دراويش ديالى.. صراع الروحانيات مع السياسة والسلفية
04 آذار 2025
هل لبيوت الله ثمن؟ وهل للمحبة الإلهية سعر؟ كم الثمن؟ ما هو المبلغ الذي يستحقه صوت الصوفي في الانتخابات؟ وما هو نشاط المريدين السياسي؟ ولماذا وصل الحال بالصوفية أن صاروا يبيعون مساجدهم للسلفية مقابل مبالغ لا تشتري لهم مشتملاً في العشوائيات، فضلاً عن شراء الجنّة؟
في الوقت الذي كانت المناهج السلفية والإخوانية تزداد تمدداً مع سقوط نظام البعث وبدء حقبة جديدة من تاريخ العراق؛ كانت الصوفية تستعد لدفع الثمن، وهذا الثمن كان من دمائهم وتكاياهم، والثقة التي تمتعوا بها في المجتمع العراقي السُنّي لقرون طويلة.
حتى مع قدرة الطرائق الصوفية في ديالى على لملمة شتاتها وإعادة تكاياها وطقوسها، ما يزال الشعور بالاضطهاد هاجس هذه الطرائق داخل المجتمع السُنّي.
وما يزيد من محنة المتصوفين هو التأثير الثقافي والعلمي الذي جعل الأجيال الجديدة لا تنظر لطقوس الدراويش، بما تتضمن من خوارق وممارسات غريبة، كما كان ينظر لها الآباء والأجداد باعتبارها كرامات.
هذا النوع من الطقوس مثل ضرب الجسد باستخدام الآلات الحادة أو النار لم تعد الغالبية من الطرائق الصوفية تمارسه، بل يسعى بعضها للحد منه من دون إنكار شرعيّته أو التشكيك بكونه كرامة يمنحها الله للمريدين.
كما أن الإرث التاريخي الطويل الذي عرف خلاله التصوّف بالابتعاد عن السياسة والسلطة يقف اليوم على المحكّ، في ظل صراع انتخابي ينظر للتكايا ومريديها كمنجم من الأصوات.
تحت نيران التطرف
مثلما حصل مع معظم التكايا الصوفية في ديالى، فقد جرى تهجير أسرة الشيخ شوكت الزهيري، شيخ الطريقة الكسنزانية في ديالى، ووالده وأتباعه عام 2006، بعد سيطرة تنظيم القاعدة، ولم يعودوا إلا بعد ذلك بعامين، حينها وجدوا تكاياهم قد تفجّرت.
في بعقوبة، تعد تكية السيد سعدون المشايخي من أقدم تكايا المدينة، افتتحت عام 1957 على الطريقة الرفاعية القادرية، وتحظى باحترام كبير من قبل المريدين، ولكنها هُجرت عام 2007 بعد سيطرة تنظيم القاعدة على حي التحرير، حيث تقع التكية.

بعد العودة للمدينة، انتقمت القاعدة مجدداً من المشايخي ووضعت أسفل سيارته عبوة ناسفة تسببت بقتل نجله وأحد مريديه، أما هو فقد نجا من الحادث واستقرّت الشظايا في جسده حتى اللحظة، حيث يستقبل يومياً وهو في منتصف عقده الثامن الكثير ممن يقصدونه طلباً للبركة والرقية الشرعية.
يقول الدكتور كمال الدين نجل المشايخي، إن القاعدة وتنظيم التوحيد والجهاد وداعش استهدفوا التصوف في حرب ممنهجة، “اعتبرونا مرتدّين لأننا نؤمن بالأئمة والأولياء والصالحين”.
لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المتصوفين الذين قتلوا على يد التنظيمات الجهادية المتطرفة، ولا بعدد التكايا التي فُجّرت وهُدِمت، لكنها تقدّر بالعشرات، فمناطق واسعة من جغرافيا ديالى خضعت لفترة من الفترات لسيطرة تنظيم القاعدة ثم داعش.
ولدى جميع من تواصلنا معهم من شيوخ التصوف ذكريات سيئة عن تلك الفترات من قتل الأهل، أو الأقارب، أو المريدين، أو التهجير، أو تهديم التكايا.
الشيخ محمود يونس واحد من هؤلاء، فقد والده الشيخ يونس الطائي، شيخ الطريقة النبهانية في ديالى، بالإضافة إلى 20 فرد من المقربين، خلال هجوم لتنظيم القاعدة على قريتهم في أطراف كنعان (20 كم شرقي بعقوبة) عام 2007.
إرث عريق
لم تكن القاعدة تحارب أفراداً متصوفين فقط، بل واجهت إرثاً من المناهج الصوفية التي يتبعها السنّة في ديالى.
التصوّف في ديالى كما في معظم مدن العراق، له تاريخ يمكن الاستدلال عليه بسهولة من خلال مراقد شيوخ التصوف، التي تحوّلت لمزارات محلية في معظم مناطق محافظة ديالى.
في بعقوبة ينسب أهم مرقدين فيها لأهل التصوّف، وهما الشريف البعقوبي وهو من مشايخ عبد القادر الجيلاني، ومرقد علي بن إدريس البعقوبي، تلميذ الجيلاني والمعروف محلياً بأبو إدريس. بالإضافة إلى مراقد أخرى لها مكانة في وجدان الساكنين بقربها، مثل المقداد بن محمد الرفاعي الذي استمدّت المقدادية اسمها منه، ومرقد الشيخ بابا، والشيخ منصور، وإبراهيم السمين، والسيد مبارك.
يصعب حصر الطرائق الصوفية في ديالى بسبب تفرعاتها، لكنها تنقسم إلى قادرية ورفاعية، وكسنزانية ونقشبندية، وبدرجة أقل شاذلية ونبهانية.
كما يصعب إيجاد فروق جوهرية بين طريقة صوفية وأخرى، فجميع الطرق تقريباً تشترك في الأصول الأساسية، ويحدث الاختلاف في أداء الطقوس، مثل الضرب والخوارق، وبعض الطرق تكون أذكارها وتسابيحها وأناشيدها وقوفاً، وبعضها جلوساً، وهناك اختلافات بينها كذلك فيما يتعلق بترديد الأذكار بصوت مرتفع أو بصوت خافت.

يقول صالح أبو خمرة، أستاذ الفقه الإسلامي، وهو من عائلة صوفية عريقة، إن “الجهل والتزمّت من قبل المشايخ غالباً ما يكون وراء التحوّل داخل الطرق”، ويشبّه حالة التنافس لدى بعض شيوخ الطرائق الصوفية بما يحصل من تنافس بين شيوخ العشائر على الجاه والنفوذ. “هنالك تنافس وطعن وتناحر وأحياناً مشايخ بارزين ما عدهم علم”.
يعلّل الشيخ محمود يونس شيخ الطريقة الناظمية النبهانية تفرّع الطريقة الصوفية الواحدة إلى مسارات مختلفة بالتقادم الزمني، “بعض الطرق اشتهرت على من صدقت على يده الطريقة واشتهر بالكرامات، لذا ترتبط الطريقة باسمه ثم بقدوم أجيال جديدة لم تعاصر شيخ الطريقة الأول، فتبدأ بالانتساب إلى شيخ معاصر لهم”.
على جرف السياسة
لم تعد الطرائق الصوفية بعيدة عن ملوثات السياسة، كما كانت عبر التاريخ.
فسمعة الطريقة النقشبندية قد تلطّخت بانشقاق فرع منها، ودخوله مجال السياسة وحتى القتال ضد الجيش الأمريكي بعد عام 2003، والتحالف مع التنظيمات المتطرفة، وكان جزءاً من هذا الانشقاق في ديالى.
“نحن بريئين منهم”، يقول الشيخ لامع النقشبندي. ويشبّه انشقاقهم عن الطريقة بأنه شبيه بانشقاق الخوارج في التاريخ الإسلامي، ويشير أيضاً إلى أنّ نقشبندية ديالى الذين التحقوا بهذا الاتجاه الذي ظهر في سامراء وتكريت قد اختفوا وتبخّروا ولم يعد لهم وجود أو تكايا.
توطّدت علاقة التصوف مع السلطة بعد غزو الكويت، وظروف الحصار الاقتصادي وحاجة السلطة لزيادة رصيدها الشعبي وتوثيق صلاتها بالمجتمع، وهذا الاتجاه شمل معظم الطرائق الصوفية، ومثلما وجد صدام حسين نسباً له يربطه بأهل بيت النبي، يقول الدكتور صالح أبو خمرة: إن جمال كامل المجيد شقيق حسين كامل نسّب نفسه شيخاً للطريقة الرفاعية، وكان يغدق بالعطاء على المريدين الذين ينادون باسمه أثناء الضرب، “يا شيخ جمال الرفاعي”.
بدرجة أقل من النقشبندية ولج فرع من الطريقة الكسنزانية مجال السياسة، ولكن من دون حمل السلاح، تنقسم الكسنزانية إلى فرعين؛ الأول وهو المشهور المرتبط حالياً بالشيخ نهرو محمد عبد الكريم الكسنزاني، اتجاه عُرف بمواقفه السياسية وتحالفاته الغريبة، فرغم صلاته الوثيقة بنظام صدام كان ينسق مع المعارضة العراقية، واستطاع دخول العمل السياسي بعد عام 2003.
توجد تكايا تتبع خط الشيخ نهرو في ديالى، وتحديداً في قرية “شفته” ببعقوبة، وفي المقدادية كذلك، وسبق لها أن شاركت بمرشحين في الانتخابات المحلية ونالوا مئات الأصوات.

فيما حافظ الفرع الثاني على ابتعاده عن السياسة، ويرتبط بالشيخ رؤوف الكسنزاني المقيم في كركوك، ينتمي معظم كسنزانية ديالى ومنهم الشيخ شوكت لهذا الفرع، “مالنا أي علاقة بالسياسة إطلاقاً وكل أصحاب المناصب نحترمهم وما نسيء إلهم لأن ولاة أمر”.
التصوف كـ “جيب شيعي”
يعتقد معظم الصوفية أنهم يعيشون في حربٍ خفيّة، نتيجة ما يعتبرونه انحياز مسؤولي الوقف السُنّي، والجهات السياسية السنيّة لمناهج مضادة للتصوف، ومتطرفة.
يقول مصطفى كامل (اسم مستعار)، وهو إمام جامع في ديالى، “المناخ السياسي والإداري السنّي بعد عام 2003 ونتيجة الصراعات الطائفية، صار ينظر للتصوّف كجيب شيعي داخل المجتمع السنّي”، ويرسم صورة قاتمة عن آلية إدارة خطاب الجوامع في ديالى، “هنالك اختراق سياسي مخيف في توزيع المساجد واستغلالها سياسياً فخلال السنوات الأخيرة جرى تشييد نحو مئة جامع، جميعها تقريباً سلّمت الإمامة فيها لسلفيين”.
لا يؤيد الشيخ بناء مساجد إضافية، “يجب ألّا يزداد عدد المساجد قبل أن نؤهل الإنسان الجدير بالثقة لإدارتها”، ويرى أن بعض الجوامع التي تتبع المنهج الصوفي يجري تغيير أئمتها، وكذلك مناهجها إلى مناهج إخوانية أو سلفية كلما سنحت الفرصة.
يفسر ذلك بوجود نوع من التخادم السياسي – الفكري بين جهات سياسية ومناهج سلفية أو إخوانية، حيث يستفيد الطرف الثاني من الدعم لنشر أفكاره ورؤيته للدين، ويستفيد الطرف الأول من التحشيد الانتخابي “وتحويل الجامع إلى ثكنة انتخابية”.
وعن آلية استخدام الجامع في الانتخابات يقول الشيخ كامل، “غالباً السلل الغذائية، خاصة قبل الانتخابات بأشهر ما تكون لله ومصدرها مرشحين وسياسيين وتوزع عن طريق إمام الجامع حتى يأسر البسطاء للحاجة وبسهولة يؤثر عليهم انتخابيا رداً للجميل”.
يبلغ عدد الجوامع في ديالى ألف جامع تقريباً، بحسب الدكتور قصي الخزرجي مدير الوقف السني في ديالى، لكن لا توجد إحصائية لمعرفة نسبة الجوامع التي يديرها أئمة من الصوفية أو المناهج الأخرى لأن “المساجد جميعها تتبع الوقف والخطب فيها ضمن تعاليم الديوان التي تركز على الجوانب الوسطية في جميع المجالات، ولا تقسم بين المناهج أو تحتكر من جهة محددة”.
الشيخ محمد يونس، شيخ الطريقة الناظمية، يعتقد أن المناهج المتطرفة وصلت إلى ذروتها، “نحو 70 بالمئة من المساجد في ديالى أصبحت تحت سيطرتهم”، ويرى أن وصول السلفية إلى هذا المستوى من الاستحواذ على المساجد يعود إلى تسلمهم إدارة المساجد الجديدة، وقدرتهم المادية على بناء المزيد من المساجد، “وكلما تصير فرصة لاستبدال إمام مسجد صوفي بسلفي يفعلون ذلك”.
والموضوع برأيه لا يقتصر فقط على الدعم المالي والسياسي للتطرف، بل اجتماعياً أيضاً، ويفسر ذلك بسبب الصراع الطائفي، “سوء إدارة البلد وارتباط ذلك بإدارة الأحزاب الشيعية، أصبح ينظر للمناهج المتطرفة كبديل ومنقذ للسُنّة مما يشعرون به من الآم ومظالم”.
جوامع محاربة
لدى الشيخ بكر علي وهو صوفي على الطريقة القادرية، ويعمل إمام جامع وخطيباً في ناحية جبارة (140 كم شمال شرق بعقوبة) تجربة مختلفة، “حاربونا وحاربوا جوامعنا”.
منذ عام 2010 ولغاية 2024 عمل الشيخ على بناء أربعة جوامع في ناحيتي “جبارة وقره تبّه” من أموال المتبرعين، وعلى أرض متبرعين آخرين أو عائدة للبلدية، ثم حوّلت للوقف السنّي الذي افتتح الجوامع رسمياً، لكن الشيخ بكر واجه بعد ذلك معاناة في رفد الجوامع بموظفين كأئمة، أو حرّاس، أو مؤذنين، أو عمّال خدمة، كما واجه حرمان الجوامع الجديدة من الأثاث والوقود.
يعتقد الشيخ أن منهج الجوامع الذي يميل للتصوّف هو سبب ذلك، لأن جوامع أخرى غير صوفية، زُوّدت بالموظفين والأثاث فيما بقيت جوامعه تعمل بالحسبة؛ وهو نظام يعمل فيه الموظف في الجامع من دون راتب شهري.
“لمن أراجع الوقف أجد الأوليات مفقودة أو مضمومة (…) أجونا وسطاء كالوا صيروا ويانه بالانتخابات ونوفرلكم كلشي”، كل ذلك زاد من قناعته في وجود موقف مسبق مضاد للتصوف.

أستاذ الفقه الإسلامي، الدكتور صالح أبو خمرة، يتحدث عن “جهات داخل الوقف السُنّي” تقوم أحياناً بـ “شراء الجوامع”، وهي طريقة يتم بموجبها سحب التولية الشرعية من المتبرّع بالأرض لإنشاء الجامع، وتحويل عائديته للوقف السنّي ما يسمح بلعب دور في تحديد الخطباء وتوجهاتهم للاستفادة منها انتخابياً. ويقدّر المبلغ المدفوع في حالات كهذه بنحو 50 مليون دينار عراقي.

منجم الأصوات الانتخابية
لا يُخفي شيوخ التصوف تواصلهم مع أعضاء مجلسي النواب والمحافظة، وزيارة الأخيرين لتكاياهم ومنازلهم خاصة خلال مواسم الانتخابات، لكن الموقف منهم مختلف، بعض شيوخ التصوف قالوا إنهم لا يعطون وعداً ولا يشجعون على انتخاب مرشحين محددين، فيما يتصرّف آخرون بطريقة مختلفة.
“عندما نجد شخصية مرموقة ونزيهة، وتخدم المجتمع وتدعم الفقراء، ولا تنحاز قد نؤيده”، يقول الشيخ يونس. ويضيف “أحياناً بعض الطرق لا توجب انتخاب شخصية معينة، بل تشجع انتخاب مجموعة أسماء تستحق التصويت، ولكن هذا ليس إلزامياً للمريدين (…) نحن لا نخوض في السياسة، ولكن لا نبتعد عنها”.
ترشّح سابقاً بعض ممثلي العوائل الصوفية، منهم الدكتور صالح أبو خمرة، وحصد نحو 6500 صوتاً ولم يفز في الانتخابات البرلمانية لعام 2018، وترشح أيضاً الدكتور كمال الدين المشايخي ونال نحو 2900 صوت، وكان آخر ممثلي التصوف في الانتخابات المحلية الأخيرة هو شامل العزاوي، ممثل التكية الكسنزانية المرتبطة بالشيخ نهرو محمد عبد الكريم وحصد 308 صوتاً فقط.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
الحياة مع أفعى.. وصايا السيد دخيل للنجاة من الموت
13 نوفمبر 2025
صوتٌ بلا إرادة: كيف تتحكم العائلة والعشيرة بخيارات النساء الانتخابية؟
08 نوفمبر 2025
قواعد اللعبة القديمة ليست كافية: خريطة بالتحالفات الانتخابية قبل الاقتراع
07 نوفمبر 2025
من بريمر إلى السوداني.. "خلطة الفياض" السحرية للبقاء في المنصب
06 نوفمبر 2025
في الوقت الذي كانت المناهج السلفية والإخوانية تزداد تمدداً مع سقوط نظام البعث وبدء حقبة جديدة من تاريخ العراق؛ كانت الصوفية تستعد لدفع الثمن، وهذا الثمن كان من دمائهم وتكاياهم، والثقة التي تمتعوا بها في المجتمع العراقي السُنّي لقرون طويلة.
حتى مع قدرة الطرائق الصوفية في ديالى على لملمة شتاتها وإعادة تكاياها وطقوسها، ما يزال الشعور بالاضطهاد هاجس هذه الطرائق داخل المجتمع السُنّي.
وما يزيد من محنة المتصوفين هو التأثير الثقافي والعلمي الذي جعل الأجيال الجديدة لا تنظر لطقوس الدراويش، بما تتضمن من خوارق وممارسات غريبة، كما كان ينظر لها الآباء والأجداد باعتبارها كرامات.
هذا النوع من الطقوس مثل ضرب الجسد باستخدام الآلات الحادة أو النار لم تعد الغالبية من الطرائق الصوفية تمارسه، بل يسعى بعضها للحد منه من دون إنكار شرعيّته أو التشكيك بكونه كرامة يمنحها الله للمريدين.
كما أن الإرث التاريخي الطويل الذي عرف خلاله التصوّف بالابتعاد عن السياسة والسلطة يقف اليوم على المحكّ، في ظل صراع انتخابي ينظر للتكايا ومريديها كمنجم من الأصوات.
تحت نيران التطرف
مثلما حصل مع معظم التكايا الصوفية في ديالى، فقد جرى تهجير أسرة الشيخ شوكت الزهيري، شيخ الطريقة الكسنزانية في ديالى، ووالده وأتباعه عام 2006، بعد سيطرة تنظيم القاعدة، ولم يعودوا إلا بعد ذلك بعامين، حينها وجدوا تكاياهم قد تفجّرت.
في بعقوبة، تعد تكية السيد سعدون المشايخي من أقدم تكايا المدينة، افتتحت عام 1957 على الطريقة الرفاعية القادرية، وتحظى باحترام كبير من قبل المريدين، ولكنها هُجرت عام 2007 بعد سيطرة تنظيم القاعدة على حي التحرير، حيث تقع التكية.

بعد العودة للمدينة، انتقمت القاعدة مجدداً من المشايخي ووضعت أسفل سيارته عبوة ناسفة تسببت بقتل نجله وأحد مريديه، أما هو فقد نجا من الحادث واستقرّت الشظايا في جسده حتى اللحظة، حيث يستقبل يومياً وهو في منتصف عقده الثامن الكثير ممن يقصدونه طلباً للبركة والرقية الشرعية.
يقول الدكتور كمال الدين نجل المشايخي، إن القاعدة وتنظيم التوحيد والجهاد وداعش استهدفوا التصوف في حرب ممنهجة، “اعتبرونا مرتدّين لأننا نؤمن بالأئمة والأولياء والصالحين”.
لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المتصوفين الذين قتلوا على يد التنظيمات الجهادية المتطرفة، ولا بعدد التكايا التي فُجّرت وهُدِمت، لكنها تقدّر بالعشرات، فمناطق واسعة من جغرافيا ديالى خضعت لفترة من الفترات لسيطرة تنظيم القاعدة ثم داعش.
ولدى جميع من تواصلنا معهم من شيوخ التصوف ذكريات سيئة عن تلك الفترات من قتل الأهل، أو الأقارب، أو المريدين، أو التهجير، أو تهديم التكايا.
الشيخ محمود يونس واحد من هؤلاء، فقد والده الشيخ يونس الطائي، شيخ الطريقة النبهانية في ديالى، بالإضافة إلى 20 فرد من المقربين، خلال هجوم لتنظيم القاعدة على قريتهم في أطراف كنعان (20 كم شرقي بعقوبة) عام 2007.
إرث عريق
لم تكن القاعدة تحارب أفراداً متصوفين فقط، بل واجهت إرثاً من المناهج الصوفية التي يتبعها السنّة في ديالى.
التصوّف في ديالى كما في معظم مدن العراق، له تاريخ يمكن الاستدلال عليه بسهولة من خلال مراقد شيوخ التصوف، التي تحوّلت لمزارات محلية في معظم مناطق محافظة ديالى.
في بعقوبة ينسب أهم مرقدين فيها لأهل التصوّف، وهما الشريف البعقوبي وهو من مشايخ عبد القادر الجيلاني، ومرقد علي بن إدريس البعقوبي، تلميذ الجيلاني والمعروف محلياً بأبو إدريس. بالإضافة إلى مراقد أخرى لها مكانة في وجدان الساكنين بقربها، مثل المقداد بن محمد الرفاعي الذي استمدّت المقدادية اسمها منه، ومرقد الشيخ بابا، والشيخ منصور، وإبراهيم السمين، والسيد مبارك.
يصعب حصر الطرائق الصوفية في ديالى بسبب تفرعاتها، لكنها تنقسم إلى قادرية ورفاعية، وكسنزانية ونقشبندية، وبدرجة أقل شاذلية ونبهانية.
كما يصعب إيجاد فروق جوهرية بين طريقة صوفية وأخرى، فجميع الطرق تقريباً تشترك في الأصول الأساسية، ويحدث الاختلاف في أداء الطقوس، مثل الضرب والخوارق، وبعض الطرق تكون أذكارها وتسابيحها وأناشيدها وقوفاً، وبعضها جلوساً، وهناك اختلافات بينها كذلك فيما يتعلق بترديد الأذكار بصوت مرتفع أو بصوت خافت.

يقول صالح أبو خمرة، أستاذ الفقه الإسلامي، وهو من عائلة صوفية عريقة، إن “الجهل والتزمّت من قبل المشايخ غالباً ما يكون وراء التحوّل داخل الطرق”، ويشبّه حالة التنافس لدى بعض شيوخ الطرائق الصوفية بما يحصل من تنافس بين شيوخ العشائر على الجاه والنفوذ. “هنالك تنافس وطعن وتناحر وأحياناً مشايخ بارزين ما عدهم علم”.
يعلّل الشيخ محمود يونس شيخ الطريقة الناظمية النبهانية تفرّع الطريقة الصوفية الواحدة إلى مسارات مختلفة بالتقادم الزمني، “بعض الطرق اشتهرت على من صدقت على يده الطريقة واشتهر بالكرامات، لذا ترتبط الطريقة باسمه ثم بقدوم أجيال جديدة لم تعاصر شيخ الطريقة الأول، فتبدأ بالانتساب إلى شيخ معاصر لهم”.
على جرف السياسة
لم تعد الطرائق الصوفية بعيدة عن ملوثات السياسة، كما كانت عبر التاريخ.
فسمعة الطريقة النقشبندية قد تلطّخت بانشقاق فرع منها، ودخوله مجال السياسة وحتى القتال ضد الجيش الأمريكي بعد عام 2003، والتحالف مع التنظيمات المتطرفة، وكان جزءاً من هذا الانشقاق في ديالى.
“نحن بريئين منهم”، يقول الشيخ لامع النقشبندي. ويشبّه انشقاقهم عن الطريقة بأنه شبيه بانشقاق الخوارج في التاريخ الإسلامي، ويشير أيضاً إلى أنّ نقشبندية ديالى الذين التحقوا بهذا الاتجاه الذي ظهر في سامراء وتكريت قد اختفوا وتبخّروا ولم يعد لهم وجود أو تكايا.
توطّدت علاقة التصوف مع السلطة بعد غزو الكويت، وظروف الحصار الاقتصادي وحاجة السلطة لزيادة رصيدها الشعبي وتوثيق صلاتها بالمجتمع، وهذا الاتجاه شمل معظم الطرائق الصوفية، ومثلما وجد صدام حسين نسباً له يربطه بأهل بيت النبي، يقول الدكتور صالح أبو خمرة: إن جمال كامل المجيد شقيق حسين كامل نسّب نفسه شيخاً للطريقة الرفاعية، وكان يغدق بالعطاء على المريدين الذين ينادون باسمه أثناء الضرب، “يا شيخ جمال الرفاعي”.
بدرجة أقل من النقشبندية ولج فرع من الطريقة الكسنزانية مجال السياسة، ولكن من دون حمل السلاح، تنقسم الكسنزانية إلى فرعين؛ الأول وهو المشهور المرتبط حالياً بالشيخ نهرو محمد عبد الكريم الكسنزاني، اتجاه عُرف بمواقفه السياسية وتحالفاته الغريبة، فرغم صلاته الوثيقة بنظام صدام كان ينسق مع المعارضة العراقية، واستطاع دخول العمل السياسي بعد عام 2003.
توجد تكايا تتبع خط الشيخ نهرو في ديالى، وتحديداً في قرية “شفته” ببعقوبة، وفي المقدادية كذلك، وسبق لها أن شاركت بمرشحين في الانتخابات المحلية ونالوا مئات الأصوات.

فيما حافظ الفرع الثاني على ابتعاده عن السياسة، ويرتبط بالشيخ رؤوف الكسنزاني المقيم في كركوك، ينتمي معظم كسنزانية ديالى ومنهم الشيخ شوكت لهذا الفرع، “مالنا أي علاقة بالسياسة إطلاقاً وكل أصحاب المناصب نحترمهم وما نسيء إلهم لأن ولاة أمر”.
التصوف كـ “جيب شيعي”
يعتقد معظم الصوفية أنهم يعيشون في حربٍ خفيّة، نتيجة ما يعتبرونه انحياز مسؤولي الوقف السُنّي، والجهات السياسية السنيّة لمناهج مضادة للتصوف، ومتطرفة.
يقول مصطفى كامل (اسم مستعار)، وهو إمام جامع في ديالى، “المناخ السياسي والإداري السنّي بعد عام 2003 ونتيجة الصراعات الطائفية، صار ينظر للتصوّف كجيب شيعي داخل المجتمع السنّي”، ويرسم صورة قاتمة عن آلية إدارة خطاب الجوامع في ديالى، “هنالك اختراق سياسي مخيف في توزيع المساجد واستغلالها سياسياً فخلال السنوات الأخيرة جرى تشييد نحو مئة جامع، جميعها تقريباً سلّمت الإمامة فيها لسلفيين”.
لا يؤيد الشيخ بناء مساجد إضافية، “يجب ألّا يزداد عدد المساجد قبل أن نؤهل الإنسان الجدير بالثقة لإدارتها”، ويرى أن بعض الجوامع التي تتبع المنهج الصوفي يجري تغيير أئمتها، وكذلك مناهجها إلى مناهج إخوانية أو سلفية كلما سنحت الفرصة.
يفسر ذلك بوجود نوع من التخادم السياسي – الفكري بين جهات سياسية ومناهج سلفية أو إخوانية، حيث يستفيد الطرف الثاني من الدعم لنشر أفكاره ورؤيته للدين، ويستفيد الطرف الأول من التحشيد الانتخابي “وتحويل الجامع إلى ثكنة انتخابية”.
وعن آلية استخدام الجامع في الانتخابات يقول الشيخ كامل، “غالباً السلل الغذائية، خاصة قبل الانتخابات بأشهر ما تكون لله ومصدرها مرشحين وسياسيين وتوزع عن طريق إمام الجامع حتى يأسر البسطاء للحاجة وبسهولة يؤثر عليهم انتخابيا رداً للجميل”.
يبلغ عدد الجوامع في ديالى ألف جامع تقريباً، بحسب الدكتور قصي الخزرجي مدير الوقف السني في ديالى، لكن لا توجد إحصائية لمعرفة نسبة الجوامع التي يديرها أئمة من الصوفية أو المناهج الأخرى لأن “المساجد جميعها تتبع الوقف والخطب فيها ضمن تعاليم الديوان التي تركز على الجوانب الوسطية في جميع المجالات، ولا تقسم بين المناهج أو تحتكر من جهة محددة”.
الشيخ محمد يونس، شيخ الطريقة الناظمية، يعتقد أن المناهج المتطرفة وصلت إلى ذروتها، “نحو 70 بالمئة من المساجد في ديالى أصبحت تحت سيطرتهم”، ويرى أن وصول السلفية إلى هذا المستوى من الاستحواذ على المساجد يعود إلى تسلمهم إدارة المساجد الجديدة، وقدرتهم المادية على بناء المزيد من المساجد، “وكلما تصير فرصة لاستبدال إمام مسجد صوفي بسلفي يفعلون ذلك”.
والموضوع برأيه لا يقتصر فقط على الدعم المالي والسياسي للتطرف، بل اجتماعياً أيضاً، ويفسر ذلك بسبب الصراع الطائفي، “سوء إدارة البلد وارتباط ذلك بإدارة الأحزاب الشيعية، أصبح ينظر للمناهج المتطرفة كبديل ومنقذ للسُنّة مما يشعرون به من الآم ومظالم”.
جوامع محاربة
لدى الشيخ بكر علي وهو صوفي على الطريقة القادرية، ويعمل إمام جامع وخطيباً في ناحية جبارة (140 كم شمال شرق بعقوبة) تجربة مختلفة، “حاربونا وحاربوا جوامعنا”.
منذ عام 2010 ولغاية 2024 عمل الشيخ على بناء أربعة جوامع في ناحيتي “جبارة وقره تبّه” من أموال المتبرعين، وعلى أرض متبرعين آخرين أو عائدة للبلدية، ثم حوّلت للوقف السنّي الذي افتتح الجوامع رسمياً، لكن الشيخ بكر واجه بعد ذلك معاناة في رفد الجوامع بموظفين كأئمة، أو حرّاس، أو مؤذنين، أو عمّال خدمة، كما واجه حرمان الجوامع الجديدة من الأثاث والوقود.
يعتقد الشيخ أن منهج الجوامع الذي يميل للتصوّف هو سبب ذلك، لأن جوامع أخرى غير صوفية، زُوّدت بالموظفين والأثاث فيما بقيت جوامعه تعمل بالحسبة؛ وهو نظام يعمل فيه الموظف في الجامع من دون راتب شهري.
“لمن أراجع الوقف أجد الأوليات مفقودة أو مضمومة (…) أجونا وسطاء كالوا صيروا ويانه بالانتخابات ونوفرلكم كلشي”، كل ذلك زاد من قناعته في وجود موقف مسبق مضاد للتصوف.

أستاذ الفقه الإسلامي، الدكتور صالح أبو خمرة، يتحدث عن “جهات داخل الوقف السُنّي” تقوم أحياناً بـ “شراء الجوامع”، وهي طريقة يتم بموجبها سحب التولية الشرعية من المتبرّع بالأرض لإنشاء الجامع، وتحويل عائديته للوقف السنّي ما يسمح بلعب دور في تحديد الخطباء وتوجهاتهم للاستفادة منها انتخابياً. ويقدّر المبلغ المدفوع في حالات كهذه بنحو 50 مليون دينار عراقي.

منجم الأصوات الانتخابية
لا يُخفي شيوخ التصوف تواصلهم مع أعضاء مجلسي النواب والمحافظة، وزيارة الأخيرين لتكاياهم ومنازلهم خاصة خلال مواسم الانتخابات، لكن الموقف منهم مختلف، بعض شيوخ التصوف قالوا إنهم لا يعطون وعداً ولا يشجعون على انتخاب مرشحين محددين، فيما يتصرّف آخرون بطريقة مختلفة.
“عندما نجد شخصية مرموقة ونزيهة، وتخدم المجتمع وتدعم الفقراء، ولا تنحاز قد نؤيده”، يقول الشيخ يونس. ويضيف “أحياناً بعض الطرق لا توجب انتخاب شخصية معينة، بل تشجع انتخاب مجموعة أسماء تستحق التصويت، ولكن هذا ليس إلزامياً للمريدين (…) نحن لا نخوض في السياسة، ولكن لا نبتعد عنها”.
ترشّح سابقاً بعض ممثلي العوائل الصوفية، منهم الدكتور صالح أبو خمرة، وحصد نحو 6500 صوتاً ولم يفز في الانتخابات البرلمانية لعام 2018، وترشح أيضاً الدكتور كمال الدين المشايخي ونال نحو 2900 صوت، وكان آخر ممثلي التصوف في الانتخابات المحلية الأخيرة هو شامل العزاوي، ممثل التكية الكسنزانية المرتبطة بالشيخ نهرو محمد عبد الكريم وحصد 308 صوتاً فقط.