"أخاف تروح فلوسي".. هواجس شيماء ومحمد من الدفع الرقمي 

مهند فارس

11 آذار 2025

الحكومة العراقية فرضت الدفع الرقمي، والمصارف بدأت الترويج له بقوة، لكن هل العراقيون والعراقيات على استعداد لهذا التغيير؟ لماذا يخشى البعض من "ضياع الفلوس"؟ وكيف تحوّلت العمولات المخفية، والبقشيش، وعمليات الاحتيال إلى عائق جديد في طريق التحول الرقمي؟ وما هي هواجس شيماء ومحمد؟

في العشر الأوائل من شباط 2025، أصدر البنك المركزي العراقي تعليمات برفع أجور إصدار البطاقات المصرفية، بحيث يكون إصدار بطاقة راتب لأول مرّة يُكلّف 15 ألف دينار بعد أن كان عشرة آلاف، أما كلفة استبدال بطاقة الماستر التالفة فأصبحت 15 ألف دينار بدل عشرة آلاف، وعمولة سحب الأموال من أجهزة pos صارت 2000 دينار على المليون بعد أن كانت 1000 دينار. 

يعيش العراق تحولات جذرية في مجال الدفع الرقمي، وبدأت مصارفه الحكومية والخاصة الاعتماد على أنظمة الدفع الرقمية، كما بدأ الناس يتجهون لاستخدام هذه الوسائل في تعاملاتهم اليومية. 

التحوّل إلى التعاملات المالية الإلكترونية، خطوة إلى الأمام، لكن العراق ما يزال يعاني من عقبات تؤخّر انتقاله المثالي إلى ثقافة الدفع الرقمي، بدلاً من النقدي. 

العراق تأخر في الدخول إلى المجال الرقمي بنحو نصف قرن، فرغم أن مصرف الرافدين باشر بتقديم بطاقات الائتمان للمواطنين منذ عام 2003؛ غير أنّ استخدامها ظلّ محدوداً للغاية، وحافظت التعاملات النقدية على هيمنتها حتى عام 2007، بعدما بدأ الترويج لبطاقات “كي كارد”. 

عام 1950، أطلقت شركة “Diners Club” الأمريكية أول بطاقات الائتمان في العالم، وفي عام 1958 ظهرت بطاقات الائتمان البلاستيكية مثل “American Express  وVisa

وتطورت تدريجياً، وصولاً إلى توزيع أجهزة الصرّاف الآلي ATMs وشبكات البنوك الرقمية “SWIFT“، وانتشار شركات التسوّق الرقمي عن بعد مثل PayPal

عربياً، ظهرت أجهزة الصرّاف الآلي في السعودية والإمارات خلال ثمانينيات القرن الماضي، وفي التسعينيات، اعتمدت هذه الدول على الشبكات الرقمية الدولية مثل “Visa”، و”MasterCard”، كما سارعت الإمارات إلى تطوير أنظمتها وأطلقت عام 2001 بوابة “eDirham” لتسهيل المعاملات الحكومية. 

في العراق، بدأ ظهور وسائل الدفع الرقمي عام 2007، بعد تأسيس الشركة العالمية للبطاقة الذكية، بالتعاون مع القطاع العام، وأطلقت مشروع “كي كارد” البيومتري. 

وفي عام 2008، باشر البنك المركزي في أتمتة معاملاته التجارية، وأطلق نظام المدفوعات العراقي، ويعمل النظام على تسجيل كافة الأوراق النقدية التي يصدرها البنك المركزي العراقي ووزارة المالية، ويساعدهم في السيطرة على السيولة المالية، وأيضاً يسعى إلى تقليل استخدام النقد في تعاملاته، وتجاوز البعد الجغرافي بين المصارف وفروعها، وتقليل مخاطر نقل الأموال. 

لاحقاً، وبين عامي 2016 و2018، حصل مصرف التنمية الدولي على ترخيص بإصدار وإدارة البطاقات المصرفية من شركتي VISA وMasterCard، ليصبح بذلك أول مصرف عراقي مخوّل من هاتين الشركتين العالميتين.  

بطء تقدم العراق في هذا المجال يرجع إلى الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الأمنية التي مرّ بها العراق خلال تلك الفترة، ولكن مع الاستقرار النسبي للأوضاع، شجّعت الحكومة على استخدام الدفع الرقمي. 

عام 2020، أطلق البنك المركزي العراقي “قانون الجباية الإلكترونية لصندوق الإسكان”، ونصّ على أن “يستهدف هذا المشروع بشكل عام الوزارات ودوائر الجباية التي تستحصل إيراداتها من خلال الفواتير والرسوم وعلى رأسها صندوق الإسكان العراقي”. 

ومع تزايد التعاملات المالية الرقمية، قرّر البنك المركزي في عام 2023 تأسيس “الشركة الوطنية لنظم الدفع الإلكتروني”، وتتولّى تطوير وتشغيل وإدارة الأنظمة الوطنية للدفع الرقمي في البلاد. 

التركيز على تطوير أنظمة الدفع الرقمي، يعكس رغبة الحكومة في السيطرة على الكتلة النقدية، ومكافحة الفساد، وتقليل طباعة العملة المحلية، فضلاً عن توطين رواتب موظفي وموظفات القطاع العام. 

تحديات ثقافية 

عادات التعامل النقدي الراسخة بين المواطنين، هي من أبرز التحديات، فرغم أنّ العراق من بين أكثر الدول استخداماً للهواتف النقالة والإنترنت، ولكن الثقافة الرقمية ما زالت ضعيفة بين مواطنيه. 

رابطة المصارف العراقية، أكدت أن عدد البطاقات المصرفية الصادرة في العراق بلغ نحو 18.5 مليون بطاقة حتى شهر أيلول 2023، إضافة إلى إصدار مليوني بطاقة جديدة في العام الماضي، وفقاً لتصريح محافظ البنك المركزي علي العلاق. 

ولكن استخدام هذه البطاقات ما زال محدوداً ويقتصر على تعاملات معينة، فآليات استخدامها لم تزل غير واضحة بالنسبة لبعض العراقيين، ويتفاوت هذا الوضوح بين قاطني المدن والأرياف. 

سهام راجي العتابي، (42 عاماً)، تسكن العاصمة، وتؤكد أنها لا ترتاح بالتعامل مع وسائل الدفع الرقمي الجديدة، وتروي أنها اضطرّت مؤخراً لدفع رسوم إصدار جواز رقمي باستخدام المنافذ التي وفّرتها دائرة الجوازات، “أني أعرف شنو هاي البطاقات بس أحس بالارتباك من أتعامل بيها، وأخاف أدوس دگمة غلط وتضيع الفلوس”. 

اقرأ أيضاً

المعدنون الرقميون في العراق.. “الربح” حتى لو اغتيل رئيس الوزراء أو احترقت “الشورجة”

كانت الحكومة العراقية، قد ألزمت في كانون الثاني 2023، باستخدام أجهزة الدفع الرقمي POS في الدوائر الحكومية، ووفقاً لمصرف الرافدين، وصل عدد الدوائر التي تستخدم نظام الجباية الرقمية إلى 1395 دائرة حتى نهاية 2023، في زيادة ملحوظة عن عام 2019 الذي سجل استخدام وسائل الدفع الرقمية في 13 دائرة فقط، و558 دائرة في عام 2021. 

هذا القرار أجبر المواطنين والمواطنات على اقتناء بطاقات الدفع الرقمي من أجل تسيير معاملاتهم الحكومية، ووصل إجمالي مبالغ الجباوة عبر هذا النظام إلى حوالي ستة تريليون دينار عراقي في 2024، وهي زيادة كبيرة مقارنة بعام 2023، الذي حقق نحو 418.3 مليار دينار (ما يعادل 319 مليون دولار أميركي تقريباً).  

وبشكل عام ارتفعت الحركات المالية من 298 مليار دينار في عام 2019 إلى نحو 9.8 تريليون دينار عراقي (7.63 مليار دولار أمريكي) في 2024، وفقاً لدائرة تقنية المعلومات والمدفوعات في البنك المركزي العراقي.  

القرار الذي طُبّق في حزيران 2023، حفّز إضافةً إلى مؤسسات الدولة، جميع المؤسسات التربوية والتعليمية الخاصة، ومحطات الوقود والمحال التجارية، والمطاعم والصيدليات، والعيادات الطبية الخاصة، والمذاخر، على القيام بخطوة رقمية في التعامل المالي.  

ورغم أن الحكومة وافقت على بقاء التعامل النقدي في بعض هذه المؤسسات، لكنّها بدأت بتحفيزهم من أجل التوجه إلى الوسائل الرقمية، وأعفت جميع تعاملاتهم المالية من الضرائب. 

في كانون الثاني 2025، عقد نائب رئيس فريق التواصل الحكومي، عدنان العربي، اجتماعات مع وزير الصحة ونقابة الصيادلة من أجل إدخال نظام الدفع الرقمي إلى الصيدليات، والبالغ عددها نحو17 ألف صيدلية. 

ورغم التأكيد على أنّ المواطنين والمواطنات غير ملزمين باستخدام البطاقات المصرفية، ولكن وجود أجهزة الدفع أصبح شرطاً إلزامياً في الصيدليات، إلى جانب وضع ملصقات تُظهر توفر جهاز POS داخل الصيدلية. 

وتهدف هذه الخطوات إلى منع الرُّشى والفساد، وتقنين الموارد المالية للدولة بصورة سليمة، ورغم كل هذه التحفيزات، يُسجل غياب الثقافة اللازمة للاستخدام السليم لهذه الوسائل. 

ثقافة أمنية 

لا يقتصر غياب ثقافة الدفع الرقمي في العراق على ارتباك المواطنين بكيفية استخدام البطاقات المصرفية وأجهزة الدفع الرقمي، بل يشمل الجهل بوسائل التعامل الآمن بها، سواء على مستوى الأفراد أو مزودي الخدمة ووكلائهم. 

شيماء عبد علي الجبوري، موظفة حكومية، تعرّضت لموقف يوضح مدى خطورة الجهل بالأسس الأمنية للدفع الإلكتروني، إذ أعطت الرمز السري للوكيل من أجل سحب معاشها، وهو أمر معتاد في البلاد، ولكنه أبلغها بأن بطاقتها فارغة. 

بعد لحظات استلمت رسالة نصية باستلام راتبها، فعادت فوراً إلى المنفذ الذي أصرّ على كلامه، ولكنها هددته بالاتصال بالشرطة وسحب تسجيلات كاميرات المراقبة، فتخوّف صاحب المنفذ وقام بتسليم الراتب إلى شيماء. 

وجدير بالذكر أن منح الرمز السري لصاحب المنفذ أمر مخالف للقانون، وتؤكد عليه شركات الدفع الرقمي في رسالة نصيّة تحذر من مشاركة الرمز مع أي شخص، كما تنصّ المادة 27 من قرار مجلس الوزراء لعام 2024، بأن يلتزم الوكيل بإجراءات وتدابير أمن المعلومات والحفاظ على سرّيتها وخصوصيتها. 

ومع ذلك يظلّ الالتزام بهذه التعليمات محدوداً بسبب ضعف الثقافة المصرفية في المجتمع، فظاهرة منح الرمز شفوياً للقائم على جهاز السحب، شائعة في البلاد، إن كان داخل الصيرفات أو حتى مؤسسات الدولة، مثل البطاقة الوطنية والجوازات. 

وإضافة إلى ذلك كله، انتشرت ظاهرة غريبة وغير قانونية في الدفع الرقمي، وهي تأجير بطاقات الدفع الرقمي للمواطنين الذين لا يمتلكون بطاقات خاصة بهم لإتمام معاملاتهم.  

فالمواطن الذي يجد نفسه مضطراً لدفع رسوم معاملته في الدوائر الحكومية، قد يلجأ إلى استئجار بطاقة من أحد الوسطاء داخل الدائرة الحكومية أو خارجها، مقابل مبالغ مالية غير محددة. 

مبلغ استئجار هذه البطاقة داخل دائرة الجوازات هو بين ألف إلى ثلاثة آلاف دينار عراقي، فيما قد يصل إلى خمسة آلاف دينار في بعض محطات تعبئة الوقود. 

وتعدّ هذه الممارسات مخالفة قانونية، وتُدرج تحت مصطلح الاستغلال غير المشروع، ويُمكن أن توقع الطرفين (المؤجّر والمستأجر)، في مشاكل قانونية في حال إساءة استخدامها، وبسبب هذه المخاطر باشرت الدوائر الرسمية التي تعمل وفق هذا النظام بأخذ تأمين شخصي سواء عبر وصولات المعاملة أو الهوية الشخصية لضمان ألّا تستخدم البطاقة في غير المخصص لها. 

ومن ناحية أخرى، حفزت هذه الممارسات نمو السوق غير القانونية للبطاقات المصرفية الإلكترونية، واستغلال المواطنين والمواطنات، فبعض المكاتب الخارجية بدأت بتأجير البطاقات مقابل مبالغ قد تصل إلى عشرة آلاف دينار، كما يعمل هؤلاء على زيادة رسوم تحويل المبالغ. فمثلاً، تطالب دائرة البطاقة الموحدة المواطنين بدفع مبلغ 6000 آلاف دينار نظير استخراج البطاقة الموحدة، ويطلب أصحاب المكاتب الخارجية مبلغ 2000 دينار مقابل تعبئة هذا المبلغ في استغلال آخر للناس. 

قصص النصب والاحتيال المرتبطة بالدفع الرقمي شائعة في العراق، فعلى سبيل المثال، قدم العقيد عزيز ناصر في إحدى حلقات برنامجه “النداء رقم واحد”، تعرّض إحدى السيدات لعملية احتيال أثناء حجز خدمة عبر أحد صفحات (إنستغرام) وطلب منها تحويل مبلغ 730 ألف دينار لضمان استمرار الحجز، تبين لاحقاً أنّ الصفحة مزيفة وتنتحل اسم شركة معروفة. 

وفي حادثة أخرى من البرنامج نفسه، تعرّضت إحدى السيدات وأمها المقعدة للاحتيال من قبل عصابة تنتحل صفة أميرة خليجية، تواصلت السيدة مع هذه الصفحة رغبة بالحصول على مساعدة مالية تعينها في شراء أدوية لأمها. 

لاحقاً، طلبوا منها الحضور إلى مكان معيّن، وأخذ الموظفون المزعومون صوراً لهوياتها الرسمية داخل محل عشوائي لخدمات الهواتف المحمولة. 

استغلّ المحتالون هذه الهويات لشراء شريحتي اتصال وربطهما بحسابات “زين كاش”، استخدمت في تنفيذ عمليات احتيال أخرى، وبعد عدة أشهر، وجدت السيدة نفسها متورطة في دعاوى قضائية بتهمة النصب والاحتيال، على الرغم من أنها كانت الضحية. 

مثل هذه القصص كثيرة داخل المجتمع، وتعكس عدم توعية الناس بكيفية التعامل الآمن مع الأنظمة المصرفية الجديدة. 

اختراق أمني 

إضافة إلى ذلك، يتجنّب كثُر إيداع الأموال في حساباتهم المصرفية خوفاً من تعرضهم، أو المصارف للاختراق.  

باسم علي الناصري، أحد هؤلاء المواطنين، ويوضح أنه يودع مبالغ محددة فقط لاستخدامها في الحالات الضرورية، مثل تعبئة الوقود أو إتمام معاملات حكومية.  

في أحيان أخرى، يلجأ إلى مكاتب تقدّم خدمات الدفع بالنيابة عنه مقابل عمولة مالية، ويبرر ذلك بأن دفع رسوم وعمولات إضافية يبقى أفضل من خسارة أمواله إذا حصل أي اختراق. 

وعن ذلك، يقول علي مصطفى، مستشار أمن المعلومات ومؤسس شركة مسار الامتثال “GRE PATH” لأمن وتدقيق ونظم المعلومات “لا توجد أنظمة آمنة بشكل مطلق، لكن معظم المصارف العراقية تسعى بناءً على تعليمات وتشريعات البنك المركزي العراقي، للوصول إلى مستويات أمان تتناسب مع التهديدات السيبرانية المتزايدة”. 

وكان البنك المركزي قد شدد في آذار 2024، على ضرورة استخدام أفضل الأنظمة والمعايير الدولية في مجال الدفع الرقمي، مع تخصيص ملايين الدولارات لتطوير البنية التحتية التقنية. 

كما نصّ قرار لمجلس الوزراء عام 2024، على تعزيز أمان نظم الدفع الإلكتروني باعتماد أفضل الممارسات في أمن المعلومات ومكافحة التهديدات ذات الصلة. 

ورغم ذلك، تبقى هواجس المواطنين مشابهة لمخاوف باسم الناصري. ويعتقد كُثر أن الأنظمة الرقمية أكثر عرضة للاختراق أو الاحتيال، نظراً إلى غياب الثقافة الأمنية المتعلقة بالمعاملات الرقمية؛ وهذه المخاوف تؤدي إلى تردد في استخدام خدمات الدفع الرقمي. 

ولكن علاج هذه المخاوف موجود، بحسب تصريح مصطفى لجُمّار، ويؤكد إمكانية تقليل مخاطر الاختراق، وحماية بياناته المالية والمصرفية عبر اتباع إرشادات المؤسسات المالية، والجهات الحكومية ذات الصلة بعدم الضغط على الروابط المشبوهة وعدم التجاوب مع الاتصالات أو الأشخاص الذين يطلبون كلمات السر وما شابه، وكذلك استخدام التطبيقات الخاصة بحماية الأمن السيبراني والبرامج الموثوقة. 

عمولات مبالغ بها 

تُعدّ العمولات الباهظة من أبرز أسباب مخاوف الناس بشأن التعامل المالي الرقمي، فرغم أنّ البنك المركزي أوعز بتصفير العمولة على المواطن والتاجر عند الدفع عبر أجهزة pos، ولكنّه أهمل العمولات المفروضة على المواطنين عند عمليات سحب وإيداع النقود. 

ويقرّ قانون نظام خدمات الدفع الرقمي في المادة 13، ثانياً، “أن على مزودي الخدمة الإفصاح عن تفاصيل خدمات الدفع الإلكتروني وعمولاتها إفصاحاً واضحاً للزبون بما في ذلك أي عمولات مرتبطة بتلك الخدمات”، ولكنّ المصارف لا تُبلغ المواطنين بطبيعة العمولات المستقطعة منهم سواء عند الدفع أو الإيداع، فيما يقوم الوكلاء باستقطاع نسب مختلفة بحسب مبالغ الإيداع أو السحب. 

محمد رسول (37 عاماً)، يوضّح تجربته في السحب والإيداع، “عند سحب راتبي، أضطر لدفع 3,000 دينار كعمولة”، ويدفع رسوماً إضافية عند إيداع مبالغ أخرى لدفع بعض الخدمات، مثل تعبئة الوقود. “لهذا بديت ما أسحب كل راتبي وأترك جزء منه لاستخدامه في محطات الوقود أو للمعاملات الرسمية، لتجنب العمولات الإضافية”. 

يعتقد محمد، أنّ الحلّ يكمن في نشر أجهزة الصرّاف الآلي مثل باقي دول العالم، للتخفيف من الأعباء المالية المترتبة على الخدمات المصرفية الرقمية. 

مشاكل أجهزة الصراف الآلي من أبرز هذه المعوقات، حيث يعجز المواطنون عن سحب أموالهم من هذه الأجهزة بسبب عدم توفر السيولة فيها، أو تعطلها في أحيان أخرى، وقد يجد المواطن نفسه مضطراً إلى مراجعة المصرف في حال علقت بطاقته داخل الصرّاف بسبب كثرة أعطاله الفنية. 

ويوضح هذا الجانب، ضعف صيانة الأجهزة وتحديثها المستمر وغياب البدائل السريعة، حيث يندر توفر هذه الأجهزة إلا في مناطق وأماكن متباعدة.  

وكان المكتب الإعلامي في البنك المركزي العراقي قد أشار في كانون الثاني 2025، إلى وضع خطط لتوسيع انتشار أجهزة الصرّاف الآلي (ATM) في جميع أنحاء البلاد. 

كذلك، تجّار كثيرون يرغبون في الحصول على تسهيلات مالية لقاء تعاملهم بالبطاقات الرقمية، وحيث أن الدولة خفّضت قيمة الرسوم المفروضة عليهم من اثنين إلى واحد بالمئة، غير أنّ هذه المبالغ كبيرة بالنسبة لبعضهم. كما أنّ المصرف العراقي للتجارة هو الوحيد الذي يمكّن التجار من فتح حسابات اعتمادية، ويطلب ضمانات بقيمة عالية تتجاوز نسبة مئة بالمئة. 

سلام غانم الربيعي، أحد تجّار البيع بالجُملة، يستخدم في تعامله المالي بطاقات الدفع الرقمي من مصارف خارجية، مثل التركية والأردنية. 

ولا يُرجع سبب لجوئه إلى ذلك للرسوم المفروضة وحسب، ولكن أيضاً لحسن تعامل الموظفين في المصارف الأجنبية، وسرعة إنجاز المعاملات، مقارنة بموظفي المصارف العراقية. 

بقشيش إضافي 

من سلبيات التعامل مع المنافذ والوكلاء؛ البقشيش، الذي يفرضه بعض العاملين في محطات الوقود على الزبائن، ومطالبتهم بدفع عمولات نقدية إضافية لهم، بديلاً للخدمة التي يقدمونها. 

خالد عبد الرحمن الزوبعي (33 عاماً)، سائق تكسي من بغداد، يقول إن بعض العاملين يطلبون مبالغ تتراوح ما بين 1000 دينار و5000 دينار نقداً لقاء خدماتهم، ولا يمانعون من افتعال المشاكل مع المواطنين من أجل الحصول على هذه المبالغ، بغض النظر عن القرار الذي وجد للقضاء على مثل هذه الظواهر السلبية. 

وزارة النفط كانت قد أعلنت مطلع 2024 عن وضع أكشاك في محطات الوقود تمهيداً لاعتماد الدفع الرقمي في محطات تعبئة البنزين. 

أمير العبودي، أحد عمّال محطات الوقود في بغداد، يقول إن العامل يعمل في مختلف الأجواء وبغض النظر عن الحرّ والبرد ولمدة ثماني ساعات من أجل خدمة المواطن؛ لذا فإن “مثل هذه المبالغ قليلة بحقهم”. وعند سؤاله عن “أخذ البقشيش بغير مودة” وهو الذي يأخذ راتبه من الدولة، ردَّ أن راتبه هو 500 ألف دينار، وهو مبلغ لا يسدّ تكاليف العيش. 

من السلبيات كذلك، تأخّر استلام البطاقات بعد طلبها عبر التطبيقات المخصصة، تقول إيناس رشيد، من محافظة صلاح الدين، إنها طلبت بطاقة مصرفية عبر تطبيق رقمي، “وبالفعل اتصل بي موظف التوصيل، ولكنّي لم أستطع الإجابة عليه، واتصلت به بعد ساعة فأخبرني أنه عائد إلى بغداد، وأن عليّ الاتصال بخدمة الزبائن في الشركة”. 

وهو ما فعلته إيناس، تواصلت مع المصرف عدّة مرات عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الردّ دائماً كان “الطلب قيد التدقيق”، وبعد مرور شهرين من الانتظار، ما تزال إيناس تنتظر انتهاء مرحلة التدقيق التي لا يبدو أنّها ستنتهي! 

حلول محتملة 

هذه المشاكل الموجودة يُمكن حلّها، فبحسب أحمد مهيمن، الباحث في العلوم المالية والمصرفية، فإن زيادة استقطاب المواطنين، تبدأ من تحسين البنية الاقتصادية الرقمية، عبر نصب شبكات خاصة بأجهزة الصراف الآلي، وتوزيعها وفقاً لدراسات معمقة توضع بالمشاركة بين عدّة وزارات. 

هذا الجانب يستدعي وجود تواصل فعّال بين البنك المركزي ووزارات المالية والاتصالات من أجل توفير نقاط اتصال فاعلة، ووزارة الإسكان لدراسة الأماكن المناسبة لمحطات الصرف، إضافة الى إحصائيات التوزيع السكاني في وزارة التخطيط. 

ويشير مهيمن إلى ضمان هذه الكابينات لضمان استمرارية عملها، كما أن جذب المواطنين يوجب وجود تجاوب فوري لاستلام شكاواهم، ومنع العمولات التي يدفعونها عند إجراء العمليات المالية، والعمل وفق نظام النقاط من أجل التحفيز على استخدام الدفع الإلكتروني. 

من الناحية الأمنية، يشير علي مصطفى، مستشار أمن المعلومات، إلى ضرورة اتباع المصارف للمعاييرالدولية الخاصة بأمن المعلومات مثل ISO 27001

ويؤكد لجُمّار، أهمية اتباع تشريعات البنك المركزي العراقي الخاصة بالصمود السيبراني، ودليل حوكمة تقنية الاتصالات والمعلومات الصادرة عنه وعبر تدريب الكوادر المصرفية، وإجراء برامج التوعية الخاصة بالأمن السيبراني، وأيضاً عبر استخدام أحدث تقنيات وأجهزة الحماية وتطوير أقسام أمن المعلومات الناشئة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في العشر الأوائل من شباط 2025، أصدر البنك المركزي العراقي تعليمات برفع أجور إصدار البطاقات المصرفية، بحيث يكون إصدار بطاقة راتب لأول مرّة يُكلّف 15 ألف دينار بعد أن كان عشرة آلاف، أما كلفة استبدال بطاقة الماستر التالفة فأصبحت 15 ألف دينار بدل عشرة آلاف، وعمولة سحب الأموال من أجهزة pos صارت 2000 دينار على المليون بعد أن كانت 1000 دينار. 

يعيش العراق تحولات جذرية في مجال الدفع الرقمي، وبدأت مصارفه الحكومية والخاصة الاعتماد على أنظمة الدفع الرقمية، كما بدأ الناس يتجهون لاستخدام هذه الوسائل في تعاملاتهم اليومية. 

التحوّل إلى التعاملات المالية الإلكترونية، خطوة إلى الأمام، لكن العراق ما يزال يعاني من عقبات تؤخّر انتقاله المثالي إلى ثقافة الدفع الرقمي، بدلاً من النقدي. 

العراق تأخر في الدخول إلى المجال الرقمي بنحو نصف قرن، فرغم أن مصرف الرافدين باشر بتقديم بطاقات الائتمان للمواطنين منذ عام 2003؛ غير أنّ استخدامها ظلّ محدوداً للغاية، وحافظت التعاملات النقدية على هيمنتها حتى عام 2007، بعدما بدأ الترويج لبطاقات “كي كارد”. 

عام 1950، أطلقت شركة “Diners Club” الأمريكية أول بطاقات الائتمان في العالم، وفي عام 1958 ظهرت بطاقات الائتمان البلاستيكية مثل “American Express  وVisa

وتطورت تدريجياً، وصولاً إلى توزيع أجهزة الصرّاف الآلي ATMs وشبكات البنوك الرقمية “SWIFT“، وانتشار شركات التسوّق الرقمي عن بعد مثل PayPal

عربياً، ظهرت أجهزة الصرّاف الآلي في السعودية والإمارات خلال ثمانينيات القرن الماضي، وفي التسعينيات، اعتمدت هذه الدول على الشبكات الرقمية الدولية مثل “Visa”، و”MasterCard”، كما سارعت الإمارات إلى تطوير أنظمتها وأطلقت عام 2001 بوابة “eDirham” لتسهيل المعاملات الحكومية. 

في العراق، بدأ ظهور وسائل الدفع الرقمي عام 2007، بعد تأسيس الشركة العالمية للبطاقة الذكية، بالتعاون مع القطاع العام، وأطلقت مشروع “كي كارد” البيومتري. 

وفي عام 2008، باشر البنك المركزي في أتمتة معاملاته التجارية، وأطلق نظام المدفوعات العراقي، ويعمل النظام على تسجيل كافة الأوراق النقدية التي يصدرها البنك المركزي العراقي ووزارة المالية، ويساعدهم في السيطرة على السيولة المالية، وأيضاً يسعى إلى تقليل استخدام النقد في تعاملاته، وتجاوز البعد الجغرافي بين المصارف وفروعها، وتقليل مخاطر نقل الأموال. 

لاحقاً، وبين عامي 2016 و2018، حصل مصرف التنمية الدولي على ترخيص بإصدار وإدارة البطاقات المصرفية من شركتي VISA وMasterCard، ليصبح بذلك أول مصرف عراقي مخوّل من هاتين الشركتين العالميتين.  

بطء تقدم العراق في هذا المجال يرجع إلى الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الأمنية التي مرّ بها العراق خلال تلك الفترة، ولكن مع الاستقرار النسبي للأوضاع، شجّعت الحكومة على استخدام الدفع الرقمي. 

عام 2020، أطلق البنك المركزي العراقي “قانون الجباية الإلكترونية لصندوق الإسكان”، ونصّ على أن “يستهدف هذا المشروع بشكل عام الوزارات ودوائر الجباية التي تستحصل إيراداتها من خلال الفواتير والرسوم وعلى رأسها صندوق الإسكان العراقي”. 

ومع تزايد التعاملات المالية الرقمية، قرّر البنك المركزي في عام 2023 تأسيس “الشركة الوطنية لنظم الدفع الإلكتروني”، وتتولّى تطوير وتشغيل وإدارة الأنظمة الوطنية للدفع الرقمي في البلاد. 

التركيز على تطوير أنظمة الدفع الرقمي، يعكس رغبة الحكومة في السيطرة على الكتلة النقدية، ومكافحة الفساد، وتقليل طباعة العملة المحلية، فضلاً عن توطين رواتب موظفي وموظفات القطاع العام. 

تحديات ثقافية 

عادات التعامل النقدي الراسخة بين المواطنين، هي من أبرز التحديات، فرغم أنّ العراق من بين أكثر الدول استخداماً للهواتف النقالة والإنترنت، ولكن الثقافة الرقمية ما زالت ضعيفة بين مواطنيه. 

رابطة المصارف العراقية، أكدت أن عدد البطاقات المصرفية الصادرة في العراق بلغ نحو 18.5 مليون بطاقة حتى شهر أيلول 2023، إضافة إلى إصدار مليوني بطاقة جديدة في العام الماضي، وفقاً لتصريح محافظ البنك المركزي علي العلاق. 

ولكن استخدام هذه البطاقات ما زال محدوداً ويقتصر على تعاملات معينة، فآليات استخدامها لم تزل غير واضحة بالنسبة لبعض العراقيين، ويتفاوت هذا الوضوح بين قاطني المدن والأرياف. 

سهام راجي العتابي، (42 عاماً)، تسكن العاصمة، وتؤكد أنها لا ترتاح بالتعامل مع وسائل الدفع الرقمي الجديدة، وتروي أنها اضطرّت مؤخراً لدفع رسوم إصدار جواز رقمي باستخدام المنافذ التي وفّرتها دائرة الجوازات، “أني أعرف شنو هاي البطاقات بس أحس بالارتباك من أتعامل بيها، وأخاف أدوس دگمة غلط وتضيع الفلوس”. 

اقرأ أيضاً

المعدنون الرقميون في العراق.. “الربح” حتى لو اغتيل رئيس الوزراء أو احترقت “الشورجة”

كانت الحكومة العراقية، قد ألزمت في كانون الثاني 2023، باستخدام أجهزة الدفع الرقمي POS في الدوائر الحكومية، ووفقاً لمصرف الرافدين، وصل عدد الدوائر التي تستخدم نظام الجباية الرقمية إلى 1395 دائرة حتى نهاية 2023، في زيادة ملحوظة عن عام 2019 الذي سجل استخدام وسائل الدفع الرقمية في 13 دائرة فقط، و558 دائرة في عام 2021. 

هذا القرار أجبر المواطنين والمواطنات على اقتناء بطاقات الدفع الرقمي من أجل تسيير معاملاتهم الحكومية، ووصل إجمالي مبالغ الجباوة عبر هذا النظام إلى حوالي ستة تريليون دينار عراقي في 2024، وهي زيادة كبيرة مقارنة بعام 2023، الذي حقق نحو 418.3 مليار دينار (ما يعادل 319 مليون دولار أميركي تقريباً).  

وبشكل عام ارتفعت الحركات المالية من 298 مليار دينار في عام 2019 إلى نحو 9.8 تريليون دينار عراقي (7.63 مليار دولار أمريكي) في 2024، وفقاً لدائرة تقنية المعلومات والمدفوعات في البنك المركزي العراقي.  

القرار الذي طُبّق في حزيران 2023، حفّز إضافةً إلى مؤسسات الدولة، جميع المؤسسات التربوية والتعليمية الخاصة، ومحطات الوقود والمحال التجارية، والمطاعم والصيدليات، والعيادات الطبية الخاصة، والمذاخر، على القيام بخطوة رقمية في التعامل المالي.  

ورغم أن الحكومة وافقت على بقاء التعامل النقدي في بعض هذه المؤسسات، لكنّها بدأت بتحفيزهم من أجل التوجه إلى الوسائل الرقمية، وأعفت جميع تعاملاتهم المالية من الضرائب. 

في كانون الثاني 2025، عقد نائب رئيس فريق التواصل الحكومي، عدنان العربي، اجتماعات مع وزير الصحة ونقابة الصيادلة من أجل إدخال نظام الدفع الرقمي إلى الصيدليات، والبالغ عددها نحو17 ألف صيدلية. 

ورغم التأكيد على أنّ المواطنين والمواطنات غير ملزمين باستخدام البطاقات المصرفية، ولكن وجود أجهزة الدفع أصبح شرطاً إلزامياً في الصيدليات، إلى جانب وضع ملصقات تُظهر توفر جهاز POS داخل الصيدلية. 

وتهدف هذه الخطوات إلى منع الرُّشى والفساد، وتقنين الموارد المالية للدولة بصورة سليمة، ورغم كل هذه التحفيزات، يُسجل غياب الثقافة اللازمة للاستخدام السليم لهذه الوسائل. 

ثقافة أمنية 

لا يقتصر غياب ثقافة الدفع الرقمي في العراق على ارتباك المواطنين بكيفية استخدام البطاقات المصرفية وأجهزة الدفع الرقمي، بل يشمل الجهل بوسائل التعامل الآمن بها، سواء على مستوى الأفراد أو مزودي الخدمة ووكلائهم. 

شيماء عبد علي الجبوري، موظفة حكومية، تعرّضت لموقف يوضح مدى خطورة الجهل بالأسس الأمنية للدفع الإلكتروني، إذ أعطت الرمز السري للوكيل من أجل سحب معاشها، وهو أمر معتاد في البلاد، ولكنه أبلغها بأن بطاقتها فارغة. 

بعد لحظات استلمت رسالة نصية باستلام راتبها، فعادت فوراً إلى المنفذ الذي أصرّ على كلامه، ولكنها هددته بالاتصال بالشرطة وسحب تسجيلات كاميرات المراقبة، فتخوّف صاحب المنفذ وقام بتسليم الراتب إلى شيماء. 

وجدير بالذكر أن منح الرمز السري لصاحب المنفذ أمر مخالف للقانون، وتؤكد عليه شركات الدفع الرقمي في رسالة نصيّة تحذر من مشاركة الرمز مع أي شخص، كما تنصّ المادة 27 من قرار مجلس الوزراء لعام 2024، بأن يلتزم الوكيل بإجراءات وتدابير أمن المعلومات والحفاظ على سرّيتها وخصوصيتها. 

ومع ذلك يظلّ الالتزام بهذه التعليمات محدوداً بسبب ضعف الثقافة المصرفية في المجتمع، فظاهرة منح الرمز شفوياً للقائم على جهاز السحب، شائعة في البلاد، إن كان داخل الصيرفات أو حتى مؤسسات الدولة، مثل البطاقة الوطنية والجوازات. 

وإضافة إلى ذلك كله، انتشرت ظاهرة غريبة وغير قانونية في الدفع الرقمي، وهي تأجير بطاقات الدفع الرقمي للمواطنين الذين لا يمتلكون بطاقات خاصة بهم لإتمام معاملاتهم.  

فالمواطن الذي يجد نفسه مضطراً لدفع رسوم معاملته في الدوائر الحكومية، قد يلجأ إلى استئجار بطاقة من أحد الوسطاء داخل الدائرة الحكومية أو خارجها، مقابل مبالغ مالية غير محددة. 

مبلغ استئجار هذه البطاقة داخل دائرة الجوازات هو بين ألف إلى ثلاثة آلاف دينار عراقي، فيما قد يصل إلى خمسة آلاف دينار في بعض محطات تعبئة الوقود. 

وتعدّ هذه الممارسات مخالفة قانونية، وتُدرج تحت مصطلح الاستغلال غير المشروع، ويُمكن أن توقع الطرفين (المؤجّر والمستأجر)، في مشاكل قانونية في حال إساءة استخدامها، وبسبب هذه المخاطر باشرت الدوائر الرسمية التي تعمل وفق هذا النظام بأخذ تأمين شخصي سواء عبر وصولات المعاملة أو الهوية الشخصية لضمان ألّا تستخدم البطاقة في غير المخصص لها. 

ومن ناحية أخرى، حفزت هذه الممارسات نمو السوق غير القانونية للبطاقات المصرفية الإلكترونية، واستغلال المواطنين والمواطنات، فبعض المكاتب الخارجية بدأت بتأجير البطاقات مقابل مبالغ قد تصل إلى عشرة آلاف دينار، كما يعمل هؤلاء على زيادة رسوم تحويل المبالغ. فمثلاً، تطالب دائرة البطاقة الموحدة المواطنين بدفع مبلغ 6000 آلاف دينار نظير استخراج البطاقة الموحدة، ويطلب أصحاب المكاتب الخارجية مبلغ 2000 دينار مقابل تعبئة هذا المبلغ في استغلال آخر للناس. 

قصص النصب والاحتيال المرتبطة بالدفع الرقمي شائعة في العراق، فعلى سبيل المثال، قدم العقيد عزيز ناصر في إحدى حلقات برنامجه “النداء رقم واحد”، تعرّض إحدى السيدات لعملية احتيال أثناء حجز خدمة عبر أحد صفحات (إنستغرام) وطلب منها تحويل مبلغ 730 ألف دينار لضمان استمرار الحجز، تبين لاحقاً أنّ الصفحة مزيفة وتنتحل اسم شركة معروفة. 

وفي حادثة أخرى من البرنامج نفسه، تعرّضت إحدى السيدات وأمها المقعدة للاحتيال من قبل عصابة تنتحل صفة أميرة خليجية، تواصلت السيدة مع هذه الصفحة رغبة بالحصول على مساعدة مالية تعينها في شراء أدوية لأمها. 

لاحقاً، طلبوا منها الحضور إلى مكان معيّن، وأخذ الموظفون المزعومون صوراً لهوياتها الرسمية داخل محل عشوائي لخدمات الهواتف المحمولة. 

استغلّ المحتالون هذه الهويات لشراء شريحتي اتصال وربطهما بحسابات “زين كاش”، استخدمت في تنفيذ عمليات احتيال أخرى، وبعد عدة أشهر، وجدت السيدة نفسها متورطة في دعاوى قضائية بتهمة النصب والاحتيال، على الرغم من أنها كانت الضحية. 

مثل هذه القصص كثيرة داخل المجتمع، وتعكس عدم توعية الناس بكيفية التعامل الآمن مع الأنظمة المصرفية الجديدة. 

اختراق أمني 

إضافة إلى ذلك، يتجنّب كثُر إيداع الأموال في حساباتهم المصرفية خوفاً من تعرضهم، أو المصارف للاختراق.  

باسم علي الناصري، أحد هؤلاء المواطنين، ويوضح أنه يودع مبالغ محددة فقط لاستخدامها في الحالات الضرورية، مثل تعبئة الوقود أو إتمام معاملات حكومية.  

في أحيان أخرى، يلجأ إلى مكاتب تقدّم خدمات الدفع بالنيابة عنه مقابل عمولة مالية، ويبرر ذلك بأن دفع رسوم وعمولات إضافية يبقى أفضل من خسارة أمواله إذا حصل أي اختراق. 

وعن ذلك، يقول علي مصطفى، مستشار أمن المعلومات ومؤسس شركة مسار الامتثال “GRE PATH” لأمن وتدقيق ونظم المعلومات “لا توجد أنظمة آمنة بشكل مطلق، لكن معظم المصارف العراقية تسعى بناءً على تعليمات وتشريعات البنك المركزي العراقي، للوصول إلى مستويات أمان تتناسب مع التهديدات السيبرانية المتزايدة”. 

وكان البنك المركزي قد شدد في آذار 2024، على ضرورة استخدام أفضل الأنظمة والمعايير الدولية في مجال الدفع الرقمي، مع تخصيص ملايين الدولارات لتطوير البنية التحتية التقنية. 

كما نصّ قرار لمجلس الوزراء عام 2024، على تعزيز أمان نظم الدفع الإلكتروني باعتماد أفضل الممارسات في أمن المعلومات ومكافحة التهديدات ذات الصلة. 

ورغم ذلك، تبقى هواجس المواطنين مشابهة لمخاوف باسم الناصري. ويعتقد كُثر أن الأنظمة الرقمية أكثر عرضة للاختراق أو الاحتيال، نظراً إلى غياب الثقافة الأمنية المتعلقة بالمعاملات الرقمية؛ وهذه المخاوف تؤدي إلى تردد في استخدام خدمات الدفع الرقمي. 

ولكن علاج هذه المخاوف موجود، بحسب تصريح مصطفى لجُمّار، ويؤكد إمكانية تقليل مخاطر الاختراق، وحماية بياناته المالية والمصرفية عبر اتباع إرشادات المؤسسات المالية، والجهات الحكومية ذات الصلة بعدم الضغط على الروابط المشبوهة وعدم التجاوب مع الاتصالات أو الأشخاص الذين يطلبون كلمات السر وما شابه، وكذلك استخدام التطبيقات الخاصة بحماية الأمن السيبراني والبرامج الموثوقة. 

عمولات مبالغ بها 

تُعدّ العمولات الباهظة من أبرز أسباب مخاوف الناس بشأن التعامل المالي الرقمي، فرغم أنّ البنك المركزي أوعز بتصفير العمولة على المواطن والتاجر عند الدفع عبر أجهزة pos، ولكنّه أهمل العمولات المفروضة على المواطنين عند عمليات سحب وإيداع النقود. 

ويقرّ قانون نظام خدمات الدفع الرقمي في المادة 13، ثانياً، “أن على مزودي الخدمة الإفصاح عن تفاصيل خدمات الدفع الإلكتروني وعمولاتها إفصاحاً واضحاً للزبون بما في ذلك أي عمولات مرتبطة بتلك الخدمات”، ولكنّ المصارف لا تُبلغ المواطنين بطبيعة العمولات المستقطعة منهم سواء عند الدفع أو الإيداع، فيما يقوم الوكلاء باستقطاع نسب مختلفة بحسب مبالغ الإيداع أو السحب. 

محمد رسول (37 عاماً)، يوضّح تجربته في السحب والإيداع، “عند سحب راتبي، أضطر لدفع 3,000 دينار كعمولة”، ويدفع رسوماً إضافية عند إيداع مبالغ أخرى لدفع بعض الخدمات، مثل تعبئة الوقود. “لهذا بديت ما أسحب كل راتبي وأترك جزء منه لاستخدامه في محطات الوقود أو للمعاملات الرسمية، لتجنب العمولات الإضافية”. 

يعتقد محمد، أنّ الحلّ يكمن في نشر أجهزة الصرّاف الآلي مثل باقي دول العالم، للتخفيف من الأعباء المالية المترتبة على الخدمات المصرفية الرقمية. 

مشاكل أجهزة الصراف الآلي من أبرز هذه المعوقات، حيث يعجز المواطنون عن سحب أموالهم من هذه الأجهزة بسبب عدم توفر السيولة فيها، أو تعطلها في أحيان أخرى، وقد يجد المواطن نفسه مضطراً إلى مراجعة المصرف في حال علقت بطاقته داخل الصرّاف بسبب كثرة أعطاله الفنية. 

ويوضح هذا الجانب، ضعف صيانة الأجهزة وتحديثها المستمر وغياب البدائل السريعة، حيث يندر توفر هذه الأجهزة إلا في مناطق وأماكن متباعدة.  

وكان المكتب الإعلامي في البنك المركزي العراقي قد أشار في كانون الثاني 2025، إلى وضع خطط لتوسيع انتشار أجهزة الصرّاف الآلي (ATM) في جميع أنحاء البلاد. 

كذلك، تجّار كثيرون يرغبون في الحصول على تسهيلات مالية لقاء تعاملهم بالبطاقات الرقمية، وحيث أن الدولة خفّضت قيمة الرسوم المفروضة عليهم من اثنين إلى واحد بالمئة، غير أنّ هذه المبالغ كبيرة بالنسبة لبعضهم. كما أنّ المصرف العراقي للتجارة هو الوحيد الذي يمكّن التجار من فتح حسابات اعتمادية، ويطلب ضمانات بقيمة عالية تتجاوز نسبة مئة بالمئة. 

سلام غانم الربيعي، أحد تجّار البيع بالجُملة، يستخدم في تعامله المالي بطاقات الدفع الرقمي من مصارف خارجية، مثل التركية والأردنية. 

ولا يُرجع سبب لجوئه إلى ذلك للرسوم المفروضة وحسب، ولكن أيضاً لحسن تعامل الموظفين في المصارف الأجنبية، وسرعة إنجاز المعاملات، مقارنة بموظفي المصارف العراقية. 

بقشيش إضافي 

من سلبيات التعامل مع المنافذ والوكلاء؛ البقشيش، الذي يفرضه بعض العاملين في محطات الوقود على الزبائن، ومطالبتهم بدفع عمولات نقدية إضافية لهم، بديلاً للخدمة التي يقدمونها. 

خالد عبد الرحمن الزوبعي (33 عاماً)، سائق تكسي من بغداد، يقول إن بعض العاملين يطلبون مبالغ تتراوح ما بين 1000 دينار و5000 دينار نقداً لقاء خدماتهم، ولا يمانعون من افتعال المشاكل مع المواطنين من أجل الحصول على هذه المبالغ، بغض النظر عن القرار الذي وجد للقضاء على مثل هذه الظواهر السلبية. 

وزارة النفط كانت قد أعلنت مطلع 2024 عن وضع أكشاك في محطات الوقود تمهيداً لاعتماد الدفع الرقمي في محطات تعبئة البنزين. 

أمير العبودي، أحد عمّال محطات الوقود في بغداد، يقول إن العامل يعمل في مختلف الأجواء وبغض النظر عن الحرّ والبرد ولمدة ثماني ساعات من أجل خدمة المواطن؛ لذا فإن “مثل هذه المبالغ قليلة بحقهم”. وعند سؤاله عن “أخذ البقشيش بغير مودة” وهو الذي يأخذ راتبه من الدولة، ردَّ أن راتبه هو 500 ألف دينار، وهو مبلغ لا يسدّ تكاليف العيش. 

من السلبيات كذلك، تأخّر استلام البطاقات بعد طلبها عبر التطبيقات المخصصة، تقول إيناس رشيد، من محافظة صلاح الدين، إنها طلبت بطاقة مصرفية عبر تطبيق رقمي، “وبالفعل اتصل بي موظف التوصيل، ولكنّي لم أستطع الإجابة عليه، واتصلت به بعد ساعة فأخبرني أنه عائد إلى بغداد، وأن عليّ الاتصال بخدمة الزبائن في الشركة”. 

وهو ما فعلته إيناس، تواصلت مع المصرف عدّة مرات عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الردّ دائماً كان “الطلب قيد التدقيق”، وبعد مرور شهرين من الانتظار، ما تزال إيناس تنتظر انتهاء مرحلة التدقيق التي لا يبدو أنّها ستنتهي! 

حلول محتملة 

هذه المشاكل الموجودة يُمكن حلّها، فبحسب أحمد مهيمن، الباحث في العلوم المالية والمصرفية، فإن زيادة استقطاب المواطنين، تبدأ من تحسين البنية الاقتصادية الرقمية، عبر نصب شبكات خاصة بأجهزة الصراف الآلي، وتوزيعها وفقاً لدراسات معمقة توضع بالمشاركة بين عدّة وزارات. 

هذا الجانب يستدعي وجود تواصل فعّال بين البنك المركزي ووزارات المالية والاتصالات من أجل توفير نقاط اتصال فاعلة، ووزارة الإسكان لدراسة الأماكن المناسبة لمحطات الصرف، إضافة الى إحصائيات التوزيع السكاني في وزارة التخطيط. 

ويشير مهيمن إلى ضمان هذه الكابينات لضمان استمرارية عملها، كما أن جذب المواطنين يوجب وجود تجاوب فوري لاستلام شكاواهم، ومنع العمولات التي يدفعونها عند إجراء العمليات المالية، والعمل وفق نظام النقاط من أجل التحفيز على استخدام الدفع الإلكتروني. 

من الناحية الأمنية، يشير علي مصطفى، مستشار أمن المعلومات، إلى ضرورة اتباع المصارف للمعاييرالدولية الخاصة بأمن المعلومات مثل ISO 27001

ويؤكد لجُمّار، أهمية اتباع تشريعات البنك المركزي العراقي الخاصة بالصمود السيبراني، ودليل حوكمة تقنية الاتصالات والمعلومات الصادرة عنه وعبر تدريب الكوادر المصرفية، وإجراء برامج التوعية الخاصة بالأمن السيبراني، وأيضاً عبر استخدام أحدث تقنيات وأجهزة الحماية وتطوير أقسام أمن المعلومات الناشئة.