الجولاني/ الشرع في الحكم: الترقّب السوري والخشية العراقية 

فراس إلياس

16 شباط 2025

وصول "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني/ الشرع إلى الحكم في سوريا، مثّل لحظة فارقة لصناع القرار على المستويين؛ الإقليمي والدولي، فهم ينظرون لهذا الوصول على إنه فرصة وتهديد في الوقت ذاته، وليس العراق بمنأى عن هذه اللحظة..

بعد 14 عاماً من الصراع في سوريا، سقط نظام بشّار الأسد في هجوم واسع شنته (هيئة تحرير الشام) التي يقودها (أبو محمد الجولاني/ أحمد الشرع فيما بعد). ورغم سقوط نظام الأسد، إلاّ أن البلاد ما تزال تواجه مستقبلاً معقداً للغاية، وجزء كبير من هذا التعقيد يعود للطريقة والكيفية التي ستتعامل بها حركة جهادية مع دولة تنطوي على تعقيد طائفي ومكوناتي كبير، فضلاً عن طبيعة التداخل الإقليمي والدولي الذي تشهده الساحة السورية اليوم. 

لقد عمل الجولاني سنوات طويلة في الظل. وهو يكافح اليوم لنيل شرعية داخلية وإقليمية ودولية، ورغم محاولاته الجارية لإبعاد نفسه عن جذوره القاعدية، وحديثه المستمر بمنطق “رجل الدولة” المتسامح، إلّا أن هذا الكفاح سيحتاج فترة طويلة لينعكس على أرض الواقع، بل إن الأمر سيتوقف بدرجة كبيرة على مدى نجاحه في إدارة العملية الانتقالية في سوريا، بأقل الضغوط والتحديات، خصوصاً وأن جهوده في جمع الفصائل السياسية والعسكرية في سوريا، ضمن منظور سياسي واحد، لا تسير على درب يسير. 

الخلفية والنشأة والدور الجهادي 

ولد الجولاني عام 1982 لعائلة ثرية، ونشأ في حي المزّة، أحد أحياء دمشق الراقية. 

 وفي عام 2021، قال لشبكة PBS الأمريكية إن اسمه الحربي يشير إلى جذور عائلته في مرتفعات الجولان، مدّعياً أن جده أُجبر على مغادرة الجولان بعد احتلال إسرائيل لها عام 1967.  

ويمكن القول بأن الجولاني انجذب للمرة الأولى إلى الفكر الجهادي بعد هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، ونتيجة لهذا الإعجاب بمنفذي الهجوم الذي أدهش العالم وغير ملامحه، بدأت العلامات الأولى للجهادية تظهر في حياة الجولاني، حيث بدأ يحضر الخطب السرية والمناقشات الجماعية في ضواحي دمشق المهمشة. 

وخلال الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، غادر سوريا للمشاركة في القتال بالعراق، وانضم في الفترة ذاتها إلى جماعة التوحيد والجهاد (فرع تنظيم القاعدة في العراق) بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، وتم اعتقاله بعد ذلك لمدة خمس سنوات، في سجون عديدة داخل العراق تحت إدارة الجيش الأمريكي والسلطات العراقية. 

خلال فترة تواجده في السجن، كوّن الجولاني علاقات وثيقة جداً مع أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق آنذاك. وكان الاسم الجديد-حينها- للتوحيد والجهاد، الفرع العراقي للقاعدة، هذه العلاقة جعلته أميراً على ولاية نينوى في وقت لاحق. 

خلال فترة اندلاع الثورة السورية، تحدّث الجولاني مع البغدادي حول مشروع سوريا. 

 وبحلول صيف عام 2011، ذهب الجولاني إلى سوريا لبناء فرع سوري للتنظيم، سمّي لاحقاً جبهة النصرة ، والتي كانت بالأساس فرعاً رسمياً لـدولة العراق الإسلامية التي أعلنها البغدادي قبل أن تتحول فيما بعد إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام. وبدأت (النصرة) بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة على الجبهة السورية، وأصبحت أكثر تكاملاً مع باقي فصائل المعارضة السورية، وخاصة ذات الطابع الإسلامي. 

بسبب النجاحات الميدانية التي حققها الجولاني في سوريا، أراد البغدادي أن يُظهِر علناً ما كان معروفاً خلف الكواليس؛ جبهة النصرة هي الدولة الإسلامية في العراق، نفسها. 

 ففي نيسان 2013، أعلن البغدادي عن تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة بـ “داعش” ونصّب نفسه “خليفة”، لكنّ الجولاني رفض الأمر. 

لذلك، من أجل تغيير موقفه -ولكن مع الحفاظ على مستوى معين من الشرعية الجهادية- تعهّد الجولاني بالولاء لـأيمن الظواهري، زعيم القاعدة آنذاك.  

بدأ الظواهري بإرسال مقاتلين من أفغانستان إلى سوريا، وفتح الجولاني، كأغلبية الفصائل المسلحة التي انخرطت في صراع سوريا، الباب أمام الأجانب المعبأين بالفكر الجهادي، حتى باتت نسبة المقاتلين الأجانب في جبهة النصرة تشكل 30  بالمئة من إجمالي العدد عام 2015 حسب الجولاني نفسه. 

بعد ذلك، مرّ الجولاني مصطحباً تنظيمه بتحوّل كبير، تمثل بقطع علاقاته مع  القاعدة في تموز 2016، وغيّر اسم جماعته من “جبهة النصرة” إلى “فتح الشام” ليضيف طابعاً محلياً سورياً، لكنّه خلال إعلانه الذي شهد ظهوره الأول للعلن، كان ما يزال في هيأته نفسها، ويبدو قاعدياً. 

كان كثيرون في ذلك الوقت متشككين بعض الشيء في هذا الانفصال عن القاعدة، لأنه بدا وكأنه قرار متفق عليه مع التنظيم الجهادي، بهدف محاولة إضفاء الشرعية على مشروعها في سوريا. ومع ذلك، أصبح من الواضح بمرور الوقت أن هناك مشاكل حقيقية بين الطرفين، حتى مرّ بتحوّل آخر في إطار إعادة تسمية، لتصبح جبهة النصرة أو فتح الشام رسمياً “هيئة تحرير الشام” في كانون الثاني 2017. 

وذلك بعد الاندماج والتحالف مع بعض الجماعات الجهادية في إدلب شمالي غربي سوريا، مستبعداً كلمة “فتح” ذات الطابع الإسلامي الجهادي. 

ومن أجل خلق مسافة أمان عن القاعدة وداعش، بدأت هيئة تحرير الشام بمحاولة فرض سيطرة مطلقة على محافظة إدلب شمالي سوريا، بإنشاء حكم محلي في المحافظة، وأعلنت عن تشكيل حكومة إنقاذ يقودها مجموعة قالت الهيئة إنهم “تكنوقراط”، هذه المأسسة الإدارية مثلت تحولاً جوهرياً في فكر الجولاني بالانتقال من فكرة الجهاد العالمي إلى النظام محلي، من أجل التأكيد على قطع الصلة مع الحركة الجهادية العالمية، عبر التأكيد على فكرة الإدارة المحلية والسياقات الحكومية المحافظة والمتصارحة مع الواقع. 

وحتى مع سيطرته على إدلب، وحسم صراعه مع القاعدة أولاً، ومن ثم داعش ثانياً، فإن الجولاني توجه لحسم صراعات مؤجلة أخرى داخل مناطق سيطرته، والحديث هنا عن حركة أحرار الشام التي كانت تنافسه في معركة كسب الشرعية داخل التنظيمات الجهادية في إدلب، شعر الجولاني بتهديد مشروعه السياسي في إدلب، فهاجم الحركة التي انهارت أمامه، حتى سيطر على معبر باب الهوى في 23 من تموز 2017، موطّداً بذلك بداية حكمه في إدلب، كما استمرّت الصراعات بين الجولاني وفصائل أخرى طويلاً خلال الأعوام ما بين 2017 و2019، وأعادت الفصائلُ مرّةً بعد مرّةٍ تشكيلَ نفسها في تحالفاتٍ جديدةٍ وخوض صراعات ضدّ الجولاني الذي عَدَّتْ مشروعَه غيرَ ثوريٍّ، بل معادياً للثورة وعَلَمِها وأهدافها. وإستمرت هذه الصراعات بين الجولاني وفصائل المعارضة السورية إلى ما قبل معركة (ردع العدوان) في 27 تشرين الثاني 2024، حتى تمكن الجولاني من فرض الوصاية على كامل المشهد الفصائلي والجهادي في إدلب، ثم وضع أغلبها تحت عنوان إدارة العمليات العسكرية التي قادتها هيئة تحرير الشام للسيطرة على دمشق وأغلب التراب السوري، كما سمح، فيما بعد، لأعضاء الحركة التحكم بمفاصل إعادة تشكيل وزارة الدفاع السورية، كمقدمة لنزع سلاح كل الفصائل المسلحة في سوريا. 

رحلة الوصول إلى دمشق 

بذلت هيئة تحرير الشام جهداً كبيراً، وما تزال، من أجل التأكيد على مغادرتها منطقة التفكير والتصرف الجهادية، مقابل تشكيك وتخوّف محلي وإقليمي ودولي، إذ أن الهيئة، وقبل 3 أشهر فقط من سيطرتها على دمشق، نفذت عملية “انغماسية” بتفجير أحد عناصرها نفسَه وسط جنود سوريين بصفوف جيش النظام، في تجسيد لأكثر مظاهر الجهادية استدعاءً للرعب والتخوّف من العنف والإرهاب، لكنّها -الهيئة- التزمت منذ ذلك الحين بخطاب إعلامي واضح، وضاعفته بعد نجاحها في السيطرة على المدن السورية واحدةً تلو الأخرى حتى وصلت إلى العاصمة دمشق، إذ كانت تردد دائماً إنها ستضمن حقوق الأقليات وترفض منطق الثارات، وتحاول تأسيس مشهد سياسي يتّسع الجميع، والأهم من ذلك محاولة استيعابها تياراً واسعاً من السوريين الذين يطالبون بالديمقراطية والانفتاح، والحقوق والحرية. 

ما يزال تيار واسع من السوريين يشكك بنوايا أحمد الشرع، وهو الاسم الحقيقي للجولاني، والذي بات يعتمده بعد سقوط نظام الأسد. وجزء كبير من هذا التشكيك يعود للمقاربة التي أنتجها السوريون بين وصول حركة طالبان للحكم في أفغانستان، ووصول هيئة تحرير الشام للحكم في سوريا، ورغم أن طالبان أعلنت في بداية سيطرتها على الحكم عام 2021، أنها لا تشبه طالبان عام 1996، إلاّ إن النساء ما زلن يتعرضن لمعاملة قاسية مرة أخرى. ورغم أنه ليس مؤكداً أن هيئة تحرير الشام ستكرّر ما فعلته طالبان، إلاّ أن الممارسات التي تعرّضت لها بعض الأقليات في سوريا حتى الآن، وتحديداً الطائفة العلوية في الساحل السوري، تشير إلى أن هيئة تحرير الشام بحاجة لفترة أطول كي تكتسب الثقة من مجموع السوريين، ولا ضمانة على طيّ تاريخها المليء بالعنف المسلّح. 

ورغم تأكيدها على الطابع الوطني، وعدم التدخل بشؤون الآخرين، والاهتمام بإنتاج نظام جديد في البلاد يحتوي الجميع، ما تزال في قلب هيئة تحرير الشام تلك النظرة العالمية الإسلامية المحافظة، وكان ذلك  واضحاً في القرارات التي اتخذها الشرع بعد أن أصبح القائد العام للإدارة السورية الجديدة، والتي تمثلت بمنح رتب عسكرية لأشخاص من جنسيات غير سورية، وتكليفهم مناصب ضمن تشكيلة وزارة الدفاع الجديدة، تقديراً لدورهم خلال الحرب السورية. 

إن النقطة التي ينبغي الانتباه لها، هي إن المجتمع السوري لا يختلف كثيراً عن المجتمعات العربية/ الشرقية، التي تتأثر بشكل كبير بالرمزية السياسية. إذ تجري اليوم محاولات كبيرة لإعادة تدوير شخصية الشرع، محلياً وإقليمياً ودولياً، وإظهاره على أنه زعيم يتمتع بشخصية كاريزمية قوية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى مشاكل في المستقبل، إلاّ أن التحدي الكبير الذي يقف أمام هذا المسعى، يتوقف على الطريقة التي ستتعامل بها إدارة دونالد ترامب مع الشرع، ومع سوريا بالمرحلة المقبلة، خصوصاً أن الولايات المتحدة ما تزال تصنف الشرع وهيئة تحرير الشام؛ جماعةً إرهابية. 

يحاول الجولاني/ الشرع تقديم نموذج جديد للجهادية السُنية المتفاعلة مع الواقع، الجهادية التي تؤمن بالدولة الوطنية وبحقوق الأقليات والحريات العامة، الجهادية المتصالحة مع الجوار الجغرافي لإسرائيل، الجهادية التي تؤمن بأن منطق الثورة لا يبني بلداً، والأهم الجهادية التي ترفض أي تعامل مع إيران. ولعلّ مثل هذا النموذج سيكون مرغوباً لدى الولايات المتحدة ودول المنطقة، وتحديداً إسرائيل وتركيا والسعودية، الذين يحاولون ملأ الفراغ الذي خلّفته إيران وروسيا في سوريا. 

إن أحد أبرز التساؤلات التي تطرح اليوم تتمثل بالنهج الذي سيعتمده الشرع في تشكيل ملامح سوريا المستقبل، ورغم أنه قدم تصوّرات ومؤشرات عامة، في مقابلات تلفزيونية، كالحرص على إكمال مهمة كتابة دستور جديد للبلاد خلال فترة 3 سنوات، وإجراء انتخابات عامة بعد 4 سنوات، إلى جانب حرصه على عقد مؤتمر موسع للحوار الوطني السوري، ولكنْ، لا ضمانات على أيّ من ذلك كله. 

استنهاض الواقع السُني في العراق 

مما لا شك فيه أن أحد أبرز الدروس التي أنتجتها عملية صعود الشرع إلى واجهة المشهد السوري، هي تنقلاته العقائدية والفكرية، والتي تأثرت بشكل كبير بطبيعة الظروف السياسية التي أحاطت به، فخلفيته الشافعية المعتدلة لم تجعله في مأمن من الجماعات السلفية التي بدأت تستنهض نفسها في الداخل السوري، تارةً بسبب الاحتلال الأمريكي للعراق بعد عام 2003، وتارةً أخرى بسبب ظروف اعتقاله في العراق، وثالثة بسبب الشحن والصراع الطائفي الذي أطَّرَ الصراعَ في سوريا. 

إن صعود الجهادية السُنية في سوريا سيشكل حافزاً مهماً في استنهاض الواقع السُني ضمن الدول المجاورة لسوريا، وتحديداً في العراق، ولعل هذا ما يبرر من جهة أخرى المخاوف التي عبّر عنها العراق بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما يبرر أيضاً النظرة الأمنية التي ما يزال العراق ينظر من خلالها للمشهد السوري. ففي العراق هناك حدود مترامية مع سوريا، تمتدّ على طولها المخاوف الأمنية من إمكانية عودة تنظيم “داعش” من جديد، فضلاً عن احتقان اجتماعي تشهده المدن السُنية المحررة من سيطرة تنظيم “داعش”، بسبب بعض السلوكيات التي تمارسها الفصائل المسلحة المسيطرة على المشهد الأمني هناك، وتحديداً في نينوى والأنبار. 

اقرأ أيضاً

لم أُرِد أن أكون ابنة الحربين: رحلتان من سوريا والعراق وإليهما 

إن تناغم العديد من القيادات السُنية في العراق، مع سقوط الأسد وصعود الشرع، يشير بشكل أو آخر إلى ارتياح سُني عراقي إزاء سيطرة السُنة على الحكم في سوريا، كما أن العديد من الطروحات السياسية السُنية التي كانت لا تلقى آذاناً صاغية في مرحلة ما قبل سقوط الأسد، أصبحت محور نقاش عام في العراق بعد السقوط، وتحديداً على مستوى تصحيح معادلة الحكم، أو حتى في مسألة الحديث عن الإقليم السُني المجاور للحدود مع سوريا. 

إن الزخم الواضح الذي اكتسبه الخطاب السُني في العراق بعد سقوط الأسد، لا يتعلق فقط بصعود السُنة في سوريا، بل بأن المعادلة الجغرافية المحيطة بالعراق تغيرت، بحيث أصبح هناك (طوق سُني) يحيط بالعراق من الجهة الغربية، يبدأ من تركيا وينتهي بالمملكة العربية السعودية. وبالتالي، فإن مثل هذا التحول الجيوسياسي لن يستنهض الخطاب السُني في العراق فحسب، بل قد يشكل قوة ضغط أمام معادلة الحكم في العراق، والذي تحاول القيادات السياسية الشيعية، وحتى إيران، الحفاظ عليها من أي تداعيات خطيرة في المرحلة المقبلة. 

وفي سياق آخر متصل، مثلت أحاديث حلّ الفصائل المسلحة في العراق، قوة دفع أخرى للسُنة في العراق، كونهم عبّروا في أكثر من مناسبة عن مثل هذا المطلب، ورغم أن التداعيات الإقليمية التي واجهتها إيران بعد طوفان الأقصى، والتي انتهت بسقوط نظام الأسد، هي ما شجعت الولايات المتحدة على إعادة تشكيل علاقاتها مع إيران وفق المعطيات الجديدة، إلاّ إن السُنة في العراق يجدون في هذه الاشتراطات أيضاً، فرصة لإعادة تشكيل دورهم في العملية السياسية العراقية، مستفيدين من الدعم الكبير الذي بدأ يحصل عليه المكوّن السني في سوريا، خصوصاً في إمكانية إعادة تشكيل تصورات ترامب حيال وضعهم في العراق بالمرحلة المقبلة. 

أكثر ما يثير الخشية العراقية في صعود الجولاني/ الشرع نحو رأس السلطة الانتقالية في سوريا، هو التفكير بالعنف المسلح، في مجتمعات سنية جرّبت هذا العنف حين تحول جزءٌ من سنّة المذهب الحنفي والمتصوفين إلى السلفية الجهادية مع صعود الزرقاوي، وانخرط عدد كبير منهم في التنظيم حتى السيطرة على صف قيادته الأول وتحويله إلى ما عرف لاحقاً بالدولة الإسلامية (داعش). ولكن هذا ليس بالأمر الهيّن، مع السيطرة الأمنية الكبيرة للدولة مقارنةً بأعوام داعش والزرقاوي، وانخراط كبار الوجهاء من المجتمعات الّنية بالعملية السياسية أو الإدارية، وتشكيلها شبكات زبائنية، واستمرار حركة إعادة الإعمار في المناطق السنية بوتيرة، وإن كانت بطيئة، لكنها تفوق محافظات جنوبية شيعية غارقة بالفقر وانعدام الخدمات. كما يمكن درء كل هذه المخاوف من خلال إصلاح حقيقي للدولة ومنهجها، وتجفيف حقيقي للخطاب الطائفي، وموقف وطني براغماتي من قبل صانع القرار الشيعي، إزاء التحولات الإقليمية والدولية الكبيرة. 

مما لا شك فيه إن وصول “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني/ الشرع إلى حكم سوريا، مثّل لحظة فارقة لصناع القرار على المستويين؛ الإقليمي والدولي، فهم ينظرون لهذا الوصول على أنه فرصة وتهديد في آن معاً خصوصاً مع وجود درجة كبيرة من الضبابية وعدم اليقين حول الطريقة التي سيعامل بها الشرع الداخل والخارج السوري. وليس العراق بمنأى عن هذه اللحظة، بل إنه في قلبها، ويحمل كلّ المخاوف من أن تكون لحظة مغريةً لجماعات جهادية مسلحة لعبت دوراً تدميرياً وحشياً في تاريخه الحديث. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بعد 14 عاماً من الصراع في سوريا، سقط نظام بشّار الأسد في هجوم واسع شنته (هيئة تحرير الشام) التي يقودها (أبو محمد الجولاني/ أحمد الشرع فيما بعد). ورغم سقوط نظام الأسد، إلاّ أن البلاد ما تزال تواجه مستقبلاً معقداً للغاية، وجزء كبير من هذا التعقيد يعود للطريقة والكيفية التي ستتعامل بها حركة جهادية مع دولة تنطوي على تعقيد طائفي ومكوناتي كبير، فضلاً عن طبيعة التداخل الإقليمي والدولي الذي تشهده الساحة السورية اليوم. 

لقد عمل الجولاني سنوات طويلة في الظل. وهو يكافح اليوم لنيل شرعية داخلية وإقليمية ودولية، ورغم محاولاته الجارية لإبعاد نفسه عن جذوره القاعدية، وحديثه المستمر بمنطق “رجل الدولة” المتسامح، إلّا أن هذا الكفاح سيحتاج فترة طويلة لينعكس على أرض الواقع، بل إن الأمر سيتوقف بدرجة كبيرة على مدى نجاحه في إدارة العملية الانتقالية في سوريا، بأقل الضغوط والتحديات، خصوصاً وأن جهوده في جمع الفصائل السياسية والعسكرية في سوريا، ضمن منظور سياسي واحد، لا تسير على درب يسير. 

الخلفية والنشأة والدور الجهادي 

ولد الجولاني عام 1982 لعائلة ثرية، ونشأ في حي المزّة، أحد أحياء دمشق الراقية. 

 وفي عام 2021، قال لشبكة PBS الأمريكية إن اسمه الحربي يشير إلى جذور عائلته في مرتفعات الجولان، مدّعياً أن جده أُجبر على مغادرة الجولان بعد احتلال إسرائيل لها عام 1967.  

ويمكن القول بأن الجولاني انجذب للمرة الأولى إلى الفكر الجهادي بعد هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، ونتيجة لهذا الإعجاب بمنفذي الهجوم الذي أدهش العالم وغير ملامحه، بدأت العلامات الأولى للجهادية تظهر في حياة الجولاني، حيث بدأ يحضر الخطب السرية والمناقشات الجماعية في ضواحي دمشق المهمشة. 

وخلال الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، غادر سوريا للمشاركة في القتال بالعراق، وانضم في الفترة ذاتها إلى جماعة التوحيد والجهاد (فرع تنظيم القاعدة في العراق) بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، وتم اعتقاله بعد ذلك لمدة خمس سنوات، في سجون عديدة داخل العراق تحت إدارة الجيش الأمريكي والسلطات العراقية. 

خلال فترة تواجده في السجن، كوّن الجولاني علاقات وثيقة جداً مع أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق آنذاك. وكان الاسم الجديد-حينها- للتوحيد والجهاد، الفرع العراقي للقاعدة، هذه العلاقة جعلته أميراً على ولاية نينوى في وقت لاحق. 

خلال فترة اندلاع الثورة السورية، تحدّث الجولاني مع البغدادي حول مشروع سوريا. 

 وبحلول صيف عام 2011، ذهب الجولاني إلى سوريا لبناء فرع سوري للتنظيم، سمّي لاحقاً جبهة النصرة ، والتي كانت بالأساس فرعاً رسمياً لـدولة العراق الإسلامية التي أعلنها البغدادي قبل أن تتحول فيما بعد إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام. وبدأت (النصرة) بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة على الجبهة السورية، وأصبحت أكثر تكاملاً مع باقي فصائل المعارضة السورية، وخاصة ذات الطابع الإسلامي. 

بسبب النجاحات الميدانية التي حققها الجولاني في سوريا، أراد البغدادي أن يُظهِر علناً ما كان معروفاً خلف الكواليس؛ جبهة النصرة هي الدولة الإسلامية في العراق، نفسها. 

 ففي نيسان 2013، أعلن البغدادي عن تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة بـ “داعش” ونصّب نفسه “خليفة”، لكنّ الجولاني رفض الأمر. 

لذلك، من أجل تغيير موقفه -ولكن مع الحفاظ على مستوى معين من الشرعية الجهادية- تعهّد الجولاني بالولاء لـأيمن الظواهري، زعيم القاعدة آنذاك.  

بدأ الظواهري بإرسال مقاتلين من أفغانستان إلى سوريا، وفتح الجولاني، كأغلبية الفصائل المسلحة التي انخرطت في صراع سوريا، الباب أمام الأجانب المعبأين بالفكر الجهادي، حتى باتت نسبة المقاتلين الأجانب في جبهة النصرة تشكل 30  بالمئة من إجمالي العدد عام 2015 حسب الجولاني نفسه. 

بعد ذلك، مرّ الجولاني مصطحباً تنظيمه بتحوّل كبير، تمثل بقطع علاقاته مع  القاعدة في تموز 2016، وغيّر اسم جماعته من “جبهة النصرة” إلى “فتح الشام” ليضيف طابعاً محلياً سورياً، لكنّه خلال إعلانه الذي شهد ظهوره الأول للعلن، كان ما يزال في هيأته نفسها، ويبدو قاعدياً. 

كان كثيرون في ذلك الوقت متشككين بعض الشيء في هذا الانفصال عن القاعدة، لأنه بدا وكأنه قرار متفق عليه مع التنظيم الجهادي، بهدف محاولة إضفاء الشرعية على مشروعها في سوريا. ومع ذلك، أصبح من الواضح بمرور الوقت أن هناك مشاكل حقيقية بين الطرفين، حتى مرّ بتحوّل آخر في إطار إعادة تسمية، لتصبح جبهة النصرة أو فتح الشام رسمياً “هيئة تحرير الشام” في كانون الثاني 2017. 

وذلك بعد الاندماج والتحالف مع بعض الجماعات الجهادية في إدلب شمالي غربي سوريا، مستبعداً كلمة “فتح” ذات الطابع الإسلامي الجهادي. 

ومن أجل خلق مسافة أمان عن القاعدة وداعش، بدأت هيئة تحرير الشام بمحاولة فرض سيطرة مطلقة على محافظة إدلب شمالي سوريا، بإنشاء حكم محلي في المحافظة، وأعلنت عن تشكيل حكومة إنقاذ يقودها مجموعة قالت الهيئة إنهم “تكنوقراط”، هذه المأسسة الإدارية مثلت تحولاً جوهرياً في فكر الجولاني بالانتقال من فكرة الجهاد العالمي إلى النظام محلي، من أجل التأكيد على قطع الصلة مع الحركة الجهادية العالمية، عبر التأكيد على فكرة الإدارة المحلية والسياقات الحكومية المحافظة والمتصارحة مع الواقع. 

وحتى مع سيطرته على إدلب، وحسم صراعه مع القاعدة أولاً، ومن ثم داعش ثانياً، فإن الجولاني توجه لحسم صراعات مؤجلة أخرى داخل مناطق سيطرته، والحديث هنا عن حركة أحرار الشام التي كانت تنافسه في معركة كسب الشرعية داخل التنظيمات الجهادية في إدلب، شعر الجولاني بتهديد مشروعه السياسي في إدلب، فهاجم الحركة التي انهارت أمامه، حتى سيطر على معبر باب الهوى في 23 من تموز 2017، موطّداً بذلك بداية حكمه في إدلب، كما استمرّت الصراعات بين الجولاني وفصائل أخرى طويلاً خلال الأعوام ما بين 2017 و2019، وأعادت الفصائلُ مرّةً بعد مرّةٍ تشكيلَ نفسها في تحالفاتٍ جديدةٍ وخوض صراعات ضدّ الجولاني الذي عَدَّتْ مشروعَه غيرَ ثوريٍّ، بل معادياً للثورة وعَلَمِها وأهدافها. وإستمرت هذه الصراعات بين الجولاني وفصائل المعارضة السورية إلى ما قبل معركة (ردع العدوان) في 27 تشرين الثاني 2024، حتى تمكن الجولاني من فرض الوصاية على كامل المشهد الفصائلي والجهادي في إدلب، ثم وضع أغلبها تحت عنوان إدارة العمليات العسكرية التي قادتها هيئة تحرير الشام للسيطرة على دمشق وأغلب التراب السوري، كما سمح، فيما بعد، لأعضاء الحركة التحكم بمفاصل إعادة تشكيل وزارة الدفاع السورية، كمقدمة لنزع سلاح كل الفصائل المسلحة في سوريا. 

رحلة الوصول إلى دمشق 

بذلت هيئة تحرير الشام جهداً كبيراً، وما تزال، من أجل التأكيد على مغادرتها منطقة التفكير والتصرف الجهادية، مقابل تشكيك وتخوّف محلي وإقليمي ودولي، إذ أن الهيئة، وقبل 3 أشهر فقط من سيطرتها على دمشق، نفذت عملية “انغماسية” بتفجير أحد عناصرها نفسَه وسط جنود سوريين بصفوف جيش النظام، في تجسيد لأكثر مظاهر الجهادية استدعاءً للرعب والتخوّف من العنف والإرهاب، لكنّها -الهيئة- التزمت منذ ذلك الحين بخطاب إعلامي واضح، وضاعفته بعد نجاحها في السيطرة على المدن السورية واحدةً تلو الأخرى حتى وصلت إلى العاصمة دمشق، إذ كانت تردد دائماً إنها ستضمن حقوق الأقليات وترفض منطق الثارات، وتحاول تأسيس مشهد سياسي يتّسع الجميع، والأهم من ذلك محاولة استيعابها تياراً واسعاً من السوريين الذين يطالبون بالديمقراطية والانفتاح، والحقوق والحرية. 

ما يزال تيار واسع من السوريين يشكك بنوايا أحمد الشرع، وهو الاسم الحقيقي للجولاني، والذي بات يعتمده بعد سقوط نظام الأسد. وجزء كبير من هذا التشكيك يعود للمقاربة التي أنتجها السوريون بين وصول حركة طالبان للحكم في أفغانستان، ووصول هيئة تحرير الشام للحكم في سوريا، ورغم أن طالبان أعلنت في بداية سيطرتها على الحكم عام 2021، أنها لا تشبه طالبان عام 1996، إلاّ إن النساء ما زلن يتعرضن لمعاملة قاسية مرة أخرى. ورغم أنه ليس مؤكداً أن هيئة تحرير الشام ستكرّر ما فعلته طالبان، إلاّ أن الممارسات التي تعرّضت لها بعض الأقليات في سوريا حتى الآن، وتحديداً الطائفة العلوية في الساحل السوري، تشير إلى أن هيئة تحرير الشام بحاجة لفترة أطول كي تكتسب الثقة من مجموع السوريين، ولا ضمانة على طيّ تاريخها المليء بالعنف المسلّح. 

ورغم تأكيدها على الطابع الوطني، وعدم التدخل بشؤون الآخرين، والاهتمام بإنتاج نظام جديد في البلاد يحتوي الجميع، ما تزال في قلب هيئة تحرير الشام تلك النظرة العالمية الإسلامية المحافظة، وكان ذلك  واضحاً في القرارات التي اتخذها الشرع بعد أن أصبح القائد العام للإدارة السورية الجديدة، والتي تمثلت بمنح رتب عسكرية لأشخاص من جنسيات غير سورية، وتكليفهم مناصب ضمن تشكيلة وزارة الدفاع الجديدة، تقديراً لدورهم خلال الحرب السورية. 

إن النقطة التي ينبغي الانتباه لها، هي إن المجتمع السوري لا يختلف كثيراً عن المجتمعات العربية/ الشرقية، التي تتأثر بشكل كبير بالرمزية السياسية. إذ تجري اليوم محاولات كبيرة لإعادة تدوير شخصية الشرع، محلياً وإقليمياً ودولياً، وإظهاره على أنه زعيم يتمتع بشخصية كاريزمية قوية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى مشاكل في المستقبل، إلاّ أن التحدي الكبير الذي يقف أمام هذا المسعى، يتوقف على الطريقة التي ستتعامل بها إدارة دونالد ترامب مع الشرع، ومع سوريا بالمرحلة المقبلة، خصوصاً أن الولايات المتحدة ما تزال تصنف الشرع وهيئة تحرير الشام؛ جماعةً إرهابية. 

يحاول الجولاني/ الشرع تقديم نموذج جديد للجهادية السُنية المتفاعلة مع الواقع، الجهادية التي تؤمن بالدولة الوطنية وبحقوق الأقليات والحريات العامة، الجهادية المتصالحة مع الجوار الجغرافي لإسرائيل، الجهادية التي تؤمن بأن منطق الثورة لا يبني بلداً، والأهم الجهادية التي ترفض أي تعامل مع إيران. ولعلّ مثل هذا النموذج سيكون مرغوباً لدى الولايات المتحدة ودول المنطقة، وتحديداً إسرائيل وتركيا والسعودية، الذين يحاولون ملأ الفراغ الذي خلّفته إيران وروسيا في سوريا. 

إن أحد أبرز التساؤلات التي تطرح اليوم تتمثل بالنهج الذي سيعتمده الشرع في تشكيل ملامح سوريا المستقبل، ورغم أنه قدم تصوّرات ومؤشرات عامة، في مقابلات تلفزيونية، كالحرص على إكمال مهمة كتابة دستور جديد للبلاد خلال فترة 3 سنوات، وإجراء انتخابات عامة بعد 4 سنوات، إلى جانب حرصه على عقد مؤتمر موسع للحوار الوطني السوري، ولكنْ، لا ضمانات على أيّ من ذلك كله. 

استنهاض الواقع السُني في العراق 

مما لا شك فيه أن أحد أبرز الدروس التي أنتجتها عملية صعود الشرع إلى واجهة المشهد السوري، هي تنقلاته العقائدية والفكرية، والتي تأثرت بشكل كبير بطبيعة الظروف السياسية التي أحاطت به، فخلفيته الشافعية المعتدلة لم تجعله في مأمن من الجماعات السلفية التي بدأت تستنهض نفسها في الداخل السوري، تارةً بسبب الاحتلال الأمريكي للعراق بعد عام 2003، وتارةً أخرى بسبب ظروف اعتقاله في العراق، وثالثة بسبب الشحن والصراع الطائفي الذي أطَّرَ الصراعَ في سوريا. 

إن صعود الجهادية السُنية في سوريا سيشكل حافزاً مهماً في استنهاض الواقع السُني ضمن الدول المجاورة لسوريا، وتحديداً في العراق، ولعل هذا ما يبرر من جهة أخرى المخاوف التي عبّر عنها العراق بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما يبرر أيضاً النظرة الأمنية التي ما يزال العراق ينظر من خلالها للمشهد السوري. ففي العراق هناك حدود مترامية مع سوريا، تمتدّ على طولها المخاوف الأمنية من إمكانية عودة تنظيم “داعش” من جديد، فضلاً عن احتقان اجتماعي تشهده المدن السُنية المحررة من سيطرة تنظيم “داعش”، بسبب بعض السلوكيات التي تمارسها الفصائل المسلحة المسيطرة على المشهد الأمني هناك، وتحديداً في نينوى والأنبار. 

اقرأ أيضاً

لم أُرِد أن أكون ابنة الحربين: رحلتان من سوريا والعراق وإليهما 

إن تناغم العديد من القيادات السُنية في العراق، مع سقوط الأسد وصعود الشرع، يشير بشكل أو آخر إلى ارتياح سُني عراقي إزاء سيطرة السُنة على الحكم في سوريا، كما أن العديد من الطروحات السياسية السُنية التي كانت لا تلقى آذاناً صاغية في مرحلة ما قبل سقوط الأسد، أصبحت محور نقاش عام في العراق بعد السقوط، وتحديداً على مستوى تصحيح معادلة الحكم، أو حتى في مسألة الحديث عن الإقليم السُني المجاور للحدود مع سوريا. 

إن الزخم الواضح الذي اكتسبه الخطاب السُني في العراق بعد سقوط الأسد، لا يتعلق فقط بصعود السُنة في سوريا، بل بأن المعادلة الجغرافية المحيطة بالعراق تغيرت، بحيث أصبح هناك (طوق سُني) يحيط بالعراق من الجهة الغربية، يبدأ من تركيا وينتهي بالمملكة العربية السعودية. وبالتالي، فإن مثل هذا التحول الجيوسياسي لن يستنهض الخطاب السُني في العراق فحسب، بل قد يشكل قوة ضغط أمام معادلة الحكم في العراق، والذي تحاول القيادات السياسية الشيعية، وحتى إيران، الحفاظ عليها من أي تداعيات خطيرة في المرحلة المقبلة. 

وفي سياق آخر متصل، مثلت أحاديث حلّ الفصائل المسلحة في العراق، قوة دفع أخرى للسُنة في العراق، كونهم عبّروا في أكثر من مناسبة عن مثل هذا المطلب، ورغم أن التداعيات الإقليمية التي واجهتها إيران بعد طوفان الأقصى، والتي انتهت بسقوط نظام الأسد، هي ما شجعت الولايات المتحدة على إعادة تشكيل علاقاتها مع إيران وفق المعطيات الجديدة، إلاّ إن السُنة في العراق يجدون في هذه الاشتراطات أيضاً، فرصة لإعادة تشكيل دورهم في العملية السياسية العراقية، مستفيدين من الدعم الكبير الذي بدأ يحصل عليه المكوّن السني في سوريا، خصوصاً في إمكانية إعادة تشكيل تصورات ترامب حيال وضعهم في العراق بالمرحلة المقبلة. 

أكثر ما يثير الخشية العراقية في صعود الجولاني/ الشرع نحو رأس السلطة الانتقالية في سوريا، هو التفكير بالعنف المسلح، في مجتمعات سنية جرّبت هذا العنف حين تحول جزءٌ من سنّة المذهب الحنفي والمتصوفين إلى السلفية الجهادية مع صعود الزرقاوي، وانخرط عدد كبير منهم في التنظيم حتى السيطرة على صف قيادته الأول وتحويله إلى ما عرف لاحقاً بالدولة الإسلامية (داعش). ولكن هذا ليس بالأمر الهيّن، مع السيطرة الأمنية الكبيرة للدولة مقارنةً بأعوام داعش والزرقاوي، وانخراط كبار الوجهاء من المجتمعات الّنية بالعملية السياسية أو الإدارية، وتشكيلها شبكات زبائنية، واستمرار حركة إعادة الإعمار في المناطق السنية بوتيرة، وإن كانت بطيئة، لكنها تفوق محافظات جنوبية شيعية غارقة بالفقر وانعدام الخدمات. كما يمكن درء كل هذه المخاوف من خلال إصلاح حقيقي للدولة ومنهجها، وتجفيف حقيقي للخطاب الطائفي، وموقف وطني براغماتي من قبل صانع القرار الشيعي، إزاء التحولات الإقليمية والدولية الكبيرة. 

مما لا شك فيه إن وصول “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني/ الشرع إلى حكم سوريا، مثّل لحظة فارقة لصناع القرار على المستويين؛ الإقليمي والدولي، فهم ينظرون لهذا الوصول على أنه فرصة وتهديد في آن معاً خصوصاً مع وجود درجة كبيرة من الضبابية وعدم اليقين حول الطريقة التي سيعامل بها الشرع الداخل والخارج السوري. وليس العراق بمنأى عن هذه اللحظة، بل إنه في قلبها، ويحمل كلّ المخاوف من أن تكون لحظة مغريةً لجماعات جهادية مسلحة لعبت دوراً تدميرياً وحشياً في تاريخه الحديث.