع للسوالف والحفر.
قبل أن يمدّ يداً للخروج، اتّكأ كريّم بجسده “الجثيث” على ضلعٍ في القبر، وكأنه يتّكئ على كتف صاحبه، حكى تجارب ومواقف حدثت لهما في كركوك، كان يحكي ويلهث ويمسح العرق بدشداشته، ويداري حزناً يبدو على وجهه مثل قطعة من الكمد.
كانت حكاية عن “جنديين” أمضيا وقتاً في الخدمة العسكرية، خلال الحرب العراقية الإيرانية، لم تكن مثيرةً لفتىً يجلس فوق حفرة ورجلين يريدان الانتهاء من أشغال الدفن والعودة إلى البيت قبل الغروب والاشتباكات؛ لكنّها بالنسبة لكريّم كانت أيّاماً حلوة، وتستحق أن تروى مثل وِردٍ في المكان/القبر، أو ربّما كانت كلمةً أخيرة يقولها صديق ما يزال حيّاً لصديق قُتل البارحة.
التعب والحزن والغضب، مشاعر تؤثر على مخارج الحروف، اللغة المجهدة غير مفهومة، وكذلك اللغة الحزينة والغاضبة، وكان كريّم متعباً وحزيناً وغاضباً، وكنّا نريد خروجه من القبر لننهي الحفر، فالشمس حزيرانية تعامدت على أدمغتنا، والميت قد يصل في أيّ لحظة.
في نهايات حديثه عاد إلى أيام الخدمة العسكرية في كركوك، ومَن خدم في الجيش أيّام الثمانينيات، يعرف أنّ أحبّ شيء يفعله أيّ جندي هو الحديث عن الحرب العراقية الإيرانية، وكريّم ليس استثناءً، لكنّه تعثّر أخيراً في مخارج المدينة، عندما كان يتحدّث عن خروجهم من “كركوح”.
“كركوح” أعادها كريّم ساخراً من “سحگته”، وأطلق ضحكة دوّت في المقبرة، كانت تشبه البكاء، لكنّها فرصة لا تفوّت للضحك في تلك اللحظة الكئيبة، ضحكنا أكثر مما ينبغي للضحك على خطأ لغوي، وأكثر مما قد نضحك عليه لو اجتمعنا في مكان آخر وظرف مختلف، وهكذا وصلنا إلى العمق “المُستحبّ” في النصوص ونحن نضحك كلّما قال أحد “كركوح”. صار الخطأ توريةً يقولها أحدنا ليفهم الآخرون أنّه تعب من الحفر.
لقد ساعدَنا ذلك الخطأ اللغوي على تجهيز القبر، وساعدنا على الضحك، وساعدنا على حمل الجثّة ودفنها بحزن أقل، كان واحداً من أخطاء اللغة الرائعة التي تحدث في توقيتها الصحيح.
وهو يرشُّ ماء الورد على القبر، طلب كريّم أن نتركه مع صديقه، “أجي وراكم”، وهذه طريقة أخرى لقول “أريد البقاء وحدي لأبكي”. فعلنا مثلما يريد، لكنّ السائق الذي جاء بالتابوت من بغداد إلى الرمادي، قال له “محظوظ لأن أكو قبر اندفن بيه، وأكو أهل استقبلوا جثته، غيره أكلتهم الكلاب أو ما لكولهم أثر”.
لم يكن السائق -حينها- قد رأى الجثث المنتشرة بين المقبرة وجامعة الأنبار، ولا وقت أو طاقة للحديث معه عن هذا المشهد اليومي، كما أنّها ليست فكرةً جيّدةً؛ القول لرجل جاء بقتيل وجازف به على امتداد طريق يغصّ بالسيطرات الوهمية، والعبوات الناسفة، والسيارات المفخخة، وأرتال الجيش الأمريكي، إنّ ركن المقبرة الخارجي الذي أمامك هو موقع لرمي الجثث التي يمنع تنظيم القاعدة أحداً من دفنها، وتترك هكذا في العراء طعاماً للكلاب السائبة.
الجثة “المحظوظة”، التي وجدت قبراً وأهلاً، كانت حتّى ذلك الوقت (2006)، واحدة من 650 ألف قتيل عراقي، تقول جامعة جونز هوبكنز ومعهد ماساتشوستس إنهم قتلوا منذ 2003، من بينهم 600 ألف شخص قُتلوا في أعمال العنف، أي بعد الحرب، ونتيجة لتداعياتها الطائفية والسياسية والاجتماعية.
الفتى الذي حفر قبراً لرجل لا يعرفه، حفر بعدها قبوراً كثيرة لأشخاص يعرفهم ويحبهم، رجال ونساء وأطفال، وفي تلك المرات كلها، لم يحدث خطأ لغوي واحد يساعده على الحفر ويعينه على الحزن.
ليست هناك أرقام دقيقة عن ضحايا الحرب الطائفية في العراق (2006 – 2008) مثلما لا توجد هذه الأرقام قبل هذه الحرب وبعدها، لكنّ بيانات ORB وIIACSS في تلك السنوات تكشف أن أكثر من خُمسَي العوائل في بغداد فقدت أحد أفرادها.
توقفت الجامعات والمعاهد عن إحصاء الضحايا، لكنّ القتل لم يتوقف، والحرب الطائفية امتدّت إلى جغرافيا أكبر من بغداد، وأكلت سنين (مستمرّة) من حيوات العراقيين، وأغاني القتلة ولطمياتهم وأناشيدهم صارت من الكلاسيكيات التي تضخّ التستوستيرون في القتلة الجدد وأتباعهم، من لطمية “يابو درع كلنا وياك للُوحة” إلى نشيد “جلجلت عالياً في الأفق صيحات الأباة”.
لماذا ينجح القتلة دائماً بجرّنا إلى المذبحة؟ ما هذه القابلية على تلقّي العنف وممارسته وتصديره بكامل وحشيته؟ ولماذا هو مستمر؟ لماذا علينا أن نستمع إلى بيان جبر صولاغ مرّة أخرى وهو يقول لجيل Z استعدوا لأنَّ “المعركة ستكون على أسوار بغداد”. صولاغ هذا، كان يُسمّى (وزير الدريل) عندما كان وزيراً للداخلية عام 2006، ففي عهده كان السجناء يُعدمون بجهاز التثقيب (Drill).
في الشارع، يقف شاب عشريني أمام كاميرا محليّة تسأل الناس إن كانوا مستعدّين للذهاب إلى سوريا للقتال “في حال فجّر الإرهابيون مرقد السيدة زينب بدمشق”، يتحرّق شوقاً ذلك الشاب للذهاب إلى هناك، ويتمنّى نشوب الحرب، لأنّه عندما اندلعت في العراق عام 2014 كان صغيراً ولم يذهب مع آبائه للقتال، كان الشاب أصغر من أن يتذّكر ماذا حدث في الجزء الأول من هذا المسلسل الطويل.
في ذلك الوقت، 2014، كانت بغداد ومدن العراق، الجنوبية بالتحديد، تكتظ بصور الشباب “الشهداء”، الذين قتلوا في ساحات المعارك/المدن السُنّية، لتحريرها من تنظيم داعش، وداعش لم يكونوا فرسان الساموراي بطبيعة الحال. هذه الحرب ما زالت تدفع ثمنها الجماعة/الأمّة، سنّةً وشيعةً وكرد، ومجموعات بشرية/عراقية أخرى.
في قضاء سنجار، ما تزال مئات الفتيات الإيزيديات/العراقيات “سبايا”، لم يُعرف لهنَّ أثر حتى الآن، وبيعهنَّ ما يزال تجارةً رائجة عند “السماسرة المنقذين”، وسعر الفتاة قد يصل إلى 60 ألف دولار، عندما يكون المشتري هم أهلها “المحظوظون” بالعثور عليها من خلال شبكة معقّدة من تجّار السجائر، والسماسرة المنتشرين بين العراق وسوريا.
كم عدد العراقيين الذين ماتوا قتلاً منذ عام 2003 حتى الآن؟ كم عدد مَن دُفن منهم في قبور أو مقابر جماعية؟ وكم عدد أولئك الذين أكلتهم الكلاب السائبة؟ هل لدينا أيّ وثيقة تحصر بدّقة عدد المفقودين والمغيبين؟ تقول منظمات دولية مثل الصليب الأحمر والعفو الدولية وغيرهما، إنّ العدد قد يصل إلى مليون إنسان، وتقول الرياضيات إنّهم يمثلون 2.2 بالمئة من عدد العراقيين الآن.
نميل مع فالح عبد الجبار إلى أننا نعيش مرحلة “الخبل الجماعي” أو “الافتتان الإيروسي بالعنف”، ومرعب وواضح أنّ هذه المرحلة “الميثولوجية” لم تنته بعد، ولا يبدو أنّها ستنتهي قريباً، فهي ما تزال قادرة على توليد العنف وإنتاجه على مستوىً طبقيٍّ، وإثني وقومي، وديني ومذهبي، وثقافي، ضمن الجماعة الكبيرة (الأمّة) المتخيّلة، التي تحكمها دولة توتاليتارية رثّة.
ولكن ماذا يحدث عندما تسقط هذه الدولة التوتاليتارية الرثّة؟ تتسع الفوضى، ويزدهر العنف، وتحلّ الهويات الفرعية مشاكلها بالرصاص والدم، هذا ما يحدث؛ بأكثر تعريفات علم الاجتماع السياسي بساطة.
“العراقيون سيحلّون مشاكلهم بالدم في السنوات العشر القادمة”. يرفض فالح عبد الجبار أن توصف عبارته هذه بالنبوءة، لقد كانت إعلانه الشخصي بأنّه عاد إلى العراق لكنّه سيغادر، لأنّه رأى “غضباً وكراهيةً في الوجوه”، ووجد الفوضى.
فالح عبد الجبار عندما زار العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، التقى حارث الضاري (الزعيم السُنّي) ومقتدى الصدر (الزعيم الشيعي)، وآخرين من زعماء الطوائف، قبل نشوب الحرب الأهلية، لكنّه اعترف فيما بعد أنه كان مخطئاً “لأنّ الأمر أخذ أكثر من عشر سنوات”، وصولاً إلى “الوضع المضحك” للبلاد الآن.
هل نحن ذاهبون إلى الجزء الثالث من هذه الحرب الطائفية؟ وبالطريقة نفسها التي حدثت في الجزأين الأول (2006) والثاني (2014) وبالقتلة ذاتهم والخطابات عينها؟ كيف ننجو من هذا الجنون؟
ما الذي يدفع عراقياً/سُنيّاً نازحاً منذ تسع سنوات إلى الصعود على أكتاف أصدقائه والصراخ بحماسة عن عودة “أمجاد بني أمّية”؟
أليس الأهم أن يفكر ويطالب بالعودة إلى بيته أولاً؟
في حيٍّ ببغداد ما تزال شوارعه غارقة بمياه الأمطار والصرف الصحّي، يجول مجموعة من الشباب الذين يقولون إنهم “تشكيلات يا علي الشعبية”؛ ليهاجموا المخابز التي يعمل فيها شباب سوريون، ثأراً لما حدث في الساحل السوري. لم يفكّر أحدٌ من هؤلاء الغاضبين أنّ الشاب السوري الذي تلقّى صفعة/إهانة للتو؛ كان يصنع لهم الخبز.
ما هي الحلول أو الطرق “الأخرى” للسيطرة على منابع هذا العنف والكراهية التي تصبّ في مواقع التواصل الاجتماعي، والبرامج المتلفزة، والخطابات الرسمية والاجتماعية؟
ما هي المخارج الممكنة للقفز من هذه الهاوية التي نسقط فيها الآن؟
على ضرورتها وأهميتها؛ ولكن هل تكفي “وحدات قياس” علم الاجتماع السياسي لقراءة هذا الخَبل الجماعي؟ هل تكفي استطلاعات الرأي وبيانات الدخل والنظريات الإحصائية لتفكيك وتصحيح هذا الافتتان المستمر بالعنف؟
وهنا لا نميل مع فالح عبد الجبار باعتباره أن العنف بيئي فقط؛ أي بمعنى أنه أثر خارجي وحسب، وفواعله نظرية لا مختبرية.
ماذا لو استأذنا الحاج “أبو درع” والأمير “شاكر وهيّب”، وبدلاً من أخذهم إلى المكتبة فقط وعرض سيرتهم المهنية في العنف على “الداتا شو” في المؤتمرات السنوية؛ نمرّ بهم كذلك على المختبر، بفرعيه الجيني والنفسي. هل يمكن أن تكون هذه الرحلة “العلمية” الآمنة محاولة ناجحة لتقليل مستويات التستوستيرون في خلايا لايديغ عند السُنّة والشيعة؟
محاولة لا تتطلّب حرباً طائفية، ولا مقابر جماعية، ولا جثثاً مجهولة الهوية، ولا سيطرات وهمية، ولا عمليات اختطاف جماعي، ولا سيارات مفخخة، ولا سجون سريّة، ولا تأسيس مليشيات، ولا شتائم ولطميات وأناشيد، حتى أنّها لا تتطلّب نبش قبور الأمويين والعباسيين، ولا حاجة لسبي زينب مرة ثانية، ولن يتطلّب الأمر مشقّة تأسيس خلافة إسلامية.
فقط شعرة طاهرة من رأسيهما المُكرَّمين، أو قطرة دم زكيّة من إصبعيهما (عادي تكون الوسطى)، أو تفلة من فميهما الطاهرين، أو شخّة قليلة من مثانتيهما المباركتين، وسيرة مختصرة عن مراحل الطفولة والمراهقة والشباب لكليهما، وقائمة بأبرز الإساءات (إن وجدت)، بدايةً من “نعالات” الأب والأم، والحياة في الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت وحرب عاصفة الصحراء، والحصار الذي حوّل الطبقة الوسطى إلى قطعان من المتسوّلين والمرتشين في المؤسسات والمجتمع، والطبقات الفقيرة التي ينتمي إليها الحاج والأمير التي صارت كتلة بشرية مشوّهة، هي أقرب إلى طبقات الرعايا المهملين في الأنظمة القديمة، وصولاً إلى المفاجأة الكبرى وسقوط دولة صدام الحسين، التي كانت تسجّل أحلام المواطنين على أشرطة الكاسيت، وها هم الآن يصوّرون كوابيسهم وكبتهم على كل كاميرا.
ماذا لو قال المختبر إنّ الحاج “أبو درع” والأمير “شاكر وهيّب”، بحاجة إلى رعاية صحيّة متقدمة، وفحوصات دوريّة، وأنهما مضطربان، ويعانيان من تشوهات حادة في مستويات إنزيم أوكسيداز أحادي الأمين A، وما يحتاجان إليه؛ المثبطات وليس الكلاشنكوف.
هل إخضاع العنف وفواعله لوحدات قياس جديدة لا تُسقط الجانب الجيني والنفسي (معاً) وتأثير الجماعة (الأمّة) والدولة (السلطة) في تدهورهما على مستوى الفرد (الواحد)؛ يمكن أن يخلق رمزيّة معاكسة للرمزية “الميثولوجية” التي يمثلها هؤلاء الأبطال الطائفيون؟ وعوضاً عن القول إنَّ فلاناً (رضي الله عنه، قدس سره، حفظه الله، بلاه بلاه)، نقول: فلان عنده مشاكل بالإنزيمات، وانتبهوا إن حاول توريطكم بمعركة.
هل سيشكّل فارقاً (أيَّ فارق) أن نحاول من أجل النظر إلى هؤلاء “المجرمين” على أنهم أنصاف بشر لا أنصاف آلهة؟ ما يميز الإنسان فرداً أو جماعة، عن غيره من الحيوانات المفترسة هي قدرته على ضبط العنف وتنظيمه، وهذا ما لا يحدث في العراق.
في حزيران 2018، كانت العيون صوب ولاية نيوجرسي، والآذان صاغية لسماع قرار هيئة المحلفين في محاكمة توقّع الجميع أنها ستنتهي بإعدام برادلي والدروب على جريمته التي قتل خلالها صديق زوجته بثمان رصاصات، وهاجم زوجته بالساطور.
الصدمة كانت عندما نطق المحلفون الحكم، الجريمة هي “القتل غير العمد”، وهذا كان كافياً لينجو والدروب من المشنقة. فيما بعد، تبيّن أن وثيقة طبية وشهادة طبيب في المحاكمة لعبا دوراً في تغيير قناعة المحلفين، تقول الشهادة الطبية إن والدروب يعاني من اضطرابات في إنزيم أوكسيداز أحادي الأمين A، الذي يرتبط بالسلوك العدائي والعنيف عند الأشخاص، خاصة أولئك الذين تعرضوا للإساءة في طفولتهم.
يرتبط النشاط المنخفض من إنزيم (A-MAOA) بالسلوك العدائي والاضطرابات المزاجية، وتحديداً تلك التي ترتبط جذورها بتاريخ من الإساءة قبل سن 15 عاماً، والمثير في الدراسات حوله، أنَّ هذه الاضطرابات الإنزيمية/النفسية، تُؤشَّر عند “الذكور” وليس “الإناث”، ويمكن أن تزيد الإساءة المبكّرة من هذا الخلل في التركيبة الكيميائية لكروموسوم X عند البلوغ.
المختبر لا يبرر الجريمة، ولا يعطي مسوّغاً للعنف، لكنّه يستطيع تجريده من “إغراءاته” ويعزله عن وسائله، التي تجعل برادلي والدروب، وأبو عزرائيل، وأبو عبيدة يقتلون، كلٌّ بحسب مقاسات الرغبة والدافع وتاريخ الإساءة الذي يحرضه.
لو رافقنا مجموعة من الشباب العراقيين وتمشينا على السدّة، في بغداد، وحدثناهم عن محاكمة والدروب، والتقرير الطبّي وشهادة الطبيب في المحكمة، وهيئة المحلفين، والدراسات التي تجرى على آلاف الأشخاص الذين تعرضوا للإساءة في طفولتهم، وبادلناهم أطراف الحديث عن متلازمة برونر، والاضطرابات السلوكية التي تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة، وتسبب نوبات من السلوك العدائي أو العنيف؛ ماذا ستكون تعليقاتهم؟ هل يا ترى سيجروننا بزيج؟ وهل سيزعجنا ذلك؟ وهل يمكن أن نحاول مرّة أخرى في تمشية قادمة؟
السجناء الذين يتقاتلون على إدارة الزنزانة، ليسوا بحاجة إلى الأسلحة، إنهم بحاجة إلى فكرة واحدة تساعدهم على الخروج من السجن.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً

موسم الطائفية.. عن بيع الانقسام والفوضى بغلاف أكثر جاذبية
06 يوليو 2025

من اللغة إلى القبر: تعالوا نتعقب كيف تُصنع الكراهية ضد النساء في العراق؟
24 يونيو 2025

العراق في قلب خارطة التفتيت.. ما هي ملامح الشرق الأوسط الذي تريده إسرائيل؟
22 يونيو 2025

ولادة حلبجة: ماذا ينتظر المحافظة الجديدة؟
18 مايو 2025
لم يكن في المقبرة غيرنا. ثلاثة رجال، وفتىً يجلس على حافة القبر، الذي يحفرونه لقتيل في طريقه إلى هنا. ما زال الميت في الطريق، وما يزال القبر لم يصل إلى العمق “المُستَحبّ” في النصوص – النصوص التي قتلته – وهذا وقتٌ يتّسع للسوالف والحفر.
متحزّماً بالنصف الأسفل من دشداشته، دردم كريّم وهو يضرب القبر بالقزمة، “نصحته الله يرحمه يعوف بغداد ويجي هين بس الحجي ما بيه فايدة”، واسترسل بكلام كثير عن الاحتلال والحرب الطائفية بين السُنّة والشيعة.
يضرب كريم الأرض بالقزمة ويتحدّث بصوت مرتفع ويلهث. لقد كان القتيل من أصدقائه المقرّبين، لكنّه ليس أول من يسقط في هذه الحرب، وكأنّه يحتال على البكاء بالكلام وضرب الأرض.
أزاح الفتى التراب حول حواف القبر، وتهيّأ ليدخل الحفرة بعد كريّم، الذي ما يزال يحفر ويلهث ويتحدّث. القتيل في طريقه إلى المقبرة، والقبر لم يصل إلى العمق “المُستَحبّ” في النصوص، والوقت يتسّع للسوالف والحفر.
قبل أن يمدّ يداً للخروج، اتّكأ كريّم بجسده “الجثيث” على ضلعٍ في القبر، وكأنه يتّكئ على كتف صاحبه، حكى تجارب ومواقف حدثت لهما في كركوك، كان يحكي ويلهث ويمسح العرق بدشداشته، ويداري حزناً يبدو على وجهه مثل قطعة من الكمد.
كانت حكاية عن “جنديين” أمضيا وقتاً في الخدمة العسكرية، خلال الحرب العراقية الإيرانية، لم تكن مثيرةً لفتىً يجلس فوق حفرة ورجلين يريدان الانتهاء من أشغال الدفن والعودة إلى البيت قبل الغروب والاشتباكات؛ لكنّها بالنسبة لكريّم كانت أيّاماً حلوة، وتستحق أن تروى مثل وِردٍ في المكان/القبر، أو ربّما كانت كلمةً أخيرة يقولها صديق ما يزال حيّاً لصديق قُتل البارحة.
التعب والحزن والغضب، مشاعر تؤثر على مخارج الحروف، اللغة المجهدة غير مفهومة، وكذلك اللغة الحزينة والغاضبة، وكان كريّم متعباً وحزيناً وغاضباً، وكنّا نريد خروجه من القبر لننهي الحفر، فالشمس حزيرانية تعامدت على أدمغتنا، والميت قد يصل في أيّ لحظة.
في نهايات حديثه عاد إلى أيام الخدمة العسكرية في كركوك، ومَن خدم في الجيش أيّام الثمانينيات، يعرف أنّ أحبّ شيء يفعله أيّ جندي هو الحديث عن الحرب العراقية الإيرانية، وكريّم ليس استثناءً، لكنّه تعثّر أخيراً في مخارج المدينة، عندما كان يتحدّث عن خروجهم من “كركوح”.
“كركوح” أعادها كريّم ساخراً من “سحگته”، وأطلق ضحكة دوّت في المقبرة، كانت تشبه البكاء، لكنّها فرصة لا تفوّت للضحك في تلك اللحظة الكئيبة، ضحكنا أكثر مما ينبغي للضحك على خطأ لغوي، وأكثر مما قد نضحك عليه لو اجتمعنا في مكان آخر وظرف مختلف، وهكذا وصلنا إلى العمق “المُستحبّ” في النصوص ونحن نضحك كلّما قال أحد “كركوح”. صار الخطأ توريةً يقولها أحدنا ليفهم الآخرون أنّه تعب من الحفر.
لقد ساعدَنا ذلك الخطأ اللغوي على تجهيز القبر، وساعدنا على الضحك، وساعدنا على حمل الجثّة ودفنها بحزن أقل، كان واحداً من أخطاء اللغة الرائعة التي تحدث في توقيتها الصحيح.
وهو يرشُّ ماء الورد على القبر، طلب كريّم أن نتركه مع صديقه، “أجي وراكم”، وهذه طريقة أخرى لقول “أريد البقاء وحدي لأبكي”. فعلنا مثلما يريد، لكنّ السائق الذي جاء بالتابوت من بغداد إلى الرمادي، قال له “محظوظ لأن أكو قبر اندفن بيه، وأكو أهل استقبلوا جثته، غيره أكلتهم الكلاب أو ما لكولهم أثر”.
لم يكن السائق -حينها- قد رأى الجثث المنتشرة بين المقبرة وجامعة الأنبار، ولا وقت أو طاقة للحديث معه عن هذا المشهد اليومي، كما أنّها ليست فكرةً جيّدةً؛ القول لرجل جاء بقتيل وجازف به على امتداد طريق يغصّ بالسيطرات الوهمية، والعبوات الناسفة، والسيارات المفخخة، وأرتال الجيش الأمريكي، إنّ ركن المقبرة الخارجي الذي أمامك هو موقع لرمي الجثث التي يمنع تنظيم القاعدة أحداً من دفنها، وتترك هكذا في العراء طعاماً للكلاب السائبة.
الجثة “المحظوظة”، التي وجدت قبراً وأهلاً، كانت حتّى ذلك الوقت (2006)، واحدة من 650 ألف قتيل عراقي، تقول جامعة جونز هوبكنز ومعهد ماساتشوستس إنهم قتلوا منذ 2003، من بينهم 600 ألف شخص قُتلوا في أعمال العنف، أي بعد الحرب، ونتيجة لتداعياتها الطائفية والسياسية والاجتماعية.
الفتى الذي حفر قبراً لرجل لا يعرفه، حفر بعدها قبوراً كثيرة لأشخاص يعرفهم ويحبهم، رجال ونساء وأطفال، وفي تلك المرات كلها، لم يحدث خطأ لغوي واحد يساعده على الحفر ويعينه على الحزن.
ليست هناك أرقام دقيقة عن ضحايا الحرب الطائفية في العراق (2006 – 2008) مثلما لا توجد هذه الأرقام قبل هذه الحرب وبعدها، لكنّ بيانات ORB وIIACSS في تلك السنوات تكشف أن أكثر من خُمسَي العوائل في بغداد فقدت أحد أفرادها.
توقفت الجامعات والمعاهد عن إحصاء الضحايا، لكنّ القتل لم يتوقف، والحرب الطائفية امتدّت إلى جغرافيا أكبر من بغداد، وأكلت سنين (مستمرّة) من حيوات العراقيين، وأغاني القتلة ولطمياتهم وأناشيدهم صارت من الكلاسيكيات التي تضخّ التستوستيرون في القتلة الجدد وأتباعهم، من لطمية “يابو درع كلنا وياك للُوحة” إلى نشيد “جلجلت عالياً في الأفق صيحات الأباة”.
لماذا ينجح القتلة دائماً بجرّنا إلى المذبحة؟ ما هذه القابلية على تلقّي العنف وممارسته وتصديره بكامل وحشيته؟ ولماذا هو مستمر؟ لماذا علينا أن نستمع إلى بيان جبر صولاغ مرّة أخرى وهو يقول لجيل Z استعدوا لأنَّ “المعركة ستكون على أسوار بغداد”. صولاغ هذا، كان يُسمّى (وزير الدريل) عندما كان وزيراً للداخلية عام 2006، ففي عهده كان السجناء يُعدمون بجهاز التثقيب (Drill).
في الشارع، يقف شاب عشريني أمام كاميرا محليّة تسأل الناس إن كانوا مستعدّين للذهاب إلى سوريا للقتال “في حال فجّر الإرهابيون مرقد السيدة زينب بدمشق”، يتحرّق شوقاً ذلك الشاب للذهاب إلى هناك، ويتمنّى نشوب الحرب، لأنّه عندما اندلعت في العراق عام 2014 كان صغيراً ولم يذهب مع آبائه للقتال، كان الشاب أصغر من أن يتذّكر ماذا حدث في الجزء الأول من هذا المسلسل الطويل.
في ذلك الوقت، 2014، كانت بغداد ومدن العراق، الجنوبية بالتحديد، تكتظ بصور الشباب “الشهداء”، الذين قتلوا في ساحات المعارك/المدن السُنّية، لتحريرها من تنظيم داعش، وداعش لم يكونوا فرسان الساموراي بطبيعة الحال. هذه الحرب ما زالت تدفع ثمنها الجماعة/الأمّة، سنّةً وشيعةً وكرد، ومجموعات بشرية/عراقية أخرى.
في قضاء سنجار، ما تزال مئات الفتيات الإيزيديات/العراقيات “سبايا”، لم يُعرف لهنَّ أثر حتى الآن، وبيعهنَّ ما يزال تجارةً رائجة عند “السماسرة المنقذين”، وسعر الفتاة قد يصل إلى 60 ألف دولار، عندما يكون المشتري هم أهلها “المحظوظون” بالعثور عليها من خلال شبكة معقّدة من تجّار السجائر، والسماسرة المنتشرين بين العراق وسوريا.
كم عدد العراقيين الذين ماتوا قتلاً منذ عام 2003 حتى الآن؟ كم عدد مَن دُفن منهم في قبور أو مقابر جماعية؟ وكم عدد أولئك الذين أكلتهم الكلاب السائبة؟ هل لدينا أيّ وثيقة تحصر بدّقة عدد المفقودين والمغيبين؟ تقول منظمات دولية مثل الصليب الأحمر والعفو الدولية وغيرهما، إنّ العدد قد يصل إلى مليون إنسان، وتقول الرياضيات إنّهم يمثلون 2.2 بالمئة من عدد العراقيين الآن.
نميل مع فالح عبد الجبار إلى أننا نعيش مرحلة “الخبل الجماعي” أو “الافتتان الإيروسي بالعنف”، ومرعب وواضح أنّ هذه المرحلة “الميثولوجية” لم تنته بعد، ولا يبدو أنّها ستنتهي قريباً، فهي ما تزال قادرة على توليد العنف وإنتاجه على مستوىً طبقيٍّ، وإثني وقومي، وديني ومذهبي، وثقافي، ضمن الجماعة الكبيرة (الأمّة) المتخيّلة، التي تحكمها دولة توتاليتارية رثّة.
ولكن ماذا يحدث عندما تسقط هذه الدولة التوتاليتارية الرثّة؟ تتسع الفوضى، ويزدهر العنف، وتحلّ الهويات الفرعية مشاكلها بالرصاص والدم، هذا ما يحدث؛ بأكثر تعريفات علم الاجتماع السياسي بساطة.
“العراقيون سيحلّون مشاكلهم بالدم في السنوات العشر القادمة”. يرفض فالح عبد الجبار أن توصف عبارته هذه بالنبوءة، لقد كانت إعلانه الشخصي بأنّه عاد إلى العراق لكنّه سيغادر، لأنّه رأى “غضباً وكراهيةً في الوجوه”، ووجد الفوضى.
فالح عبد الجبار عندما زار العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، التقى حارث الضاري (الزعيم السُنّي) ومقتدى الصدر (الزعيم الشيعي)، وآخرين من زعماء الطوائف، قبل نشوب الحرب الأهلية، لكنّه اعترف فيما بعد أنه كان مخطئاً “لأنّ الأمر أخذ أكثر من عشر سنوات”، وصولاً إلى “الوضع المضحك” للبلاد الآن.
هل نحن ذاهبون إلى الجزء الثالث من هذه الحرب الطائفية؟ وبالطريقة نفسها التي حدثت في الجزأين الأول (2006) والثاني (2014) وبالقتلة ذاتهم والخطابات عينها؟ كيف ننجو من هذا الجنون؟
ما الذي يدفع عراقياً/سُنيّاً نازحاً منذ تسع سنوات إلى الصعود على أكتاف أصدقائه والصراخ بحماسة عن عودة “أمجاد بني أمّية”؟
أليس الأهم أن يفكر ويطالب بالعودة إلى بيته أولاً؟
في حيٍّ ببغداد ما تزال شوارعه غارقة بمياه الأمطار والصرف الصحّي، يجول مجموعة من الشباب الذين يقولون إنهم “تشكيلات يا علي الشعبية”؛ ليهاجموا المخابز التي يعمل فيها شباب سوريون، ثأراً لما حدث في الساحل السوري. لم يفكّر أحدٌ من هؤلاء الغاضبين أنّ الشاب السوري الذي تلقّى صفعة/إهانة للتو؛ كان يصنع لهم الخبز.
ما هي الحلول أو الطرق “الأخرى” للسيطرة على منابع هذا العنف والكراهية التي تصبّ في مواقع التواصل الاجتماعي، والبرامج المتلفزة، والخطابات الرسمية والاجتماعية؟
ما هي المخارج الممكنة للقفز من هذه الهاوية التي نسقط فيها الآن؟
على ضرورتها وأهميتها؛ ولكن هل تكفي “وحدات قياس” علم الاجتماع السياسي لقراءة هذا الخَبل الجماعي؟ هل تكفي استطلاعات الرأي وبيانات الدخل والنظريات الإحصائية لتفكيك وتصحيح هذا الافتتان المستمر بالعنف؟
وهنا لا نميل مع فالح عبد الجبار باعتباره أن العنف بيئي فقط؛ أي بمعنى أنه أثر خارجي وحسب، وفواعله نظرية لا مختبرية.
ماذا لو استأذنا الحاج “أبو درع” والأمير “شاكر وهيّب”، وبدلاً من أخذهم إلى المكتبة فقط وعرض سيرتهم المهنية في العنف على “الداتا شو” في المؤتمرات السنوية؛ نمرّ بهم كذلك على المختبر، بفرعيه الجيني والنفسي. هل يمكن أن تكون هذه الرحلة “العلمية” الآمنة محاولة ناجحة لتقليل مستويات التستوستيرون في خلايا لايديغ عند السُنّة والشيعة؟
محاولة لا تتطلّب حرباً طائفية، ولا مقابر جماعية، ولا جثثاً مجهولة الهوية، ولا سيطرات وهمية، ولا عمليات اختطاف جماعي، ولا سيارات مفخخة، ولا سجون سريّة، ولا تأسيس مليشيات، ولا شتائم ولطميات وأناشيد، حتى أنّها لا تتطلّب نبش قبور الأمويين والعباسيين، ولا حاجة لسبي زينب مرة ثانية، ولن يتطلّب الأمر مشقّة تأسيس خلافة إسلامية.
فقط شعرة طاهرة من رأسيهما المُكرَّمين، أو قطرة دم زكيّة من إصبعيهما (عادي تكون الوسطى)، أو تفلة من فميهما الطاهرين، أو شخّة قليلة من مثانتيهما المباركتين، وسيرة مختصرة عن مراحل الطفولة والمراهقة والشباب لكليهما، وقائمة بأبرز الإساءات (إن وجدت)، بدايةً من “نعالات” الأب والأم، والحياة في الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت وحرب عاصفة الصحراء، والحصار الذي حوّل الطبقة الوسطى إلى قطعان من المتسوّلين والمرتشين في المؤسسات والمجتمع، والطبقات الفقيرة التي ينتمي إليها الحاج والأمير التي صارت كتلة بشرية مشوّهة، هي أقرب إلى طبقات الرعايا المهملين في الأنظمة القديمة، وصولاً إلى المفاجأة الكبرى وسقوط دولة صدام الحسين، التي كانت تسجّل أحلام المواطنين على أشرطة الكاسيت، وها هم الآن يصوّرون كوابيسهم وكبتهم على كل كاميرا.
ماذا لو قال المختبر إنّ الحاج “أبو درع” والأمير “شاكر وهيّب”، بحاجة إلى رعاية صحيّة متقدمة، وفحوصات دوريّة، وأنهما مضطربان، ويعانيان من تشوهات حادة في مستويات إنزيم أوكسيداز أحادي الأمين A، وما يحتاجان إليه؛ المثبطات وليس الكلاشنكوف.
هل إخضاع العنف وفواعله لوحدات قياس جديدة لا تُسقط الجانب الجيني والنفسي (معاً) وتأثير الجماعة (الأمّة) والدولة (السلطة) في تدهورهما على مستوى الفرد (الواحد)؛ يمكن أن يخلق رمزيّة معاكسة للرمزية “الميثولوجية” التي يمثلها هؤلاء الأبطال الطائفيون؟ وعوضاً عن القول إنَّ فلاناً (رضي الله عنه، قدس سره، حفظه الله، بلاه بلاه)، نقول: فلان عنده مشاكل بالإنزيمات، وانتبهوا إن حاول توريطكم بمعركة.
هل سيشكّل فارقاً (أيَّ فارق) أن نحاول من أجل النظر إلى هؤلاء “المجرمين” على أنهم أنصاف بشر لا أنصاف آلهة؟ ما يميز الإنسان فرداً أو جماعة، عن غيره من الحيوانات المفترسة هي قدرته على ضبط العنف وتنظيمه، وهذا ما لا يحدث في العراق.
في حزيران 2018، كانت العيون صوب ولاية نيوجرسي، والآذان صاغية لسماع قرار هيئة المحلفين في محاكمة توقّع الجميع أنها ستنتهي بإعدام برادلي والدروب على جريمته التي قتل خلالها صديق زوجته بثمان رصاصات، وهاجم زوجته بالساطور.
الصدمة كانت عندما نطق المحلفون الحكم، الجريمة هي “القتل غير العمد”، وهذا كان كافياً لينجو والدروب من المشنقة. فيما بعد، تبيّن أن وثيقة طبية وشهادة طبيب في المحاكمة لعبا دوراً في تغيير قناعة المحلفين، تقول الشهادة الطبية إن والدروب يعاني من اضطرابات في إنزيم أوكسيداز أحادي الأمين A، الذي يرتبط بالسلوك العدائي والعنيف عند الأشخاص، خاصة أولئك الذين تعرضوا للإساءة في طفولتهم.
يرتبط النشاط المنخفض من إنزيم (A-MAOA) بالسلوك العدائي والاضطرابات المزاجية، وتحديداً تلك التي ترتبط جذورها بتاريخ من الإساءة قبل سن 15 عاماً، والمثير في الدراسات حوله، أنَّ هذه الاضطرابات الإنزيمية/النفسية، تُؤشَّر عند “الذكور” وليس “الإناث”، ويمكن أن تزيد الإساءة المبكّرة من هذا الخلل في التركيبة الكيميائية لكروموسوم X عند البلوغ.
المختبر لا يبرر الجريمة، ولا يعطي مسوّغاً للعنف، لكنّه يستطيع تجريده من “إغراءاته” ويعزله عن وسائله، التي تجعل برادلي والدروب، وأبو عزرائيل، وأبو عبيدة يقتلون، كلٌّ بحسب مقاسات الرغبة والدافع وتاريخ الإساءة الذي يحرضه.
لو رافقنا مجموعة من الشباب العراقيين وتمشينا على السدّة، في بغداد، وحدثناهم عن محاكمة والدروب، والتقرير الطبّي وشهادة الطبيب في المحكمة، وهيئة المحلفين، والدراسات التي تجرى على آلاف الأشخاص الذين تعرضوا للإساءة في طفولتهم، وبادلناهم أطراف الحديث عن متلازمة برونر، والاضطرابات السلوكية التي تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة، وتسبب نوبات من السلوك العدائي أو العنيف؛ ماذا ستكون تعليقاتهم؟ هل يا ترى سيجروننا بزيج؟ وهل سيزعجنا ذلك؟ وهل يمكن أن نحاول مرّة أخرى في تمشية قادمة؟
السجناء الذين يتقاتلون على إدارة الزنزانة، ليسوا بحاجة إلى الأسلحة، إنهم بحاجة إلى فكرة واحدة تساعدهم على الخروج من السجن.